كاتب الموضوع :
dali2000
المنتدى :
القصص المكتمله
الجزء الحادي والعشرون
أيام قلائل وأدخل شرنقة الاحتضار الأخير فزواجي من هذا الشيخ العجوز موت آخر ... موت بطيء وأيام أبعثرها في اللاعودة تمتص شبابي رويدا رويدا حتى أغدو عجوزا في العشرين ... تماما كشقيقتي سعاد . رباه إن الموت أهون علي ألف مرة من زواج كهذا ، ليتني مت كزميلاتي , لو كنت أستطيع افتداء إحداهن لما ترددت أبدا ... حتى السائق أبو راشد و زوجته هما أحق بالحياة مني . ليتني حشرت نفسي في السيارة المحترقة لأموت معهم حرقا كما متن ، لكن وفجأة بدأت الفكرة تلتمع في ذهني المكدود ... نعم لماذا لا أموت ؟ لماذا لا أموت فعلا وصدقا ... أبدو أمام في عالم أبي والعالم أجمع أنني قد احترقت مع زميلاتي بينما أنا أعيش في عالم آخر... وأين أعيش ... ؟ لم أفكر طويلا ... بل غذذت السير حتى وصلت إلى الهجرة التي نعمل فيها . درت من حولها نصف دورة لأصل إلى بيت سعد ... تمنيت من أعماقي أن أجده في البيت لكنني لم أجده سوى والدته التي رحبت بي أيما ترحيب مندهشة من وصولي إليها بهذا الشكل المزري ... فوجئت بنفسي لم أستطع الحديث أو حتى التفوه بحرف واحد, كنت أرتجف بعنف من رأسي حتى أخمص قدمي , أسرعت أم سعد لتحيطني بالدثارات السمكية وتمددني على الأرض ثم ناولتني القهوة والمشروبات الساخنة ... كانت الصدمة قوية بحيث إنني شعرت بأنني كائن هوائي ,لست بأنسانة حية ولا ميتة بل شيء ما يسبح في الهواء ... في الفضاء ... بين النجوم وكأنني قد أصبت بحالة انعدام وزن ... ففقدت توازني واتزاني ... أدركت أم سعد بخبرتها الطويلة أنني أعاني من شيء ما فتركتني لفترة عادت بعدها لتدلك أقدامي ويدي بماء ساخن ...
جزعت لجروحي الظاهرة فانبرت تعالجها مهارة تحسدها عليها أمهر الممرضات , وقالت إن هناك كدمات برأسي و جبيني ثم صمتت ... أتى بعدها دوري بالحديث أو المفترض أن أتحدث لكنني انتحبت بشدة دون أن أنبس ببنت شفة , ضمتني لصدرها بحنان أم حقيقية ... أم أستشعرها لأول مرة في حياتي , أحسست قي أحضانها الدفء الذي افتقدته والأمان الذي أنشده وأنهارا من الحنان ... رباه كيف أعيش في ماضي أيامي بدون أن أعرف طعم حنان الأم وحب الأم ,إنه شيء مختلف تماما عن كل ما عرفته و عشته ... كم أنت محظوظ يا سعد وأنت يا وضحى بأمكما الرائعة.... إنني أحسدكم حقا... وتمنيت لوهلة بل إنني دعوت لربي بأن يبقيني كما أنا في حضنها وفي هذا المكان الذي أستشعر الأمن في جدرانه الصدئة أكثر من أي مكان آخر في العالم. أتمني لو أغمض عيني في حضنها وأنام إلى الأبد ... مر الوقت سريعاً لأسمع صوت سعد ينادي على أمه في ساحة الدار ، وعندما حاولت النهوض أمسكت بيدها برقة متشبثة بها كيلا تغادرني إلى أي مكان ، فإحساسي المؤلم بالضياع قادني إلى يقين أنني قد وصلت أخيراً إلى شاطئ الأمان الذي لن أغادره أبداً سوى إلى قبري ... لحظات ثم دخل سعد الحجرة ... وحاولت أمه أن تغطيني بوشاحها ، فرفضت الوشاح ودفته بعيداً عني ... أرعبتني نظراته الذاهلة المصعوقة وكأنه ينظر إلى كائن من كوكب آخر ، فاغراً فمه من هول المفاجأة ... قال أخيراً بدهشة :
- أمي ... أحلام ... هل هي أنت .... أحلام ...؟
ولدهشتي الشديدة فكت عقدة لساني فرددت عليه بصوت ليس صوتي :
- نعم أنا أحلام ...
