كاتب الموضوع :
dali2000
المنتدى :
القصص المكتمله
الجزء التاسع
طوال الطريق في رحلتنا إلى المدرسة وأنا أفكر ... لم أنتبه لصباح وكلامها الكثير عن خطيبها... أغلب الزميلات كن نياماً... وأنا غارقة في لجة من الأفكار العميقة التي تقودني إلى وديان سحيقة... لقد هزتني الأزمة الأخيرة بين أبي وزوجته وأوضحت لي أشياء ما كنت اعرفها وخبايا يصعب علي الاطلاع عليها لولا هذه الطاقة من الضوء.. إن أبي غيور شكاك وانفعالي.... لقد كاد يقتل زوجته وطلقها وحطم أطفاله وهدم البيت على من فيه لمجر شك... فقط وهم ... إذن ماذا يفعل حينما يعلم بقصة هذا الشاعر الذي يطاردني ويحاول نسج خيوط خفية من الحب المتبادل معي... المشكلة ليست في الشاعر وإنما في عدم ممانعتي لذلك وتقبلي للأمر بسهولة شديدة وكأنني أرحب به... فكتابه الأول الذي بعثه مع شقيقته كان يحمل أولى الرسائل وترمومترا لقياس مدى استجابتي... لقد فاق رد فعلي كل توقعاته، فقد كانت استجابتي مذهلة... تقبل وصمت... الصمت في أعرافنا يعني القبول والرضا فتمادى أكثر وأرسل كتبه كلها مع كلمات شعرية تعبر عن الحب من أول نظرة وربما لو صمت هذه المرة لجاء بنفسة ليحادثني... ويحي... ماذا يظن بي هذا الشاب... ترى هل يعتقد أنني فتاة مستهترة من بنات المدن الوقحات الخليعات اللاتي يعاكسن الشباب بسهولة ويسر كما يشربن الماء؟ ترى هل يعتقد أنني فتاة لاهية ضائعة تستجيب لأول رجل يطرق بابها؟ كلا... يجب إفهامة الحقيقة... وتعريفه حقاً من هي أحلام ومن هو والدها...
أفقت على هزة من يد صباح وهي تقول:
- أحلام... هل نمت... هيا فقد وصلنا المدرسة...
دخلت وأنا مثقلة بأفكاري... مقيدة بأوهامي... مشتتة النفس... ممزقة الأهواء... وقفت أمام المرآة أصلح هندامي كعادتي كل صباح حين وصولنا للمدرسة... كانت المرآة عبارة عن قطعة زجاج مكسورة مثبتة بمسمار صدئ على الجدار الطيني... كنت أرى فيها نصف صورتي وإذا انحنيت قليلاً أرى فيها صورتي كاملة إلى حد ما... ابتسمت وأنا أتذكر معاملة أبي لزوجته حينما أعادها إلى البيت... لم أتصور أبداً أن يعيدها بهذه السرعة المذهلة... أيضاً هي كيف تنسى كل شئ وتعود معه، وكأن شياً لم يحدث، وكأن جسدها يتحطم على يديه ولا كرامتها تبعثرت بين قدميه... وأطفالها تمزقوا لغياب عقله واتزانه... إنه لم يحترم عشرتها معه ولا قدر سنوات سعادتهما سوياً... ونسف الماضي ورصيد الحب بلحظة شك واحدة وأطاح بكل شئ في غمضة عين فكيف تأمن لحياتها معه بعد ذلك...؟ وكيف تحمي عشها من الانهيار تحت أية هفوة أو أي اشتباه من هذا النوع...؟ لكنها سعيدة بعودتها... سعيدة رغم آلامها النفسية والجسدية وهو يعاملها بمنتهى الرقة والاحترام...
ترى هل هي تحبه لدرجة أن تغفر له كل زلاته وهفواته، أم أنها تريده لأجل أطفالها، أم لأن لا معيل لها غيره، فقد توفي والدها وتفرق أخواتها كل في بيته. هل هو بالنسبة لها مجرد أب وسكن ومال أم أن الأمر أكبر من ذلك بكثير...؟ امرأة أخرى في نفس سنها وجمالها ما كانت تعود إليه ولو بذل الدنيا تحت قدميها فما فعله بها كثير...
أكبر من قدرة أي إنسان على التسامح والغفران وأقوى من قدرته على النسيان ما فعله سحق كرامتها وكبريائها كامرأة وشك بأخلاقياتها وتربيتها كابنة أسرة عريقة واستهانة بدورها وعاطفتها كأم... فأية بشاعة أكثر من هذه وأية تضحية كبرى هي مقدمة عليها... لكن أملي ألا يخيب أبي رجاءها وألا يجعل تضحياتها تذهل سدى وأن يتمسك بها كما تتعلق هي به... لكنني لم أسأل نفسي أبداً هل يحبها أبي؟ لقد آمنت بهذا كشيء مسلم به فقد تزوجها على أمي ونسينا تماما حينما تزوجها... ثم أتي بها لتعيش على أنقاض بيت المرحومة أمي، وكان يقدرها وينظر لآرائها بعين الاحترام والإجلال حتى أنها قد غيرت كثيراً من أقدارنا أنا وأخوتي، فما كان شئ أن يتم إلا وكان لها اليد الطولى فيه لكن الحدث الأخير زلزل كل معتقداتي وأجبرني على الانحياز فقد اتضح أنها في حياة أبي شئ مملوك لا تقدير له لا احترام، لا رأي له ولا صوت... كقطعة أثاث... أو كجهاز كهربائي أو مقعد... شئ تبقي قيمته بقدر ما يفيد، ثم يلقي به في أقرب سلة مهملات... مسكينة هذه المرأة، فبقدر ما أشفق عليها وأرثي لحالها فإنني أكره ضعفها وخضوعها وأتمني لو استطاعت الإمساك بزمام الأمور يوما ما... لكن يبدو أن أبي فيه سحر ما يسلب فيه نساءه من إرادتهن ويجعلهن طوع بنانه...
