كاتب الموضوع :
dali2000
المنتدى :
القصص المكتمله
الجزء العاشر
أشرقت السعادة في بيتنا وانبثقت السحابة الغائمة عن مطر غزير اكتسح طريقه كل شئ حتى أحزننا... فوجئت حينما عدت ظهراً من المدرسة بحركة غير عادية في البيت... أخواتي متأنقون في ملبسهم تعيق من أعطافهم رائحة العطور... في المطبخ عدة أصناف من الطعام لم تحدث في بيتنا سوى في المناسبات... البيت مرتب نظيف يفوح برائحة البخور في أرجائه... همست لزوجة أبي مازحة:
- أم بدر... ماذا حدث؟ هل تزوج أبي مرة أخرى... أم ماذا؟
ابتسمت برقة وهي تقول:
- أليس في وجودي كفاية؟
ثم أردفت قائلة:
- أخوك خالد... لقد حضر من تبوك اليوم صباحاً...
صرخت فرحة:
- حقاً... هل حضر بمفرده... أم بصحبة عائلته... هل.. أين هو الآن؟
ضحكت زوجة أبي قائلة:
- رويدك... رويدك فأنا لا أستطيع الإجابة على جملة أسئلة... عموماً هو الآن يخلد للراحة... فقد حضر متعباً من رحلة طويلة بالسيارة مع بعض رفاقه كما أخبرنا بذلك...
رغم تعبي وجوعي الشديدين فقد صممت ألا أرتاح ولا أكل شيئاً حتى أراه أولاً.
صرخت فرحاً حين رأيته باتجاهي... ألقيت نفسي في أحضانه مبتهجة وأمطرته بوابل من الأسئلة عن زوجته وأولاده وعمله ومدينته الصغيرة وحتى جيرانه وأصدقائه... ضحك وهو يقول:
- أمهليني قليلاً حتى أتنفس.
تناولنا الغداء مع أبي في جو من السعادة والحبور... علمنا منه أنه سيمكث معنا يومين فقط ثم يعود إلى مدينته وعمله...
بعد الغداء وخلود أبي وزوجته للنوم جلست مع خالد نشرب الشاي ونتحدث... تحدثنا كثيراً في كل شئ وحكى لي عن زوجته وطفليه " عبد الرحمن وريان" والقادم الجديد الذي يأمل أن تكون بنتاً يسميها على اسمي...
لاحظت ارتجاف صوته وهو يحكي عن طفليه، خمنته الشوق لهما واللهفة على لعبهما وشقاوتهما... ثم تطرق إلى عمله ومشاكله مع زملائه ... ومدينته الرائعة الصغيرة ثم سألني أن أحضر لزيارتهم... كان سؤالاً غير جاد لأنه يعرف أبي وأنه لا يحق لي الخروج من بيت أبي إلا لبيت زوجي ومن ثم إلى القبر... أعتقد أنه يذكر جيداً تلك الزوبعة التي أثيرت منذ سنوات خلت، حينما دعتني شقيقتي بدرية لأنام في بيتها ليلة واحدة معها وأطفالها فقد كانت أرملة... يومها قامت الدنيا ولم تقعد ولم يترك أبي كلمة من قاموس الشتائم والكلمات النابية إلا وأطلقها على شقيقتي بدرية... أرغى وأزبد هدد وتوعد ثم حلف وأقسم ألا أخرج من البيت أبداً في حياته...
سألت "خالد" إذا كان يحمل صوراً لأطفاله... اهتزت رموش عينيه ثم اكتسى وجهه بحزن شديد... ارتجفت يداه وهو يخرج الصورة الوحيدة من حافظته الجلدية...
بهرتني البراءة المرسومة في الأحداق الصغيرة والجمال الطفولي المميز. كانا يجلسان على مقعد خشبي في حديقة جميلة... عرفت الأكبر عبد الرحمن فقد كان صورة طبق الأصل من خالد بعينيه الواسعتين وفمه الصغير ولونه الخمري بشعر أسود حريري... ريان كان يختلف عن شقيقه كثيراً، فقد كانت ملامحه دقيقة صغيرة وشعره فاتح اللون أجعد... ابتسمت برقه وأنا أقول:
- ريان يشبه والدته أليس كذلك؟
ضحك خالد قائلاً:
- أنت ذكية يا أحلام...
