كان نايل غاضبا منها, لكنه تمنى في الوقت نفسه لو يسعه معانقتها حتى تتوقف عن مهاجمته و تستمع للحقيقة.
قال بكل ما اوتي من هدوء أعصاب:" انت نفسك لم تخبرينني أنك تهربين من رجل مزعج, و هذا يجعلنا متساويين, أليس كذلك؟".
لكن النبرة الهادئة أججت النار المستعرة في داخلها.
تابع بهدوء:" ألم تخبري أقرباءك؟ لا أحد؟ ولا حتى شقيقتك؟".
هزت كتفيها استخفافا من دون أن تنبس ببنت شفة. إلا أن أنفاسها راحت تتسارع, ومع تسارع دقات قلبها أرادته أن يظن أنها غاضبة, لكن المسألة أعمق بكثير. لكم رغبت أن يحملها بين ذراعيه و....
تمالك نايل أعصابه. الصبر يا نايل, الصبر يا نايل!
سألها بهدوء وقد خمدت النار المستعرة في نفسه:" هل أخبرتهم الآن؟".
-بماذا عساي أخبرهم؟.
أشاحت بنظرها عنه.
-إذا , أنا الوحيد الذي يعرف أن باسيل لحق بك إلى النصف الثاني من الكرة الأرضية.
سألته بنبرة حادة, كأنها تستعد لهجوم آخر:" لم تشغل بالك؟".
أجابها بهدوء:" أنت تثيرين اهتمامي. لأنك كنت لي ليوم كامل, و ستكونين لي دوما".
فقد أخيرا هدوءه, فجذبها إليه و عانقها عناقا قاسيا بائسا.
عندما ابتعد عنها, كانت حدقاتها واسعتين وجسمها كله يرتعش.
-أنا آسف. لم يكن يحق لي القدوم إلى هنا ولن أعيد الكرة.
سرت قشعريرة في جسده كلها نفذت إلى أعماق أعماقه.
تدبرت جيمينا امورها بشكل ممتاز حتى في زفاف بيبر الذي مضى من دون أي مفاجأة غير سارة.
بدت بيبر متوترة و كانت قد رفضت ارتداء ثوب أبيض ناصع.
علقت:" لا أريد أن أتألق, أريد فحسب أن أبدو نظيفة و مرتبة".
لكن الأختين نجحتا في اقناعها أخيرا. وفجأة تنبهت إيزي إلى أن جيمينا ستذهب إلى السهرة بمفردها.
-هل ترغبين في دعوة أحد؟ هذا المصور الجديد مثلا؟.
-كلا شكرا.
راحت إيزي تتفرس في وجه أختها التي بدت فجأة جدية جدا.
-هل أنت متأكدة؟ لعلك محبطة لرؤيتنا , أنا وبيبر, نحاول تأسيس بيت و عائلة.
-أستطيع تدبر أموري من دون أن تسهري على حمايتي و رعايتي.
-أنا لا أقصد ذلك. عندما حاول باسيل تنغيص حياتك, شعرت بأنك تغلبت على الأزمة بشكل ممتاز لكنني لاحظت أنك أصبحت حذرة تدرسين كل خطوة تقدمين عليها. أما الآن, فأراك مرتاحة مطمئنة البال بطريقة ما.
-بالفعل.
-لكنك لا ترغبين في دعوة المصور إلى الزفاف. هل تخافين أن يتضح لك أنه نسخة عن باسيل؟.
وضغت جيمينا يديها على الطاولة و انتصبت واقفة. كانتا جالستين في المطبخ حيث تكومت الاوراق.
-اسمعيني, لا آبه لأمر باسيل ولا أخشى الرجال بل التمثيل و التكلف.
-انت مغرمة أليس كذلك؟.
عقدت جيمينا حاجبيها وقد أخذت منها الدهشة كل مأخذ.
راحت إيزي تومئ برأسها بحماسة وقد أنارت وجهها ابتسامة.
-في الواقع لست مغرمة. ولا أرغب في الذهاب مع رجل كتمويه. إن وقعت في حب رجل ما يبادلني الشعور نفسه, فسأفتخر به و أصطحبه معي إلى حفل الزفاف و لكنني لست مغرمة بأحد و أنا لا أخجل من الذهاب بمفردي. فالحب أهم و أسمى من أن نتلاعب به.
-لكم تبدلت! متى تعلمت الحديث عن الحب؟
سألتها إيزي مترددة.
-عندما قابلت رجلا منح قلبه لامرأة واحدة.
هزت إيزي كتفيها استهجانا متمتمة:" لعلك تعرفت على أحدهم".
-لعلي أتيت إلى هذه الدنيا لأبقى وحيدة. على كل حال, لن تقضي علي هذه الوحدة.
كان يوم زفاف بيبر صافيا.
