ملاحظة بتأريخ 03-03-2011 :
تم رفع نسخة جديدة للكتاب, (بإستعمال المصورات الأصلية وبرنامج Acrobat Pro 9 لإعداد الكتاب), وتم تعديل الرابط.
حجم النسخة الجديدة 5,693 MB
قراءة ممتعة.
دراسة في طبيعة المجتمع العراقي
د. علي الوردي
مطبعة العاني - بغداد , 1965
الزميلات والزملاء الأعزاء
هذا هو الكتاب الرابع الذي نقدمه للكاتب العراقي الراحل د. علي الوردي, كما أننا سنجهد في إكمال بقية كتبه المفتقدة, خلال هذه السنة.
كما ترون فإن الكتاب مضى على إصداره ما يقرب ال 44 سنة, و إصفرت أوراقه و استحالت, وظهر الكثير مما إستوجب معالجته و إزالته ومنها الخطوط الموازية لكل ألف ولام على إمتداد صفحات الكتاب. أدى ذلك لصرف وقت أطول في المعالجة لإخراج الكتاب بالصورة التي تليق بمؤلفه و بالمنتدى وبأعضائه الأعزاء.
ربما كان من مهازل الدهر أن تحتفظ دول كالسويد بمثل هذا الكتاب القديم, وتتيحه لمن يريد القراءة على طول البلاد, كغيره من آلاف الكتب, في الوقت الذي تحرق المكتبات في بلد الكاتب على أيدي مدعي الدين والإيمان من جحافل الظلام, ويحرم أهل العلم حتى من قبورهم.
إليكم أولا هذا المقال الرائع عن د. علي الوردي, وهو بعنوان [ رباعية الوردي (الخلود بعد ضياع القبر) ] , بقلم د. علي حسين فرج , والمنشور على منتدى الفضيلة الثقافي على الإنترنيت, في 18-05-2009 :
*****
رباعية الوردي
(الخلود بعد ضياع القبر)
مثلما إفتتح الروائي الكبير (مكسيم غوركي) روايته الشهيرة (إعتراف) بالعبارة التالية((إسمحوا لي أن أقص عليكم قصة حياتي، إنها لن تكلفكم كثيرا من الوقت ويحسن بكم أن تعرفوها) إسمحوا لي أيضا،ونحن في محكمة التاريخ، أن أقدم لكم شهادتي حول المفكر العراقي الكبير د علي الوردي الذي يعتبر على المستوى المعرفي من أكثر الشخصيات العراقية إثارة للجدل في القرن العشرين على الرغم من أنه وللأسباب مجهولة ساهم وبشكل كبير في حكم نفسه بالحبس الإنفرادي عندما إعتزل الكتابة بعد إنتهاءه من تدوين موسوعته المعنونة (لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث) عام 1969 , إعتزال الكتابة بالنسبة لمفكر كبير من طراز الوردي تعني إعتزال المجتمع وتقديم إستقالة غير مرحب بها للجمهور لأنها- أي الكتابة - هي الترياق الذي يمكّنه من متابعة حركة الناس وتفسير سلوكهم بذكاء مفرط.
كان الوردي ومنذ وقت طويل قد أدمن إستنشاق رائحة إحتكاك القلم بالورق المنثور أمامه, وهي صفة وراثية متنحية وغريبة تنتقل بصورة خاصة فقط لمن يملك عقلا مبدعا وخيال مدهش وريشة فنان، وبالتالي فإن إبتعاده عن الكتابة ذنب لا يغتفر ولا تفنع معه الأعذار الهامشية التي قدمها الوردي نفسه أو من الذين كتبوا عنه فيما بعد.
مع الوردي يمكننا أن ننظر بعيني صقر إلى حقيقة المجتمع العراقي كما هي دون أقنعة وبعيدا عن المزايدات الزائفة والعادات المغلوطة والأيديولوجيات الموهومة التي أنجبت الدكتاتور وفقست الغوغاء - تلك الكتلة البشرية التي إستباحت وبطريقة بربرية كل ما ينتمي الى (الملك العام) – إضافة إلى الممارسات الحبلى بالأخطاء لمن ركب السلطة بعد سقوط صنم الفردوس.