أجبته بابتسامة واسعة:
- أيهما تحب أكثر؟
فوجئت ... بل صعقت... التمعت عيناه بالدموع وبصوت ليس صوته قال:
- كما قالت أعرابية حينما سئلت يوماً: أي أطفالك أحب إليك؟ فأجابت: الصغير حتى يكبر والغائب حتى يعود والمريض حتى يشفى...
ازدادت دهشتي وأنا أساله...
- وهل لك غائب ليعود؟
قاطعني:
- بل لي مريض أتمني شفاءه...
صمت... وصمت هو أيضاً... لم يكن صمتنا متطابقاً أو متشابهاً أبداً...
صمت خالد لأنه بكى.. بكى بحرارة وألم ... بكاء الرجل الذي انهار أخيراً بعد مقاومة جلد... بكاء يأس وحيرة وضياع...
بكاء لمريض لا يرجى برؤه.. بكاء منبعث من نفس صدئة من أعماق مبعثرة. دموع غالية تخرج من نفس ممزقة، كالبترول يخرج من الصحراء الخاوية...
صمتي كان خوفاً أكثر منه تقديساً... رهبة تفوق الاحترام... هلعاً يعلو على أي كلام... هل هو السرطان المخيف؟ كلمات وشت بها عيناي الدامعتان لأرى في انهياره ألف نعم ونعم ... وعلى واحد من حبتّي قلبك، وضع الوحش رحاله؟! أيهما البراءة المخطوفة ببراثن المجهول... ترى من منهما يحلق طائر الموت على رأسه ويترقب لحظته الدانيه، هل هو الأسمر ذو الوجه الحبيب أم الآخر الشقي الأجعد الشعر؟ لهفي عليك يا أخي وهذا الحزن المرير يعتصر قلبك عصراً... لكن ... أما من شفاء... أما من دواء ولو كان في آخر الدنيا.. أما من أمل ولو بعيد ضئيل لطرد شبح هذا المرض القاتل وقمعه للأبد...
سألته وفي صوتي رجفة وفي عيني دمعة وفي قلبي انطلقت طيور الأحزان:
- خالد... بالتأكيد يوجد دواء... ليس هناك داء ليس له دواء...
ابتلع دموعه الكثير وأجابني بصوت مخنوق:
- إنه سرطان الدم يا أحلام... هذا المريض الوحشي الغادر... لقد أصيب به عبد الرحمن من أشهر مضت...
تعالت الشهقات داخلي... إذن هو عبد الرحمن ذو الوجه الأسمر الحبيب الطفل ذو السنوات الأربع وخيبات سنوات مقبلة لا ندري كم عددها...
تابع خالد بأسى:
- لقد انتابته حرارة مفاجئة، في البدء ظنناها حمى عابرة أو مرضاً طارئاً كغيره من الأمراض... احترنا واحتار معنا الأطباء حتى أدركنا تشخيص مرضه الحقيقي... ومنذ ذلك اليوم ونحن ندور في حلقة مفرغة من العلاج بدون جدوى...
ابتلعت غصة ألم وأنا أقول:
- بالتأكيد يوجد أمل ...
برقت عيناه... لا أدري أكان أملاً، أم دمعاً... ثم قال:
- هناك أمل ... ولكن في جراحه صعبة بالخارج تتكلف مبالغ طائلة...
قاطعته بفرحة:
- خالد... لايهم. أجمع نقوداً.. بع كل شئ لديك حتى ملابسك ... استدن... تسول .. المهم أن يشفى عبد الرحمن...
