بسم الله الرحمن الرحيم
أمام شرفة حجرتها تقف محدّقة بالفراغ المتماثل أمامها .. عاجزة عن تكوين صورة دقيقة للمشهد المقابل إليهامنتدى ليلاس الثقافي ..
تقف بأنوثة مبهرة تسلب الأنظار .. ترتدي ثوبًا من البياض يدل على نقاء روحها يتخلله تموجات خفيفة بلون الزهر لترينا وردية أحلامها .. يتمايل مع نسمات هواء عليل تداعب شعرها الحالك السواد المسترسل على أكتافها بعذوبة لتبدو كطفلة في سنيّها الأولى من الحياة .. فحمرة خديها وصِغَر مبسمها واتساع عينيها وضآلة عودها لا يجعلك تدرك أن من أمامك شابة في السادسة والعشرين ..
يخترق أذنها أصوات تعلم ولا تعلم مصدرها ..
هتاف أطفال يركضون خلف بعضهم ، يدورون حول أهليهم ، يتضاحكون ويتباكون ..
أبواق سيارات ملـّت الانتظار والصبر ، فانطلقت تهتف بمن أمامها أن تحرك وأفسح لي الطريق لأنطلق ..
صيحات شباب يركلون هواءً مستديرًا حبسه إطار مطاطي ، يمازحون بعضهم بعضـًا ويتشدقون ببعض مهاراتهم الرياضية ..
وزمجرة كرة تقاذفتها الأرجل متضجرة من حالها المزري ..
رفرفة عصافير ترجو العودة لديارها قبل أن تنطفئ أضواء النهار وتشتعل المصابيح الجانبية ..
مواء قطط تستجلب عطف الرحماء من بني البشر ليلقوا إليها بكسرة خبز أو بقايا من لحم وعظم وربما شربة ماء أو سقيا حليب ..
ضحكات مراهقات تزهو كل واحدة منهن بأفضل ما اشتراه لها والدها وتصف أروع ما أتقنته من لوحات ترسمها بأصابع ماهرة على صفحة وجهها ، وأخريات يتحدثن في أمور الأزياء والأشكال والألوان والجمال ..
ابتهالات أمهات يرفعن الأكف ويطلن الدعاء إلى الباري بأن يحفظ أبناءهم ويسعد حياتهم ..
تقريع آباء يوجهون أبناءهم للصواب ويزجرونهم عن الزلل ، ويمنحونهم أطايب الحكمة التي اقتبسوها من الحياة ..
تشد كفها على السياج الماثل أمامها وترسم ابتسامة سعادة وود ، وكأنها قد شاركت هؤلاء جميعهم أوقات سعادتهم .. بينما تشتت حركة بؤبؤيها بحسب الأصوات التي تخترق طبلة أذنيها الرقيقة .. ثم ما تلبث أن تعود أدراجها وتتلمس طريقها نحو سريرها المتوسط حجرتها بعد أن أغلقت شرفتها وأسدلت الستائر ..
بينما في الجهة المقابلة .. يقف هو وسط تلكم الضوضاء وعينيه محلقتان صوبها .. متجاهلاً الدوامة التي تحوم حوله ..
يرى منها ما لا تراه منه ..
يحفظ بدقة تفاصيلها بينما هي تفتقر لامتلاك أدنى صورة عنه ..
اعتاد يوميًا ومنذ سِنِيِّه الثلاث الأخيرة .. منذ انتقل لهذا الحي .. أن يراها وبنفس الموعد ..
يتأمل براءتها وينتشي بسحرها .. دون أن يثير ضجيجـًا يفسد هالتا الصفاء والنقاء التي تحومان حولها ..
يود لو أن يكون شخصه هو من ارتكزت عليه أفكارها ..
أن يكون لطفه هو من يرسم أجمل البسمات على ثغرها ..
أن يكون حضنه هو من يلملم رجفتها ..
أن تكون يده هي المنديل الذي يمسح دمعها ..
أن تكون ذراعه هي التي تستند إليها كفها الرقيقة ..
أن تكون أنفاسه هي من تعبث بخصلات شعرها ..
أن يقف بجوارها ليرى المنظر من منظورها ويعيش اللحظة كما تعيشها ..
ولم يوقظه من خياله وأحلامه سوى
ابتعادها عن مرأى نظره
وإغلاقها الشرفة أمام أمنياته
ليهب واقفـًا .. متجهـًا ناحية المسجد الذي يقبع في الجوار ..
فالمؤذن سيشدو بألحان النداء بعد قليل ..
لم يدرك أبدًا ما فعله أثناء صلاته ..
بل كانت الأفكار فيه تدور نحوها .. وتحوم حولها ..
وما إن أنهى صلاته حتى عزم أمره في إبلاغ أهله والتقدم لخطبتها ..
قـَدِم أهله لدارها .. وتعرفوا أهلها ..
ثم طلبوا رؤيتها بحجة أنهم جيران جدد ويريدون تكوين علاقة حميمة مع جيرانهم ..
فنهضت الأم لتخبرها وتجبرها على القدوم ..
فهي وكما عرف عنها منذ أربع سنوات لا تحبذ الجلوس أمام الزوار ..
..:.. لكن الآن يكفيها هروبـًا ..:..
ما لبث الزوار أن سمعوا قرعـًا على الأرض ..
لتلج بعده فتاة أقل ما يقال عنها .. فاتنة ..
وهي تمسك بيمينها عكازًا ليدلها على طريقها ..
ألقت التحية .. واتخذت من أقرب مقعدٍ لها مكانـًا ..
بينما الصدمة فغرت وجوه الحاضرين ..
أَ يعقل ؟؟ تلك العينين الرائعتين .. لا تبصران ..
أي خيبة أمل أصابت محياهم ..
هذا أول الغيث .. وهناك ما ينتظرهم ..
تجاذبوا أطراف الحديث .. ليروا منها حكمة ونباهة وفطنة .. قلما توجد في مثيلاتها ..
ومن بين شجون الحديث أتتهم الصاعقة ..
إنها .. أرملة و ثكلى ..
فقدت زوجها وطفلها في نفس الحادث الذي أودى ببصرها وجعل الظلام يلفها أينما كانت ..
أما هو .. فـ بشوق وترقب انتظر الخبر اليقين من أهله
وعند علمه بأمرها ..
أبدل رغبته العنيفة بالارتباط بها ..
لحقد متأجج يصوبه نحوها..
فبرأيه .. ماذا سيستفيد من عمياء ؟؟
وما الذي سيجنيه من أرملة .. ثكلى ؟؟
ألا يكفيها عيبٌ واحد - كما يزعم- لتضم تحت قناع براءتها ثلاث عيوب ..
أصدر أمرًا بأنها .. امرأة للحب لا للزواج ..
تجاهل وبقسوة .. مسحة الألم التي تمنى إزالتها ..
الدموع التي تمنى تجفيفها ..
الوحدة والوحشة التي تمنى إبعادهما ..
الغربة التي أراد توطينها ..
ركلها
وتركها تجدد أحزانها
وتعزي نفسها
وتمنح قلبها بضعـًا من الثبات
بذكريات ماضٍ
أعلى قدرها
-تمت بحمد الله وتوفيقه-
هذه أنا/ لِمَ السؤال؟