وعلى الرغم من أن الوردي نفسه يذكر في إحد حواراته عام 1991 (إني حين أقرأ الان كتبي التي صدرت سابقا أجدها مليئة بالأخطاء لأني كتبتها في ظروف معينة وتحت تـأثير معلومات كنت أعتقد بصحتها ثم تغيرت الظروف وأدركت أن ما كتبته بالأمس لا يصلح اليوم), ولكني أعتقد أن تحليلاته ما زالت صامدة وشغالة بقوة في مجتمع مليء بتناقضات وطوائف وقوميات وأديان وطبقات اجتماعية عجيبة كالمجتمع العراقي لان فكر الوردي خرج من قلوب الناس وعقولهم الباطنة وحكاياتهم الشعبية مشفوعا بأمثلة من التاريخ العراقي، سياسية وتراثية وإجتماعية، إستطاع توظيفها بحرفية إنقرضت أو في طريقها إلى الإنقراض.
وبإختصار يمكن أن نقول أن عقل الوردي قائم على التالي:
1 ـ التواضع، فهو لم يقل أنني مبتكر نظرية خاصة بعلم الإجتماع، إنما قال: تلك بضاعتي فأقبلوها قبولا حسنا أو إلقوها في غياهب عقولكم, لا فرق، ولكن الحقيقة هي أن الوردي حاول تفسير ظواهر المجتمع العراقي في ضوء ثلاث فرضيات ليست له وهي: (إزدواج الشخصية، وإقتبسها من (مكايفر) والثانية (صراع البداوة والحضارة) وإقتبسها من (إبن خلدون) والثالثة (التناشز الإجتماعي) وإقتبسها من (أوكبرن) وإضافة إليها (الأنوية) فيما بعد.
على أن الوردي لم ينسخ هذه الفرضيات نسخا في تحليله للمجتمع العراقي، بل جهد وإجتهد في أن يحورها ويعيد تراكيبها ويجعلها تتسق وطبيعة الفرد العراقي .
2 ـ الديمقراطية، وكانت سمة تفكيره ولم تنقطع عنه حتى وفاته، فهو صياد ماهر يرمي الطعم الذي يغري الجميع، المعادين والأصدقاء وينتظر ردة الفعل، يتسامح إذا خدش في رأيه ويستقبل الخصومة لعلة في طبعه، لأنها تلبي له حاجة عقلية حيث لا يستقيم عقله ألا بردة فعل أو بتعارض إستنباطي.
3 ـ الجدلية، وكان عقله جدلي الحركة، فإنعكس ذلك على تفكيره، ثم إنعكس على كتاباته، فتلمس الجدل المفتوح في كل كتبه، فلا إنفعال في حكمه، ولا إبتزاز ولا يرسل هرطقات، كان يرد على خصومه بروحية الخصم العقلي، أو بروحية المجتهد الباحث عن إكتشاف الحقيقة، لم يغضب أو يتهيج أو يتبرم من نقد غاضب ولم يتكبر من مناقشة الصغار، فقد ناقش حتى صاحب الهوية المجهولة أو الإسم المستعار إكراما لمعنى الجدل وحبا بجدل يثري العقول ويلهم الحواس المفكرة، وكان في كل ذلك يتواضع كي يجادل ويجادل كي يتسع، وبإتساعه برهن على أن عالم الاجتماع لابد أن يكون ديمقراطي النزعة. وخلال ثلاثة عقود في الجامعة خرج من تحت ردائه جيل علمه حرفة (أنا رأي مستقل) وجيل آخر علمه (فن الحوار الجدلي) بعيدا عن سفسطائية الصالونات، وجيل آخر جعله يهتدي من الحرية إلى الوطن وقال له (لا تمد عينا هنا ولا عينا هناك) وكأنه أراد أن يقول للأجيال: (العلم والحرية والوطن) هي أعمدة الشخصية العراقية التي تدخل المستقبل.
