كاتب الموضوع :
تمارااا
المنتدى :
القصص المكتمله
- 4 -
أشارت ساعة الصالون إلى الواحدة ودقيقة حين دخلت عواطف إلى المكتب وردت الباب وراءها بهدوء. وقف غسان قرب المكتب مسلطاً ضوء اللمبادير على ملف أحمر راح يقلب صفحاته ببطء وقد انعكس ظله مضخّماً على المكتبة وراءه. بدا عليه الهدوء مما جعلها تشعر بالارتياح فنفخت بخفوت وتقدمت من المنضدة وتناولت سيكارة. رفع عينيه نحوها وقال بثبات:
- كنت أتساءل لماذا تأخرت. أرجو ألا يكون الجنرال أثقل عليك!.
تملاّها بإمعان وهي تشعل السيكارة ثم مط شفتيه دلالة الإعجاب وأردف بلطف:
- جمالك حزين الليلة. من المؤسف أن تكوني أمي فهذا يحول بيني وبين متعة التفكير فيك كامرأة!.
عبست في إشارة تأنيب صارمة وجلست على المقعد الأقرب إلى المكتب باحتشام متجنبة التقاء نظراتهما. كانت قد استعادت غير قليل من رونقها ونضارتها بالاغتسال وتصفيف شعرها ومكيجة وجهها فيما فاحت رائحة عطرها المفضلة، أراميس، نفاذة قوية.
دفع غسان المقعد وجلس في مواجهتها مسلّطاً عليها نظرات ثاقبة أربكتها لكنها واجهتها بغير قليل من التحدي. بدا لها تحت الضوء شاحب الوجه واجماً فيما اكتست تعابيره بمسحة من القلق ترجمها بعض طرف شفته السفلى. نفخت دخان سيكارتها بعصبية حين شعرت أن الصمت قد يستمر إلى ما لا نهاية وتمتمت بنفاد صبر:
- ماذا دار بينك وبين نضال؟
تجاهل سؤالها وقال بلطف وكأنه يحاول تهدئة خاطرها:
- السيكارة ما عادت تفارقك يا عواطف. الإفراط بدأ يؤثر عليك ويمتص عافيتك، لم أرك بهذا الشحوب منذ خرجنا من القدس. يبدو لي أن دهراً مرّ على تلك الحادثة. عهدي بل أنك معتدلة في كل الأمور. لكن يبدو أن هناك أوقاتاً يفلت فيها زمام واحدنا من يده.
حدجته بدهشة، انحنى برأسه نحوها واستطرد بصوت رتيب الجرس:
- كثير من ذكرياتي القديمة ضاع أو بهت. لكني لن أنسى أبداً شكلك ونحن نعبر الجسر. كان وجهك أصفر كليمونة، وعيناك ساكنتين خاليتين من الحياة حتى خفت أن تموتي. ارتبط اصفرار الوجه في ذهني آنذاك بالموت بعد أن رأيت بالصدفة جثة والد أحد رفاقي في المدرسة. كان أصفر كامداً أفزعني حتى الغثيان. عندما رأيتك بهذا المنظر قلت لنفسي إننا ذاهبون إلى الموت ولسنا نغادر بلدنا فقط. وعيت على اليهود وهم يحتلون مدينتنا ويضطهدون شعبنا، فخفتهم وتحاشيتهم دون أية مشاعر أخرى، فهم لم يكونوا سوى بشر من لحم ودم مثلنا، أما يومئذ فقد بدوا لي أشبه بالوحوش المرعبة وامتلأت نفسي بالحقد عليهم حتى تمنيت لو أستطيع قتلهم جميعاً!.
سكت يتبادل وأمه نظرة تعاطف وقد افتر ثغره عن ابتسامة كئيبة. همت بأن تتكلم لكنه سبقها يقول مغيّراً فجأة مسار الحديث:
- لا أزال عند رأيي في أنك أخطأت بإبلاغنا الأمر على هذا النحو. ليس لي اعتراض شخصي على أحد. فناديا ويوسف وإبراهيم ينضوون تحت لواء العائلة بطريقة من الطرق. لكني كنت أفضل تأجيل إشراكهم في تلك المسألة إلى مرحلة لاحقة. كان يجب أن تبحثي الموضوع معي في البدء.
أطفأت السيكارة وقالت بتفهم:
- لا تهول الأمر يا غسان أو تفسره على هواك، أمر طبيعي أن يشاركونا في شؤوننا العائلية ولولا انفعالك الذي لا مبرر له لانتهت المسألة ببساطة ولما وجدت أي ضير في وجودهم. إن حجتك غير مقنعة إلا إن كنت تعتبر العثور على أبيك مصيبة! لقد تصورت أنني أزف لكم بشرى وأنك ستكون أول السعداء.
دارى غسان ارتباكه بضحكة مفتعلة ولوح بيده:
- ألا تعتقدين أنك تبالغين قليلاً يا أمي! أتفاجئينني بأن أبي الميت من عشرين سنة حي وتنتظرين مني أن أطير من الفرح وأركض باحثاً عنه؟ هكذا بكل بساطة! إنني لم أصح من الصدمة بعد.. ها..
عاد يضحك دون معنى ثم أردف بتهذيب:
- لنضرب صفحا عما جرى.. لقد أخذت عهداً على نفسي أن أضبط أعصابي وأناقش القضية معك بهدوء وتعقل دون أية مواقف مسبقة فآمل أن تتحمليني وتستمعي إليّ برحابة صدر.
احتوى رأسه بين يديه وضغط على صدغيه بقوة:
- الصداع لا يحل عني رغم أنني أخذت حبتي أسبرو، لا أعرف أهو ألم جسدي أم نفسي؟.
نفخ بقوة واستدرك:
- تعرفين حقيقة مشاعري نحوك، لا أنكر أن علاقتنا تعرضت لأكثر من هزة بسبب ظروف معينة أقوى مني ومنك، ولأننا تسرّعنا في إصدار أحكام منفعلة ناتجة عن سوء تفاهم لم ننجح في تلافيه. لكن ذلك لم يؤثر أبداً على مشاعري نحوك ولم يزعزع إيماني وثقتي بك. أنت لست مجرد أمي فقط، بل تعنين لي ما هو أوسع وأعمق. إنك مثالي ونموذجي في الصلابة والقوة والقدرة على مواجهة العالم بعزيمة وتصميم. فتحت عيني على الحياة معك وبك فوجدت فيك الأم المتفانية التي تمنحني الحب والثقة والقوة في وقت حرمتني فيه الحياة أبي وأطبق الاحتلال على خناقي بكل أثقاله وضغوطه. والظروف التي مرت بنا رسخت هذه القناعة في نفسي بحيث آمنت أنك أقوى من الاحتلال نفسه، فهل ثمة امرأة غيرك تجرؤ على إخفاء فدائي مطارد في بيتها ثلاثة أيام دون أن يعرف بذلك حتى أولادها؟.
تركت للانفعالات أن تتوالى على محياها دون قيد. أصغت له بصمت مضمومة اليدين وقد تألقت عيناها واحمر وجهها وأسلمت نفسها لأطياف ذكريات رهيفة راحت تتقافز من ذلك الصندوق الخشبي العتيق المفضّض الذي اعتادت أن تتحين فرصة غياب أبيها وانشغال مريم فتتسلل إلى العلية لتنبش محتوياته الغريبة العجيبة. تفرد الأوراق المصفرّة والعلب المذهبة والتحف الخشبية والنحاسية والسماور المسود وقطع ثياب أكلها العت لتعبق في أنفها وجوارحها روائح السنين المتخمّرة والأوراق الذابلة والخشب المتآكل. تبحث بلهفة عن خاتم ذهبي أو فانوس قديم صدىء يخرج منه جني تمتد قامته إلى السماء ليطأطىء أمامها بخشوع صارخاً بصوت يصم الآذان شبيك لبيك يا سيدتي الصغيرة فتطلب منه أن يضع العالم في يدها الصغيرة!.
هزت رأسها وأمسكت يده تضغط عليها بود قبل أن تقول بصوت متهدج وقد رسمت على فمها ابتسامة عذبة:
- ها هو ذا غسان الذي أحب. إن الكلمة الطيبة قادرة على إزالة أي سوء تفاهم يقع بيننا. كنت واثقة أنك ستتفهم موقفي وتدرك أن عثوري على أبيك..
تصلّبت يده ثم سحبها بخشونة وهو يقاطعها قائلاً بفتور:
- لا تليق بك السذاجة يا أمي. أن أحبك وأحترمك لا يعني أن أفقد حسن إدراكي وقدرتي على التمييز بين الخطأ والصواب.
اشرأبت برأسها وغمغمت بقلق:
- حسبت أنك بدأت تتفهم!.
تضاحك ببلاهة قبل أن يقول:
- المسالة ليست دعوة على العشاء ألبيها أو أعتذر منها حسب رغبتي. إنها قضية.. قضية مصير.. أوه. تعرفين تماماً أنني أكره استخدام الكلمات الكبيرة لكنك لا تتركين لي الخيار.. لا أستطيع الاقتناع بأن ذلك الرجل قد يكون أبي.. إنه.. مستحيل.. إنه..
سكت وكأنه يتحاشى قول ما يثير غضبها، لكنه سرعان ما استدرك:
- ليس هناك مخلوق يملك ذرة عقل يمكن أن يقبل قصتك..
حافظت على هدوئها وهي تسأله:
- لماذا؟ هل هناك ما يمنع حدوث ما حدث لأبيك؟.
- لا. لا شيء يمنع حدوثه. رجل يفقد ذاكرته في حادثة فيواصل حياته بشخصية جديدة وكأن شيئاً لم يكن، بل إنه يتزوج وينشىء أسرة جديدة ويعيش بالطول والعرض!. لكنه رغم ذلك مستحيل.
