نظر إلى مات , الذي سارع بالتأكيد له أن هذا سيسعدهما . وقبل أن تستطيع الاحتجاج كان أندرو قد أراح جسده الطويل إلى جانبها على المقعد المستدير , تاركاً لمات الذي بدا متشوقاً مهمة إجلاس إيفا على المقعد القريب منه , بعد ذلك قام أندرو بتقديم إيفا لهما , ثم أشار إلى أحد السقاة .
تمتمت ماغي عندما سألها ماذا تريد أن تشرب :
ـ في الحقيقة علي أن أذهب الآن .
نظرت إلى إيفا فوجدتها منزعجة من أندرو لأنه أجلسها مع عاملين من عامليه , قال أندرو لماغي :
ـ هذا هراء ...
ثم وجه كلامه إلى الساقي :
ـ أعطنا الشراب نفسه .
ثم التفت إلى إيفا وسألها عما تحب أن تشرب .
اعترفت ماغي أن إيفا جميلة فهي ذات شعر أسود يلمع بتموجات كثيفة أنيقة تلف وجهها الأبيض الدقيق القسمات , وترتدي فستاناً من الحريير الأخضر .
رغم برودة المطعم , بدأت ماغي تعرق بسبب حرارة جسده المجاور لها . كانت منزعجة لأن قربه منها ولد فيها أحاسيس جديدة جعلتها تشعر به كرجل مثير لا كرب عمل .
تبادلوا أحاديث متنوعة مدة نصف ساعة . وأخيراً وقف أندرو يريد الخروج فأحست ناغي بالراحة .
انفرط العقد , فسارعت ماغي إلى محطة القطار , رافضة أن يوصلها مات .. فقد كانت منزعجة من كل ما حدث وهي الآن تريد الابتعاد لتضع ما حصل وراء ظهرها .
نهاية الفصل الأول ...
سأكسر جبل الجليد هذا !
في اليوم التالي بذلت ماغي جهداً فائقاً للتأكيد على صورتها العملية . فارتدت أكثر البدلات تجهماً وهي بذلة مصنوعة من قماش البوبلين البني القاتم , لكنها إلى ذلك أنيقة تلائمها , ارتدت لها قميصاً حريرياً بلون الكريم مزرراً جيداً حتى عنقها ثم وضعت نظارتها بثبات فوق أنفها , رافضة أن تخلعها أو تخلع سترتها رغم الجو الخانق في مكتبها الصغير .
غاب أندرو ومات طوال فترة الصباح أيضاً , وعندما عاد أندرو وحده بعد الظهر , حدثها بلهجة صارمة أكثر من المعتاد . بينما كان يوجه لها الأوامر بحدة , تساءلت عما إذا كان لقاؤها بالأمس قد أزعجه .
لكنها لم تستطع إيجاد سبب لهذا , فما تفعله وقت الفراغ هو من شأنها الخاص الذي لا علاقة له به , إنها حقاً لا تحبه ... راقبت النظرة القاسية على وجهه وهو يتصفح ملف أحد الزبائن أمامه . إنه بارد , مستبد .
في الساعة الرابعة والنصف , هب من مكانه ووقف بالباب يمعن فيها النظر فنظرت إليه عبر نظارتها متسائلة ... قدم إليها ملفاً أصفراً , فأخذته وتصفحته .. وجدت عدة أوراق ملأى بكتاباته العريضة الواضحة .. فتنهدت داخلياً .
قال لها بصوت لا أثر فيه لأي شيء :
ـ أريدها اليلة مطبوعة .
هزت رأسها . لقد تعودت على التأخير الذي لا يسبقه إنذار وما كانت تعترض لأن لا شيء ينتظرها في المنزل , ولأنها تقبض أجراً جيداً لعملها الإضافي .
بدأت الطبع .. مرتبة كل شيء ترتيباً منظماً خاصة بالأرقام . عملت بشكل متواضع ما يقرب الساعة , حيث فرغ المكتب كله من العمال الذين عادوا إلى بيوتهم , وقد أشعرها الهدوء النسبي بالراحة , فعملها الذي بين يديها مقعد سيحتاج إلى ساعتين أخريين لإنهائه . لكن هل يريده أندرو حقاً ؟ تنهدت , عندما سمعته يناديها من مكتبه :
ـ تعالي لحظة .
التقطت دفتر الاختزال وقلماً ثم دخلت مكتبه لتجده منكباً على أوراق موضوعة أمامه .
ـ اجلسي .
أطاعته وهي تتساءل عن المهمة الجميلة التي سيطلبها منها . إنها تعبة وتتمنى أن تنهي ما بين يديها من عمل لتعود إلى بيتها .
وقف أندرو أخيراً , وتقدم إلى الباب ليغلقه , ثم عاد ليجلس على حافة المكتب , طاوياً ذراعيه إلى صدره . كان يرتدي البذلة الكحلية التي كان يرتديها أمس .
ـ أريد التحدث إليك .
أجفلتها لهجته الباردة الجافة فاستوت جالسة تحدق إليه ... لماذا يبدو غاضباً كل هذا الغضب ؟ بحثت في ذاكرتها عن عمل كانت قد ارتكبته في عملها , فهي تخطئ أحياناً لكن ليت الخطأ غير خطير هذه المرة !
ـ لا يعجبني عبثك مع مات ماكلاود .
فغرت ماغي فمها , فسألته وهي تكاد لا تصدق ما سمعته :
ـ عبث ؟ لا أفهمك .