اقترب مني غير مصدق ما يراه محاولاً الإمساك بيدي ... نهرته أمه بأن هذا لا يجوز ... توجه لامه بالكلام قائلاً – أنت لا تدرين يا أمي بما حدث .... لقد كنت أعتقد أن أحلام قد ماتت محترقة ... فقد اصطدمت سيارتهم بصهريج مياه في حادث شنيع وتوفي الجميع محترقين عدا سائق الصهريج الآسيوي ، فهو لم يمت لكنه في قسم العناية المركزة في المستشفى في حالة حرجة ... لقد انتشر الخبر في القرية يا أمي والناس يعتقدون بأن أحلام قد احترقت معهم فلم أتوقع ولا في أكثر أحلامي تفاؤلاً بأن أراها مرة أخرى وأمام عيني هاتين ...
خرج صوتي مبحوحاً محشرجاً وأنا أسأله :
- هل مات الجميع فعلاً ؟
هز رأسه علامة الإيجاب دون أن تحيد نظراته الموجهة صوبي بلهفة ممتزجة بدهشة ... أمسك يدي برقة وهو يقول :
- أحقاً أنت يا أحلام ... أحقاً لم تموتي مع الأخريات ... هل أنت أمامي أم شبحك حضر ليقتلني في الصميم ...؟
إغرورقت عيناه بالدموع ... جاوبتها عيناي وبكت والدته وهي تحمد الله على سلامتي ... سمعنا صوتأً في الخارج لتدخل وضحى ممتقعة الوجه تنظر لي بذهول قاتل ، ثم أسرعت لتلقي نفسها بين أحضاني وهي تجهش بالبكاء ... مر الوقت سريعاً وأنا أشعر باطمئنان غريب وخدر لذيذ يسري في أوصالي المرتجفة . لا أدري هل هو فرحة بالنجاة من موت محقق أم هي سعادة الوصول إلى مرفأ آمن ، أم أنه إحساسي المفاجئ بأنني قد وجدت نفسي أخيراً وأن مكاني الحقيقي بين هؤلاء الأحبة في بيت متواضع عامر بالحب والمودة ... أم بسيطة هي كتلة من الحنان والعطف ... رجل أشعر إلى جواره بأمن والأمان والراحة والاطمئنان فتاة هي أكثر من أخت وأعز من صديقة ... همست أم سعد برقة :
- هيا يا ابنتي ... هيا لتطمئني أهلك على نفسك ... بالتأكيد هم في حالة لا يعلم بها إلا الله ...
عادت ذاكراتي إلى ذلك البيت الكبير والصقيع الذي ينتشر في أرجائه ... الأب الظالم القاسي وزوجته اللامبالية رغم طيبتها وأخوة غير أشقاء لا أشعر بهم . تذكرت زفافي المقبل والقبر الحقيقي الذي ينتظرني فيقضي على سعادتي قضاء مبرماً ... فصرخت جزعة :
- لا يا خالة ... لا يا سعد ... أرجوك لا تعدني إلى هناك أبداً . دعهم يعتقدون بأنني مت محترقة فالموت أهون عندي من أن يزفوني إلى شيخ في عمر أبي...
ثم مضيت أحكي لسعد ووالدته وشقيقته ما حدث لي بعد زيارتهم الأخيرة... وكيف قرر أبي زواجي وسعي إليه... ثم أجهشت في البكاء... احتضنتني أم سعد بحنان وهي تهمس:
- لا عليك يا ابنتي سنحاول أن نوسط الجميع لدى أبيك كيلا يزوجك بهذه الطريقة...
صمت سعد وعلى وجهه سيماء تفكير عميق ثم قال أخيراً:
- لا قائدة يا أمي إنه سيزوجها رغماً عنها شاءت أم أبت...
ضربت أمه صدرها بقوة وهي تهتف:
- ألا تخاف الله يا سعد... وهل تخطفها أنت إذا كان أبوها سيزوجها... ألا تدرك سوء العاقبة؟
تكلم سعد بهدوء وروية:
- أمي... إنني لن أخطفها... ولكنني أفضل اختفاءها المؤقت حتى نجد حلا... ولتختر أي أحد تضمنه من أقاربها بأنه لن يفشي سرها وسأوصلها عنده بكل أمان...