- ما هذا التناقض؟ ممكن ومستحيل في الوقت نفسه؟ لا أفهم لماذا أنت متشبث بهذا الموقف الغريب. إننا لا نتكلم عن أي كان. إنه أبوك.
- وهنا الطاقة الكبرى. لو أن المسألة تعلقت بأي شخص آخر لتقبلت الأمر بسهولة. أما وأنها تخصني شخصياً. وفي ضوء الثغرات الكثيرة فيها، فإنني عاجز عن تقبلها.
رمقها بطرف عينيه وكأنه يحاول تخمين المدى الذي يمكن أن يصل إليه في صراحته. بدت مكتئبة أكثر مما هي غاضبة أو منفعلة. ضيّقت عينيها وزمت شفتيها وحافظت على صرامة ملامحها بحيث استحال عليه استشفاف ما يدور في ذهنها. بلل شفتيه بلسانه ورفع رأسه إلى الأعلى كأنه يستمد العون من الله ثم أردف:
- ثقي بأنني لا أرفض لمجرد الرفض، ولا أعارض في أن يكون أبي على قيد الحياة، لكنني أعتقد أن هذا الرجل ليس أبي ولا يمكن أن يكون.
- اصبر على الأقل إلى أن تراه قبل أن تجزم.
- ليست المسألة أن أراه أو لا أراه. وإنما.. أوه يا أمي إن أفكاري مبلبلة مشوشة.
وقف ولوح بيديه بعجز واتجه إلى المكتبة حيث تناول صورة طارق وتفرس فيها بإمعان قبل أن يعيدها إلى مكانها ويستدير قائلاً:
- سأضع كل شكوكي واعتراضاتي جانباً وأفترض أنه طارق مناف. فماذا يعني ذلك لك الآن؟.
حدقت إليه بدهشة ثم قالت بحنق:
- سؤالك يكشف عن قسوة قلب غير معقولة. أنت تصدمني..
قاطعها يقول بنزق:
- لاتنسي أن المسألة في النتيجة هي إما أبيض وإما أسود ولا لون ثالث بينهما، فلا داعي للنرفزة حيال وقائع محددة تعتقدين أن لاحق لأحد في مساءلتك عنها. ما زلت في انتظار جوابك.
خبطت الأرض بقدمها ونهضت مقتربة منه قائلة بانفعال.
- إنه زوجي قبل أن يكون والدك. زوجي ورجلي وحبيبي.
- لكنك حسب علمي أحببت وتزوجت بعد وفاته. وإن كان الأمر يتعلق بالرجال والحب فقط فليس هناك أهون من العثور عليهم. إنهم يملأون الشوارع وما عليك إلا أن تختاري.
لم ينتبه إلى فداحة ما قال إلا وهي ترفع يدها هامة بصفعه. لكنها توقفت في اللحظة الأخيرة وأسبلت يدها بقوة وقد ارتسمت على وجهها تعابير غضب شديد ممتزجة بألم عميق. اتكأت بيديها على المكتب مديرة له ظهرها قبل أن تقول بصوت مرتجف:
- لقد أخذت عهداً على نفسي أن أضبط أعصابي ولا أسمح لشيء أن يخرجني عن طوري. لكنك تتسافل أحياناً إلى درجة أنك تنسى أنني أمك.
- آسف جداً. لم أقصد.
- لا يهمني أسفك وقصدك. لقد أوشكت أصدق أن ما قلته قبل قليل صادر عن قلبك وأنني استعدت مودتك وصداقتك.. لكن يبدو أنني مخطئة.
عاد يناشدها برجاء:
- أكرر أسفي يا أمي.. لم أعن ما فهمته أبداً. كان مجرد كلام صدر مني في سورة انفعال ودون تفكير.
كان صوتها مفعماً بالسخرية وهي تلتفت إليه:
- أخشى أن يكون كلامك كله دون تفكير.
رمقها بيأس ثم غمغم بحدة:
- أنا آسف سواء قبلت اعتذاري أو رفضته. وأرجو أن نتجاوز هذه المسألة ونبقى في موضوعنا الأساسي..
أخذ نفساً عميقاً نفخه بقوة قبل أن يردف:
- عنيت من سؤالي أن أبي لم يعد يعني لك، ولنا جميعاً، أكثر من ذكرى ماضية. لا أناقشك في حبك له لكن الحب لا يعيش دون محبوب! إنني أشعر بحرج كبير لاضطراري إلى التكلم معك في مثل هذا الموضوع الحساس. لكني مرغم على ذلك وأرجو ألا أكون أزعجك..
- لابأس عليك، فأنت تتكلم عن حب أمك وأبيك، وأنا كنت وما أزال فخورة بذلك الحب
تفرست فيه بإمعان ثم استدركت:
- كنت أنت أول ثمار هذا الحب. ولا تعرف كم قاسينا لحماية حبنا ومواجهة الضغوط التي تعرضنا لها.
استعادت هدوءها وسارعت تردف حين هم بالتكلم:
- أراد جدك أن أتزوج إبراهيم. لكني رفضت واضطررت لعصيانه. لقد غضب عليّ وتعذبت كثيراً إلى أن أصلحت الأمور معه.
- لكنه لم يغفر لك فعلتك ومات مقهوراً!
حدقت إليه بذهول قبل أن تنبر فيه بحنق:
- ما هذا الهراء؟ من أين جئت بهذه الافتراءات؟ إبراهيم أليس كذلك؟.
حافظ على رباطة جأشه وهو يقول:
- لاتتسرعي في إطلاق التهم. أظنها افتراءات كما قلت.
رمته بنظرة ضارية وقد انتفخت عروق رقبتها حتى خيل إليه أنه يراها تنبض. تشاغلت من ثم بسحب سيكارة من العلبة ورفعتها إلى فمها لكنها غيرت رأيها فجأة وكسرتها في المنفضة وانهمكت في تفتيت التبغ منها, حين انتهت قالت بصوت استعادت سيطرتها عليه:
- إبراهيم! لم أعلم أن له هذا التأثير عليك.
- ليس لأحد تأثير عليّ ولا علاقة لإبراهيم بما قلت.
رد بغيظ لكنها لم تبال به:
- يبدو أن الأمور تتداعى رغماً عنا. وما دمت قد طرحت الأمر بهذه الصورة فلابد لي من توضيح ما قد يكون خافياً عليك. ليس هناك غير إبراهيم ينشر عني تلك الأكاذيب. إنه مفتر وغد وسيظل هكذا طول عمره. لست أول ولا آخر بنت تطيع نداء قلبها وتتمرد على أسرتها، ولم أقترف أي ذنب بزواجي ممن أحببته، كما لم يكن موقف والدي مبرراً أو منطقياً. لقد تشبث برأيه دون مبرر وأرادني أن أرتبط بشخص لا أحمل له أية عاطفة، بل أنفر منه، كنت أحب أبي وأرغب في أن أكون بارة به مطيعة له، خاصة وأنني ابنته الوحيدة. لكن طاعته كانت تعني شقائي وتعاستي. ولا أشك في أنه أدرك هذه الحقيقة لاحقاً وصفح عني. وهو لم يمت قهراً كما يدعي إبراهيم، بل قتله السرطان.
أخذت نفساً عميقاً وزفرته ببطء:
- كان رحمه الله صعباً بعض الشيء وصاحب عقلية خاصة متعصبة لأعراف وتقاليد عصره. فقد كان متمسكاً بحقوقه الموروثة باعتباره رب الأسرة وسيدها ومقرر مصائر أفرادها حتى لو كانوا شخصاً واحداً هو أنا!. فهو مثلاً لم يكن قوي الإيمان، لكنه كان حريصاً على ألا يفوته قداس الأحد بحكم العادة وليتبرع بمبلغ كبير يفوق ما يتبرع به أي وجيه آخر ليلفت انتباه الآخرين ويثير تقديرهم وإعجابهم. كان يعتبر ذلك واجباً تفرضه عليه مكانته وعراقة محتده. وكنت أرى الزهو في عينيه وهو يتقبل شكر وثناء الرهبان والمطارنة والبطرك أحياناً. كذلك كان تقليدياً جداً تجاه المرأة. فمجالها الحيوي برأيه محصور في نطاق البيت والأسرة ولا يجب أن تكون لها اهتمامات أخرى. رغم ذلك لا أذكر أبداً أنه عاملني بتلك المفاهيم أو أشعرني أنه يفضل لو كان وحيده صبياً. فقشرته الخارجية الصلبة والجافة كانت تخفي قلباً طيباً ومشاعر إنسانية عميقة وروحاً حساسة. نعم. كنت أحبه وأحترمه ولم أتمرد عليه إلا بعد أن استنفذت كل وسائل الإقناع معه. فعلت ما فعلته وقلبي يتقطع ألماً وينزف دماً..
حدقت إلى غسان بإمعان ثم أردفت بهدوء:
- وتسألني بعد ذلك كله ماذا يعني لي طارق الآن؟ لقد عاديت أبي من أجله وناضلت بكل قواي ليكون لي. وأنا علي استعداد لمواجهة العالم كله لاستعادته. إنني لم أكف عن حبه حياً وميتاً وحياً من جديد. بل إن حبي له اليوم أقوى من الأول وحاجتي إليه وأنا في خريف العمر أكثر من حاجتي إليه حين كنت صبية أحلق في ربيع الحياة!.
بدت الحيرة على غسان ما إن أنهت أمه بيانها العاطفي المشبوب. بلع ريقه وهمس بلطف متحاشياً التقاء نظراتهما..