وكان الوردي إذا جلس في شرفة البرلمان العراقي يسجل صيحات النواب وينشرها بتعليقاته تباعا، يأتي إليه نوري السعيد في اليوم الثاني مازحا:(هذا الغسيل لماذا ؟) يبتسم الوردي قائلا: (إن شعبي يحب الغسيل) وفي نهاية الحوار يطلب سعيد من الوردي أن يشغل وزارة ويترك الهرج والمرج، فيرده الوردي قائلا : (باشا: الكتابة لا تجتمع مع الوظيفة).
إن الوردي وبعد حفرياته العميقة في شخصية الفرد العراقي ودراسته المقارنة لطبيعة المجتمع وبناه الظاهرة والمخبأة، إستطاع أن يصوغ مفاهيم إجتماعية توقف عندها الزمن وشغلت الذين جاءوا بعده لأنها كانت وما زالت بمثابة الشرارات التي فتحت نار الأسئلة حول طبيعة الشخصية العراقية.
(صراع البداوة والحضارة - إزدواج الشخصية - التناشز الاجتماعي - الأنوية) هذه (الرباعية) هي مفاتيح الشخصية العراقية التي عثر عليها الوردي والتي لم ولن تتغير - لحد الان على الأقل - لأنها نتيجة تراكمية لمئات السنين، صراعات دموية شرسة وهبات وعطايا لا تقدر بثمن ومكاسب ومناصب لا يمكن التفريط بها أو التنازل عنها لسبب بسيط أن حقيقة المجتمع العراقي تقول وعلى لسان الوردي ((إن الضمير هو صوت المجتمع وليس صوت الله)) وهو تحد صارخ للأ يديولوجيات الكبرى.
هذه هي الحقيقة دون مكابرة وبعيدا عن مناورات دفن الرأس، وإن كانت تزعج الكثير ممن يراهن على زيف فرضيات الوردي (بعيدا عن الغلو أتحدث عن (هذه المفاهيم الأربعة) فقط دون سواها من أفكار د. الوردي) .
ونظرا لخطورة الموضوع وطبيعة الظروف التي عاشها المجتمع العراقي في الخمسينات من القرن الماضي نجد أن الوردي لم يكن شجاعا بما يكفي ليعلن السبب الرئيس وراء هذه الآفات التي نخرت الشخصية العراقية وصيرتها شخصية هامشية قياسا للإرث الحضاري والديني الموروث والمكتسب في أرض الرافدين، بل كان مخاتلا بارعا أو ذكيا بما يكفي ومجاملا في بعض الأحيان، ولهذا أجاد الإفصاح عن مكنوناته رغم تمترسه الشديد خلف العبارات التي نحتها لهذا الغرض وهذا هو شأن الكاتب الكبير، إنه يخلق بما يكتبه واقعا يتغير معه مشهد الواقع.
بكلمة واحدة يمكننا القول أن العامل المشترك في (رباعية الوردي) التي صاغها بعد طول تأمل وتحليل ودراسة وملاحظة لأفراد المجتمع وسلوكياتهم هو (الدين المنحرف) الذي صدق ماركس حين وصفه بأنه أفيون للشعوب، الشعوب المتخلفة التي تستمتع بإلتهام نفسها والتي تمتلك ذاكرة مثقوبة، ولكن الوردي لفظ عبارة ماركس الشهيرة بلغته هو، تلك التي تحقق ما يريده بإمتياز دون أن تثير الحساسية المفرطة فيقول ((إذا جاز لنا أن نقول عن الدين بأنه أفيون للشعوب فيجدر بنا أن نقول أيضا إنه أفيون ضروري لا يمكن أن تستغني عنه الشعوب وإذا منعنا الشعوب عنه لجأت هي الى مخدر من نوع آخر للاستعانة به على مواجهة الحياة وأخطارها)).
