جلس قبالتها القرفصاء, فراح جسده المسمر ينضح قوة وحيوية. أحست جيمينا بان قلبها سيتوقف عن الخفقان عندما رأته يهز كتفيه استهزاء لكنها أخفت ضيق نفسها وادعت أنها تسعل.
-لا تهتمي. سيحط شخص ما رحاله على هذه الجزيرة و يستفيد من النار.
أجابته وثد مطت شفتيها:" أتعني شخصا أقل حساسية و تكلفا مني؟".
بادرها بابتسامة مفاجئة تغضنت لها زوايا عينيه فبدا وسيما وجذابا إلى حد بعيد. أشاحت بوجهها عنه قبل أن يقرأ أفكارها.
-أحب أن أراك حساسة هكذا. إن كانت الأسماك من أصداقئك, فعليك أن تخبري العالم بذلك.
تنهدت جيمينا, وسألته:" هل تعتبرني طفلة مدللة؟".
-انت لا تتمنين معرفة ما أراه فيك.
بد عيناه قاتمتين. إنه جذاب فعلا!
أجابته بنبرة جافة:" قل لي. أستطيع تقبل الحقيقة".
-أحقا؟ أمتأكدة أنت؟
و التقت عيونهما, فأسرتها عينا هذا القرصان الجذاب, ولم تعد جيمينا تستطيع أن ترفع نظرها عنه. أحست بان قواها كلها خارت أو حتى انسابت في المياه لتصب في هذا المحيط المشمس الرائع الذي يتهادى خلفها.
خاضت جيمينا خلال عملها أسوأ التجارب ما خولها التعامل مع أي رجل في العالم, لكنها أحست بنفسها ضعيفة حساسة وسريعة التأثر أمام هذا الرجل.
-هل يسعك ذلك فعلا؟
كرر نايل بلاكثورن سؤاله ثم ضمها إلى صدره بحنان فقدت معه كل إحساس بالزمان و المكان. أرجعت رأسها وأغمضت عينيها و كأن الضوء أقوى مما تستطيع تحمله.
أحست جيمينا برعشة تسري في جسدها كله, و لفتها حرارة وقوة انبعثتا من جسديهما معا. وضعت يديها المشحونتين على كتفيه لتنقل إليه قوة غريبة جعلته عاجزا عن السيطرة على نفسه, تناهت إليها دقات قلبه الذي بدا و كانه ينبض في جسدها أيضا.
ألى لعناق بسيط هذا المفعول القوي كله؟ إلا أنه لم يكن بسيطا أبدا, بل رحلة إلى مجرة نائية. و عندما افترقا, غمرها إحساس غريب.
استقام نايل وراح يومئ براسه ضاحكا, وقد استبدت به الدهشة:" يا إلهي ".
فهمت جيمينا مقصده, فهذا العناق حرك في داخلها أيضا مشاعر عنيفة. أشرق وجهها بابتسامة شقت شفتيها و كأنها فراشة تحررت من شرنقتها لتنطلق إلى العالم.
-أنت ترتجف.
أحست جيمينا بجسده يرتجف تحت اناملها لكن هذه الرنة الفرحة لم تغب قط عن صوته ولا عن قلبها ايضا.
-أنا لا أرتعش.
وافقته جيمينا الرأي:" بالطبع لا".
ضمها إلى صدره كمن لا يحتمل أن يبتعد عنها ولو لخطوة واحدة. بادرت هذه إلى عناقه.
-تعالي نعود إلى المركب!
-ماذا قلت؟
لم تكن جيمينا واثقة من أنها سمعته جيدا.
-أنت لا تعني ذلك.
-أريد أن اعتني بك جاي جاي. لن أؤذيك.
كانت كلماته مخنوقة, واعترتها موجة عظيمة من الحنان.
رفعت يدا معفرة بالرمال و مررتها على رأسه.
-لا أريد لعلاقتي بك أن تنحدر إلى مستوى علاقتي مع الباقيات. أريد أن أحافظ عليك. تعالي معي!
أجابت ببساطة:" نعم".
عادا ببطء إلى المركب و أيديهما متشابكة. هناك في فسحة بعيدة عن أشعة الشمس, استلقيا جنبا إلى جنب و أحست جيمينا بأنها تحلق فوق الغيوم المتناثرة التي تعدو في السماء الزرقاء.
استسلمت جيمينا للنوم فيما راح يمرر يده على خصلات شعرها. هذا الشعر الجميل, لم يبد يوما أسوا حالا. كان رطبا و متشابكا تفوح منه رائحة البحر و تملأه الرمال.
غرقت في النوم هانئة البال لأنها تشعر بأنها محبوبة, ثم استيقظت من سباتها على رائحة البن. جلست تفرك عينيها و شعرت بأن جسمها كله يشع ابتسامة. كانت لا تزال تشعر بانها محبوبة.