- لا أريد التحدث عنه، وإنما عنك يا أمي. أريد أن أسألك بأية صفة ستقابلينه.. باعتبارك أرملته المفترضة أم بكونك أرملة أكرم النحاس الميت حقاً؟ .لقد نسي الناس أنك كنت ذات مرة زوجة طارق ثم أرملته، ولا يعرفون إلا أنك أرملة النحاس.
شحب وجهها ونظرت إليه بعينين نديتين حزينتين. هرب من عينيها وغمغم بنظرة أقرب إلى الاعتذار:
- لا تغضبي مني يا أمي. لا أريد الإساءة إليك بأي شكل. لكن الحقيقة تزعج وتؤلم أحياناً، وعلينا مواجهتها مهما كانت قاسية والرضوخ لأحكامها مهما كانت كريهة وجارحة. لا أعتقد أنني أخطىء إن قلت إن أبي لم يعد يعني لك أكثر من ذكرى لمرحلة مضت من عمرك، وإلا فكيف أفسر واقعة زواجك بأكرم؟ لولا أنك نسيت طارق لما ارتبطت برجل آخر.
- أنت مخطىء..
صمتت هنيهة ثم أردفت بحزن..
- زواجي بأكرم لم يعن أنني نسيت طارق أو أخطأت بحقه، وإنما يعني أنني مارست حقي في أن أعيش حياتي الطبيعية. الإساءة الوحيدة التي نتجت عن ذلك الزواج، كما تبين لي لاحقاً، لحقت بك تحديداً!. لا تقاطعني ودعني أكمل حديثي.. لقد تزوجت أكرم لأنه كان الرجل الوحيد الذي فتح لي طاقة أمل في تلك الفترة من حياتي. جسد لي القوة والأمان الذي أنشده والمستقبل الذي أردته لكم ولي. وثق يا غسان أنني لست نادمة أبداً على ذلك. كان رجلاً نبيلاً رائعاً وعظيماً، لقد سعدت معه. وحقق لي كل ما أردت.. ولكن ذلك لم يكن دون ثمن.. ولقد دفعته حتى آخر قرش!.
صمتت والساعة تدق معلنة النصف بعد الواحدة. تثاءبت بصوت مكتوم ثم نهضت قائلة بحزم:
- لا أريد الخوض في هذا الموضوع أكثر مما فعلت.
قطب متفاجئاً فأردفت قبل أن تترك له الفرصة لقول شيء:
- نشف ريقي من الحكي والتدخين. ما رأيك في فنجان قهوة؟ منذ زمن طويل لم أذق قهوتك!.
حدق إليها بحيرة ثم تمالك نفسه:
- أتريدين التخلص مني؟.
تضاحكت ببرود وسارعت تهز رأسها نفياً:
- أبداً.. إننا ما نزال في البداية!
تلكأ هنيهة ثم نهض مرغماً وغادر الغرفة. نفخت بقوة وجلست متكئة برأسها على مسند المقعد ورفعت قدميها على المقعد المقابل لها ثم أغمضت عينيها شاعرة بأنها تحررت قليلاً من وطأة قبضة كانت تضيّق عليها أنفاسها.
حين طرقت باب بيت سميرة الحسيني في اللويبدة ذلك العصر الكئيب بجوه المكفهر وسمائه الملبدة لم يكن ليخطر لها، ولو في الخيال، أن سعيها للحصول على مساعدتها في العثور على عمل سينتهي بأن تصبح زوجة أكرم النحاس، ذلك الثري الغامض الذي سمعت باسمه لأول مرة قبل عدة أشهر في سياق حديث عن ثرائه الفاحش وأطواره الغريبة وتصرفاته الشاذة وحياته الماجنة.
ما إن عرفت سميرة برغبتها حتى قالت راسمة على شفتيها ابتسامة غامضة:
- لا أعلم إن كنت تصلحين لأي عمل يا عواطف سوى أن تكوني عواطف! فليس من السهل سؤال أحد توظيف امرأة لا تتقن سوى الجمال والعفة!. لكن كما تشائين. وأعتقد أن الصدفة الطيبة هي التي جاءت بك لعندي الآن. فهناك من هو قادر على مساعدتك أكثر مني. أنت سمعت برجل الأعمال المعروف أكرم النحاس. إنه يلعب الطاولة في الصالون مع صادق. إن كان رابحاً فسنلقاه في أحسن حالاته أما إن كان خاسراً فإن الشيطان نفسه يتحاشاه!. تعالي لأعرفك عليه.
كانت على استعداد لأن تطلب من الشيطان نفسه المساعدة على أمل التخلص من أسر إبراهيم وحصاره. عندما دلفت إلى الصالون بوجل وراء سميرة لم تصدق أن هذا الكهل البسيط الثياب النابت اللحية المشعث الشعر الذي يناكد صادق بسذاجة الأطفال حول براعته في اللعب يمكن أن يكون الثري الذي يتحدث عنه الناس في مجالسهم بغير قليل من الحسد والاستهجان. بل لم تصدق أنه يمكن أن يكون ثرياً بأي حال من الأحوال! وهي لو التقته في الشارع، برأسه الكبير وجلد وجهه المترهل وأنفه الضخم الأحمر وذقنه المدبّبة وعينيه الواسعتين الفاحمتين اللتين تنطلق منهما نظرات ثاقبة ذكية وقحة ويظللهما حاجبان كثيفان شائبان، لما خطر لها سوى أنه موظف درجة خامسة ورب أسرة فقيرة الحال ينوء تحت ثقل هموم كبيرة!.
ما إن وقع بصره عليها حتى توقف عن اللعب ونهض يتملاها بثبات ووقاحة دون أن يخفي نظرة الإعجاب التي طوّفت في عينيه. أبقى يدها في يده الخشنة الدافئة فيما سميرة تقدمهما إلى بعضهما بعضاً ثم هز رأسه بحبور وقال بصوت أجش أليف النبرة:
- أنت ابنة المحامي رياض بشارة إذن؟ لم تسنح لي الفرصة للتعرف إليه شخصيا، لكني كنت أتابع باهتمام نشاطاته وجهوده الوطنية قبل النكبة، وقد حاولت الالتقاء به أثناء إحدى زياراته إلى لندن عام /45/ أو /46/ إن لم تخنّي الذاكرة. كنت شاباً متحمساً أتطلع إلى المساهمة في أي مجهود يخدم الوطن.لكن انشغال الوفد في المفاوضات آنذاك حرمني تلك الأمنية . على كل إن كان الحظ قد عاكس الأستاذ رياض في جهوده لإنقاذ فلسطين فقد حالفه في وهب العالم جوهره مثلك!
لم تستطع تمييز مزاحه من جده ولا عرفت إن كان عليها أن تغتبط أو تمتعض لتباسطه معها بهذا الشكل. فاكتفت بأن هربت من نظراته وقد تخضب وجهها خجلاً مستسلمة لسطوته الطاغية بغير قليل من المتعة. أرجعت اضطرابها، فيما بعد، إلى التناقض الكبير الذي وجدته بين الصورة التي تخيلتها عنه وبين حقيقته. وهو تناقض قائم في شخصيته ذاتها التي تجمع المتناقضات في مزيج غريب ساحر، فهو قادر على بث الطمأنينة المطلقة في نفسها بنفس قدرته على حقنها بمشاعر خوف غامضة. وهو تارة قاس ومغرور وصلب يبدو لها وكأنه خارج من عصر حجري، وطورا رجل مرهف مرح منفتح على الحياة مقبل عليها إقبال الفراشة على الرحيق.
عاد يقلبها بإمعان وسميرة تسأله إن كان بإمكانه مساعدة عواطف في العثور على عمل. مط شفته السفلى قبل أن يقول بلهجة مبطنة بالتهكم:
- مما يؤسف له أن يجور الدهر على عوائلنا الكريمة فتضطر حسناء مثلك إلى العمل. لكن الدهر جار على كل عوائل شعبنا الكريمة وغير الكريمة. ماذا تجيدين؟
- أي شيء.
سارعت تجيب باضطراب فابتسم بخبث:
- يعني لا شيء. على كل لا تحملي هما يا سيدتي الجميلة. إن عندي دائماً وظائف احتياطية تنتظر الشخص المناسب لها. سأنتظرك في العاشرة من صباح غد في مكتبي في الدوار الثالث واحذري أن تتأخري .إن تقييمي لمن يعمل معي يقوم في الدرجة الأولى على احترامه لمواعيده. وحاولي أن تقللي من جمالك فإنني لم أعتد العمل مع الفاتنات!.
أغاظتها وقاحته وأقلقتها نظراته الحادة التي شعرت بها تعريها حتى من ورقة التوت. لكنها لم تستطع التخلص من تأثيره الطاغي. أرقت حتى الفجر وهي تفكر فيه وفي مصير مقابلتها معه. انتابها إحساس مبهم، ومقلق بأن القدر يهيء لها ترتيباً خاصاً مع هذا الرجل الاستثنائي، كما وصفته سميرة وهي تحذرها من الوقوع في شراكه. لم ترو سميرة غليلها بمعلومات وافية عنه. كل ما خرجت به أنه ثري إلى درجة مصادقة كبار الشخصيات في الشرق والغرب. وثمة إشاعات أنه يعمل في تجارة السلاح. إلا أن الغموض الذي يحيط نفسه به وتجنبه الأضواء وزهده في المظاهر تجعل من الصعب إصدار أحكام قاطعة عليه، فهو غير مستقر في مكان محدد ويمضي معظم وقته متنقلاً بين دول الشرق الأوسط وأوربا.
