-انا؟ هل ابتعت لي هدية ؟ هدية أخرى؟
بدت جيمينا حذرة و ليس مذعورة. كانت امرأة خبيرة علمتها الحياة الكثير وقد جابت العالم كله. أما هو فانحنى يمعن النظر في عينيها كما يغرق العاشق في عيني حبيبته.
-لقد خمنت القياس بنفسي.
-شيء آخر ارتديه؟
أحست بالدم يتصاعد إلى خديها. وخطر لها انها تبدو كسنجاب أصابه الهلع إنما لم يكن بيدها حيلة. استوى نايل في وقفته و امارات السرور و الرضى بادية على وجهه.
-تفضلي.
أخرج من الكيس الورقي حذاء خفيفا أسود فتناولته جيمينا منه بحركة آلية.
-ما هذا بحق السماء؟...
-قنفذ البحر حيوان شائك و صغير. ولا يسعك التنزه على الشاطئ إن كنت تنتعلين حذاء بكعب عال. كما أنه من المستحيل ان تمشي حافية القدمين إذ تكثر هذه الحيوانات على الشاطئ وقد تدوسي على احدها. لا تستخفي بالألم الذي ستعانيه أو بخطورة جرحك. يستحسن أن تنتعلي هذا الحذاء عندما تتنزهين على الشاطئ أو حتى عندما تسبحين.
-شكرا لك.
تغضنت عيناه بابتسامة, وقال:" لا ننشد غير راحتكم".
إنه وسيم بحق, و تصعب مقاومة سحره. وخيل إليها أن في وسعه قراءة أفكارها عندما رأت ابتسامة هادئة تعلو ثغره. إلا أنه لم يحاول إستغلال سحره و جاذبيته بل أخذها في جولة سريعة ليعرفها على المركب قبل ان يتهيأ للانطلاق.
رفع الشراع وأبحر عن المرفأ بمهارة لا متناهية ولم يحاول إخفاء استمتاعه بالرحلة هذه.
-هذا رائع فعلا, أليس كذلك؟
وسرعان ما أخذ النسيم العليل يلفح وجهيهما ويداعب شعر نايل الداكن فبدا أشبه بقرصان استولى على الجزيرة.
سألته جيمينا فيما راحت تجيل النظر من حولها بإعجاب:" هل تقوم بذلك باستمرار؟".
-أقوم بماذا؟ أخطف امرأة أم ابحر؟
اجابته وقد تغضنت عيناها:" أن تبحر بالطبع! أنا أستطيع الاعتناء بنفسي"..
-جيد.
وأطلق ضحكة عالية لم تستطع إدراك سببها.
-إذا أتبحر بانتظام؟
كان نايل عاري الصدر فلم تستطع جيمينا رفع نظرها عن عضلاته المدهشة. إنه جذاب بالفعل, يتمتع بسحر لا يقاوم. ولم تكن قد التقت بشاب مثله في حياتها.
راح يتأمل الأفق وقد ضاقت عيناه ثم رفع نظره إلى صاري المركب.
-بانتظام؟ ليس في الآونة الأخيرة. لطالما أبحرت في طفولتي. لقد تعلمت الإبحار قبل المشي.
بدا نايل شارد الذهن. راقبته جيمينا يوجه المركب وسط الأمواج و لم تفاجئها مهارته قط. بعدئذ, جلس قربها واضعا يده خلف ظهرها بحركة ودودة غير متكلفة, فما كان منها إلا أن مالت إلى الأمام.
-هل ولدت في البنتكوست؟
-في الجزيرة؟ كلا. ما الذي أوحى إليك بهذه الفكرة؟
-أهذا قاربك؟
وأجالت جيمينا النظر في السطح.
-أتقصدين هذا المركب البسيط؟ لا, ليس لي, لقد استعرته من بعض الأصدقاء. لا املك مركبا لا في البنتكوست ولا في أي مكان آخر.
هل سمعت رنة ندم في صوته؟ لم تر جيمينا فيه رجلا يميل إلى الندم. و تمنت لو تحيط بحياته كلها, لو تتعرف إليه عن كثب.