هكذا يتحدث الوردي وقد فشل غيره رغم عبقريتهم كـ د.نصر حامد أبو زيد و محمد شحرور ومحمد أركون وغيرهم من المفكرين الذين لم يتقنوا مناورات الوردي, ذلك القناص الماهر الذي نجح في إصطياد المنسي والمخبأ والمشهور من مشاكل المجتمع وفق منهجه الوضعي الذي يؤمن بالواقع ومتغيراته كمرجعية أولى ليتجه به صوب الواقع مرة اخرى في حلق تكرارية بتعبير الشهيد الصدر"قدس" .ولكن تكرارية الوردي كانت بعيدة عن متبنيات الصدر ومقصدياته لأنه عانق المشاكل الإجتماعية وتعشّق معها بصورة مذهلة عجز عن إدراكها الواعظون الذين إكتفوا بسرد النصوص وتهديد الناس وتحذيرهم من غضب الرب الرحيم. هذه السياسة - وكما يذكر د علي حرب - في التعامل مع الهوية الدينية تشهد على إستقالة العقل وتحول البشر إلى كائنات آثمة بانتظار يوم الحساب.
نتحدث هنا عن الوعاظ وطريقتهم المغلوطة في فهم وتوصيل الدين ونضعهم في خانة التقصير لأنهم هم المعنيين قبل غيرهم بتفسير حركة المجتمع وإكتشاف سوءاته ومن ثم حقنه بالمضادات الصالحة لسبب بسيط هو أن مجتمعنا كان وما زال يسبح قريبا من ساحل الدين. وبالتالي فإن الأرض يمكن أن تكون خصبة بعد إزالة السبخ الذي تكون نتيجة لفقدان الفلاح الماهر الذي يعرف الارض وعيوبها مثلما يعرف نوعية الزرع المناسب وموسم إنغراسه.
هذا هو أسلوب الوردي وإن تحدث بلغة قاسية وفق مقاييس النقد عن وعاظ السلاطين وطرقهم القديمة في هداية المجتمع، بالمناسبة وعلى الرغم من مجاملاته ما زال الوردي لحد الان يمتلك براءة إختراع مسجلة في هذا الموضوع أي مواجهة (الفاشلون في المدارس الابتدائية) كما يصفهم د علي شريعتي الذين نصبوا أنفسهم كحراس للعقيدة وكانوا السبب في ان يصبح الدين اعتذارا للضمير الحي عن ارتكاب المعاصي ،هؤلاء لا غيرهم من قصدهم الوردي وتحدث عنهم في كتابه القاسي والجريء (وعاظ السلاطين).
ذات يوم كتب الوردي العبارة التالية (( العربي بدوي في عقله الباطن مسلم في عقله الظاهر)), هذا يعني وفق مقصديات الوردي وإعتمادا على الفتوحات المعرفية الكبرى التي إبتكرها سيغمويند فرويد في علم النفس أن الشخصية العراقية تعاني من إزدواجية رهيبة على مستوى الفكر والسلوك لان الفرد يرغب أن يكون مؤمنا ويلتزم بتعاليم السماء ولا يرغب بالتغريد خارج سرب الخيال الجمعي المؤمن بالدين وقدرته على صناعة الحياة ولكنه - أي الفرد العراقي - ما زال تحت حاضنة قيم الجاهلية/البدوية التي تضغط عليه بقوة ولا يمكن أن يعيش بدونها أو خارج إطارها .وهذا ما يفسر هيمنة القيم العشائرية بصورة تتعطل معها الحياة في المجتمع العراقي خصوصا وأن الكثير من هذه القيم العشائرية تتقاطع مع حكم الإسلام والقوانين الوضعية التي تسيّر الدولة. ورغم أن الإسلام حارب العصبية القبلية في مواضع كثيرة ولكن الفرد العراقي ملتصق ومؤمن على مستوى السلوك بهذه القيم والممارسات بشكل يوازي إيمانه بالعقائد الدينية وربما يفوقه.