لكن كل الأفكار التي راودتها والأحلام التي دغدغتها كانت دون المفاجأة التي بادرها بها وهو يستقبلها في مكتبه الواسع البسيط شبه الخالي من الأثاث:
- أمضيت الليلة الماضية كلها أفكر فيك يا سيدة عواطف. وبعد تقليب الأمر على أوجهه كافة وجدت أنك لا تصلحين لأي عمل. فلا أنت مؤهلة لتكوني رئيسة تقودين مرؤوسين، ولا يناسبك دور المرؤوسة الخاضعة لرئيس قد لا يقدر حقيقة مواهبك!.
شعرت بالقلق لكنها حافظت على جمود ملامحها بانتظار أن يفصح عن نيته الحقيقية. أشعل سيكاراً فاخراً ضخما عبقت رائحته الزكية في أنفها وصب لها فنجان قهوة مرة ثم أشعل لها سيكارة قبل أن يجلس في مواجهتها مركزاً عينيه الوقحتين الفائرتين بالشهوة على جسدها مما أربكها ودفع بالاحمرار إلى وجنتيها. سارعت تشد جذعها وتحتشم في جلستها هاربة من نظراته وقد بدا الخوف يساورها من مآربه. لقد اعتادت على واقع أنها تشكل هدفاً مغرياً يسيل له لعاب أي رجل، وكانت قادرة على مواجهة أصعب المواقف بثقة وحنكة، لكنها لم تشعر سابقاً بمثل هذا الوجل الذي يبعثه في جوانحها وجودها مع هذا الرجل. وتأكدت ظنونها وهو يردف ببرود:
- إن العمل الوحيد الذي يليق بك هو أن تكوني رفيقتي في حلي وترحالي!
حدقت إليه بذهول ثم التهبت وجنتاها حتى الاحتراق ونهضت متوفزة الأعصاب وقد اجتاحتها سورة غضب ودت معها لو تصفعه عقاباً له على وقاحته المرعبة. لكنه سارع يلوح بيده قائلاً بسخرية:
- رويدك.. رويدك. أرى أن كلامي التبس عليك فأسأت فهمي. الرفيقة التي أعنيها هي رفيقة العمر. أو ما تبقى منه!.
صعقت وشعرت بساقيها تنحلان لكنها بذلت مجهوداً خارقاً حتى استطاعت البقاء واقفة. صبر هنيهة تاركاً لها المجال لاستيعاب عرضه ثم ضيّق حدقتيه ونفث الدخان إلى الأعلى بشكل حلقات قبل أن يردف:
اجلسي وتمالكي أعصابك. نعم هكذا أفضل . أنا - ولا أعوذ بالله من أنا لأنني أعرف تماماً من أنا وأقدر نفسي حق قدرها ، وهذا كما ستكتشفين بنفسك واحد من أكبر عيوبي والأساس الذي رفعت عليه امبراطوريتي الصغيرة، أنا رجل عملي وصريح حتى الجلافة اعتدت الذهاب في خط مستقيم نحو هدفي، فلا شيء يجبرني على اللف والدوران لهذا أعرض عليك أن تصبحي زوجتي . لاأستطيع الادعاء أنني وقعت صريع هواك من النظرة الأولى ، فقد تقدمت في العمر بما يكفي لأنسى هذه الأهواء المتقدة بحيث أن الحب لم يعد يعني لي شيئاً، لأقل إنني أردتك من النظرة الأولى ، ليس الأمر مجرد رغبة جنسية فقط ، فهناك العشرات من اللواتي يفقنك جمالاً وإغراء ولايطمحن بأكثر من أن يكن عشيقات عابرات في حياتي .
أحنقها غروره إلى درجة الهياج لكنها كظمت غيظها وارتخت في مقعدها الوثير سامحة لطيف ابتسامة أن يتسلل إلى زاوية فمها وهو يردف:
- أعترف بمتعة أن فيك سحراً سيطر عليّ بل واستلبني بحيث أمضيت الساعات القليلة الماضية أسير هاجسك عاجزاً عن التخلص من طيفك رغم أن تجاربي وخبراتي وعمري تحضني، أو يجب، من سهولة السقوط في حبائل الإغواء. لكن الذي حدث أنك أدرت رأسي حتى الدوخان ولكأنني مراهق غر يدخل خدر حسناء لأول مرة في حياته. وهذا إحساس لذيذ فاتن افتقدته من قرن!
لم تستطع كبح الابتسامة من الارتقاء إلى شفتيها شاعرة بغبطة نادرة فيما توهجت عيناها بقوة اضطرتها لإغماضهما. نهض ونظر إليها من علٍ فبان لها عملاقاً يبعث على الرهبة بصدره العريض ورقبته الثخينة، وخطر لها أنه قوي إلى درجة هرس عظام المرأة التي يعانقها:
- أعتقد، وأنا نادراً ما أخطىء، أنك المرأة التي رغبت فيها دائماً دون أن أعثر عليها قطعة واحدة. ففيك نسب عالية من الجمال والجاذبية والذكاء والاعتداد بالنفس والطيبة والمكر والكآبة والإحساس بالظلم والرغبة في الحياة. و.. الشبق.. ولاحظت، وأنا شديد الملاحظة، وآمل أن تعوّدي نفسك على تحمل غروري، إنني بدوري أثرت فيك مشاعر إيجابية حرمتك النوم ليلة البارحة، وهذا واضح في عينيك اللتين زادهما الذبول والنعاس سحراً. لعلك أعجبت بي أو أثارك ثرائي، فلا شيء يدير رأس حواء كالمال. أو ربما دغدغت فيك عقدة الكترا، فأنا في عمر أبيك وإحدى ميزاتي قدرتي الكبيرة على خلق شعور بالاطمئنان والثقة والوداعة والعطف في نفوس النساء يساعدني على ذلك ضخامة قامتي وبراءة ملامحي!
كان يتكلم بهدوء وثقة ملونا نبراته كممثل تمرن طويلاً على إلقاء تلك المرافعة العاطفية المؤثرة. ورغم حذرها واستيائها فانها لم تستطع منع شعور عميق بالإعجاب من اجتياحها. كانت ما تزال غير مصدقة لعرضه حين عاد يجلس في مواجهتها نافخاً دخان سيكاره عفوياً في وجهها وقد لمعت جبهته بحبيبات عرق بللورية:
- لكن قبل أن تجيبي بالإيجاب أرى من واجبي إطلاعك على بعض أسراري الصغيرة كي تكوني على بيّنة من كل شيء، والذي أوله شرط آخره سلامة كما يقول المثل. وخذي حذرك لأنها أسرار قد تصدمك بخطورتها لكنها ستشكل نقاطاً إيجابية لصالحي. تزعم الإشاعات أنني غني إلى حد أنني أجهل حجم ثروتي. وهذا إدعاء باطل تماماً، فأنا أعرف بالبنس والفلس مقدار ما أملك، لكنها معرفة تقتصر عليّ وحدي، وستظل كذلك. المهم أن ثروتي كبيرة لكن النيران تأكلها أن حدث وشبّت فيها!. ويقال عني إنني زير نساء. وهذا حقيقي. فالمرأة هي الهواء الذي لا أستطيع العيش دونه، وليس هذا بالأمر الشاذ لأن كل ذكور العالم على شاكلتي. وهناك أيضاً أقاويل عن أطواري الغريبة وشذوذ تصرفاتي. وهي بمجملها صحيحة وقد تعمدت تغذيتها وترويجها، فرجل في مثل ثرائي وأهميتي واعتدادي بنفسي لابد أن يكون فريداً من نوعه، وإلا لما كان ثمة فارق بيني وبين أي فلاح من الأغوار!.
أطفأ السيكار في المنفضة المعدنية الرخيصة الموضوعة على الترابيزة الخشبية وحدق إليها بحدة وقد بانت الصرامة في ملامحه قبل أن يسألها:
- ماذا ترين؟.
اعتصمت بالصمت شاعرة أن صوتها لن ينجدها. كانت ما تزال عاجزة عن هضم المسألة برمتها مستصعبة تصديق ما تسمع وقد بدأت الريبة تساورها في أن يكون الرجل إنساناً سوياً عاقلاً. إذ بلعت ريقها بصعوبة وهزت رأسها دون معنى قال يستحثها بنبرة آمرة:
- أريد معرفة رأيك قبل أن أتطرق إلى تفاصيل خاصة جداً. لا أطلب موافقتك فوراً بل أريد أن تجيبي بنعم أو لا على هذا السؤال: هل أنت معنية بعرضي؟.
أومأت برأسها بالإيجاب فزفر بانتصار وقال ببشاشة:
- لو لم أكن واثقاً من استعدادك للموافقة لما فكرت بالأمر أصلاً. والآن أصبح بإمكاني الدخول في تلك التفاصيل. إنني في السابعة والخمسين من عمري، وقد أجريت قبل عامين عملية قلب مفتوح في الولايات المتحدة. وقد أعيش إلى المئة لكن عرافة إفريقية تنبأت لي وأنا في العشرين من عمري، حين كنت مجرد متسكع في ساحل العاج لا أملك شروى نقير، إنني سأموت قبل أن أبلغ الستين من عمري.
أطلقت حشرجة خافتة وقد بان عليها الفزع فأمسك بيدها وربت عليها يهدىء روعها:
- لست من النوع المتطيّر الذي يتأثر بسهولة بتلك الخرافات. وكنت سأعتبر النبوءة مجرد ثرثرة فارغة لولا أن كل ما قالته لي تحقق حتى الآن بحذافيره! حين أتذكرها، بشكلها المخيف وعينيها الناريتين وصوتها المعدني الذي لا يزال حتى الآن يرن بوضوح كامل في أذني، يخيل إليّ أنها كانت تقرأ سفر حياتي في كتاب القدر حرفاً حرفاً. لهذا بت على يقين بأنني لن أبلغ الستين، وهذا بالذات ما سيقتلني على ما أحسب. وهكذا فإن زواجنا سيكون لمدة سنتين أو ثلاثة على الأكثر. وأعدك بأنها ستكون فترة مثيرة لي ولك على حد سواء، تستعيدين بعدها لقبك الحالي، أي الأرملة الحسناء، لكن مضافاً إليه الثرية.