سألته بفضول:" لا, ألأنه يكلف ثروة؟".
هز نايل كتفيه استهزاء قبل ان يجيبها:" إنه بالأحرى نمط عيش. أمضيت حياتي في السفر. إن كان المرء منا يعيش حياته في ترحال مستمر, فلن يجد يوما مرفأ يرسو فيه".
-هل تجوب الأرض, بمحض إرادتك؟
-نوعا ما.
عندما لم تتفوه جيمينا بكلمة, أردف:" أتريدين أن أخبرك قصة حياتي المحزنة بالكامل؟".
-نعم!
الحرب الباردة لم تهدأ بينهما, فهزت كتفيها استخفافا و كأنها غير مبالية البتة.
-حسنا لقد هربت من المنزل عندما كنت في السابعة عشرة من عمري.
بدأ قصته وهو يتمطى. وقع هذه الكلمات ترك صدمة في نفس جيمينا.
-هربت؟ هل مللت المعاملة السيئة؟
أطلق ضحكة خافتة, ورد:" لم يأت قراري هذا وليد الساعة بل نتج عن علاقة سيئة ربطتني بزوجة ابي وعن سوء معاملة أخي لي الذي كان يبيح لنفسه معاقبتي, فما كان مني إلا ان غادرت البيت".
قطبت جيمينا. لم يكن نايل يعيش حياة عائلية طبيعية.
-أكان أخوك يعاقبك؟ ماذا عن أبيك؟
-كان يتحضر لطلاق آخر. لا ترتعبي على هذا النحو. إننا كنا العائلة المفككة النموذجية.
ضحك نايل لرؤية تعابير وجهها.
علقت جيمينا وهي تتأجج غيظا لما لحق به من أذى:" يبدو أنك أفضل حالا من دونهم".
و أحست باضطراب عارم يعتريها, ويشل تفكيرها.
-كان لي خالة أو خالتان لا بأس بهما, إنما لطالما كان أخي وضيعا فقد ورث عن أبي طباعه السيئة.
أوشكت جيمينا أن تنفجر بالبكاء لكنها تمالكت نفسها. أما نايل فلم يتأثر بفيض الذكريات.
تمنت جيمينا لو أنها ابتاعت محارم ورقية... وعبثا حاولت تنشق الهواء بهدوء.
وضع يده تحت ذقنه و ادار وجهها نحوه:" هيا يا جيمينا, لا داعي لهذا الحزن, فقد مرت سنوات طويلة على هذه الأحداث".
رأته يضحك, فردت بكلمات متقطعة:" لست حزينة. أنا أحب عائلتي كثيرا, و أعتقد أنه من المخزي أن يكره أفراد العائلة الواحدة بعضهم البعض".
كان يتفرس فيها فمسحت وجهها بظاهر يدها, وقالت:" أحتاج إلى محرمة ورقية".
كرر بنبرة لطيفة عذبة:" هيا يا جيمينا".
استجمعت قواها, فلم تكن تحبذ إظهار عواطفها على الملأ.
-أعتقد أنك ما عدت تراهم, أليس كذلك؟
-ما قصدت بيت العائلة منذ أكثر من خمسة عشر عاما. لقد توفي والدي. ألم تسمعي بالعادة الإنكليزية التي تورث ولدا و تحرم الآخر؟
-ماذا؟
-يورثون أحد الولدين فيما يبقى الآخر وريثا احتياطيا ولا يلمس فلسا إلا إذا أصيب الأول بالطاعون. حسنا, أنا هو الاحتياطي.
تسارعت الكلمات إلى لسانها قبل أن يتسنى لها لجمها فقالت:" هذا فظيع".
أجابها نايل برحابة صدر:" أعترف بأن عائلتي ليست رائعة و الهروب من المنزل سدد لها ضربة قاسية".
-الهذه الأسباب احترفت القمار؟ لتزعج عائلتك؟
وقف نايل ليسوي الشراع ثانية! فنظر إليها وفي عينيه بريق غريب.
-أنت تجيدين فعلا سياسة العداء بالنسبة لفتاة تنعم بالدفء في كنف عائلة رائعة تحبها.