وأد فرحتي حين قال:
- أنا محدود الإمكانات يا أحلام... تعرفين بأنني قد بنيت نفسي بنفسي ولم يساعدني أحد... درست ... عملت ... تزوجت .. وقد خسرت الكثير في علاج ابني ... خسرت كثيراً لدرجة قد لا تصدقينها... أنت لا تعرفين أنني لا أملك بيتاً خاصاً بي وإنما أستأجر سنوياً بمبالغ كبيرة... لقد بعت يا أحلام ... بعت من أجل شفاء ابني كل ما أملكه حتى مجوهرات زوجتي القليلة وأشيائي الصغيرة ... استدنت.. كل أصدقائي أنا مدين لهم ولا أدري متى سأسدد هذه الديون وقد تسولت يا أحلام. نعم فقد وصل بي الأمر إلى التسول وعقد أحد الزملاء ندوة تبرع لأجلي... ماذا أفعل أكثر من ذلك؟ إن ابني يذبل أمامي ونهايته المرتقبة تقض مضجعي والأمل موجود، لكنه بعيد بعيد كبعد شطحات أحلامي عن واقعي التعس... وزوجتي حامل وبحاجة إلى كل رعاية ومساندة... ولا أدري كيف أتصرف؟
أطرقت والحزن يعتصرني ثم أجبته داعية:
- خالد أبي لن يتخلى عنك وسيساعدك حتماً... أنا واثقة من هذا ... نحن معك يا أخي في معركتك ضد هذا المرض الشرس وسينصرك الله حتماً... وأبي سيساعدك بكل ما يملك... فأنت ابنه وطفلك حفيده الذي يحمل اسمه...
أجاب خالد بوجوم:
- من أجل هذا أنا هنا يا أحلام... سأطلب من أبي المساعدة.
خفق قلبي بجنون وأنا أري خالد شقيقي ينتحي بأبي جانباً... وأسرعت كيلا أراهما ، أرى الانكسار في عيني أخي خالد، وربما الدهشة والألم في عيني أبي.. ترى هل يتقاعس أبي عن مساعدة خالد ابنه في ظرف كهذا ... ويحي كلا .. كلا ... يستحيل أن يرفض أبي إنقاذ حفيده من الموت كن أجل حفنة من النقود، وهو من يملك الموال الطائلة والعقارات في كل مكان من بلادنا الشاسعة... ولأول مرة أتساءل ... ترى ما علاقة أبي بأبنائه أو علاقته بخالد بالتحديد؟
إن علاقة أبي بنا جميعاً علاقة الملك برعيته... الحاكم بالمحكومين، ومن يتمرد عليه أو يخرج عن طاعته فقد انتهى من رعايته إلى الأبد... وهذا ما حدث من خالد من زمن ليس ببعيد.. فبعد أن عصفت المشاكل بيتنا وفقدنا الأمن والاطمئنان وأصبحنا نعاني الغربة في بيت ولدنا فيه تقدم أخي خالد لأبي يطلب منه أن يتم دراسته في كلية المعلمين بتبوك... غضب أبي واربد وجهه ثم رفض أن يدع أحداً من أولاده يغادره إلى أي مكان... تمسك خالد برأيه وصمم عليه مقنعاً أبي أنه سيجد راحته هناك مع صديقه الوحيد الذي رحل مع أهله إلى تلك المدينة... اعتصم في حجرته رافضاً الأكل والشرب ... ابتعد وانزوى حتى رضخ أبي لقراره، وقال له بغضب: اذهب إلى تلك المدينة كما أردت، لكن لا تنتظر مني أي مساعدة في أي شئ تطلبه ولو قرشاً واحداً... أتفهم؟ وقد فهم أخي ولم يعترض على شئ ، بل لم يهمه من أمر أبي شئ فسافر سعيداً مبتسماً آملاً مستقبلاً زاهراً بعيداً عن أبي وزوجته ومشاكل تغص بها قلوبنا الصغيرة... لكن أخباره المطمئنة بدأت تسكن حروق القلب وجروح النفس، فقد درس في كلية المعلمين ثم تخرج فيها معلما وتعين في المنطقة نفسها... ثم تزوج فتاة متعلمة من عائلة مرموقة ، وأنجب منها...
وقد لحق به شقيقي حمد بعد عامين من رحيله دون معارضة جدية من أبي، وشق هو الآخر طريقه، فدرس ثم عمل وتزوج... ولم يدر بخلدي أن شقيقي خالد ممكن أن يتعرض لمحنة قاسية كهذه المحنة التي تعصف به وتكاد تقضي عليه....
