تراجعت جيمينا بضع خطوات إلى الوراء وأخذت تنظر إليه نظرة متفحصة كما ينظر المصورون إلى عارضة مشهورة غير واثقين من مؤهلاتها.
كانت تتوقع أن يغضب منها , لكنه أطلق ضحكة مدوية و كأنه يستمتع بهذه المحادثة.
-أنت فعلا لا تقدرين بثمن
ناولها كأس شراب, فنظرت إليه متشككة:" ما هذا ؟".
-انه شراب القرصان .
لم تستطع جيمينا كبح الغضب الذي تأجج في داخلها :" وأنت تعرف أكثر مني ما أود تناوله؟".
بدت أمارات الدهشة جلية على وجه نايل :" كلا, هذا من اختصاص الفندق وهو يقدمه أولا للزبائن مجانا".
وعلى الفور , خمدت تلك الثورة المتأججة في نفس جيمينا وقد خجلت من نفسها.
قالت بحرارة بعد أن ضحكت ضحكة واهنة:" أنا آسفة".
ابتسم لها لكنها قرأت وراء هذا القناع الباسم حيرة.
-ماذا؟
أجابها ببطء:" أنت مثال التناقض".
سألته مدهوشة:" أنا؟".
و تفحصت تعابيره بحثا عن النظرة الساخرة لكنها لم تجدها.
-لم تقول هذا بحق السماء؟
-حسنا, تغضبين لأتفه الاسباب, و تستعدين لشن هجوم كلما نظرت إليك, ثم تهدأين فجأة و تعتذرين حين حين تدركين أنك مخطئة.
تفاجأت جيمينا لرؤية نفسها تحمر خجلا كما لو أنها تلقت إطراء لطيفا كما لو انها خجولة بطبعها!
استجمعت قواها , و سوت جلستها.
جيمينا دار هادئة الأعصاب, هادئة, هادئة, هادئة! إن هذا الغريب الضاحك يجهل مع من يتعامل, لكن ليس لوقت طويل. يا إلهي, سيتعرف بالتأكيد على جيمينا دار الحقيقية!
نظرت إليه نظرة ازدراء و استخفاف:" لا أرى ما التناقض في الامر".
أرجع راسه و كانها طعنته فجاة في قلبه, ثم سألها بفتور:" وهل أستحق الشنق إذا نظرت إليك؟".
-لا تكن سخيفا!
كان بالطبع يستحق الشنق, نظرا للطريقة التي يحدق بها إليها. لم تحمر وجنتاها خجلا هذه المرة مع أنه لم يسهل عليها الامر وراح يرميها بنظرة ثاقبة مصممة.
قال من غير تردد:" ضعي نفسك مكاني".
كان من الصدق ما جعلها تنزعج فأشاحت بنظرها عنه فيما ضج راسها بالف سؤال و سؤال: لما تنظر إلي على هذا النحو؟ لما تحاول السخرية مني؟ ماذا تريد مني؟
طال الصمت و ثقل . وكان عليها أن تكسره, لكنها لم تجد الكلمات المناسبة.
-حسنا, هذا لأنني لا أعرفك حق المعرفة.
لم يعلق نايل لكن الرضى بدا جليا على وجهه.
أجفلت جيمينا . لم تكد الكلمات تصل إلى شفتيها حتى لعنت نفسها على تسرعها, فقد حملت كلماتها دعوة صريحة ليقضيا السهرة سوية.
بدا و كأنه يفكر بالامر نفسه أو أنه اختار أن يفهم تعليقها على هذا النحو, فبادرها بابتسامة لطيفة:" لا بأس, دعينا نبدأ من الصفر. ادعى نايل بلاكثرون".
قال هذا كما لو أنهما يلتقيان للمرة الأولى, و ابتسامة جذابة لا تفارق ثغره.
ثم مد يده, مضيفا:" مرحبا".
لم تكن تعلم ممن تغضب أكثر, من نايل بلاكثرون لأنه يتلاعب بها أم من نفسها لأنها تعجز عن الإمساك بزمام الامور؟
كانت يده باردة قوية, فسرت قشعريرة في اناملها عندما صافحته. ابتلعت بريقها وحاولت تجاهل الصوت الذي تعالى في اذنيها.
-سابقى في فندق القرصان حتة نهاية الأسبوع, وأنت يا آنسة كوبر؟ ام أناديك جاي جاي ؟
سرت رعشة في جسم جيمينا التي أمسكت بكاس الماء بكلتي يديها .