ابتسمت لصورتي في المرآة... فاجأني صوت صباح:
- ألن تكفي عن استعراض جمالك في هذه المرآة المكسورة؟ لقد انتظرتك طويلاً...
ابتعدت وأنا خجلة بينما تابعت صباح قائلة:
- أخبريني بصراحة... هل تقدم أحد لخطبتك؟ فإنني أراك ساهمة غير طبيعية حتى أنني في السيارة استشرتك في أمور كثيرة ولم تردي علي إطلاقاً...
اغتصبت ابتسامة وأنا أقول:
- سأحاول يا صباح أن أرد على استشارتك ونحن في طريق العودة إن شاء الله... عن إذنك الآن سأحضر الدرس القادم...
وما إن سرت خطوات حتى طلبتني المديرة وأخبرتني بأن زميلتي عواطف غائبة ويجب أن أحل محلها الحصة الأولى...
دخلت الفصل واجمة فقد رأيت وضحى بين الطالبات ترمقني وفي عينيها بريق. ترى ماذا يدور بمخيلتها عني...؟ هل تتبني فكرة أخيها عني بأنني فتاة سهلة منحلة، أم تقدرني وتحترمني؟ لكن كيف يتطرق الاحترام إلى نفسها وشقيقها يبعث لي برسائل حب... كلا... لن أسمح له بالتمادي... اشتعل الغضب في عيني ولم أدر كيف أدافع عن نفسي ولا متى وأين؟ ما إن جلست على المقعد في الفصل حتى اقتربت مني وضحي... كانت خجلة، خائفة، نظراتها غير طبيعية وكأنها تخفي شيئاً ما، سألتها وأنا أتحاشى النظر إليها:
- كيف حال أمك يا وضحي؟
- الحمد لله .
- هل تذاكرين دروسك جيداً... فالاختبارات على الأبواب...
أطرقت ولم تجب... التفت إليها فجأة دست في يدي شيئاً ما وعادت إلى مقعدها... اضطربت بشدة وأنا أنظر لبقية الطالبات، لكنهن لم ينتبهن إلى ما حدث... دق قلبي بقوة وأنا أتفحص هذا الشيء الذي أعطته لي وضحى في غفلة من زميلاتها... كان دفتراً وردي اللون بتفرعات خضراء صغيرة، ينتهي بأسلاك دائرية فتحت أول صفحة ليندفع الدم ثائرا إلى رأسي ويحتقن وجهي بشدة، فقد كتب الشاعر بنفس خطه الأنيق كلمات واضحة لا تحتاج إلى تفسير:
إلى أ.ع
امنحيني لحظات فقط
وسأمنحك العمر كله
الأربعاء – الرياض- 9 مساء ت 4776234
إنه وبكل جرأة ووقاحة يعطيني موعداً هاتفياً في الرياض، حيث سيكون هناك على هذا الهاتف الساعة التاسعة مساء يوم الأربعاء المقبل... يا له من معتوه أبله... لكنه محق في طلبه... فكل الشواهد تدل على قبولي واستسلامي وترحيبي بأي شئ... امتلأت نفسي غضباً وغيظاً كدت أمزق الدفتر وألقيه في سلة المهملات أمام وضحى وبقية الطالبات لكنني خفت الفضيحة ، فأدني الأشياء التافهة هنا تعظم وتكبر حتى تغدو على لسان أهل القرية بأسرها، يتناقلها الصغار قبل الكبار... الرجال والنسوة... كتمت غيظي داخلي وأنا أغلي كمرجل من شدة الغضب وفي أعماقي يتردد سؤال كيف أرد له الإهانة بأعظم منها وأبين له كيف يعامل بنات العائلات المحترمة...؟
فلو أن شاباً ما رأي شقيقته وضحى ولو بطريق الخطأ لقتله هذا الشاعر الرومانسي وقد نسي كل مؤلفاته الخمسة وآراءه الكاذبة بالحب والعواطف ... فكيف يريد لغيره ما لا يريد لنفسه؟
سألتني إحدى الطالبات:
- أبله ... متى سيكون اختبار مادة القواعد؟
رفعت وجهي المحتقن بشدة... تلجلجت قبل أن أرد:
- نهاية هذا الأسبوع سأحدد لكن الموعد...