وهذا يجبرنا على المسير خلف من يدعي أن ثقافة العراق هي ثقافة بدوية بالأصل, أما الإسلام فهو طارئ ولا يمكن أن يزحزح إيمان العراقي بالكثير من العادات والتقاليد القبلية المتقاطعة مع الإسلام والحضارة، يذكر الوردي “إن العراقي، سامحه الله، أكثر من غيره هياماً بالمثل العليا ودعوة إليها في خطاباته وكتاباته ولكنه، في نفس الوقت، من أكثر الناس إنحرافاً عن هذه المثل في واقع حياته..إنه أقل الناس تمسكا بالدين “. بسب عدم مقدرة رجال الدين ومن خلفهم الدولة ومؤسساتها للتواصل مع المجتمع بالاضافة الى إغراء التيارات المنافسة كالعلمانية او الليبرالية بمعنى أوسع والتي ساقت الفرد ومن خلفه المجتمع نحو الإيمان طوعا أو كرها بأفضلية النموذج الغربي على المستوى الاقتصادي والعسكري والفكري وهذا ما دفع الفرد العراقي وخوفا من ضياع الهوية أن يختبئ خلف منظومة القيم العشائرية وان كانت غير صالحة.
هذا هو أصل المشكلة ،إنه الصراع بين داخل الانسان وأنانيته وبين محيطه وما يحمل من تناقضات عسيرة وقد إبتسرهاالوردي بالصراع بين قيم البداوة والحضارة، وقد إنتبه لذلك د. سليم الوردي الذي إنتقد صاحب (اللمحات الإجتماعية) من وجهة نظره كمفكر ماركسي فيقول ((إن مجتمعنا يعاني من صراع طبقي رهيب لا يمكن أن نصف الصراع فيه بأنه صراع بين البداوة والحضارة)).
إن المطبات الكارثية والأحداث التي لا تخضع لقوانين الطبيعة أو علم الإجتماع أو سيرة الشعوب وحتى سنن التاريخ لا يمكن إختزالها بإختلاف سلوكيات البدوي, (الإعرابي) بلغة القرآن, بكل ما تحمل هذه المفردة من ثقل دلالي وأهل المدينة خصوصا ونحن نتحدث عن المدن العراقية لا غيرها،هذا الأمر كان سببا في إنفصام الشخصية قبل إزدواجيتها لأن أهل المدينة العراقية يحلمون أن تكون مدنهم كعواصم الغرب الجميلة حيث التقدم والعمران ولكن الحلم يبقى حلم والواقع واقع والعراق هو العراق عصي على التطور وكأننا نعيش خارج التاريخ، وهكذا ينشأ عند الفرد صراع إجتماعي - نفسي خفي هو في الحقيقة رد فعل للتناشز بين نسقين متناقضين من القيم الحضارية.
والخلاصة أن الفرد العراقي يعاني من عقدة نفسية رهيبة في اللاشعور و(ما يقبع في اللاشعور هو ما تنحني أمام سلطانه رقاب الناس) حسب عبارة د. فتحي بن سلامة. وقد ترجم الوردي ذلك - وهو هنا يتحدث عن الفرد العراقي - فيقول((إن اللاشعور يحوي على منجم من الذهب أو كومة من النفايات ومن أهم تلك النفايات هو التعصب التقليدي)).
والسؤال المهم هل يمكن أن نبرر هذه النفايات وندخلها في حيز المقبول بعيدا عن حسابات المنطق الصوري والوعظ السلبي؟ مرة اخرى اننا كعراقيين لا يمكن أن تكون إجابتنا سلبية لان سنين الحرب والحصار والإنقلابات والإحتلال والمؤامرات ووعاظ السلاطين وحكام السوء لا يمكن ان تمر دون أن تحفر آثارها بقوة في نفسية الفرد الذي فقد الثقة بوعود المسؤولين وسياساتهم البربرية عندها تحركت الآنوية بلغة الوردي ممزوجة بنفايات اللاشعور وفقر الواقع فحصلت الكوارث الإجتماعية كالقتل والتهجير وسلب الممتلكات العامة والمليشيات ومافيات الفساد وغيرها.