أطلق يدها وأردف:
- هذا إن تحققت النبوءة! وبالطبع لن ترثي الشيء الكثير. فأنا أكره التبذير دون معنى، وأظن أن هذه القضية تهمك أكثر من سواها، ما إن نتزوج سيوضع مئة ألف دولار باسمك في مصرف سويسري، وبعد انتقالي إلى صديقي الأعلى ترثين الشركة التي جئت تطلبين عملاً فيها. أي أنك تساوين بلغة الأرقام، وهي على فكرة لغة لا تفوقها في الفصاحة لغة أخرى، حوالي ثلث مليون دولار..
شعرت بالدوخة لدى سماعها الرقم. لكن الشك ظل غالباً عليها في حقيقة قواه العقلية خاصة وأن الأمر كله بدا لها أشبه بحلم فانتازي ساخر. فكرت أن تسأله كيف يمكن لرجل حقق كل هذا النجاح ووصل إلى مثل جاهه ونفوذه أن يؤمن بالخرافات ويرزح تحت وطأة نبوءة سخيفة لعرافة سوداء شمطاء تخيلتها قابعة في ظلمة حالكة تحت شجرة عارية تحيط بها الجماجم والهياكل العظمية والأقنعة المنكرة وتزحف حولها أفاع مفزعة تنفث أنيابها السمّ الزعاف. لكنها أطبقت فمها وهو يردف:
- أما شروطي فهي التالية. أحب الأطفال لكني لا أستطيع العيش معهم تحت سقف واحد. ولا أشك أن أطفالك لطفاء ظرفاء رائعون إلا أنني لست على استعداد لقبول مزاحمتهم لي فيك، كما أن إقامتنا ستكون في باريس وقد تضطرني الظروف إلى التنقل المستمر. وهذا يعني أن توكلي رعايتهم إلى المربية التي تعيش معك.
- وماذا إن كذبت نبوءة عرافتك؟.
أفلت السؤال منها دون قصد. ابتسم وهو يقول بثقة:
- لن تكذب. وإن كذبت فسيكون لك الأمر حينئذ. فإما أن نستمر بشروط جديدة وإما أن ننفصل. أأفهم من سؤالك أنك موافقة؟.
فرّت الدماء من جسدها كله وهي تدرك فجأة أنها لا تحلم وأنه جاد. انتابها شعور بالرضى والارتياح لكنها سارعت تخفيه تحت ستار من الصرامة أسبلته على وجهها وهي تقول بلهجة جافة عدائية استغربتها هي نفسها:
- جئت أبحث عن عمل لا عن زوج. أنا عواطف بشارة يا سيد أكرم لا سلعة تباع وتشترى وتساوم على أولادها بهذا الأسلوب الرخيص!
ضحك بصفاء ولوّح بيديه في حبور مركزاً عينيه في عينيها:
- لا تتظاهري بما لا يليق بك يا عواطف.. أنت امرأة عملية وذكية إلى درجة تكفي لتدركي أن عرضي أبعد ما يكون عن الإهانة والإساءة إلى شخصك الكريم، وأنا واثق أنه لاقى هوى في نفسك فهو، مهما انفعلت واستأت، عرض شريف نبيل لا غبار عليه سوى ما يتعلق باضطراري إلى انتزاعك من أطفالك. لكنه اضطرار مبرر. وأظن أنني وفيتك حقك كاملاً. وكما عرفت من سميرة البارحة. فأنت مررت بتجارب أكثر من كافية لتدركي أن لكل إنسان في هذا العالم ثمناً!.
أخذ نفساً عميقاً ونفخة بقوة:
أنا رجل وأنت امرأة، وأفضل ما يجمعنا عقد زواج وأراهنك أنك ما إن تخلدي إلى نفسك وتفكري في الأمر بإمعان حتى تدركي أنني أقدم لك فرصة نادرة لتتغلبي على مشاكلك الكبيرة وترفعي عن رقبتك نير العيش تحت منّة وسلطة قريبك العسكري!.
ضربت جملته الأخيرة على أكثر أوتارها حساسية وآلمتها غمزته الجارحة من كرامتها إلى درجة جعلت الدماء تغلي في عروقها.. بذلت جهداً كبيراً حتى سيطرت على أعصابها ونهضت قائلة ببرود إنها لا تفكر في الزواج الآن، وإن حدث وتزوجت فلن يتم ذلك على حساب أطفالها. حافظ على هدوئه وواكبها إلى الباب وفتحه لها قائلاً بثقة:
- إن أعملت عقلك فستكتشفين أنك ستتزوجين لحسابهم. سأنتظرك غداً في مثل هذا الوقت..
عندما أصبحت في الشارع لم تستطع منع ابتسامة عريضة من اقتحام وجهها المكفهر.. وما منعها من إطلاق صرخة انتصار بملء فيها إلا الحياء. كانت واعية تماماً لقدر نفسها وعارفة أنها امرأة استثنائية لا يمكن لرجل أن يمر بها مرور الكرام. لكن غرورها لم يبلغ أبداً حد الاعتقاد أن تأثيرها يمكن أن ينال بهذا الشكل الصاعق رجلاً من نوع أكرم النحاس، وإلى درجة أن يقدرها بثلث مليون دولار. وهو مبلغ لم تستطع منع ريقها من التحلب كلما فكرت فيه، وكلما تخيلت الحياة الأسطورية التي ستعيشها، وإن يكن لفترة قصيرة، كزوجة أكرم النحاس!. والأهم من ذلك كله أنه أول رجل منذ وفاة طارق قبل سبع سنوات، يحرك في كيانها تلك المشاعر المضطرمة من الرغبة والحنان والفضول والإثارة والعنفوان والخيلاء. وهي مشاعر حسبت أنها انتهت من حياتها إلى الأبد مع رحيل طارق وانغماسها في محرقة المحن والمصائب التي شهدتها منذئذ.
سارت على غير هدى غارقة في أفكارها قبل أن تكتشف أنها قريبة من بيت سميرة. تلكأت هنيهة ثم طرقت الباب وقد استعادت هدوءها وسيطرتها على أعصابها. حين سألتها سميرة عما خرجت به من لدن الرجل اكتفت بالقول إنه وعدها خيراً. ضحكت مضيفتها بخبث المرأة العارفة الحكيمة قبل أن تفرقع بلسانها قائلة بلهجة الناصح الخبير:
- كوني على حذر يا عواطف. إنه رجل مصنوع من عناصر يصعب على الواحدة منا مقاومة إغراءاتها. غني. كريم. جذاب. قوي. ماكر. قادر على أن يكون ذئباً في ثوب حمل أو حملاً في ثوب ذئب حسب ما يرتئيه. إنه يمثل للمرأة كل ما تحلم به. لقد أمضى أكثر من ساعة البارحة يستجوبني حولك. أراد أن يعرف كل شيء عنك مما أثار قلقي. فهو إن وضع عينه على امرأة فمن المستحيل أن تفلت من براثنه. احذريه.
ابتسمت عواطف وأكدت بثقة:
- لا تشغلي بالك من هذا الناحية يا سميرة. لكني بدوري أريد معرفة كل شيء عنه.
تطلعت إليها سميرة بإمعان تحاول سبر غورها، ثم سألتها بقلق:
- ماذا دار بينكما؟.
حين ظلت عواطف صامتة أردفت سميرة باستسلام:
- أنت حرة. كما سبق وقلت لك. حياته الشخصية غامضة ولا أحسب أنني قادرة على إرواء غليلك. كل ما أعرفه أنه ابن فلاح من قرية النحاسين. وقد شهد بعينه مقتل أبيه على يد رجال سرسق لأنه رفض إخلاء الأرض التي باعها سرسق لليهود. أقسم على الانتقام من قتلة أبيه فشكل عصابة لاحقتهم وقتلت بعضهم. حين انكشف أمره ولاحقه البوليس هرب إلى لبنان ثم هاجر إلى ساحل العاج حيث قال له الكريم خذ فأصبح خلال سنوات من كبار ملاك حقول القهوة. انتقل في الخمسينات إلى الولايات المتحدة ثم غادرها بسبب مشاكل ضريبية في منتصف الستينات واستقر في فرنسا. أستطيع أن أجزم فقط أنه غريب الأطوار متقلب المزاج، تزوج ثلاث مرات. زوجته الأولى ابنة مغترب لبناني قابلها في ساحل العاج وأنجبت له صبيين قبل أن تتوفى وهي في مقتبل العمر. ابناه يقيمان في الولايات المتحدة والعلاقة بين أكرم وولديه غير حميمة وهم يكتفون بالالتقاء لمدة أسبوع كل عام في إحدى الدول الأوربية أو الجنوب أمريكية.
لم يزدها حديث سميرة إلا فضولاً لاكتشاف معدن هذا الرجل الذي بدأ حياته منتقماً قاتلاً وها هو ينهيها الآن فاحش الثراء بانتظار موت خرافي!.
اختلت بنفسها تلك الليلة تحاول ترتيب الأحداث المتسارعة التي اجتاحتها منذ عصر البارحة. فكرت لوهلة أن الأمر لا يعدو هلوسات تمكنت منها إلى حد الاعتقاد فعلاً بأن رجلاً شهيراً ثرياً عرض عليها الزواج بعد ساعات قليلة من رؤيته لها، هي على الأرجح أمنيات دفينة تراودها منذ وصلت بها الحال إلى الطريق المسدود الذي لا مخرج منه. أن يأتيها من حيث لا تدري ولا تتوقع من يمد لها طوق النجاة. وينقذها مما هي فيه!.