تدبرت جيمينا امرها خلال الحفلة بشكل جيد و اغرورقت عيناها بالدموع عندما تعهدت بيبر بمشاركة زوجها بالسراء و الضراء. و أخذ لها المصور صورا رائعة مع الوصيفة و العروس بفستانيهما العسلي و الذهبي.
كانت تبلي حسنا, ثم...
نفاجأت بعض الشيء عندما أرادت بيبر أن تدعو آبي فقد عملت هذه المرأة لحساب شركة الحياة العصرية لكنها بالكاد تجمع بينهما صداقة. في الواقع كانت آبي أقرب إلى جيمينا منها إلى بيبر.
كان ستيفن قد أعد لائحة كبيرة المدعوين شملت الأقارب و الأصدقاء القدامى فأرادت بيبر أن تملأ القسم المخصص لها من الكنيسة بالمدعوين, فدعت آبي, أخت زوج إيزي.
حضرت آبي متأبطة ذراع زوجها الأنيق و الوسيم فيما رافقهما مفاجأة مميزة.
لم تكن جيمينا لتعيرها انتباها لو لم.. لو لم... خلفت جيمينا المصورين الهواة في الحديقة لتعود ادراجها إلى الحفلة حيث الفرح...
وجدت نايل بلاكثورن في بزة رمادية وربطة عنق لؤلؤية اللون يتجاذب أطراف الحديث مع إيزي و ابيجيل.
"حبيبتي أبيجيل"...
همس في أذنها شبح قاس بهذه الكلمات فتذكرت فورا أين سمعت بجزيرة بتنكوست للمرة الأولى.
أحست جيمينا بقشعريرة تسري في جسدها, وكأن أحدهم سكب مكعبات ثلج في ثوبها الحريري الذهبي.
لماذا لم تتذكر ؟ لماذا ؟ لقد توفر لديها ما يكفي من خيوط تقودها إلى الحقيقة, حتى أنها سألت آبي إن كان على زوجها أن يقلق...
غبية, كنت غبية بحق! لكني لست الوحيدة, تنبهت جيمينا.
لم تضف آبي كلمة واحدة هي التي تعيش قصة حب رائعة في كنف زواج رائع.
لكنها المرأة التي تستحوذ على قلبه, على أحلامه, و حياته. إنها حبيبته المثالية.
لا بد أن نايل بات واثقا الآن من أن آبي أصبحت ملكا لرجل آخر, رجلا تهيم في حبه, يملأ عليها حياتها. إنه يتالم لا محالة, هذا ما خطر لجيمينا, فأحست بالغثيان و كأن هذا الألم يعتصر صدرها هي.
تبا لبيبر, و تبا لأبيجيل, فحبيبي قد انفطر قلبه للتو.
لكن التفاصيل غير مهمة. الآن فالأهم هو أن يجد نايل من يؤازره في محنته, من يعتني به. لقد فقد المرأة الوحيدة التي هتف لها قلبه, ولن يضطر لاختبار هذا الالم بمفرده أمام حشد من الغرباء الفضوليين, بل إلى جانب صديق خبر عذاب الحب مثله تماما. و أخيرا, خضعت للامر الواقع, فانتصبت واقفة وقطعت الحديقة العطرة و قلبها يرقص امامها.
"لقد وهبت قلبي لامرأة واحدة". تبا له! إنه نايل بلاكثورن.
وتذكرت أن نايل كان يرسل غليها رسائل بقيت كلها من دون جواب حتى أنه بعث لها يوما بحبة مانغا. بكت حين رأتها إذ عادت ذكريات هذا اليوم السحري لتعذبها.
ولم عساها تبكي إن لم تكن تحبه؟ و فجأة تجلت لها الحقيقة. لم يبعث لها بالفاكهة إن لم يكن يحبها ولو قليلا؟ لعلني لست امرأة احلامه لكنه احبني بعض الشيء. راحت جيمينا تحدق إلى عنقه و ابتلعت بريقها. كانت على وشك اختبار أهم تجربة في حياتها, لكن ما باليد حيلة.
فما كان منها إلا أن اخذت نفسا عميقا وقومت كتفيها ثم وقفت إلى جانبه.
دست يدها في يده كما فعلت على الشاطئ منذ بضعة أشهر خلت:" نايل, لم أكن أعرف أنك قادم".
نظر إليها وقد تملكته الدهشة.
لاحظت جيمينا أنه فقد بعض الوزن إذ بدا أطول و أنحف و أكثر جاذبية من ذي قبل لكنه لا يزال غاضبا. كانت مشتاقة لضحكته, لذلك الشاب الذي حضر إلى شقتها و أبدى اهتمامه بها قبل أن تقطعه إربا بلسانها الجارح. إن عاملها بجفاء, فالذنب ذنبها.