اجالت النظر في ما حولها فلاحظت أن الشمس تحركت من مكانها و السماء بدت مختلفة.
-هل استيقظت؟
استدارت جيمينا نحوه فرأته يبتسم لها و قد صفت عيناه الآن.
أحست جيمينا أنها تعرفه منذ الأزل, و كأنهما حبيبان قديمان. الحب, الحب مجددا.
مدت له يدها, فطبع عليها قبلة بحركة طبيعية جدا و كأنه مغرم بها.
-أتريدين فنجانا من القهوة؟
-ممم
احضر فنجانين من القهوة تفوح منهما رائحة زكية.. فجلسا يحتسيان القهوة بانسجام تام.
بادرته جيمينا حالمة:" أعتقد أنني أحب المراكب".
-للإبحار بعض الجوانب الحسنة, انضممت مرة إلى طاقم سفينة تشحن الموز. و لطالما تمنيت معاودة الكرة.
-هل تعني عندما هربت من المنزل؟
-أجل.
أجابته بنبرة مشجعة كمن يثني على تصرفه:" هذا رائع بالفعل".
-إنها لتجربة رائعة. لكنني لن أرغب في تكرارها.
-أخبرني!
-ماذا تريدين أن اخبرك؟
-عن ذاك المراهق, ابن السابعة عشرة من عمؤه الذي هرب من البيت.
مط شفتيه قبل ان يباشر حديثه:" حسنا. لا تتوقعي سماع قصة مشوقة. وقع شجار عنيف بيني و بين أبي الذي اراد أن التحق بالجيش فيما كنت أرغب في أن أتخصص في علم الرياضيات الذي أبرع فيه إلى حد بعيد".
سالته جيمينا مدهوشة:" الم يكن بإمكانه تحمل مصاريف الجامعة؟ إلم يسعك نيل منحة ما؟".
-كان بامكانه أن يسدد التكاليف. لذاو تعذر علي نيل منحة.. كان ابي ينفق أمواله بشكل جنوني إلا أنه لم يرغب مساعدتي فهو لا يكترث لتحصيل الشهادات الجامعية. كانا يعتبران أن الابن الأصغر مرغم على تنفيذ ما يطلب منه دونما اعتراض.
قاطعته جيمينا غاضبة:" ذلك الوغد".
فما كان منه إلا أن عانقها قبل ان يتابع قائلا:" كنت أجيد احتساب الارقام فقررت أن أستفيد من هذه النعمة. كنت اقصد الكازينوهات في العطل, فقررت أن أعمل في احدها".
-كيف انتقلت من موظف على طاولة القمار إغلى مقامر؟
-لم استطع أن أشغل هذه الوظيفة طويلا لأنني كنت يافعا جدا فانتقلت إلى الجهة المقابلة من الطاولة. في هذه الأثناء, عملت في شتى المجالات لأكسب قوتي, عملت كنادل و كساعي...
-و كبحار على سفينة شحن.
-هذه كانت أفضلها.
-انا مسرورة لذلك.
-شكرا لك على مشاعرك.
-هل عدت بعدئذ إلى ديارك؟
لم تكن جيمينا راضية عن الظلم الذي لحق به.
سالها:" حددي مفهومك للديار".
-أنت تمزح , أليس كذلك؟
-كان لأبي ابنان و ثلاثة منازل و خمس زوجات. تعلمت في مدارس داخلية منذ سن الخامسة و أمضيت العطل لدى الأقارب أو زملاء الدراسة. أعيش في ترحال منذ زمن طويل.
تملكت جيمينا الدهشة فاستوت في جلستها و عانقته بشدة. فسألها بصوت مخنوق:" لقد صنعت مني هذه التجربة الرجل الذي أنا عليه اليوم. فهل تتذمرين؟".
أجابته:" كلا".
-عظيم, هل تبكين؟
راح يتلمس وجهها ثم رأسها متعجبا.
-بالطبع لا.
اشاحت بوجههاعنه, فما كان منه إلا أن أمسك بذقنها برقة ليرغمها على النظر إليه مباشرة.
-لم يذرف أحد يوما دمعة على حالي. لا داعي يا حبي. لقد أبليت حسنا بحق.
ابتلعت جيمينا بريقها:" بالطبع إذا, لم ترجع ابدا إلى دايرك... انكلترا؟ أبدا؟".
أدركت أنه لا يسعها أن تستعمل كلمة ديار و تنبهت بعد فوات الأوان إلى أن سؤالها هذا يبعث الكآبة في نفس نايل.
تبا لهذا القدر! اصبحت تنشد الآن علاقة حقيقية. كانت لتعرض عليه أن يرافقها إلى لندن كحبيبين هائمين في حب بعضهما البعض, إلا أن هذا العرض لا يلائم قرصانا رحالا يقدس الحرية.
