المنتدى :
سلاسل روايات مصرية للجيب
حدث في الخامس من مايو (د/أحمد خالد توفيق)
لماذا أفعل ذلك؟
أنت تسأل أسئلة غريبة اليوم.. من الأوفق أن تسأل: لماذا لا أفعل ذلك؟
لقد قرأت الكثير من كتابات الفوضويين، وآمَنتُ أن التدمير أروع بمراحل من أيَّة متعة يحظى بها المرء في حياته.. لحظة انفجار قنبلة أو انطلاق رصاصة هي الاكتمال بعينه.. هذه أشياء لن تفهمها..يلذ لي أن أرى وجوه رجال الشرطة عندما يأتون للتحقيق.. منذ فترة صارت عندهم صورة محددة لأسباب هذه العمليات، ولن يخرج تفكيرهم عن هذا النطاق.. لن يفهموا أبدًا أن هناك مَن قرأ كتابات الفوضويين وآمن بمبادئهم.. دعك من أنه يكره المكان فعلاً..الخوف؟
أعترف بهذا.
وأنا أرتدي ثيابي صباح اليوم شعرت بجفاف في حلقي.. ألفُّ الحزام حول جسدي العاري وأتأكَّد من أن السلكين بارزان.. العبوة التي قضيت أيامًا أُركِّبها بالاستعانة بتعليمات الإنترنت.. لماذا يتركون هذه المواقع تعمل إذا كانوا يريدون الأمان حقًا؟.. لا أصدق أن الحكومة الأمريكية عاجزة عن منعها أو إغلاقها.
شعور غريب أن يلتف الحزام حولك.. نوع من القلق.. التردد.. يمكنك في أية لحظة أن تتراجع، لكني اتخذت قراري منذ زمن ولن يغيره شيء.البنوك! أنا أكره عمل البنوك أكره وجوه العملاء وأكره زملائي وأكره مكتبي الجشع في أعتى صوره تأمّل القلق والتوتر في وجه هذا العميل أو ذاك وهو يعد ماله جميل جدًا أن يدوي انفجار مروِّع هنا وتتناثر الجثث مع الدماء صحيح أن رأسي سيكون بينها لكن من قال إنني أهتم برأسي؟
لقد فقدت الحب ولم أعد أبالي بيوم آخر في الحياة.. المزيد من الحياة في المستنقع لا تعني سوى المزيد من العطن..
اليوم يبدو مناسبًا أحب أن أفجِّر نفسي يوم الخامس من مايو هذه عادة لم أستطع التخلي عنها قطإن الخامس من مايو يوم لطيف.
في مثل هذا اليوم -حسب مواقع الإنترنت التي تهتم بهذه الأمور- توفي المناضل الإيرلندي "بوبي ساندز" عام 1981 بعد إضرابه شهرين عن الطعام في السجن عام 1961 تُرسِل أمريكا أول رائد فضاء لها بعدما سبقها السوفييت الزعيم الهندي "الثور الجالس" يفر إلى كندا عام 1877 عام 1821 يموت "بونابرت" في منفاه بسانت هيلانة.. عام 1494 يصل "كريستوفر كولمبس" لجامايكا وعام 1260 يصير "قوبلاي خان" إمبراطور المغول.
وأموت أنا!
****
كان "جمال" قلقًا وهو يسرع إلى مكتبه في المصرف.. لقد تأخر فعلاً اليوم، ومدير القسم ليس مولعًا بالتسامح أستاذ "محمود" ليس من الطراز اللطيف الذي يتجاهل التأخير إنه من طراز الموظفين المتحذلقين الذين يشعرون بأنهم خبرة إدارية عُظمى يتأنّق ويتحدث بألاطة شديدة، وقد علق النظارة بسلسلة فضية لتتدلى على صدره، ويقف طيلة الوقت ليعرض كرشه الممتاز البارز من صدرية البذلة على الموظفين..
"جمال" لم يكن نموذجًا رائعًا كذلك، فهو شاب حديث التخرج من الطراز الذي لا يقدر على ترك السهر مع رفاقه.. يقولون إن سهراته ليست بريئة جدًا، لكن لا يجرؤ أحد على إعلان ذلك.. غير أن أستاذ "محمود" يمكنه أن يوبِّخَه في أي وقت يريد
ـ"أستاذ جمال.. أنت متأخر نصف ساعة.."
في حرج قال "جمال" وهو يسرع بنزع سترته والجلوس بالقميص وربطة العنق خلف شاشة الكمبيوتر: ـ"المواصلات يا سيدي.. أنا آسف.."
من تحت أسنانها غمغمت "ليلى" دون أن تنظر لأحدهما:
ـ"والإنترنت طبعًا.. معنا عبقري هنا.."
نظر لها "جمال" في غيظ وابتلع تعليقاته الحادة...