فقدت جيمينا أعصابها لبرهة, لكن أحدا لم يلحظ ذلك.
تابعت بنبرة لطيفة حارة بما يكفي لتشعل نارا للشواء:" سررت برؤيتك".
ارتفع حاجبا نايل استغرابا.
حياها بحذر:" جيمينا".
رمته بابتسامة حملت إليه كل الدعم والحب اللذين يحتاجهما.
-ناديني بجاي جاي, كيف حالك؟.
لم يكن ينظر إلى آبي. كم يتعذب! أحس بالطبع بشيء تجاه جيمينا لكنها لا تزال حبيبته المثالية.
أريد أن أبرهن له أن البديل متوفر دوما, أن المرء منا يقع في الغرام مرة ثانية. لن يتناسى أذيتها له في الحال, لكن الأيام ستبرهن له أنه هو أيضا يكن لها الحب.
احست بأن قلبها ينفطر لألمه.
اجابها نايل والدهشة بادية على محياه:" بخير, شكرا لك".
-هذا مشوق بحق! إنه بطل يا جاي جاي فقد كان يلقي القبض على المجرمين.
-ماذا؟
كان هذا آخر ما توقعته. بدا نايل منزعجا.
-لا يعود الفضل لي وحدي, يا آبي.
احست جيمينا بأن اسم الدلال هذا طعنها في قلبها على حين غرة, لكنهما لم يلاحظا ألمها. هذا مي}وس منه. كانت آبي تسكن كيانه و قلبه بحيث لن تستطيع يوما أن تنسيه إياها.
سحبت يدها أو على الأقل حاولت أن تسحب يدها لكنه أحكم قبضته عليها بحيث عجزت عن الحراك.
أدارت رأسها متفاجئة ولاحظت أن الغموض يتبدد. كانت عيناه ترقصان فرحا. من الواضح أن المتبطل الجذاب لا يزال حيا تحت ثيابه الأنيقة. أحست بالدم يعلو إلى وجنتيها المخمليتين.
ثرثرت آبي:" كان يتعقب مبيض اموال".
جاهدت جيمينا لتبدو مهتمة بحديثهما, فقد اخذ يدير إبهامه في باطن يدها فعجزت عن التركيز على أي شيء من حولها.
لكنها بذلت ما في وسعها لتبادره باستخفاف وقد ضاق صدرها:" ظننتك مقامرا محترفا".
-بالفعل. لكني كنت أعمل أيضا كشرطي.
-لا افهم شيئا.
هز نايل كتفيه استخفافا إلا أن الابهام الشرير لا يزال يؤكد لها أن نايل بلاكثورن يهتم لأمرها.
أحست جيمينا بأنها تذوب تحت لمساته.
-غالبا ما يلجأ مبيض الأموال إلى الكازينوهات لتمرير الاموال. إنها حيلة ذكية. لذا, أراقب من يربح مبالغ طائلة ومن يخسر ثم أراقبهما لأتبين إن كانا متواطئين.
اجابته آبي التي بدت و كأنها تعيش المغامرة بنفسها:" إنها لوظيفة مشوقة. هل هي خطرة؟".
-ليست بخطرة إن استثنيت النساء الصهباوات.
-فخ العسل. أليس هذا ما تعرف به؟ هل كشف أمرك؟.
-كلا, إنما في وقت من الأوقات ظننت انهم فضحوا أمري, عندما ظهرت هذه المرأة مع أضعف حجة سمعتها في حياتي.
أجابته جيمينا:" أحقا؟ وماذا فعلت".
رد نايل بلطف:" تحريت عنها".
-لا بد أنها كانت مهمة صعبة.
-استحقت العناء.
لم يكن يسعها إشاحة بصرها عنه. وسرعان ما تنبهت آبي المرحة لما يدور من حولها.
سألته جيمينا وقد أحست بأن أنفاسها تكاد تنقطع:" هل أتت النتائج مطابقة لما بانت عليه؟".
-بل أكثر بكثير. أكثر مما يسعك تصوره.
رمتها عينا نايل بنظرة متفحصة. وفجأة تذكرت ذاك الإحساس الذي تملكها عندما عانقها و كأنهما ينتميان إلى بعضهما البعض منذ الأزل.
أحست جيمينا بصعوبة في التنفس فتنحنحت لتجلي حنجرتها.
-لا تقل لي إنك أغريت مجرمة؟.
كانت جيمينا لتستنكر غباء هذه المرأة. كيف يعقل أن تكون عمياء إلى هذه الدرجة؟
-دونت بعض الملاحظات و أجريت بعض الاتصالات. لم تكن بالمهمة المسلية على الاطلاق.
-أيها المحتال! يستحسن أن أذهب للبحث عن زوجي. لاحظت أن الإشبين الأصغر حاول خطفه ليلعبا التنس.