لكنه جاء.. الأمر حقيقة لا كذبة.. وهي في كامل قواها العقلية.. تقف وتتصفح جريدة اليوم. الدستور- الأحد 6 كانون ثاني 1974- المانشيتات الرئيسية لم تتغير منذ أيام. مؤتمر جنيف حول الشرق الأوسط. السادات وكيسنجر. نيكسون يتحدث عن ضرورة تحقيق السلام في الشرق الأوسط.
وانزلقت شيئاً فشيئاً في الفخ الذي نصبه لها. أرخت أعصابها وراحت تفكر تماماً كما أراد لها أن تفكر. هي أرملة في مقتبل العمر فقدت زوجها وأملاكها ووطنها ورماها اليهود على الجسر كنبتة اقتلعت من جذورها وشلحت في العراء. وها هي ذي منذ عامين ترزح تحت وطأة هموم طاحنة وتعيش الهوان تحت رحمة رجل اغتصبها بنذالة ولم تستطع أن تتحرر منه.
لقد بذلت جهدها لتشذيب عواطفها نحو إبراهيم وترويض نفسها على فكرة القبول به زوجاً. جربت أن تنظر إلى المسألة باعتبارها اعترافاً بالجميل للموقف النبيل الذي وقفه منها ما إن حطت رحالها في عمان،. وتضحية يجب أن تقدم عليها من أجل أطفالها ولتوفير المأوى الأمين والعيش الكريم لهم. لكنها أخفقت. عجزت عن التغلب على نفورها ومحاذيرها منه، واستصعبت الاستسلام لمنطق العقل البارد الذي راح يزين لها أن إبراهيم هو الفرصة السانحة، والأخيرة، التي لا يجب أن تفوّتها من يدها. ثم جاء اعتداؤه عليها في الوقت المناسب تماماً ليخلصها من حيرتها ويجلعها تحزم أمرها نهائياً حياله. لم يكن اغتصابه لها هو ما آلمها وأذلها فحسب، وإنما اضطرارها إلى السكوت على الأمر وابقاء الوضع على حاله حين تبين لها أنها غير قادرة على الاستغناء عنه والتشرد بأطفالها في الشوارع باحثة عن اللقمة والمأوى. اكتشفت فجأة أنها ليست سوى امرأة تافهة ضعيفة عاشت دائماً، وما تزال، عالة على الآخرين. تعجز حتى عن رفو الجوارب وتخشى مواجهة الحياة بمفردها معتمدة على نفسها. دلّلها أبوها حتى أفسدها، وقامت مريم على خدمتها حتى تنبلتها، ورفّهها طارق حتى أعجزها. حتى تجربتها القصيرة في بيروت لم تعركها بما يكفي لتعيد النظر في نمط حياتها وتتحسب لتقلبات الدهر. وعندما فقدت والدها بقي لها طارق، وعندما فقدت طارق بقي لها الوطن- المنزل يؤويها والمكتب والأرض اللذان ورثتهما عن أبيها يدران عليها دخلا ثابتاً يقيها العوز والحاجة إلى العمل. كذلك لم تفدها كثيراً تجربتها مع الاحتلال. لاشك أنه قلب حياتها، وخاصة وقد ترافق مع وفاة طارق، رأساً على عقب، وحوّلها من فتاة حالمة تحسب أن الدنيا ليست سوى أنشودة سعادة دائمة ومعزوفة حب لا نهائية، إلى امرأة بائسة شقية خائفة قلقة تركبها الهموم والوساوس، إلا أنه لم يعلمها سوى التلوّن حسبما تقتضيه معركة البقاء التي دهمتها على غير انتظار. تعلمت أن عليها أن تنحني أمام الريح وتساير الواقع الطارىء على أمل أن يزول سريعاً. أن تتظاهر بالبأس وهي ترتجف فرقاً ، أن تستهتر وهي تتميز غيظاً، أن تستسلم لرافايل وهي تتمنى لو تخنقه بيديها العاريتين، أن تخفي الفدائي في منزلها وهي تتمزق خوف أن يعثروا عليه عندها فتفقد كل شيء، الحرية والبيت والأرض.
نعم، كان لابد أن تتغير إزاء ذلك كله، ولكن أي تغيير؟ لم تعد المسألة المطروحة آنذاك كيف تعيش وماذا تريد وبماذا تؤمن، إنما صارت أن تعيش فقط. أن تبقي رأسها طافياً فوق العباب. أن تحمي أسرتها من المخاطر والويلات، وأن تحافظ على البيت والمكتب والأرض بأي ثمن باعتبارها ضمانتها من العوز والسقوط.
رباها أبوها ومريم وراهبات القلب المقدس والمجتمع تربية صارمة متزمتة إلى حد القمع فيما يتعلق بالفضيلة والأخلاق، ومنهم تشربت حتى الثمالة، مثلها في ذلك مثل كل بنات جنسها، أن الركيزة الأساسية للشرف قائمة على صيانة الأنثى لعفتها. ورغم ميلها الدائم، الطائش والنزق، للتمرد على التقاليد المتحجرة والخروج على مفاهيم بالية كانت ترفضها جملة وتفصيلا، فإنها التزمت بدرجة عالية من الصلابة الأخلاقية التي ولّدت لديها حذراً فطرياً من الجنس إلى درجة اعتباره أشبه بحقل ألغام مميت للتي لا تعبره بحرص وحذر شديدين. لهذا لم تسمح لطارق، قبل الزواج بأكثر من قبلات خاطفة وملامسات حيية سطحية.
لكن كل بنيانها الأخلاقي المتين تهاوى انقاضاً تحت جزمات المحتلين التي راحت تدعس كل ما آمنت به. لم ينتبها حزن كبير وهي تسمع حكايات عن نسوة تعرض للاغتصاب ولا اكترثت بمظاهر الفسق التي راحت تنتشر في القدس وكان أبرزها بيت دعارة علني افتتح في البناية المقابلة لهم فجاءت مريم تصرخ وتبكي لاطمة على رأسها طالبة منها أن تسارع إلى تقديم شكوى لإغلاقه. فكان أن طلبت منها الاهتمام بشؤونها فقط وعدم التدخل بشؤون الآخرين. كانت الهزيمة وموت طارق أكبر من أية قضية أخرى. وعندما بدأ رافايل يحذرها، بعد أن صمدت طويلا أمام هجماته المحمومة، بأن الموت ينتقل بحرية في القدس بسبب أعمال المخربين وأن عليها الانتباه لطفليها وهما يلعبان في الشارع أو يتنزهان برفقة مريم كيلا تصيب رصاصة طائشة أحدهما، أو كليهما، أدركت بوضوح أن الدور قد وصل إليها. اختلت بنفسها في غرفتها وتعرت تتملّى جسدها أمام المرآة. كان ما يزال على حالته صلباً ممشوقاً يتفجر نضارة وعنفواناً وتحدياً ويصطخب بالرغبات الصارخة التي تنده بها حلمتا نهديها المتوثبتين كطيرين يتهيآن للانطلاق. جسته بيديها بلطف وهي تسأله إن كان الحفاظ على عفافه يستأهل التضحية بغسان أو نضال، ثم أبلغته، بحزم، أنها قد تضطر إلى التضحية به في سبيل من هو أهم وأثمن منه. ستفترض، في أسوأ الأحوال، إنها تعرضت للاغتصاب مثل من تعرضت له من تعيسات وطنها ، وفي أحسنها، إنها لاقت حتفها. أجهشت من ثم في بكاء عصبي خافت. بكت على نفسها وجسدها وأولادها وزوجها الراحل وبلدها المعذب. بكت حتى فقدت قواها وغرقت في نوم متقطع أشبه بالإغماء فلم تفق إلا على مريم تهزها بهلع وتسألها لماذا هي عارية. وهي ترمي جسدها في قبضة رافايل شعرت بتفاهة الحياة وقسوتها في الآن نفسه. أدركت زيف وخواء مفاهيمها وضعف وهوان مخلوقاتها التي شيدت لنفسها عالماً من رمل لا يصمد أكثر من لحظات ما إن تكتسحه أمواج الواقع العاتية.
وما أهون القدس أمام عمان. هنا لم يتبق لها شيء. لا مأوى ولا دخل ولا مهنة تتقنها. هنا الخوف والضياع وطريق الجلجلة المعبد بالعذابات والآلام والأشواك يقودها إلى غابة من الصلبان الحديدية.
لم يخطىء أكرم. ستكون مجنونة إن فوتت الفرصة على نفسها، وهي فرصة لا يأتيها مثلها إلا مرة واحدة في العمر. مغارة علي بابا تنفتح أمامها على مصراعيها داعية إياها لتغرف من كنوزها وغموضها وسحرها ومفاجآتها. وهي إن لم تغامر من أجل نفسها فمن أجل أبنائها، من أجل أن تحيا أسرة مناف بكرامة ومن أجل أن ترفع نير إبراهيم عن كاهلها. ثم إن أكرم ليس أي رجل، إنه أكرم النحاس، إغراء ليس بإمكان المرأة، أية امرأة، أن تقاومه، وهي وهو متساويان. ثراؤه لقاء جمالها، كهولته مقابل ترملها، الثلث مليون دولار مقابل تخليها المؤقت عن أطفالها. يريد امرأة يتمتع بها فيما يزعم أنه تبقى له من العمر، وتريد رجلاً يعوضها عما قاسته وينقذها من مصير مجهول ويؤمن لها العيش الكريم بقية عمرها. حتى إن أرادها مجرد رفيقة فإن الأجر الذي ستناله يدير أكبر الرؤوس!. حين دعت مريم لتستشيرها بوجل فوجئت بها تشجعها بحماسة:
- ولم لا؟ أنت صبية يا عواطف فهل تريدين أن تبقي بقية عمرك أرملة؟ ولا تنسي أن ألسنة الناس لا ترحم. لا أحد يصدق أن إبراهيم يؤويك ويصرف عليك شفقة بك وحباً بسواد عيون الأولاد. وافقي فوراً وإلا كنت حمقاء. أما الأولاد فلا تحملي همهم ما دمت أنا معهم..