صرخت بلا وعي:
- بدرية... نعم... أوصلني يا سعد لشقيقتي بدرية... وأرجوكم أن لا تخبروا أحدا بوجودي على قيد الحياة...
أمضيت النهار بطوله في بيت سعد ووالدته... وبعد حلول الظلام صعدنا إلى سيارة سعد التي أقلتنا إلى الرياض... لكنني كنت ذاهلة معظم الرحلة أستند إلى ذراع والدته في صمت، وهو ووضحي القابعة إلى جواره في المقعد الأمامي لا ينظران سوى للطريق أمامهما...
ما إن رأتني بدرية شقيقتي حتى وقعت على الأرض مغشيا عليها...
***************************
الجزء الثاني والعشرون
صباح وابتسامتها الوضيئة هل غابا إلى الأبد وتشتت أحلامها العريضة على أرصفة الأحزان... صباح تلك الفتاة المبتسمة أبدا وروحها المرحة اللاهية تعربد حولها بفرح طاغ... كلماتها ... ضحكاتها... حركاتها الكثيرة كلها تدل على حياة عريضة كاملة حافلة ممتدة حتى نهايات البشر أو حتى نهاية الكون... لم أتوقع أو أصدق أن هذا الكائن الخرافي ممكن أن يطويه قبر ما.. وللأبد... وأن يصمت صوت الحياة بداخلها للأبد... تلك الضاجة بالمرح، المزيج الرائع من الأمل والحلم والإرادة، هزمتها الدنيا الدنيا مرات لكن انطبق عليها المثل القائل " الضربة التي لا تقتلني تقويني" فخرجت من معركتها قوية رغم حزنها متماسكة رغم ألمها، مبتسمة رغم مرارة الجرح واستجداء النسيان... كانت تطمح بالنقل إلى المدينة إلى جوار أسرتها وتطمح بالزوج الذي ينتشلها من براثن الوهم والكآبة، وينفض عن ثوب عرسها الأبيض عذاب الانتظار، تطمح بأشياء كثيرة لم يمهلها القدر في تحقيقها.. وأراد لها أن تزف إلى قبرها متوجة بأحلام لم تتحقق وآمال تبعثرها الرياح... لحقت بعريسها الذي بكت دوما عليه. رب اجمعهما في الآخرة كما لم يستطيعا في الدنيا، ارحمهما برحمتك يا أرحم الراحمين... تتراءى لي فوزية بوجهها الشاحب وعينيها القلقتين أبدا... دائما قلقة متوترة يخنقها الإحساس بالمسؤولية والتشتت بين عمل بعيد لا يرحم وبيت زوج وأطفال يحتاجونها باستمرار... دموع أبدية تسكن عينيها تهفو للعودة والاستقرار مع أطفالها... لكنه العمل والحاجة له ... لمحتها مرات تبكي في صمت منزوية في الفناء الخلفي للمدرسة، تنظر إلى لا شئ وتبتلع دموعها مع قطعة خبز مبتلة بالعرق والدمع الغزير... تواريت كيلا يجرحها وجودي، سألتها يوما عن سر حزنها، تنهدت وهي تحكي لي عن تمزقها وضياعها وتشرد أطفالها في بيوت الأقارب والعقارب وتهديد زوجها المستمر لها بأنه سيتزوج من أخرى إذا لم تتدبر وسيلة تنقل بها إلى الرياض... وانتقلت نعم انتقلت ولكن إلى الدار الآخرة، انتقلت قبل أن تكتحل عيناها بمرأى قرار نقلها، قبل أن يضمها بيت هادئ وأطفالها الصغار، قبل أن يهدأ بالها وتقر عيناها ... ماتت معذبة مشتتة تعيسة ترقب الأمل بعيون قلقة عله يطرق بابها ذات يوم ولم يطرق بابها سوى الفناء....