أخذت جيمينا تتفرس فيه: قطرات فضية تتلألأ على صدره الذي لفحته اشعة الشمس, عينان تحاولان حضن هذا البحر الرائع. يبدو نايل بلاكثرون وكأنه أتى إلى هذه الدنيا مبحرا.
-ألم ترغب قط في ممارسة مهنة أخرى؟
-ربما.
وسرعان ما طوى صفحة الاعترافات ليعرفها على معالم ساحل بنتكوست الجنوبي.
وفجأةو طار الشيء الوحيد الذي وفقت جيمينا بشرائه.
-تبا! ليس القبعة.
-أنت مخطئة تماما.
أسرع بخفة إلى الحجرة السفلية ليعود حاملا قبعة على أحد اطرافها بضح حبات كرز قديمة.
بادرته مدهوشة:" تبدو هذه القبعة قديمة قدم الجزيرة".
-لا تسخري منها, فهي تعود لجدة إيللي. سرقتها هذا الصباح. ستحتاجين إليها بالتاكيد إذ غالبا ما تكون الشمس مؤذية في هذه المناطق.
أخذت جيمينا القبعة واعتمرتها فوق الخصل التي بعثرها الهواء. حبذا لو تراها إدارة الوكالة, لن يحتملوا وقع هذه المفاجأة!
-يبدو أنك اعتدت المجيء إلى هذه الجزيرة وإن لم تكن من سكانها.
-اسافر إلى أقاصي الأرض. ألم أخبرك ليلة امس؟ تنقلت من لاس فيغاس إلى لندن ومن نيوجرسي إلى موناكو.
قالت جيمينا ببساطة:" أعيش في لندن".
أرتفع حاجباه الكثان استغرابا.
-انت تسافرين وحدك بأقل قدر ممكن من الحقائب, ولا تتكبدين عناء حجز غرفة في فندق. لست من السياح التافهين ولا تستحسنين أن يساعدك من حولك على حمل حقائبك.
استشفت في صوته رنة جعلتها تتفرس في وجهه, وتسأله:" ماذا تعني؟".
-تفضلين الاحتفاظ بها طوال الوقت. هل خبأت فيها أغراض ثمينة؟
هزت جيمينا راسها, وردت:"كلا, لا شيء من هذا القبيل".
-ألم تقصدي جزيرة بنتكوست لإنجاز مهمة معينة؟
-ابدا, أعتقد أنني أردت الفرار, شانك تماما.
ردد نايل من دون أن يصدق اذنيه فيما راح يحملق في وجهها:" الفرار؟".
هب نسيم عليل داعب خصلات شعرها, وحاول حمل قبعتها القبيحة, إلا أن جيمينا تمسكت بها جيدا وأعادتها إلى مكانها.
واعترفت اخيرا, مقطبة وجهها:" نعم. اعترضتني مشكلة معينة لم أستطع حلها ما اضطرني للفرار..".
انتظر نايل ان تكمل قصتها لكنها لزمت الصمت فسال:" لكنك تعيشين في لندن؟ لديك وظيفة منتظمة أليس كذلك؟".
-حسنا, منتظمة إلى حد ما.
وابتسمت جيمينا في سرها, فما كان منها إلا أن رمقها بنظرة متفحصة سريعة.
-هل ستخبرينني ما معنى هذا؟
سالته مدهوشة:" ماذا؟".
-هذه الابتسامة السرية.
تبدد المرح واللهو واتسعت حدقتاها فيما اعتدلت جيمينا على مقعدها الخشبي. وعلقت اخيرا:" أنت حاد الملاحظة".
-يقتضي عملي استشفاف تصرفات الناس. أنا خبير بلغة الجسد.
زاد كلامه هذا من انزعاجها. فسالته:" ىهل تستطيع قراءة أفكاري؟".
ارتسم على ثغره طيف ابتسامة, ورد:" إلى حد ما".
داعب نسيم خفيف بشرتها فعلقت وهي تتمطى بدلال:" هذا أشبه بحلم".
