كاتب الموضوع :
dali2000
المنتدى :
القصص المكتمله
الجزء الرابع
كان الطريق إلى المدرسة طويلاً موحلاً ومرهقاً... قضيت وأبي معظم الطريق صامتين غير كلمات قليلة متناثرة عن بعد المدرسة ووعورة الطريق ووجوب اتخاذ وسيلة مواصلات جيدة لي في المستقبل... كان أبي يستمع ألي صوت المذياع المنبعث من راديو السيارة وأنا أتأمل الصحراء من حولي المترامية الأطراف... ابتعدنا كثيراً عن الرياض وبدت الطرق أمامي مقفرة منفرة حتى تحولت الطرق المزدوجة إلى طريق واحد متعرج، تتقاطع فية السيارات النادرة القادمة من جهات متعاكسة وعلى جانبي الطريق لا شئ سوى رمال الصحراء حتى نمر ببعض القرى والهجر الصغيرة المتباعدة ثم نعوج لهجير الصحراء من جديد...
سألني أبي بلهجة جافة إذا ما كنت أريد إفطاراً... لم أكن جائعة رغم استيقاظي المبكر في الساعة الرابعة فجراً لكنني كنت قلقة ... حائرة وقضيت ليلة سيئة لم يزرني فيها النوم فأومأت بالإيجاب... دقائق وتوقف أبي عند إحدى محطات البنزين ملأ السيارة بالوقود ثم ابتاع بعض الشطائر التي ما أن شممت رائحتها ورأيت قذارة المطعم الذي ابتاعها منه حتى عافتها نفسي وكرهت مجرد تناولها بيدي... لاحظ أبي نفوري واشمئزازي ... ابتدأ يأكل وهو يقول:
- هذه نعمة من رب العباد ومن عافها فهو جاحد... أستغفر الله.
ومضى طوال الطريق وهو يستغفر ويسب ويشتم، يسب من أو يشتم من لا أدري؟ لكنه كان ناقما عليّ أشد النقمة، ثم أقبلنا على طريق صحراوي غير معبد بعد أن استعان أبي بخريطة يحملها معه انتهي بنا الطريق إلى هجرة صغيرة، بيوتها طينية على النمط القديم المتباعد وكأننا لسنا في القرن العشرين... ابتعدنا عن الحضارة والتقدم وخلفنا التكنولوجيا وراءنا على بعد أكثر من ساعتين ومائتين من الكيلومترات، كانت البيوت طينية متهدمة تتباعد وتتقارب في الصفوف غير مرتبة ومسجد طيني سقفه من الصفيح الصدئ... ترجلنا أمام باب المدرسة.
لم أصدم وأنا أري هذا المبني العتيق الذي لا يختلف عن غيره من البيوت المقامة في هذه الهجرة... دخلت بعد أن قال لي أبي بحدة:
-سأنتظر حتى تخرجي... لا تنسي أن تدبري لك وسيلة مواصلات فلن أكرر هذه الرحلة ما حييت...
أعلم تماما انه لن يكرر تلك الرحلة، فأنا نفسي رغم رغبتي الشديدة في عملي كمدرسة قد كرهت هذه الرحلة وأصبحت ثقيلة على نفسي، فكيف سأكررها يومياً؟... تساءلت وأنا أدلف إلى الداخل برهبة شديدة ونفس متزعزعة ومهزوزة... غاصت قدماي في الأرض الموحلة من آثار المطر فقد كنا في فصل الشتاء... تنقلت بصعوبة حتى وجدت أول حجرة أمامي دخلتها بتردد... رأيت أول أنسانة في هذه الهجرة البعيدة، كانت من دولة عربية شقيقة، رحبت بي وعرفتني بنفسها، هي مديرة المدرسة. ثم اصطحبتني معها إلى الحجرة المجاورة حيث زميلاتي، المدرسات، مضى الوقت وبدأت تغادرني وحشتي وغربتي...
تعرفت إلي زميلاتي: اثنتان من جنسية المديرة و تسكنان معها في بيت طيني في نفس الهجرة وأربعة منهن يحضرن من قرى قريبة من الهجرة واثنتان يحضرن من مدينتي نفسها... لم أتوان عن السؤال عن وسيلة النقل، أفهمنني بأنهن يحضرن يومياً مع أبي راشد وزوجته وهما من مدينتنا ينقلان المدرسات إلى ثلاث قرى مختلفة في سيارة جيمس صالون ومجموع المدرسات المتنقلات معي ثمان بالإضافة لي ... فرحت بأن طرقي أصبحت ممهدة... وسألت عن كل شئ...
ثم قفلت عائدة مع أبي نسير وراء سيارة السائق أبي راشد لكي ندله علي طريق بيتنا فيأتيني صباح الغد لنبدأ العمل... إلى حد ما كنت مستقرة نفسياً، فالطالبات عددهم قليل والفصول لا تربو على خمسة في كل صف منها ثلاث إلى أربع طالبات لا أكثر... المديرة بشوشة طيبة النفس والزميلات ودودات مرحات...