ما كان عليها أن تعطيه اسم الدلال . فعندما نطقه بهذا الصوت الخافت, بدا حميما جداز
وحدها أختها تناديها بجاي جاي . وعندما سمعته يناديها على هذا النحو, أيقنت أنها سلمته مفتاحا ودعوة صريحة ليكتسح حياتها. و كانت شبه متاكدة من أنه يعلم ذلك.
عضت على شفتها:" نادني بما تريد فأنا راحلة في الغد".
ابتسم لها نايل ابتسامة عريضة بطيئة, أحست بها جيمينا تلسعها أسفل عنقها, و تضيق الخانق عليها, فوضعت يدها لتهدئ من هذا النبض المتسارع الفظيع.
لم يغب عنه هذا الصراع, لكن الابتسامة لم تفارق ثغره.
أجابها بنبرة عذبة:" إذا ليس امامنا سوى الليلة, ساعتبرها تحديا لي".
سألته و الشرر يتطاير من عينيها:" ماذا تقصد بتحد؟".
-علينا ألا نضيع دقيقة واحدة من هذه الأمسية. هيا بنا.
تابع نايل و ابتسامة غريبة تعلو ثغره, تركت جيمينا حائرة:" أنذهب؟".
كان يمسك بزمام الأمور بيد من حديد. وكم غضبت جيمينا من نفسها عندما وجدت نفسها ترافقه, خانعة كالنعجة.
عبرا البوابة ووصلا إلى الشاطئ حيث تكسرت الأمواج أمامهما في همهمة خافتة.
-تقصد هذا النوع من التحدي, نزهة رومنسية على الشاطئ. فكرة خلاقة بالفعل!
قالت جيمينا هذا ثم أزاحت يدها عن عنقها وقد استعادت هدوءها ورباطة جاشها.
-لا تسخري من هذه الفكرة. انظري إلى هذه النجوم.
استشفت في صوته نبرة فرحة ضاحكة.
-يستحسن أن أجد وسيلة لئلا تزل قدمي.
إن سمعت رنة انتصار في صوته, لصارحته برايها و انصرفت بكرامتها. لكنها لم تلحظ اي ازدراء أو تكبر في عرضه بل بدا بيرئا. تبا له!
-أنت تمشين بخطى واسعة, انتبهي إلى خطاك.
وما كان من نايل إلا أن امسك بيدها, فأشعلت لمسته النار في عروقها من جديد.
سمعت نفسها تجيب بصوت مبحوح:" شكرا لك".
كان النسيم عليلا وباردا لكنها حاولت ألا ترتجف من البرد. كانا يمشيان على الشاطئ, فاحست جيمينا بالبرد ينخر عظامها و ينفذ إلى اعماقها.
توقف عن السير و خلع سترته, ثم وضعها على كتفيها قبل أن يأخذ يدها مجددا ويدعوها إلى المضي قدما.
-أشعرين بتحسن؟
كانت السترة ثقيلة, تحيط بطانتها الحريرية ببشرتها العارية كمخلوق يضمها بين ذراعيه يدللها و يحميها, لا سيما من البرد! تخيلت جيمينا نفسها جالسة قرب المدفأة, تحتمي من البرد في ليلة عاصفة.
غمرها شعور عارم بأنها محبوبة. يا إلهي, أنا في مازق حقيقي.
صاحت جيمينا عاليا من دون أن ترميه بنظرة:" رائع".
تشبثت بالسترة كما لو انها معطف ملكي ولم تسلمه إياها إلا مكرهة عندما ارتقيا السلالم المؤدية إلى حديقة المطعم.
-حجزت لكما طاولة هادئة.
باردهما آل بذلك قبل أن يتبادل و نايل إحدى تلك النظرات الذكورية البليغة التي لا يفترض أن تلحظها جيمينا إلا أنها اخذت حذرها.
سالت جيمينا نايل عندما تركهما آل:" لا بد من انكما تعرفان بعضكما البعض منذ طويلة".
نظر إليها و امارات الدهشة جليه على محياه:" أنا و آل؟ انت نبيهة فعلا".
أحست جيمينا أنه لا يحب فيها هذه الصفة فردت بنبرة لا تخلو من الاعتذار:
-تبدوان صريحين مع بعضكما البعض.
-حسنا, مر حوالي خمسة عشر عاما منذ التقينا للمرة الاولى.
-تربطكما صداقة متينة إذن.
راح يحدق إلى الشمعة الصفراء التي تحترق و قد جمدت تعابير وجهه:" ربما, تقريبا".
استفهمت جيمينا وقد بدأ الفضول يتآكلها:" تقريبا أصدقاء؟ ماذا تعني بذلك؟".!!http://www.liilas.com