إن العالم يعيش اليوم مرحلة ما بعد التصدع العظيم ولا زلنا لم نركب بعد موجة التطور الثانية وفق تصنيف عالم الإجتماع الشهير (آلفن توفلر) - أي مرحلة الثورة الصناعية وحتى المرحلة الأولى (الزراعة) شارفت على الإنقراض في بلاد الرافدين. وفي مجتمع يمتلك مثل هذه المواصفات التعيسة يكون التناشز الاجتماعي وإزدواج الشخصية والفوارق الطبقية نتيجة حتمية ومصير لابد منه، وهنا الكارثة أن تكون تلك هي مواصفات الشخصية العراقية لسبب بسيط أن هذا العراق ولأسباب مجهولة يمتلك ثروة طائلة ولكنه ما زال كالقرية التي مر عليها أحد عباد الله الصالحين (خاوية على عروشها) وفق مقاسات العمران والرفاهية والتحضر في بلدان تمتلك عشر ثروة هذا البلد اللغز.
لا ندري هل أن المشكلة في سلالة الحكام أم في الشعب أم الطبيعة الجغرافية أم في المنظومة العقائدية الطائفية أو في المكلفين بإيصالها أم في المحيط الإقليمي أو الدولي أم أمرا لا يعلمه الا الله.
لقد كان الوردي موفقا في كشف العيوب الشخصية وتحديد منابع الخلل الإجتماعية من خلال رصده لتفاصيل الحياة الجزئية ومشاكل الناس اليومية ولكنه لم يكن حاذقا في معالجاته لأن السلوكيات لا يمكن سلخها عن بيئتها أو منظومتها الثقافية التي تتمدد لتشمل حتى العادات والتقاليد، فالعرف الإجتماعي مثلا قد يصبح مقدسا ولا يجوز التفريط به أو التنازل عنه إضافة إلى المنظومة العقائدية التي تعتبر محرك رئيس لشخصية الفرد العراقي وغالبا لا يمكن حساب نتائج هذه الأعمال إعتمادا على المفاهيم الوضعية التي تضع كل شيء في خانة الربح أو الخسارة أو تعتمد على قوانين المنطق الصوري التي هاجمها الوردي.
ما يؤخذ على د. الوردي مثلا أنه إعتبر ثورة العشرين هي إمتداد للمعارك التي كانت العشائر العراقية تقوم بها ضد الحكومة التركية بين حين وآخر للجماهير وهو بهذا يغفل وبشكل غريب عن القيم العقائدية المحركة للجماهير آنذاك خصوصا وإن قادتها هم من رجال الدين المعروفين، وهل يمكن إن تحل مشكلة الانحلال الخلقي والأمية ومظلومية المرأة برفع الحجاب وإختلاط الجنسين، لا أعلم كيف إرتكب الوردي وهو القناص الماهر تلك الأخطاء الكبيرة ولماذا؟.
إن مشكلة الوردي أنه يسير خلف من ينتقدهم ولكنه لا يرى ذلك أو أنه يعلم ولكنه يمسك سكينا حادة جدا لتسفيه آراء لا يراها هو منطقية وهذا هو أحد عيوبه الكبرى, وسأورد المثال التالي :
يهدي الوردي كتابه المعنون (مهزلة العقل البشري) إلى ((القراء الذين يفهمون ما يقرأون أما أولئك الذين يقرأون في الكتاب ما هو مسطور في أدمغتهم فالعياذ بالله منهم)) ولم أقرأ ولو لمرة واحدة - على مستوى التنظير - أن د.الوردي قد تراجع عن أحد أفكاره أو إقتنع بنصيحة احد منتقديه رغم أنه شغوف بالجدل ومولعا بالنقد الذي يوجه إليه وإلى أفكاره مثلما كان مولعا بالرد عليها وكانت إجابته دائما (إن المصيبة أن هؤلاء لا يفهمون ما أقصده ولا يريدون أن يفهموا).
إذن الوردي ومن خلال سلوكه كمفكر وبلغته هو (لا يفهم إلا ما هو مسطور في دماغه) ويحاول أن ينتقص من منتقديه (المستحقين للسخرية أحيانا) من خلال سرد بعض الحكايات البسيطة التي ينسجها خياله أو المنتقاة من التراث الشعبي ويطلق من خلالها حكما عاما لا يخضع إلا لمنطقه هو .