طال الوقت به وبأبي وأنا أتشبث بحلم وردي.... حلم الأبوة الحانية الذي يضم أولاده تحت جناحه مهما كانوا ومهما فعلوا... إن أبي لن يتأخر في موقف كهذا ولن يقسو ويتجبر، فهو أب ويعرف جيداً مشاعر الأب الملكوم المهدد بفقد أحد أبنائه... لكن أبي لم يشعر بفقد ندى، بل ألقاها في مستشفي الصحة النفسية دون مشاعر واستلمها جثة دون أن يطرف له رمش، وواراها الثرى بلا إحساس. حتى أمي لم يذرف دمعة واحدة على فقدها، بل لم يشعر بأنه فقد شيئاً ذا بال كأنما تعطل لديه جهاز التلفاز فاستبدله بآخر، فقد أحضر زوجته الأولي في نفس ليلة وفاة أمي دون أدني تأثر أو حزن!! ترى هل مثل هذا الرجل القاسي الجبار المتبلد الإحساس سيشعر بمصيبة فلذة كبده وسيسارع بمد يد العون له بكل ما يستطيعه من جهد وأموال، أم ... لا... لا .. أرجوك يا أبي.. أتوسل إليك ألا تخذل خالد وهو في قمة احتاجه لك... لا تخذل رجلاً إنساناً كسيراً ممزقاً أجبرته الدنيا على أن يمد يده لأي إنسان... لا تخذل رجلاً أغلقت دونه الأبواب سوى رحمة الله... لا تخذل بائساً ضاقت في وجهه السبل حتى ولو كان ابنك!! أبي أبتهل إليك ألا تتركه يصارع العالم بمفرده ويدخل حرباً غير متكافئة؟؟؟ هو والفقر وطفله المريض أحد طرفيها؟ وعلى الطرف الآخر مرض قاس لا يرحم. أ[ي إنك لو تخليت عنه في عز احتياجه لك فلن ينسي لك هذا طوال حياته ولن أنساه لك أنا أيضاً...
سمعت صرخة قوية آتية من جهة صالون الجلوس، حيث أبي وأخي خالد. انقبض قلبي بشدة وأنا أستشعر شراً ما قادماً. أسرعت لأجد خالد منكفئاً على وجهه بحالة انهيار تام وأبي يردد غاضباً:
- ما شاء الله هذه آخر تربيتي وتعبي... يقول لي أعطني ميراثي منذ الآن...
صرخت بهلع:
- هل صفعته يا أبي؟
- إنه يستحق أكثر... إنه يستحق القتل...
- إنه مهزوم يا أبي... هزمته الدنيا والظروف... وهو بحاجة إليك بحاجة إلى حنانك وعطفك ووقوفك إلى جواره ... إنه بأزمة يا أبي... إن ابنه يموت...
صرخ بحدة:
- فليموتا كلاهما... ما شأني أنا... فليرثني بعد أن أموت وليس وأنا على قيد الحياة...
- أبي إنه بحاجة إلى مبلغ بسيط لعلاج ابنه وسيرده إليك بإذن الله عندما يشفى عبد الرحمن...
هدر بقوة وهو يغادر المكان:
- ليس عندي نقود له ولا لابنه...
- أبي... أبي...
ثم التفت إلى خالد وهو يحاول النهوض بصعوبة... حزن الدنيا يرتسم على وجهه اليائس وعيناه دامعتان مقتولتان... إنسان مهزوم بكل ما تعني هذه الكلمة...
مد يده إليّ وهو يرتجف قائلاً:
- مع السلامة يا أحلام ... سلامي إلى بدرية وصالح، فلن أستطيع زيارتهما...
صرخت في وجهه..
- بل تستطيع... لا تيأس يا خالد زر أخوتك وسيساعدونك... لن يتأخروا عن المساعدة، وأنا سأرسل لك كل مدخراتي المالية وما أملكه... صدقني يا خالد سيشفى عبد الرحمن بإذن الله...
ابتسم بمرارة وهو يودعني خارجاً، ودموعه تحفر أخاديد من الأحزان داخلي وتخضر بذرة الحقد على أبي في نفسي لتنمو زهرة وأنا أراه يمرغ كرامة أولاده في الوحل حفنة من النقود... لقد خذلتني يا أبي!
|