عدنا إلى البيت في الثانية ظهراً... حكيت لزوجة أبي كل شئ ثم ابتدات استعد ليوم الغد ... يومي الحقيقي في مدرستي الجديدة، اليوم الذي سأمارس فيه مهامي الوظيفية وسألتقي فيه بطالباتي القليلات أتحدث معهن وأعلمهن وأعطيهن من كل نفسي، من كل ما أختزنته من تجارب في الحياة... من حبي للعمل... حبي للدنيا بأسرها... كنت مرحة متفائلة, أشعر بأن الدنيا ابتدأت تبتسم لي رغم تكشيرها في وجهي الأعوام السابقة...
همست لنفسي اليوم الأول في التدريس بمرح ونشاط. لم يعكر صفوي سوى المسافة الطويلة المرهقة المخيفة... فمع سقوط الأمطار الشديدة تحتجب الرؤية عن السائق، فيتمهل في السير وهو يدعو الله بصوت عال ان نصل بسلام وألا يحصل لنا مكروه، كنت أرتجف من شدة الرعب ويظل قلبي يخفق بقوة حتى نقف أمام باب المدرسة ثم أتنفس الصعداء. مضت الأيام في المدرسة وأنا مع زميلاتي شيئاً فشيئاً وأتعرف إلى أحوالهن خصوصا من يرافقنني رحلة الذهاب والإياب الطويلة.
فوزية متزوجة وأم لطفلين ورغم خلافاتها المستمرة مع زوجها بسبب الوظيفة إلا أنها مستقرة عائلياً، والأخرى صباح الأقرب لي نفسياً غير متزوجة، لكنها تتمني الزواج بشدة وبأي شكل وكثيراً ما قالت ضاحكة لو خطبنى حارس المدرسة لتزوجته... وهي متخرجة في الجامعة منذ خمس سنوات ولم تتعين في هذه الهجرة سوى منذ عامين فقط، وتنتظر نقلها إلى المدينة بدون أي جدوى فليس لها واسطة ولا زوج يرغب وجودها إلى جواره كما قالت مراراً وتكراراً...
ثم بدأت أتعرف إلى الطالبات القليلات في المدرسة، إنهن أكبر سناً من مستواهن الدراسي بكثير، فأحداهن في العشرين من عمرها أي تقاربني سناً ولا تزال في الصف الرابع الابتدائي... أسماؤهن صعبة... الشقحاء... عبطاء... وضحى رغم وجود بعض الأسماء العادية بينهن. يعانين من الإهمال الواضح في مظهرهن، فثيابهن مهلهلة قذرة وشعورهن طويلة مدهونة بالزيت غالباً... والقمل يرتع رؤوسهن دون حساب.
حاولت كثيراً أن أصلح من أحوالهن رغ تندر الزميلات ووصفهن لي بالجديدة المتحمسة، فكما سمعت منهن أنهن قد حاولن كثيراً رفع المستوي الصحي واللياقي للطالبات بدون جدوى، فإذا تفهمت الطالبة وحاولت، فلن تفهم الأم ولن تحاول، فالأب غالبا ما يكون متزوجا من امرأتين وربما ثلاث أو أربع وك لواحدة من هؤلاء تجرجر وراءها قبيلة من الأطفال فكيف تعتني بهن وأين لها الوقت تتعارك فيه مع الزوجات الأخريات لزوجها... لكنني لم أستمع لهن وحاولت بكل جهدي تعليم طالباتي النظافة كما أعلمهن الدروس اليومية... وذات يوم كنت في فصل رابع أشرح لهن بعد انتهاء الدرس أهمية النظافة وكيفية نظافة الشعر من القمل باستخدام شامبو معين يباع في الصيدليات والاستحمام اليومي وكيف يعود على الجسم بالصحة والنشاط ثم بعد انتهاء الدرس لحقت بي إحدى طالباتي" وضحي" وقالت لي على استحياء:
- أبله إن شعري فيه قمل كثير.
أجبتها بهدوء:
- أعرف يا وضحى ... أعرف.
- أبله إنني أكره القمل واود لو أتخلص منه.
أجبتها بنفس الهدوء:
- حسناً يا وضحى هذا بسيط.
ومضيت أشرح لها الطريقة المبسطة عن كيفية استخدام الشامبو المناسب. أجابت والخجل يعقد لسانها:
- لكن يا أبله... الرياض بعيدة... ونحن لا نذهب إليها أبداً كأهل قريتنا.
ابتسمت وقد فهمت مرادها:
- حسناً يا وضحى... أعدك بأن أجلب لك الشامبو في أقرب فرصة وسأكون سعيدة بهذا جداً.