* * * *
راح (شريف) يداعب مفاتيح الكمبيوتر قليلاً، ثم تأمَّل أحد دفاتر بطاقات الائتمان.. راح يعبث في الدرج حتى أخرج علبة أقراص البنادول.. ابتلع ثلاثة أقراص مرة واحدة ببقايا كوب الماء، ثم طلب قدحًا من القهوة..
لاحظت (فاتن) المتدربة الشابة الجالسة جواره ذلك، فقالت في قلق:
ـ"ثالث مرة تشرب فيها القهوة والوقت لم يتجاوز العاشرة صباحًا"
هذا صحيح.. والأسوأ هو أنه لا يعرف أن سبب الصداع ارتفاع في ضغط الدم، وأنه بالقهوة يحفر قبره ببطء.. الصداع الناجم عن ارتفاع الضغط لا يعالج بالقهوة..
لكنه لا يبالي حقًا.. فعلاً لا يبالي بشيء, ثمة شيء في الطريقة التي يشرب بها القهوة يُذكِّر (مجدي) بسكير في حانة يشرب كأسه العاشرة..
كانت (فاتن) معجبة بـ (شريف) جدًا... لكنه لا يبالي.. لم يعد شيء في العالم قادرًا على تحريك عواطفه منذ.. منذ ماذا؟.. لا أحد يعرف بالضبط.. لكن الأمر يوحي بقصة حب فاشلة لن تُمحَى أبدًا..
(مجدي) المحاسب الآخر يحب (فاتن) منذ جاءت للمصرف منذ ثلاثة أشهر.. العملية معقدة جدًا كما ترى.. أ يحب ب وج يحب أ.. هذه العلاقات الشهيرة حينما تجمع مجموعة من الشباب المليء بالحيوية في مكان عمل واحد..
****
كنت أراقب زملائي في العمل.. غافلين هانئين... أمسك بدفتر الائتمان وأقلب صفحاته شاردًا من المُسلِّي أن تعرف أنك تمسك في يدك بمفتاح حياتهم وموتهم.. هم لا يعرفون ذلك.. تذكرت عندما كنت أقف في الحمام أراقب ذلك الصرصور الصغير يزحف على البلاط (القيشاني).. لم يكن السيراميك معروفًا وقتها. الأمر كله في يدي.. سوف يهوي الشبشب عليه فتنتهي حياته أو لا أفعل فينعم بها.. في 90% من الحالات كنت أهوي بالشبشب وكثيرًا ما كانت الأقدار تتحداني فينجو الصرصور بشكل ما لكن الآن لن ينجو أي من هذه الصراصير..
رجال الشرطة سوف يعرفون الحقيقة.. سوف يبحثون بين الجثث ويستدعون خبير المفرقعات ولسوف يعرفون من الذي فجر نفسه.. سوف يهرعون لداري ويفتشون كل شيء.. سامحيني يا أمي.. لن يضايقوك كثيرًا على كل حال.
سوف يفتشون جهاز الكمبيوتر ولسوف يجدون ملفًا كاملاً عن المفرقعات.. ولسوف تخرج الصحف كلها تتساءل عن سبب انتشار العنف بين الشباب، وسوف يتكلم أكثر من خبير نفسي وخبير علم جريمة.الحقيقة أنني أقدم للمحررين هدية عظيمة، فلسوف يكتبون ويكتبون ويسودون الصفحات لمدة شهر كامل. لو أنصفوا لدفعوا لأمي مكافأة.لكنهم لن يفهموا السبب أبدًا أنا نفسي لو طلب مني أن أكتب مقالاً أشرح فيه القصة لما وجدت كلمات هذا هو الموقف العبثي الحق كما تكلم عنه (ألبير كامو) في (الغريب) كانت لدى بطل القصة فرصة ممتازة ليقتل الأعرابي أو يتركه كان الحر خانقًا والذباب كثيرًا والعرق يحرق عينيه، لذا قتل الأعرابي فيما بعد قال لرجال الشرطة إنه قتل الأعرابي لأن الحر كان شديدًا
لم يفهموا كلهم لا يفهمون
عندما أفكر في هذه الأمور أشعر بالدم يتصاعد لرأسي.. إنه الصداع.. الصداع اللعين.. يجب أن أقضي عليه بأية طريقة يجب
****
مجدي يقلب صفحات دفتر الائتمان وهو يختلس النظر لـ (فاتن).. لقد بدأ يمسك برأسه.. يبدو أن الصداع موضة هذا اليوم..
نهضت (ليلى) معلنة بصوت هامس أنها سوف تذهب للحمام لم تكن تفعل هذا عادة لم يرد أحد لأنهم كانوا مشغولين مع هجمة من العملاء..