برقت عيناه وابتسم بانتصار وهو يستقبلها بحرارة:
- والليلة الفائتة لم أنم.. الهيئة أن مراهقتي الثانية تأخرت إلى الآن بانتظار ظهورك في حياتي.. لم يسبق لي أن أخطأت في أحكامي إلا نادراً.. لاحظي أنني أخفف قليلاً من غلوائي!..
أمسك بيدها وضغط عليها بحبور:
- سمحت لنفسي بترتيب الأمور حتى قبل أخذ رأيك. اليوم الاثنين وسنتكلل السبت في احتفال بسيط ونطير إلى باريس الأحد. كنت أفضل أن يكون زواجنا مدنياً لكنني رأيت أن الزواج الكنسي سيريحك ويطمئنك أكثر.. بدأ العمال بتجهيز منزلي في الجبل ليقيم فيه الأولاد.. ومنذ ساعة صرت تملكين مئة ألف دولار وضعت باسمك في الكريدي سويس، كما أن محامتي يعد وصية لترثي شركة القدس بعد وفاتي..
نظرت إليه ببلاهة فاغرة الفم. عادت تتساءل إن كان جاداً أم أنه يتسلّى بها منتظراً أن تبلغه موافقتها ليقف مقهقها بسخرية طالباً منها أن تغرب عن وجهه. كان يتحدث بلهجة سريعة ونبرة عملية وكأن المسألة لا تعني له فعلاً أكثر من صفقة تجارية يتفاوض على عقدها متوخياً تحقيق أكبر قدر من الربح.. بدا لها كل شيء هستيرياً لا معقولاً وكأنها تعوم في فضاء خاوٍ بين غيوم حمراء وشموس صفراء باردة ومخلوقات عجيبة الأشكال.. الدولارات.. الوصية.. الإرث.. الموت.. العرافة السوداء كاشفة عن ناب أسود مسنون.. اعتصرها إحساس عميق بالخوف حتى أنها همت بأن تصرخ أنها لم توافق بعد، بل وشدّت جذعها ناوية النهوض والفرار.. لكنها سرعان ما تراجعت وأبقت فمها مطبقاً شاعرة أنها أصبحت عاجزة عن إبداء أية مقاومة.. حين وجدت صوتها وقاطعته متسائلة:
- وكيف أتزوج رجلاً لا أعرف شيئاً عنه ولا يعرف شيئاً عني؟.
صدمها بجوابه الساخر:
- أتحسبين أن معرفتي سهلة؟ لا يعرفنا إلا خالقنا، حتى هو قد يتفاجأ أحياناً، والأرجح دائماً، بما صنعت يداه! على كل حال ليس هذا همنا الآن، وليس همي أن أعرف ماهية هذه المرأة الجميلة الجالسة قبالتي مضطربة وجلة تتساءل عن نوعية وصنف هذا الرجل الغريب الذي ستصبح زوجته. أريد أن أكتشفك بنفسي. لا يفيدني بشيء أن تكوني بنظر الآخرين طيبة أو شريرة. محبوبة أو مكروهة. لقد حزت على إعجابي وهذا يكفيني. وأفضل أن تعامليني بالمثل. أنت معجبة بي بدورك فلا معنى لأن تسألي عني أشخاصاً تعتقدين أو يعتقدون أنهم يعرفونني جيداً. هناك كثيرون لا يتورعون عن رفعي إلى مرتبة الملائكة، وهناك أكثر منهم يضعونني ببساطة تحت نعل الأبالسة. أنا نفسي أجهل نفسي. قد أكون أحياناً ملاكاً. وإذا بي في أحيان أخرى شيطان رجيم! حدثتني سميرة عنك بما كفاني. وأنا أثق برأيها. إنها معجبة بك كثيراً. ملأت رأسي بقصص مثيرة عن بطولاتك في القدس والفدائيين الذين أخفيتهم في منزلك حتى تخيلتك فارسة صنديدة تنزل إلى الميدان لتدعو دايان إلى النزال!. إن كانت المرأة الجميلة القوية تثير إعجابي فإنك فتنتني بوطنيتك وخففت عني عقدة النقص التي أعانيها في هذا الصدد. وهذا جانب من شخصيتي أكشفه لك قبل أن تسمعي به من غيري. الكثيرون يتهمونني بالتقصير والتهرب من مسؤولياتي الوطنية إذ لم أقدم لقضية فلسطين سوى النذر اليسير من الأصفرالرنان الفائض عن حاجتي. والآن سيصبح بإمكاني رد التهمة والقول أنني تزوجت مناضلة جسورة..
صمت فجأة وحدجها بنظرة ثاقبة تبدت فيها عجرفة باردة مشوبة بحزن أسيف قبل أن يأخذ نفسا ويطلق ضحكة جافة مردفا:
- على كل إن كنت ترغبين فعلاً في زيادة معلوماتك عني فاعلمي أنني تزوجت ثلاث مرات في الخمس والثلاثين سنة الماضية. أطول زواج، وأتعسه، كان مع زوجتي الأولى، أم ولديّ عماد وزياد، واستمر ثماني سنوت، أما الزيجتان الأخريان فكانتا تجربتين ممتعتين مع غادتين لكنهما لم تدوما طويلا. سنة وثلاث سنوات على التوالي. عماد طبيب في الثانية والثلاثين وزياد دكتور اقتصاد في الثلاثين . الأول صاحب مستشفى في جورجيا والثاني يدير كازينو قمار في لاس فيغاس. ولا أشك في أنهما سيحوزان على إعجابك. أما فيما يتعلق بشخصي فإن قواي الجنسية معقولة جداً لرجل متهتك في مثل عمري لم يتعاط حتى الآن أية مقويّات!. وأرجو ألا تكون صراحتي جارحة لمشاعرك فالأمر مهم ولا يمكن لأي منا تجاهله. أما ما تبقى فعليك أن تكتشفيه بنفسك. وأعدك أن تكون اكتشافاتك مثيرة بحيث لن تندمي أبدا..
ولم تندم . عاشت معه ثلاث سنوات انقضت بلمح البصر رغم كل ماحفلت به من أفراح وأحزان ومتع ومنغصات. بدأتها بغبطة طفلة مدهوشة وأنهتها تحترق من الألم وهي تراقبه يذوب كشمعة بعد أن تمكن منه السرطان مواجهاً مصيره بصلابة الرسل.
ليست هناك كلمة دقيقة تصف بها مشاعرها نحوه. كانت مزيجا من الود الذي لم يرق إلى مرتبة الحب ، والتقدير العميق لشخص فريد من نوعه، والعرفان بالجميل لفضل غمرها به أبداً، والافتتان بنمط من الحياة استثنائي . اعتبرتها حبا عقلانياً قائماً على تبادل المصالح المشتركة النبيلة،إن كان هناك مثل هذا الحب!. فهو وفر لها،كما توقعت،الأمن والاستقرار والثقة والطمأنينة، فبدا لها أحياناً ، وهذا مالم يغب عن ذهنه، أقرب إلى أب عطوف منه إلى زوج متطلب نزق. وهي منحته الحيوية فأضفت على سني حياته الأخيرة الإشراق والبهجة والرضى.
فتح أمامها أبواب عوالم جديدة كل الجدة فانغمست فيها تعيش كما لم تعش قط سابقاً . تذوقت حلاوتها ومرارتها. عرفت نبلها وحقارتها. لمست خفاياها وأسرارها، ورأت سموها وانحطاطها. غشت أرقى الفنادق وتسللت إلى كهوف الجنس. قادها في متاهات اللوفر وتسلق معها قمم الآلب .. سهرت مع وزراء ورقصت مع تجار أسلحة وحشيش ولعبت القمار في كازينوهات مونت كارلو واشترت التحف من مزاد ساوثبي اللندني. ألبسها زيا كنعانياً وقلدها بالجواهر الثمينة وقدمها إلى الطبقة المخملية الفرنسية باعتبارها أميرة فلسطينية من سلالة الملوك الكنعانيين فجسوها محبوسي الأنفاس غير مصدقين أنها من لحم ودم وجعل الجالية العربية تستقبلها بحماسة طفولية وهو يؤكد أنها زعيمة أخطر خلية فدائية عرفتها القدس!. و أوقعها ذلك الزعم في مشاكل غير محسوبة مع الأمن الفرنسي الذي استدعاها للتحقيق وكان يمكن أن يعتقلها أو يبعدها لولا نفوذه واتصالاته الواسعة!.
وكان أكثر ما أدهشها انكبابه على العمل وإرهاقه نفسه في ملاحقة أعماله وكأنه نسي، أو تناسى نبوءة العرافة السوداء فلم يعد إلى ذكر الموضوع معها مرة ثانية . وبدورها كادت تنساها لولا ذلك الحزن الشفيف الذي لم يفارق عينيه ليذكرها دائماً بأن ثمة غموضاً أقرب أحياناً إلى الشذوذ المبهم، يضفي ظلالاً قاتمة على حياته. خطر لها أن قصة العرافة ونبوءتها ليستا سوى كذبة اختلقها لأمر مافي نفسه، وعلى الأرجح لتهيئتها نفسياً لتقبل فكرة أنها لن تمضي معه سوى عامين أو ثلاثة ثم يتخلى عنها بعد أن يكون اكتفى منها.