عندما ابتعدت عنهما أدار نايل جيمينا لتقف قبالته:" تبدين رائعة".
احمرت وجنتاها خجلا هي التي دفعت بنقاد الموضة ليكتبوا عنها المقالات و ينظموا فيها الاشعار لخمس سنوات.
-أنت تخطفين أنفاسي.
لم تكن جيمينا تصدق أذنيها.
سألها نايل:" علي أن أتحدث إليك. أين يسعنا الذهاب؟".
أطرقت جيمينا تفكر في حل, ثم ردت:" في الواقع, هناك حديقة خاصة, حيث ألتقط لنا المصور صورا. لكنها مليئة بالوصوليين".
ساقها إلى الحديقة المسورة ومر بالمصورين الهواة وهو يحرسها. أغلق البوابة الحديدية و أدار المفتاح فيها.
-أرجو ألا نعلق هنا للأبد. يبدو المفتاح قديما جدا.
-لا أبالي, سابني لك ملجأ و نقتات من الازهار وماء المطر. حبيبتي, حبيبتي, حبيبتي, ظننت أني خسرتك للأبد.
فاضت به المشاعر فأمسك بها كما يمسك الغريق بقشة تنجيه من هلاكه.
كان عناقه حميما تماما كما تتذكره, بل أكثر مما تذكرته, وكما لم يعانق أحد من قبل.
وجد نفسه يعترف لها:" أنا غبي وحثالة, معتوه و مجنون. كيف عساي أخبرك عن حب مراهقتي الاول فيما وجب إخبارك أنك شعلة حياتي, لا تتركيني أبدا".
أخذت جيمينا ترتجف:" ماذا؟".
-أنا لا أجيد التعامل مع المشاعر المرهفة. قدمي لي كاولة للعب الورق أو مركبا أو أي شيء عملي, فأبرع فيه. إنما لن أجيد يوما إخبار المرأة التي أعشق أنني أحتاجها إلى جانبي.
-المرأة التي تعشق؟ ألست تتحدث عن آبي. تنتميان غلى العالم نفسه, إلى الوسط نفسه. تريد مثلك بيتا كبيرا مع احصنة و غيرها من البهارج الارستقراطية.
راح نايل يحدق إليها بعين الغضب:" يا لك من ثرثارة!".
-حتى أنها حصلت على لقب. لست إلا شخصية مشهورة تعرض الثياب و المنتجات.
بادرها نايل وقد أطلق سراحها:" أنت لا تعانين إلا من التكبر".
صاحت به جيمينا وقد عادت إلى أرض الواقع:" ماذ1ا قلت؟ كيف تجرؤ على مخاطبتي بهذا الأسلوب؟ أنا لست بمتكبرة".
تابع نايل معتدا بنفسه:" بل على العكس. كنت مغرمة بي عندما كنت تجهلين أنني دوق".
تجاهلت جيمينا عمدا الجزء الاول من إجابته وقالت:" بالحديث عن ذلك, لما لم تخبرني أنك دوق؟".
-لم أكن قد تعودت بعد على الفكرة. كما توجب علي انهاء المهمة التي أوكلت إلي قبل أن أعود إلى دياري لأستلم مهامي.
-لكنك لم ترغب بالعودة إلى انكلترا حيث تعيش آبي. خاصة و أنها أمست حبا مستحيلا بالنسبة إليك.
-يا إلهي! لقد صدقت فعلا قصتي هذه, صدقت كل كلمة منها, أليس كذلك؟
راحت تومئ برأسها, لا تفهم مقصده فاستأنف نايل كلامه.
-لا ألوم إلا نفسي, اسمعيني جيدا أيتها المخلوقة الاخاذة, لقد خلصتني و منعتني من أن أصرف بقية حياتي أخبر النساء قصصا وهمية عن حبي الضائع. لقد أشعلت نارا في قلبي, وكل ذرة في جسدي تصرخ باسمك. جعلتني أقع في حبك و أغرقت نفسي في العمل الشاق عندما هجرتني. هلا كففت عن العبث بمشاعري لتقومي بما يتوجب عليك فعله؟ أنا واثق من أن هذا ما تريدينه أيضا.
كان يرميها بنظرات جدية إلى حد بعيد, بعيد جدا. فما كان منها إلا أن مدت يديها بحركة تلقائية.
عانقته طويلا فيما راحت عيناها تشعان في الشمس.
-دعني أستوضح هذه الصورة. هل تطلب يدي للزواج؟
-احاول ذلك, فليكن الله في عوني.
بادرته جيمينا:" ضاعف جهودك".
وبذل قصارى جهده ليقنعها بمشاركته حياته.!!http://www.liilas.com
^^^^^^^^^^^^^^