كان نايل منهمكا عند دفة المركب لكنه استدار نحوها وابتسامة مشرقة تعلو ثغره.
-تنتظرنا جزيرة مهجورة لم تشوهها يد بشري. نحن و الطبيعة لا ثالث معنا.
اسندت جيمينا ظهرها تراقب الطيور التي بسطت اجنحتها الرائعة, فبدت و كانها تستسلم لقوى الطبيعة. فأسرت الى السماء: أريد أن أكون عصفورا مثلها. أستطيع تحمل أي شيء لقاء يوم أقضيه في الجنة.
بدأت حركة البحر تتغير فاستوت جيمينا في جلستها ولاحظت أنهما يقتربان شيئا فشيئا من إحدى الجزر.
بدا الشاطئ حصنا منيعا تصونه مجموعة من الصخور العالية. وما إن دار المركب حول الصخور حتى شهقت جيمينا وقد أخذت الدهشة منها كل مأخذ.
كانت الطبيعة قد شكلت في هذه البقعة ميناء طبيعيا, حيث المياه بلورية كالزمرد تداعب الرمال العذراء و كأنها قط كسول يتمطى ثم يتراجع مرارا وتكرارا!
قالت جيمينا بنبرة عذبة:" إنها لطبيعة مثالية".
في البدء, لم تقع عينا جيمينا إلا على أشجار رائعة بدت وكأنها مزروعة أكثر منها برية. كان الشاطئ, حيث رسا المركب, ظليلا تنتصب خلفه تلة مخضوضرة شامخة.
تقدم نايل بمركبة ببطء نحو الصخور ورمى المرساة ثم قفز من المركب واستدار ليقدم لجيمينا المساعدة.
لكن جيمينا قفزت خلفه من دون مساعدة. كانت المياه تغمرهما حتى فخذيهما ما جعلهما يترنحان في مشيتهما, إلا أنه أمسك بها بإحكام يسندها. أحست جيمينا بالموج يرتطم بها, يلفها كالدوامة إلا أن شعورا غريبا بالتوازن اكتنفها.
استسلمت لحركة الموج, فراحت تتمايل وهي تجيل بنظرها مدهوشة في أرجاء هذا الشاطئ.
وجدت جيمينا طريقا أحاطت به أشجار النخيل وكأنها مراوح مفتوحة رائعة. وشعرت بالرمل ناعما كالطحين المنخول حديثا.
قالت بنبرة لطيفة وقد استبدت بها الدهشة:" نحن الكائنان الوحيدان علفى هذه الجزيرة".
-ألم أقل لك؟
تسمرت في مكانها تراقب قاع البحر تحت قدميها العاريتين, وتشتم رائحة الملح, وتستمع إلى صوت المد والجزر.
ولكن الاهم هو هذا السكون الذي لف المكان.
همست جيمينا التي لم تكن تصدق عينيها :" لا أصدق, إنه منظر حقيقي".
راح نايل يتأملها, نايل الذي أصبح فجأة الأكثر وسامة و لطافة وحيوية. وبحركة ملحة و بطيئة, رقيقة و عذبة, أزاح عن وجهها خصلة شعر عبثت بها رياح البحر, فشعرت جيمينا بأن دفء الأرض كلها احتشد كي يتيح لها...
يتيح لها ماذا؟ لم تكن جيمينا مهيأة للخطوة التالية, هي التي حضرت شتى الحفلات الاجتماعية وغازلها أكثر الرجال سحرا.
تسكرت في مكانها وكأنها فقدت إحساسها بالواقع, فقد توازنها. كانت جيمينا دار مأخوذة بسحر نايل, مرتبكة, مشوشة إلى حد بعيد, حتى أنها شعرت بالخجل.
سكنت تلك اليد الداكنة و توقفت عن مداعبة شعرها فيما راحت العينان القاتمتان تتفحصان وجهها وقد غابت عنهما للمرة الاولى, تلك النظرة المشاكسة.
بادرها بنبرة هادئة لا تخلو من القوة:" ستحظين باليوم الذي تمنيته في الجنة, ثقي بي".!!http://www.liilas.com
^^^^^^^^^^^^^^^^^^^