حكت إحدى الزميلات للمديرة وأنا أستمع للحديث الدائر بينهما أن الخلافات بين فوزية وزوجها قد ازدادت كثيراً في الفترة الأخيرة، وأنه قد قال لها صراحة إنه لا يشعر بها كزوجة، فهي تخرج قبل شروق الشمس وتعود بعد الغروب متعبة منهكة لا تقوي حتى على الحديث، فما بالك برعاية بيت ومداراة زوج واحتضان أطفال، لذلك هي تشعر جيداً بتأفف زوجها ونفوره بل أخطر من ذلك أنها تعلم العلاقة التي بدأت تنمو بالسر بين زوجها والخادمة. لكن ماذا تفعل... إذا خرجت الخادمة من البيت فستخرج هي منه حتماً ... يؤلمها منظر أطفالها في الصباح الباكر وهي تنتزعهم من سررهم الدافئة لتودعهم عند جارة أو قريبة لحين عودتها عدا قسوة برودة الصباح هناك. ما هو أقسى وأشد مرارة هو الوداع الإجباري اليومي لرحلة لا يعلم إلا الله كيف ستنتهي وعلى ماذا، صراخهم وبكاؤها... تشبثهم وتخليها القسري... تقربهم وابتعادها ثم تمضي رحلتها بقلب ممزق ونفس كسيرة تعد الدقائق والثواني لتعود إليهم ويضمهم حضنها الدافئ، فتتلاشى كل متاعبها وأحزانها ثم تعيد الأيام دورتها من جديد دون أن تتمتع برفقة زوجها وأطفالها إلى رحلة أو نزهة أو حتى زيارة عائلية عادية... يكبر أطفالها دون أن تدرك ... دون أن تتبع نموهم لحظة بلحظة كما تفعل الأمهات، دون مشاركة حقيقية لها بأي شأن من شؤونهم أو شؤون أبيهم، تشتتها الصراعات في أعماقها بين واجبها كزوجة وأم وعملها ودخلها الذي تحتاج إليه لقد انطفأ كل شيء فجأة وماتت فوزية لتموت الصراعات داخلها ولينتظر أطفالها عودتها كثيرا بدون طائل ... سيبكي الأكبر كثيرا لأنه يفهم ويعرف أن الموت معناه الفناء وأنها لن تعود إليهم مرة أخرى, فقد ابتلعتها القرية النائية في جوفها إلى الأبد ولن تقذفها قلقة مجددا، فقد طوتها داخلها بدون عودة... الأصغر لن يفهم سر اختفاء أمه و لن يفهم معنى الموت و الحياة، لذلك سيتعذب كثيرا وكثيرا وسيبحث عنها في أرجاء البيت الصغير وفي وجه كل امرأة يراها ... سيناديها في ليالي الشتاء القارسة وفي حمى المرض الملتهبة ولن تلبي النداء ... سيبحث في ثيابها وأشيائها الصغيرة عن روحها... عن أم كانت له واختفت فجأة ولن يجدها... ثم يكبر وينسى لكنه لن ينسى أبدا تلك القرية التي طوتها وابتلعتها وسيكرهها للأبد... لقد ارتاحت فوزية لكن أطفالها لن يرتاحوا بعدها مطلقاً...
أخذت أنتحب بقوة وأنا أقرأ الخبر في الجريدة، كان يحتل الصدارة في الصفحة الأخيرة وأعلى الخبر صورة لوزير التعليم وهو يعزي أسر الضحايا... كان اسمي من بينهم وأسماء زميلاتي تحفر أخاديد من الأحزان داخلي... لقد ذهبوا بدون عودة... لم يتبق منهن سوى أسماء لامعة وأشلاء محترقة ولا شيء آخر...
احتضنتني شقيقتي بدرية ودموعها معلقة بأهدابها... قالت لي بحسرة:
- ثم ماذا يا أحلام؟
ابتلعت شهقاتي وأنا أقول:
- لا أدري... لكنني لن أدع أبي يتحكم بمصيري، لن أرضخ للطوفان وأحنى رأسي للعاصفة وأتزوج الرجل العجوز ثم أحيا على الهامش وأموت ... كلا لن أعيد مأساتك يا بدرية ومآسي أخوتي، لن أتركه يدفنني وأنا على قيد الحياة، بل سأتشبث وأحاول وأقاوم وأدافع عن حريتي ... عن و جودي ... عن كياني الذي أراد له الاضمحلال ووضعه داخل قفص كعصفور كناري جميل يغرد لكنه لا يطير. يتمتع بالأكل والشرب لكنه محروم من الحرية... كلا يا بدرية فليعتقد أبي بموتي .... ليقم لي سرداقاً ويتقبل العزاء بوفاتي، فهذا أفضل ألف مرة من أن يقتلني وأنا حية... لأحي وأنا ميتة بنظر الناس خير من أن يراني الناس أحيا وأنا ميتة في الحقيقة...