وفعلاً ابتعت لها الشامبو وأهديتها إياه... لم أنس فرحتها الشديدة به كأنه هدية ثمينة من الذهب، وليس شامبو يباع في البقالات بسعر زهيد.
بعد بأيام قلائل أتتني وفي يدها وعاء وتقول أنه هدية من أمها لي... سعدت كثيراً بتقديرها ووالدتهالي رغم ان الهدية عبارة عن أقراص من اللبن المجفف يطلق عليها اسم" البقل" أو "الأقط" كانت أقراصاً لذيذة جداّ استمتعت بالتهامها مع زميلاتي اللواتي أخذن يتهامسن عن علاقتي بهذه الطالبة...
وفي طريق العودة إلي مدينتنا حكت لي صباح قصة وضحى التي لم تنجب أمها سواها وشقيقها المدرس الذي يكبرها بعشر سنوات ويدرس الأولاد في نفس الهجرة... ولقد أنجبتها والدتها بعد يأس من الإنجاب ففرحت بها كثيراً ودللتها بشكل مبالغ فيه... ولم تنجب غيرها مما اضطر الأب الذي كان يحب الأم كثيراً إلى الزواج مرة أخرى وأنجاب الأولاد و البنات... أشفقت على وضحى كثيراً بعد أن سمعت قصتها فحكيت لزوجة أبي عنها وعن حياتها في دنيا خالية من المسرات والبهجة... فلا تلفاز في القرية ولا جرائد يومية ولا أي شئ يمكن من خلاله معرفة العالم الخارجي وما يدور به.
توثقت علاقتي بوضحى بعد ما لمسته من جدها واجتهادها وتعلقها الشديد بي، فكانت كل يوم تحاول ان تظهر لي بأنها قد أصبحت نظيفة متألقة... وفعلاً فإنها تبز الطالبات جميعاً بالنظافة والترتيب والاجتهاد بالإضافة إلى أخلاقها العالية وحيائها الملحوظ... ثم فوجئت ذات يوم بوالدتها( وهي امرأة لطيفة ودودة تناهز الخمسين من عمرها أو ربما أقل لكن حفر الزمن وأخاديده تبدت على وجهها وحول عينيها) هل كان حزنا ذلك الذي أضاف لعمرها سنوات أم هو خوف ووحدة... لا أدري... لكنني رحبت بها بصدق وحرارة وامتدحت لها ابنتها وضحى. رأيت ألق الفرحة في عينيها واتساع ابتسامتها، ثم صافحتني بود ودعتني لزيارتهم في بيتهم البسيط... اعتذرت لها بصعوبة ذلك حيث إن دوامي الوظيفي لا يسمح لي بمثل تلك الزيارات ثم ودعتني بحنان استشعرته بكل كياني فأيقظت في نفسي جروحاً قد أقفلت على صديد ووعيت على حقيقتي المجردة اليائسة الباشسة, وهي أنني إنسانة محرومة من الأمومة والحنان فلم أعرف لي أماً طوال حياتي الخاوية... بكيت في ذلك اليوم لا أدري لماذا... قطعت رحلة الأياب في بكاء متواصل ... ورفضت الحديث مع زميلات الرحلة اللواتي كان البعض منهن يتحادثن بينما الآخر كن نياماً...
في ذلك اليوم البعيد تسلل الحزن إلى فؤادي فمزقه بلوعة، تذكرت غربة أحياها في بيت ولدت فيه، تذكرت الأم التي كانت كطيف مر بحياتي، كحلم لا جود له... أختي التي استشعرت أمومتها وحنانها لا تزورنا إلا لماماً بسبب الجفاء المتبادل بينها وبين زوجة ابي ولا أستطيع زيارتها لرفض أبي القاطع... وإخوتي المتفرقين على أحزان لا يحدها المحيط.