لقد غالى الوردي كثيرا في تأثير القيم والأعراف البدوية في المجتمع العراقي مع أن هناك حواضر قديمة لم تتأثر كثيرا بالقيم البدوية ولهذا يرى البعض أن الوردي أظهر عيوب المجتمع العراقي وترك محاسنه .
وفي الختام لا يمكن أن نغفر للوردي كعالم إجتماع مرموق وكمؤرخ مايكرسكوبي مميز إهماله او سكوته عن تحليل المواقف السياسية التي أعقبت ثورة تموز وصعود حزب البعث لحكم العراق والكوارث الاجتماعية التي خلفها وقد إكتفى بقوله (أن السياسة غير موضوعية دوما).
لنستعر مؤقتا القول الكبير لأنجلز الذي إعتذر عن نفسه وعن صاحبه ماركس عن الغلو والإفراط في تقدير العامل الاقتصادي ويعترف أن هناك عوامل أخرى تؤثر في حياة الانسان ومسيرة التاريخ بالإضافة إلى العامل الاقتصادي كالعامل السياسي والعامل العسكري والفكري والديني ثم يقول إذا قام أحدهم بتشويه هذا الموقف بمعنى أنه جعل العامل الإقتصادي العامل المقرر الوحيد فإنه بذلك يحوله الى جملة فارغة مجردة حمقاء .
ولحماية (رباعية الوردي) من التحول إلى جملة فارغة مجردة حمقاء لنعترف أنها أحد الجذور المتينة للمجتمع وللشخصية العراقية ولكنها ليست الوحيدة, قبل الوردي أم لم يقبل, فالدين مثلا لا يمكن أن يكون عنصرا هامشيا في المجتمع خصوصا في العراق لأن المنظومة العقائدية والقيمية للدين هي المخولة لتفسير الجانب الأكبر من الطقوس والشعائر التي تحصل بشكل شبه يومي وهي المسؤولة عن طبيعة العلاقات وكثير من الممارسات الاجتماعية.
ولا يمكن أن نغفل عن تأثير الأحداث السياسية التي ساهمت وبشكل كبير في تكوين شخصية الفرد العراقي والتي تعتبر صاحبة الحظ الأوفر في تفسّير أعمال السلب والنهب الكارثية التي حدثت في عامي (1991 و2003) إضافة إلى تأثيرات العولمة والعلمنة وغيرها.
وفي نهاية الحديث أجدني مجبرا على سرد مقطع صغير من كتاب (من وحي الثمانين) الذي نشره الصحفي سلام الشماع بعد رحيل د.الوردي فيقول ص 206 :(بعد إحتلال العراق كتب الراحل الكبير العلامة د. كامل مصطفى الشبيبي الأستاذ الجامعي المتهم بالتصوف مقالة قال فيها أن الوردي مات مرتين، تطرق فيها إلى العملية النكراء التي إقترفها أحدهم.. بالإستحواذ على أحد الجوامع المعروفة في كرخ بغداد وإنشائه قاعات وأبنية في المقبرة الملاصقة للجامع وقد أكلت هذه الأبنية قبور ثلة من علمائنا الكبار أمثال الوردي و علي جواد الطاهر و جواد علي و طه باقر.
إن الوردي الذي خدم العراق فقد قبره وكانت تلك أول جريمة يرتكبها...(الجهلة) في محو رموزنا الثقافية وإتلافها بعد جريمة نهب المتحف العراقي والمكتبة الوطنية فإنا لله وإنا إليه راجعون).
لقد ضاع قبر الوردي وبقي فكره خالدا لأن ممارساتنا الإجتماعية والدينية والسياسية ما زالت مذيلة بتوقيع الوردي.
د.علي حسين فرج
*****
(أنقروا على الصورة لتنزيل الكتاب)
دراسة في طبيعة المجتمع العراقي
تأليف: د. علي الوردي
الناشر: مطبعة العاني - بغداد
الطبعة الأولى - 1965
عدد الصفحات: 388 صفحة
حجم الملف: 10.55 MB
حجم النسخة الجديدة 5,693 MB
كما يمكن تحميل الكتاب من المجلد التالي, في حال تعطل الرابط الأصلي مستقبلا:
قراءة مفيدة وممتعة.