هذا الرجل البدين يصرخ بكبرياء و(ألاطة) مهددًا بأن يسبب مشاكل للجميع ابن خالة زوج عمته مذيع كبير ولسوف يفضحكم في برنامجه عيب كده
يظهر أستاذ (محمود) الخبير الإداري وحلال المشاكل من مكان ما وهو يمسك نظارته في يده (يحب هذه الطريقة لأنها توحي بالانهماك) ويسأل العميل عن المشكلة فيرد بصوت يزلزل المصرف:
ـ"ليست معي هويتي.. معي رخصة القيادة، وهذا الأستاذ.. الأستاذ المتعلم يقول إنني لن أستطيع السحب صبرًا سترون لو أن كلمة من هذا الكلام بلغت ابن خالة زوج عمتي فلن يبقى واحدٌ منكم في مكتبه"
من الغريب أن هذا الطراز من الجعجعة ينجح كثيرًا، وقد اقتاد الأستاذ (محمود) عميله إلى مكتبه ليسوي المشكلة.. لكن الرجل لم ينس أن يصرخ في (جمال):ـ"أقسم بالله أن من علّمك قد ظلمك!"
لم يستطع (جمال) الرد لأن المدير أشار له من طرف خفي أن يخرس، لكن لو ترك الأمر له لوثب وأنشب مخالبه في عنق هذا الخنزير المتغطرس.. (جمال) من الطراز العصبي الذي توشك روحه على الخروج من أنفه دعك من أنه لم ينم بعد..
*****
أنا في الحمام..
لا أحب الحمامات العامة وأشعر بالبارانويا في هذه الأماكن، لكن لابد من لحظات أتأكد فيها أن كل شيء على ما يرام أدخل دورة المياه وأرفع ثيابي لأتأكد من أن القنبلة في مكانها طرفا السلك بارزان ينتظران أن ألمسهما حيث يخرجان من تلك الفتحة في جيبي. كنت أخشى أن يحدث الأمر صدفة، لذا قمت بعزل احد الطرفين..
صوت الصراخ يتعالى من الخارج العملاء يعتقدون أننا عبيد أغبياء وأن عليهم أن يصرخوا أولاً قبل طلب أي شيء والمشكلة هي أن عليك أن تصمت لأن العميل دائمًا على حق، مدير المصرف بالمرصاد لكل من يعلو صوته بيننا..
هل مظهري طبيعي؟.. هل تبدو أية أسلاك؟
لحسن الحظ أن لدي كرشًا لا بأس به.. لا يكفي لوصفي بالقبح لكنه يخفي هذه الكارثة المعلقة على صدري..
جميل.. جميل..
أنظر لساعتي..
في الثانية عشرة ظهر يوم 5 مايو سوف ينتهي كل شيء.. تنتهي قصة حياتي وعلى الأرجح قصص حياة عدد لا بأس به من الشباب في هذا القسم. نحن نعمل بالطريقة القديمة وليس بطريقة الـ Cubicles الغربية حيث تكون هناك حواجز بين كل مكتب وآخر.. كلنا في مكان واحد ضيق وهذا.. وهذا.. سوف.. يجعل... الضرر....
الصداع من جديد..
كم أحسد (شريف).. برغم معاناته فإن الصداع الذي يصيبه يزول بأقراص (البانادول) أما أنا فصداعي لا يزول.. والأدهى أن طبيعة وضعي تحتم أن أضحك وأبتسم..
الصراخ يتعالى في الخارج.. لابد من أن أخرج لأتولى أمر هذا الرجل الذي يحسبنا خدمًا عنده..
الحادية عشرة والنصف.. الموعد يقترب.. ليت بوسعي أن أطلب منهم أن يستغفروا ربهم.. لكن هذا سيقضي على المفاجأة.. هل سيكونون في عداد الشهداء؟.. أرجو ذلك.. لو كان هذا صحيحًا فإنني أقدم لهم خدمة عظمى!
* * * *
يبدو أن لكلمات الأستاذ (محمود) مفعول السحر.. لقد خرج البدين من مكتبه راضيًا.. اصطدم بليلى وهي خارجة من الحمام وقد أصابها الصراخ بالذعر..
فقط نظر بكراهية لجمال ووجهه يحمل سُبَّة بذيئة لم يقُلها ثم ابتعد. هنا فقط تعالت الضحكات سخرية منه ومن كل شيء..
طلبت ليلى كوبًا من الماء من العامل.. إنه رابع كوب تشربه منذ الصباح..
*****
ريقي جاف تمامًا.. أشعر بأن ممحاة ثبتت في مكان لساني..
هذا طبيعي.. إن الأدرينالين يتعالى في دمي. ومعنى هذا أن يجف ريقي ويتسارع نبضي وتتسع حدقتاي.. أنا الآن كالنمر المُتأهِّب للوثب..