كانت المفاجأة بانتظاري في الغد... والأقدار تنسج لنا ما لم نتخيله ولو في أقل أحلامنا واقعية وبساطة... كان المطر غزيراً في ذلك اليوم ، وما إن دخلنا المدرسة حتى فوجئنا بالمستخدمة تخبرنا بأن اليوم عطلة نظراً لغزارة الأمطار وأن المديرة أخبرتها أن تبلغنا بذلك. خرجنا بعدها مسرعات إلى الباب خشية أن يذهب أبو راشد كعادته كل يوم... وفعلاً لم نجده أمام الباب وكأن الأرض انشقت وابتلعته مع سيارته فلم ندر أين هو... حتى الحارس لم نجده إلا بصعوبة، ثم طلبنا من أن يبحث عن أبي راشد فبحث بتكاسل تحت المطر الغزير ليأتي خالي الوفاض معلناً بأنه لم يجده... في هذه اللحظة حضرت إحدى المعلمات مع زوجها من هجرة قريبة فأبلغها الحارس بالأمر... تشاورت وزوجها ثم عرضت علينا أن توصلنا إلى الرياض، ترددت صباح بينما وافقت فوزية على الفور من أجل أطفالها كما قالت ... ورفضت أنا. وبين تردد صباح وموافقة فوزية ورفضي... فوجئت بوضحى ووالدتها تأتيان تحت المطر الغزير لتعرضا استضافتي هذه الفترة مع زميلاتي المعلمات حتى يحضر السائق... وافقت على الفور بينما ذهبت صباح وفوزية مع زميلتنا عواطف وزوجها إلى الرياض... لم يكن رفضي ناجماً عن حيائي من زوج زميلتي عواطف بل كان رفضي لأنني أعرف موقف أبي من هذا الأمر وكيف ستكون ردة فعله... فقد أوصلتني ذات يوم مرة إحدى زميلاتي في الجامعة إلى منزلنا بعد تخلف باص الجامعة في نفس الوقت الذي حضر فيه أبي إلي المنزل ، وما إن رآني أنزل من السيارة الغريبة ورأي زميلتي وشقيقها حتى غاض الدم من وجهه وسبقني إلي البيت ليضربني ضرباً مبرحاً ما زالت آثاره باقية... حتى اليوم... ولولا تدخل زوجة أبي لإنقاذي من براثنه لقضيت في ذلك اليوم ... لذلك فإنني وازنت بسرعة بين مخاطرتي في الذهاب مع زميلتي وزوجها إلى إلى الرياض وبين بقائي في الهجرة مع تلميذتي وضحى ووالدتها فاخترت الأسلم والآمن... كان بيتهم غاية في البساطة والرثاثة... مساحة كبيرة مسورة بالطين من كل الجهات ثم حجرات طينية متفرقة في أنحاء الدار. دخلنا إحدى هذه الحجرات البسيطة... كانت مفروشة بحصيرة مخططة بألوان باهتة ومجموعة قليلة من الآرائك الإسفنجية البسيطة تتوسط الحجرة، مدفأة قديمة تتوهج بالحرارة والدفء وفي ركن الأركان وضع دولاب خشبي وصفت عليه مجموعة من الأباريق النحاسية وبعض الأكواب الخزفية والمعدنية...
جلسنا حول المدفأة ... أخذت أرتجف بعنف. لا أدري هل كان شعورا بالبرد اجتحني بعد المدفأة أم كان الأمر خوفاً ورهبة إذ أنني لأول مرة أدخل بيتا غريبا ... كانت الأمطار تهطل بغزارة على الأرض الطينية في فناء الدار الكبير ورائحة الجدران الطينية المبللة بماء المطر تعبق بالحجرة ممتزجة برائحة الشاي بالزنجبيل الذي تعده ام وضحي على الموقد أمامي... رشفت الشاي ببطء مع بعض لقيمات من رقاقات خبز العسل بعدها انطلقت على سجيتي أتحدث عن بيتنا في الرياض وشقيقتي بدرية وأولادها والمدرسة والطالبات...
كاد المطر يتوقف ولم يتبق سوى زخات بسيطة كالرذاذ المنعش... جذبتني وضحى من يدي لتريني حجرات الدار الأخرى... كانت حجراً بسيطة تكاد تخلو من الأثاث عدا بعض الحصائر والفرش البسيطة، وفجأة التقت عيناي بعينين غريبتين تحدقان بي... لحظات وأدركت الكيان ككل .. أنه رجل أختبات في أحضان وضحي لتصرخ بصوت عال:
- سعد... أذهب من هنا... لدينا ضيفة...
رفعت رأسي ببطء وأنا أتلفت حولي... لقد أختفى سعد... لا أدري أين ذهب ... ربما عاد من حيث أتى... أنه شقيق وضحى الأكبر... لم أتخيله بهذا الشكل، شاب وسيم رغم أنه حاد النظرات كغالبية رجال هذه القرى... ترى لو علم أبي أنني تبادلت النظرات مع شاب ما حتى ولو كان بغير قصد... ترى ماذا سيفعل؟ هززت رأسي بقوة وطردت تلك الأفكار المرعبة ومعها ذكرى أبي المخيفة...قالت أم وضحى بسريرة نقية:
- لا تؤاخذيننا يا ابنتي... إن سعد لم يكن يقصد... فلم يعلم ان في الدار ضيفة...
أجبتها بهدوء:
- لم يحدث شئ يا أم وضحى...
ومضى الوقت سريعاً حتى أقترب موعد أوبتي إلى المنزل، فعدت مع وضحى ووالدتها لأجد أبا راشد وزوجته في انتظاري... وفي طريق العودة الطويل لم يكن يشغل بالي سوي ذلك البيت الطيني القديم وساكنيه الثلاثة...
|