همست بدرية:
- ولكن إلى متى؟
هتفت بثقة:
- حتى أختار الحياة التي أريدها وأشق طريقي بنفسي بلا وصاية من أحد، حتى أتزوج سعد يا بدرية...
صرخت بدرية بلا وعي:
- ماذا؟ تتزوجين سعد؟؟ بدون ولي أمر... هل جننت؟ ماذا يقول أبي لو عرف وقد أضفت إلى جريمتك السابقة بإخفائك خبر نجاتك من الكارثة جريمة أخرى أدهى وأمر وهو تزويج نفسك بنفسك دون علم أبيك...
قلت بهدوء:
- أرجوك يا بدرية كفي عن الصراخ والتشنج، فأنا لست طفلة ثم إن سعد رجل لا يعيبه شيء وهو قد طلبني للزواج فلن أرفض...
نظرت لي بدرية بدهشة شديدة وهى تقول:
- لقد تغيرت يا أحلام... غيرتك تلك الحادثة كثيراً، فبدأت تتمردين على العادات والتقاليد وما عشنا ونشأنا عليه... لكنك لست وحدك المخطئة، بل أنا مخطئة أكثر منك، لأنني رضيت بأن أدخل معك هذه اللعبة السخيفة منذ البداية... وتعذبت كثيراً... تعذبت وأنا أرى أبي وقد أذهلته الصدمة... تعذبت وأنا أرى بيتنا الكبير وقد عم الحزن والصمت أرجاءه.... تعذبت بتمثيلي وخداعي وتحملت... وفي النهاية تصدمينني بخير كهذا.... بالتأكيد أنت مجنونة...
ألقيت نفسي بين أحضانها وأحطتها بذراعي بينما أؤكد لها أنها سندي الوحيد في الحياة وأنني بدونها لا شيء أبداً... أقنعتها بأن زواجي من سعد سيقطع الطريق على أبي من أن يفكر بتزويجي ذات الرجل العجوز وسيضعه أمام الأمر الواقع وربما تنسيه فرحته بوجودي على قيد الحياة أي تفاهات أخرى وسيقبل الأمر بكل شيء بل سيباركه أيضا وسيحتفي بزواجنا ربما...
تنهدت بدرية بقوة حتى أنني أحسست بقلبها ينسحب تحت أضلاعها وهي تقول:
- أنت مصممة إذن...
هتفت بقوة:
- كل التصميم...
ابتسمت رغم دموعها وهي تقول:
- إذن على بركة الله...
ثم دار بيننا نقاش حول الرجل الذي سيحل محل ولي أمري وسيعقد زواجي على سعد... استعرضنا أسماء أخوتي الواحد تلو الآخر... كلهم لا يصلحون... صالح الأكبر والأكثر قربا والتصاقا عاجز عن فعل شيء... رغم رجولته واستقلاله وقربه أن يقف أمام أبي... لا يستطيع أن يخالف له أمراً أو يقوم بعمل دون مشورته ليتجنب غضبه وتحقيره... صالح بشخصيته الباهتة وإرادته التي تقترب من الصفر وخوفه الشديد من كل شئ لا يستطيع أن يتحمل مسؤولية عظمى كهذه، وقد عجز عن تغيير دفة حياته التي لا يريدها وزوجته التي لم يحبها يوما وسجنه الذي رفض أن يحطمه، فبقي سجينا أبد الدهر، زوجاً رغم أنفه يستنشق هواء فاسداً بلا أكسجين ويحلم بحياة يعجز عن تحقيقها ... أحلامه ... أمنياته... طموحاته.... حتى حبيبته الوحيدة، كلها داسها بأقدامه من أجل إرضاء أبي وشراء لمودته... فكيف سيقف إلى جواري في محنة كهذه وهو عاجز عن السير على قدميه والنهوض بنفسه الكسيرة... كلا إن صالحا لا يصلح ولن يصلح أبداً...