أشاحت بوجهها عنه, مسرورة لأنه لم يلحظ احمرار وجهها خجلا.
رد نايل وهو يستعيد شريط ذكرياته:" أقصد لندن بين الفينة و الفينة. إلا أنني أتردد دوما على الكازينو الذي آواني في صغري".
استشفت جيمينا نبرة غريبة في صوته فاستدارت لتنظر إليه مليا. كانت عيناه تحدقان إلى الأفق البعيد بنظرة فارغة. لاسألته بحنان:" هذا لا يبشر بالخير, أتريد أن نتحدث عن الأمر؟".
أجابها مترددا:" ليس بحديث لبق".
-و إن يكن.
سمعت صوته يرتجف:" كنت في ربيعي الثامن و العشرين وكنت أعتقد أنني خبرت الدنيا بعد أن جبت العالم. لم آخذ امرأة في حياتي على محمل الجد حتى صادفتها فجأة, المرأة المثالية التي لم تكن وهما ولا سرابا. لم أعد أقوى على مفارقتها".
ساد صمت مفاجئ بينهما . راحت جيمينا تناجي نفسها: حسن, أنا من طلب منه مصارحتي, فلماذا ينتابني هذا الشعور الفظيع و كأنه سدد لي ضربة مميتة؟
سألته بهدوء:" ماذا جرى, إذا؟".
-لم تكن ترغب في.
أمسى صوت نايل باردا, لا رنة فيه.
-إنها مجنونة أليس كذلك؟
-أبدا, إنها تعيش حياة الأسرة, و تحب أن تعيش في كنف منزل دافئ بينما لم أرغب يوما في تأسيس عائلة بخلاف أبيجيل التي كانت تتوق لمنزل كالذي ترعرعت فيه.
أجابته جيمينا وقد فهمت أخيرا المشكلة:" إذا, لم يكن جايمس بوند يفي بالغرض؟".
خيم بينهما صمت قاطعه نايل متابعا:" لن ترغب امرأة سليمة العقل بجايمس بوند إن فكرت مليا بالأمر".
أنا لا أمانع أبدا, و ارتعشت جيمينا حين أوشكت أن تنطق بأفكارها بصوت عال.
-لكن فتيات كثيرات يخالفنها الرأيز
-ليس حبيبتي أبيجيل.
حبيبتي أبيجيل, هل سيدعوها حبيبتي جاي جاي بتلك النبرة التواقة؟ بالطبع لا. لم تكن غير دمية جذابة يتسلى بها. إنها مجنونة, لو ظنت خلاف ذلك.
بعدئذ, أتت كلماته لتؤكد شكوكها:" تحب النساء الرجل الغامض, أليس كذلك؟ أو على الأقل هذا ما يعتقدنه. كانت أبيجيل تعرفني جيدا, و تعرف أني لست غامضا. كما أنها ترفض أن تعيش في ترحال مستمر و ترغب في قطط و كلاب و أحصنة ومزرعة تربيها فيها".
بادرته بنبرة باردة:" تبدو وصولية".
رد نايل بصوت حنون يفضح الحنين الذي جاش في صدره:" كلا, لكنها شبت في إطار مماثل. وكانت تنسجم تماما و نمط الحياة الذي عجزت شخصيا عن تأمينه لها. فما كان منها إلا أن اختارت الشخص المناسب الذي يناسب الإطار الذي رسمته لحياتها".
كرهت جيمينا تلك الرنة في صوتها فصاحت به عاليا:" لا يعقل أن تكن لها المشاعر نفسها حتى اليوم, أليس كذلك؟".
-لم لا؟
تمنت جيمينا الموت لنفسها. إلا أن نايل لم يلحظ الصراح الداخلي الذي تعيشة فجاء صوته باردا قاسيا.
-أعتقد ان المقامر يعرف متى ينسحب ليحد من خسارته. و أعتقد أني رجل يعشق امرأة واحدة.
هز كتفيه استهزاءا فيما راحت تتأوه وتتعذب بصمت.
-قد تعود يوما لتتزوج بها, ما رأيك؟
أجابها ببرودة تامة:" هذا مستبعد جدا".
-هيا لا تستسلم. يمكنك الفوز بما يكفي من المال لتشتري قصرا مع بركة سباحة و طائرة خاصة وما تتمناه من أحصنة.
خيم صمت لحاظات طويلة و أحست جيمينا أنها ترجمت عاليا ما فكر فيه آلاف و آلاف المرات.
أجابها بهدوء:" لكنني سأبقى نايل بلاكثورن, ولن أتغير أبدا".
!!http://www.liilas.com
^^^^^^^^^^^^^^^^^^