أريد لفافة تبغ.. يدي ترتجف فعلاً..
*****
أشعل جمال لفافة تبغ ونفث سحابة كثيفة أحاطت بعبارة (ممنوع التدخين). ابتسم البعض في تسامح.. لو جاء رئيس القسم لنسفه نسفًا، لكن (جمال) يتصرف منذ البداية باعتباره يضيع وقته هنا بدلاً من الجلوس في الكافتيريا.. سوف يمضي أيامًا هنا ثم يتشاجر ويرحل.. هذا شيء مكتوب ومحدد..
(مجدي) ينظر لساعته بلا توقُّف.. يهزها ويصغي.. إنه قلق لسبب غير مفهوم..
*****
لكم حسدت (جمال) على أنه يملك شجاعة التدخين علنًا.. أنا لا أملك هذه الشجاعة ولا حتى في دورة المياه.. متى بدأت هذه العادة الذميمة؟.. ربما منذ عام مع قصة الحب الفاشلة تلك..
كم الساعة الآن؟.. اقترب الوقت جدًا.. إنهم جميعًا هنا.. فقط سوف ألمس السلكين وهما في جيب السترة وينتهي كل شيء.. لن أعرف أنني انفجرت ولا أن رأسي طار ليستقر في ركن الغرفة..
يجب أن أجرد طرف السلك..
*****
نظر (جمال) إلى (شريف) في دهشة ثم سأله:
ـ"هل زال الصداع؟"
ـ"نعم.. الحمد لله"
ـ"إذن عمَّ تُفتش في جيوبك؟.. عن المزيد من البانادول؟"
ابتسم (شريف) وأخرج علبة من اللادن وألقاها على المكتب وقال:
ـ"ألا تحب اللادن؟.. هذا له مذاق الموز"
ـ"أنت رائق البال"
*****
السلك الذي عزلته يأبى أن ينسلخ من غطائه.. تبًا!.. يجب أن أحاول أكثر.. (شريف) يقدم لي بعض اللادن بلا مودة فأرفض مع الشكر. ليلى تميل عليّ لتقول:
ـ"كُفِّي قليلاً عن التغزل في شريف يا حمقاء!.. نظراتك تفضحك.. على الفتاة أن تحب مَن تجد إن لم تجد من تحب.. (مجدي) يهيم بك حبًا.."
يا لكِ من حمقاء!.. كل شيء سينتهي خلال ثوان وهي ما زالت تتكلم عن هذا السخف!
السلك.. ظفري يحاول أن يجرده..
تقول ليلى:
ـ"هل دخلتِ الحمام لتدخين سيجارة عندما كان ذلك الخنزير يتشاجر؟.. لقد اختفيت بسلاسة تامة.. أنا أعرف أنك تدخنين.. أليس كذلك؟"
في هذه اللحظة لم أعرف ما يحدث.. فقط سمعت اسمي (فاتن) يدوي بصوتٍ عالٍ، ثم وجدت نفسي على الأرض بينما رجلان يبدو أنهما من رجال الشرطة يُثبِّتان معصمي بكفاءة غريبة..
صحت من بين أسناني:
ـ"لا تلمسوني يا أوغاد.. سأتهمكم بالتحرش!.. أريد سيدة لتفتشني!"
بالفعل سرعان ما كانوا يقتادونني إلى الحمام، بينما ظهرت سيدة من مكان ما.. سيدة حازمة خالية من الأنوثة تنزع القنبلة عن جسدي.. وتناولها للرجلين..
من الخارج أسمع (عزة).. (عزة) صديقة عمري تشرح لهم:
ـ"إن الفتيات يعشقن الثرثرة.. لم تستطع (فاتن) أن تنفذ مخططها من دون أن تشرح كل شيء في خطاب لي، وطلبت ألا أفتحه إلا مساء اليوم.. نسيت أن أقول إن الفتيات فضوليات كذلك.. لهذا فتحت الخطاب قبل الموعد ووجدت هذا الكلام المخيف!.. (فاتن) ستفجر نفسها عند الظهر.. هذا مستحيل.. كلام فارغ.. قولوا لي ذلك..!"
وصوت رجل صارم يقول لها:
ـ"للأسف كل ما قالته دقيق.. لقد نجا هؤلاء بمعجزة.. إنني لأسائل نفسي عمّا يمكن أن تصل له الأمور بعد ذلك!"
الخامس من مايو.. في مثله تُوفِّي المناضل الأيرلندي (بوبي ساندز) وأرسلت أمريكا أول رائد فضاء لها، ومات بونابرت في منفاه بسانت هيلانة ووصل كريستوفر كولمبس لجامايكا، وصار قوبلاي خان إمبراطور المغول..
وهو اليوم الذي انتهت حريتي فيه.
تمت
|