اعتلت وجهه نظرة ساخرة :
ـ أوه ... هيا الآن يا سيدة بالارد , لا تدعي البراءة والطهارة . أنت تعرفين بالضبط ما أعنيه . مات شاب لطيف سيصبح محامياً لامعاً بعد أن يجف عوده . لذا لا أريد أن يدمر مستقبله بسبب علاقة قذرة مع امرأة متزوجة .
سرعان ما استعادت وعيها من الصدمة الأولى . وما إن فهمت ما يرمي إليه , حتى اجتاحها هدوء بارد ... حقاً ! هذا كثير !
هبت واقفة ثم رمت دفترها وقلمها على الطاولة . ونظرت إليه نظرة باردة وهي تضم قبضتيها بقوة بينما يستعر غضباً كل عضو في جسدها . أخذت نفساً عميقاً , ثم انفجرت تقول بلهجة صابرة وكأنها ترد على طفل :
ـ لكنني لست متزوجة . وأنت تعرف هذا بالتأكيد .
اعتلت وجهه الآن صدمة قوية كادت تُضحك ماغي . وبما أنها قررت أن تحرق الجسور وراءها , فقد أحست بالسعادة لرؤية وجه أندرو كروس المتماسك يتداعى .
ولكنه سرعان ما استعاد رباطة جأشه وضاقت عيناه , وهو يقول متهماً :
ـ خدعتني إذن يوم ادعيت يوم استخدمتك الزواج . وأنتي تعرفين النظام بشأن استخدام المرأة العزباء .
ـ كنت متزوجة عندما استخدمتني .. ولكن زوجي قد مات بعد فترة قصيرة والخبر قد نشرته الصحف كلها وكان هذا الخبر الأول في لائحة الأقاويل في المكتب مدة طويلة .
ـ أنتي تعرفين أنني لا أصغي لأقاويل المكتب كما أني لا أقرأ الصحف وإن قرأتها فلم أربط ما قرأته بسكرتيرتي .
أظهر الأمر أنه خطأها .. محاولة جيدة .. لكنها لن تتضعضع . خاصة وأنه ما زال مصدوماً من الخبر الذي سمعه الآن . كانت تحس بالغبطة بسبب هزيمته .
ساد صمت طويل قررت ماغي خلاله عدم التراجع . بدا أندرو مستغرقاً في التفكير , يحدق إلى السجادة تحت قدميه . وأخيراً أمال رأسه إلى جانب واحد , ثم نظر إليها متفحصاً وهو يقول بصوت خفيض :
ـ إذن أنت لست متزوجة .
ـ لا ... لست متزوجة .
تغلغل القلق إلى قلبها من جراء نظرته الفاحصة الثاقبة ثم لم يلبث أن خفق قلبها دون انتظام مسبباً لها رجفة في أوصالها حاولت إخفاءها عندما قالت بثبات وثقة :
ـ ما دمت امرأة غير متزوجة فلا تقلق على سمعة مات .
لن تخبره أنها غير عائبة أو مهتمة بمات ماكلاود . فليتميَّز غضباً وغيظاً .
ـ يجب أن أطردك .
فردت بهدوء :
ـ حسن جداً .. سأذهب لأجمع أغراضي .
تقدمت نحو الباب .. وكان عليها المرور به حتى تصل إلى مكتبها . شاهدته من طرف عينها واقفاً ثم أحست بقبضة قوية لا شفقة فيها ولا رحمة تمسك بذراعها , التفتت إليه متأهبة للمعركة لكن نظرة عينيه السوداوين أرعبتها وقبضته القوية اشتدت على ذراعها حتى ساورها القلق والخوف من أن يؤذيها , لأنه بدا فاقد السيطرة على الذات .
مد يده الأخرى لينتزع النظارة بعنف , وليرميها دون اكتراث على الطاولة . قال حانقاً :
ـ كيف يمكن كسر الجليد المتزمت هذا ؟
كانا قريبين من بعضهما بعضاً , وكان البض الخافق عند استدارة فكه يدل على أنه بين نارين أحلاهما مر .
في هذه اللحظات ما عادت مهتمة باختياره , لأن العنف أو الإغراء سيان لديها وهي تعلم يقيناً أنها لا تضاهيه قوة في الأمرين معاً .
بادئاً كانت عيناه قاسيتين وعنيفتين ثم رأت نظرته تلين شيئاً فشيئاً , إذ رقت نظرته واسترخت ملامحه وأخذ يتأملها ملياً , فجأة قال لها : (( انزعي الدبابيس عن شعرك )) .
أطاعته دون تردد فانساب شعرها الذهبي متحرراً فوق كتفيها .
كان يتأملها محدقاً عميقاً في عينيها . كانت تنبعث من عينيه نظرة لم ترَ لها مثيلاً من قبل , نظرة عامرة تطل منها السعادة :
ـ أنت جميلة جداً . ولكنك منعزلة .. متحفظة .. يا إلهي .. كنت تقودينني إلى الجنون طوال الوقت معتقداً أنك متزوجة !
ارتجفت فرحاً وحبوراً ووقعت كلماته في قلبها الذي تولد منه شعور عميق كاد يدفعها إلى ما هو متهور .
مرت عليها سنوات منذ أن تودد إليها رجل ... حتى لوك .. وفي ذروة حبها له , لم يستطع جعلها تشعر بما تشعر به الآن نحو أندرو ...
عاد يهمس :
ـ يا إلهي , لقد رغبت فيك منذ ليلة الميلاد , عندما رأيت امرأة جميلة مرغوبة تحت ذلك القناع التنكري الذي كنت ستضعينه !