أنت أيضا أيها الشاعر الأحمق نهاية هذا الأسبوع سيكون موعدك معي... إنها فرصة لي لألقنك درساً لن تنساه مدى الحياة وستتوب بعدها ولن تعترض لأية فتاة حتى ولو بدأت هي بالمطاردة، فدرسي أيها الشاعر كبير... كبير بحجم خطتك وعظيم بعظم خطيئتك وقاس كقسوة إهانتك، وسترى إن شاء الله... ابتسمت الطالبات وهن ينظرن باتجاه الباب... تابعت نظراتهن لأرى زميلتي فوزية ضاحكة وهى تقول:
- أحلام... أين كنت؟ إنني أقف هنا منذ دقيقة أتأملك وأنت غارقة في أحلام اليقظة...
ثم اقتربت هامسة:
- هيا اخرجي ... فقد بدأت حصتي...
خرجت بعد أن وضعت الدفتر الصغير داخل دفتر التحضير الكبير الخاص بي... وحالما انفردت بنفسي وخلت حجرة المعلمات منهن عدا اثنتين يتلحفن بعباءتهن وينمن باستغراق شديد ... فتحت الدفتر الصغير.. طالعتني رسالة الشاعر الثالثة والتي سأجعلها الأخيرة... تخطيت الصفحة الأولى " الموعد" إلى الصفحات التالية.
كانت أشعاراً مطولة وخواطر جميعها تتحدث عن الحب من أول نظرة والعشق والهيام... كلها رسائل غرام مغلفة بأسلوب شعري راق... ربما تكون مخطوط كتابه المقبل، لكن ماذا يهدف من إرساله لي؟ عن علاقته بي تتطور بشكل خطير وإذا لم أضع حداً لها فإنها ستشكل خطراً يقضي على حياتي ومستقبلي.
عدت إلى بيتنا ذلك اليوم ممزقة حائرة، تتناهبني الهواجس وتفتتني الظنون... ترى هل حكت وضحى لزميلاتها ما يحدث بيني وبين شقيقها على سبيل المباهاة... فهم في تلك القرية النائية يفتخرون بأي شئ له صلة بالعلم والتحصيل حتى ولو كانت علاقة أخيها بحارس المدرسة... ترى هل تكلمت تلك الفتاة الصامتة ووشت عيناها بما لم يستطع لسانها أن ينطق به؟ فتلاقفته الطالبات لينتقل من ثم إلى الأهالي ثم إلى معلمات المدرسة ومديرتها فينظرون لي شزراً مع أنني لست بخاطئة ولا مجرمة، لكنها القوانين والعادات القبلية التي تفخر بشاب من هذا النوع وتعد عمله بطولة تستحق الإشادة وتنظر للأنثي بتحقير وإهانة ورغبة في وأدها وهي على قيد الحياة... ترى هل أسرت وضحى لصديقتها المقربة باستسلامي وخضوعي... وكيف كنت أتقبل خطابات الحب برغبة ولهفة دون ضيق أو غضب .. حنقت على نفسي وقتها... لو ثرت مرة واحدة فقط، لو رفضت استلام أي شئ من شقيقها لمجرد انه رجل... لو مزقت الدفتر الأخير وألقيته في سلة المهملات أمامها لربما تغيرت نظرتها لي وازداد تقديرها وإعزازها لي... لكن الآن وفي هذا الموقف الذي لا أحسد عليه ستكون سمعتي سيئة ونزاهتي مشكوكاً فيها وكرامتي مجروحة....
فحتى ذلك الوقت الذي سأنتقم فيه لكرامتي لن أنظر في عيني وضحي المتسائلتين ولن أحادثها بكلمة وسأتحاشى كل ما من شانه فتح حوار جانبي معها...
فوجئت بطرق على باب حجرتي... طرق خفيف ناعم لكنه مسموع... فتحت الباب برقة، كانت الخادمة تنبئني بمن يطلبني على الهاتف... أسرعت بالنزول إلى الطابق الأرضي حيث الهاتف وأنا أتوقع شقيقتي بدرية التي كثيراً ما تحادثني راغبة في الفضفضة والتخفف من أحزانها ومسؤولياتها الجسيمة... فلا صديقة لها سواي... وهي تمثل لي كل شئ .. الأم والشقيقة و الصديقة والابنة وأحبها كمل لم أحب بشراً سواها ولا حتى أمي....
التقطت السماعة ضاحكة:
- أهلا بدرية...
فاجأني صوت واجم... ثقيل ... بارد...
- لست بدرية يا أحلام... أنا صباح....
- أهلا صباح ... كيف حالك... هل أنت مريضة؟
جاءني صوت بكائها على الطرف الآخر ... حاراً ... يائساً... موجعاً.
- صباح ... ما بك؟
قالت ونشيجها العالي يخترق أذني:
- لن أحضر في الغد يا أحلام، أبلغي السائق ألا يمر علي...
- ماذا حدث يا صباح؟
انتحبت مرة أخرى وهي تقول:
- لقد فشل مشروع زواجي وانسحب خطيبي إلى الأبد... لقد مات يا أحلام ولن أتزوج أبدا... أبدا...
|