خالد أكثر أخوتي فهما وأكثرهم لظلم أبي وجبروته... بالإضافة لهزات الحياة القاسية والضربات المتوالية التي لم تخلق منه شخصا جبانا...
إنه الأصلح والأقدر... لكنه لا ... إنه لا يستحق مني هذا المصير... لن أضاعف أحزانه وإحباطاته بالزج به في معركة غير متكافئة مع أبي... ربما يطرده.... ربما يقاطعه وربما يحرمه من أن يرثه... كل الاحتمالات قائمة وكل الخواطر واردة عدا إقحام خالد في موضوع هو لا ذنب له فيه... يكفيه ما لقيه من أبي، يكفيه ما تعرض له من إذلال تأنفه رجولته وكرامته... وإعراض يجرح صورة الأبوة في نظره فلن أزيده عذابا وإيلاما... لذلك فخالد رغم رجولته وشجاعته ونفسه الأبية لا يصلح إشفاقا عليه من الآتي الذي لا يرحم...
حمد... بعد طول جدب وعذاب ومرارة أشرقت حياته بقدوم توأميه عبد الرحمن وهشام... فأدار ظهره للعالم بأسره ليستقبل وجه طفليه فقط لا غير... يعلم مواعيد رضاعتها وأوقات تبديل ثيابها وأوقات اللعب والنوم... غدت حياته أشبه بمدرب في سيرك، لا يري غير الوحوش التي يدربها... غاب عن الدنيا وعن همومها ومتاعبها باستغراقه الشديد في عالم آخر، عالم طفولي بريء نقي لا يرى الأشياء سوى محاسنها... لذلك لا أدري كيف وقع عليه خبر وفاتي المزعوم... ترى هل انتشله من عالمه المثالي أم أنه مر عليه مروراً عابراً، فلم يشعر به على الإطلاق؟ هل بكى وانتحب أم استمر يدندن بأغنيات البراءة والحلم والمستقبل...؟ هل أحس بفقدانه شقيقته أم أن هذين الطفلين عوضاه عن الدنيا بأسرها، فلم يحس بفقد أحد أو أحزانه غياب أحد..؟ كلا إن" حمد" لا يصلح، ليس انتقاصاً من شأنه... لكن رحمة بفرحته الوليدة وسعادته المتأخرة ودنياه المتخمة بالسرور الطاغي... لن أنتزعه من عالمه البريء لنواجهه بقسوة الحياة الحقيقية... لن نعيد أحزانه من جديد ونحمله مسؤوليات هو أكثر صفاء من أن يتحملها... فلندعه يلهو مع أطفاله وندعو له باستمرار البهجة...
وأخيراً صرخت بدرية... سعود... نعم إنه سعود وليس غيره... طفلها الذي غدا رجلاً... وقد أكسبته التجربة الأخيرة مع الإدمان قوة وصلابة وقدرة على الاحتمال، إنه يعيش مع أبي وتحت رعايته، لكن هذا لا يمنعه من زيارة والدته بين الفينة والأخرى والاطمئنان على أحوالها...
كما حلمت طويلاً حدث... ارتديت ثوب الزفاف الأبيض وتأبطت ذراع سعد زوجي وشريك حياتي... تشيعنا عيون الأحبة من حولنا بالسعادة والحبور... بكت بدرية طويلاً وهي تحتضنني قائلة:
- أنت الصغرى بيننا لم أتوقع يوما زواجك على هذا النحو... سرياً بدون زفة واحتفال أو فرحة من أي نوع...
همست لها ضاحكة:
- هل اشتقت للرقص... وتريدين أن ترقصي؟
ابتسمت قائلة:
- أتمني لك التوفيق من كل قلبي يا أحلام...
أمسكت يد سعد ومعها كل أمنياتي بحياة سعيدة، يملأني الأمل ويزف خطواتي الراقصة قلب لا يعرف المستحيل...
لكنه كان حلماً لا أكثر كعادة الدنيا معي حينما تعطيني كل شيء ثم تبخل علي بأغلى شيء، فقد رفض مأذون الأنكحة زواجي من سعد لأن سعود أصغر من أن يكون وليا لأمري، ثم إنه لن يكون وليا لأمري وأبي على قيد الحياة... حلقت طيور السعادة من عالمي ولن تعود مرة أخرى...
|