تمكنت منها تلك الأفكار وتحولت إلى وسواس خناس ولما يمض العام على زواجهما. حاولت طمأنةنفسها بأن رباطهما الكنسي يقيد يديه عن طلاقها بسهولة لكن شيئاً لايصعب على رجل مثله . وجربت أن تقنع نفسها أنه لو طلقها فإن الأمر لن يؤثر عليها كثيراً فهي لن تقدر على البقاء بعيدة عن أولادها أكثر من ذلك ، ثم أنها قبضت الثمن، وبشكل مجز، سلفاً. لكن تلك الفكرة بالذات، لدهشتها ، أثارت لديها شعوراً عميقاً بالاستياء وجرحتها في صميم كبريائها ، فقررت أن تخرج عن صمتها مهما تكن النتيجة.
كانا يطرقان صخرة التنهدات، وهي جرف منعزل خارج مرسيليا اعتادا أن يؤمّاه في ساعة متأخرة من الليل بعد الزيادة الشهرية التي يقوم بها إلى المدينة لتفقد مصالحه واجراء فحص دوري في مشفى الدكتور روجيه الذي أجرى له عملية القلب.
جلس على حافة الجرف مطلاً على المتوسط الغارق في هدوئه المريب فخلداً إلى صمت عميق كفيلسوف يحاول حل أسرار الوجود . كانت تكتفي بالجلوس إلى جانبه لتغرق بدورها في أفكارها، لكنها في تلك الليلة الآذارية الباردة التي أرخت لبداية الشهر الخامس عشر لزواجهما، وهي سادرة في الفراغ المخيف صاغته عتمة حالكة تماهت مع هدير الموج الأجوف والتحمت مع فضاء موحش وبحر عظيم وريح باردة، التفتت نحوه لتقول بصوت مضطرب نم عن خوف فطري ساورها إزاء الجو المحيط بها:
- كأنه لم يبق غيرنا في العالم، أو كأننا انتقلنا إلى كوكب آخر.. اح .. أتوقع أن تنشق المياه عن بوسيدون يسألنا لماذا جئنا نقلق راحته!.
وإذ حافظ على صمته وجموده حسبته لم يسمعها فاقتربت منه مردفة:
- أين أنت سارح يااكرم؟ طمأنني الدكتور روجيه اليوم أنك في صحة ممتازة. أما تزال تفكر في تلك النبوءة؟ لا أصدق أن رجلاً مثلك يؤمن بتلك الخرافات.
فاجأها صوته الحالم الذي تطاير مع هبوب ريح قوية :
- تذكرني هذه المنطقة بطفولتي . كنا نسكن ضيعة صغيرة منعزلة لايزيد عدد سكانها عن المئتين . تبعد عن الشاطئ ميلين إلى الشمال من بيسان على مرمى حجر من رأس الناقورة. أغرب ما فيها، لون عدا انقطاعها عن العالم الون تربتها. ففي النهار هي جرداء كامدة لكنها في الأصيل، وإلى أن يبتلع البحر الشمس ، تستحيل إلى مايشبه صفيحة من نحاس متلألئ. لهذا السبب أسماها الناس النحاسية. ومنها أخذت كنيتي . كنا نشكل عشيرة واحدة فقد تحدرنا من صلب فلاح نشيط عمل مرابعاً لدى أحد باشاوات تركيا في منتصف القرن الماضي. انتقلت الأرض من مالك إلى آخر لكننا بقينا مرتبطين بها أبا عن جد، لم يكن يهمنا مالكها طالما أن مايتبقى من غلتها يكفي للقيام بأودنا.اعتاد أبي أن يأخذني قبل الغروب إلى الشاطئ لنسبح ونلعب. كان متعلقاً بي بقوة فقد كنت الوحيد، من دزينة أطفال أنجبهم، الذي بقي على قيد الحياة. بعد أن ننتهي كنا نجلس على صخرة بركانية سوداء متدرجة ذات بروزات مسننة تشبه الشعب المرجانية ونبقى نتسامر إلى أن يهبط علينا الليل بردائه الحريري المزخرف بنجوم لاحصر لها لكنها ذات ملامح واضحة بحيث كنت قادراً على تمييز واحدها عن الآخر واطلاق اسم محبب عليه. كان هناك الضاحك والكئيب والناعم والجحش الصغير والفأر وأبو بريص.. لو أن السماء صافية اليوم لكنت دللتك عليها. كان يلذ لأبي أن يحدثني عن أبيه وجده والجهود الجبارة التي بذلاها لاستصلاح تلك الأرض. قال إنها أخذت لونها الأحمر من الحنة التي رشتها جدته على الأرض لمنحها الخصب ، واللون النحاسي من البخور المقدس الذي أعطاه لها راهب جوال فأذابته في الماء وسقت به الأرض ليلة عيد الميلاد . حلم أبي، بأن تصبح الأرض لنا ذات يوم فلا يقاسمنا في خيراتها مقاسم . لذا قرر، رغم خوفه الشديد عليّ من التغرب، أن أذهب إلى بيسان لأنال قسطاً من العلم فلعل الحظ يواتيني فأصبح استاذاً أو محامياً وأجمع ثروة تساعدنا على شرائها . غرس في ذهني أحلاماً طموحة وراح يعدني لأكون ماعجز هو عن أن يكونه . كنت أقطع كل يوم ميلين ذهاباً وإياباً من الضيعة إلى المدرسة التي افتتحتها بعثة تبشيرية انجيلية في كرم اللوز في ضاحية بيسان. لكن سرسق سبقنا وباع الأرض إلى المنظمة الصهيونية. كنت دون العاشرة من عمري حين حضر الوكلاء يطالبوننا بإخلاء الضيعة. حدث ذلك بعد فترة من احتلال بريطانيا لفلسطين. كنا قد بدأنا نسمع عن وعد بلفور والهجرة اليهودية. فقرر كبار العائلة رفض أمر الإخلاء طردوا الوكلاء وانتدبوا والدي للسفر إلى عكا والاتصال بالزعماء الوطنيين وطلب العون منهم. بهرتني عكا بناسها وأزيائهم وفرحهم ومساكنهم وأسواقهم ورفاهيتهم حتى خلتها عاصمة المعمورة كلها. كانت المشاعر متأججة وأينما رحنا كنا نستقبل بحماسة وفيض من الوعود والعهود. لكن ما إن رجعنا إلى النحاسية حتى حضرت قوة لإخلائنا. كان علينا أن نرضخ، لكن العصبية، أو الكرامة، أو الجنون، أولا أعرف ماذا، أوقدت النيران في رأس أبي المسكين. حمل المنجل وهجم على آمر القوة فانهال عليه الرصاص يجندله قبل أن يصل إليه . تمزق رأسه و..
نفخ بقوة وصمت ينكش الصخر بأظافره مسنداً ذقنه على ركبتيه . أمسكت يده وكات ساخنة. أرادت أن تحذره من الاصابة بزكام وتطلب منه أن يغادرا.
لكنها لم تجد ذلك مناسباً . اكتفت بالضغط على يده فيما تابع بصوت رتيب:
- مضى نصف قرن على تلك الحادثة لكن تفاصيلها ماتزال منطبعة في رأسي كأنها جرت البارحة. أقسمت على الانتقام وعشت عدة سنوات موسوساً بتلك الرغبة. شكلت عصابة من أبناء عمومتي ورحنا نكمن لليهود والانكليز وسماسرة الأرض العرب. قتلنا وجرحنا أكثر من عشرة أشخاص خلال فترة تشردنا التي استمرت خمس سنوات. نظم البوليس حملة مطاردة واسعة ضدنا وسقط رفاقي واحداً وراء الآخر. أخيراً جاء دورنا لنقع في كمين يهودي بعد أن تهوّرنا وهاجمنا مستعمرة يهودية قيد الانشاء قرب النحاسية. أصيب ثلاثة منا وبقيت أنا وابن عمي عماد. حاصرونا قبل أن نصل إلى الصخرة المرجانية وعرفنا أنها النهاية. هبت عاصفة مطرية عرقلت مهاجمينا بعض الوقت فاقترح عماد أن يبقى أحدنا لمشاغلة المهاجمين ويحاول الثاني الهرب. وافقت وأجرينا قرعة حول من يبقى ومن يذهب.
ضحك بمرارة ورفع رأسه يلوح به قبل أن يستطرد:
- كان المفروض أن يذهب عماد ، فهو صاحب الفكرة ومن حقه أن يجرب حظه في النجاة بريشه أولاً، وأنا رئيس العصابة ومن يجب أن يصمد حتى النهاية مثل الربان الذي هو آخر من يغادر سفينته الغارقة. لكني جبنت . بررت الأمر لنفسي لاحقاً بأنه كان عليّ البقاء حيا لأنتقم!. نجحت في الوصول إلى الشاطئ عبر دروب أعرفها جيدا وسبحت حتى الصباح، ثم تسللت إلى لبنان وأقمت عدة أسابيع في صور قبل أن أنضم إلى زمرة من اللبنانيين الفقراء قرروا البحث عن رزقهم في مجاهل افريقيا الفرنسية. حططنا رحالنا في ساحل العاج حيث كان السعد في انتظاري .. خلال عشر سنوات صرت من كبار ملاك مزارع القهوة. كان الحصول على الأرض من أصحابها الزنوج بسهولة شرب كأس ماء. ففي المناطق الوعرة النائية التي تكاسل المستوطنون الفرنسيون عن ارتيادها كانت الأرض الخصبة البكر تنتظر أكرم النحاس ليشتريها بسقط المتاع، الخرز الملون والعاب الأطفال والمرايا والخداع.. أفكر أحياناً أنني لم أكن أحسن من سرسق والمنظمة اليهودية والانكليز. نسيت أن أبي قتل وهو يدافع عن أرض حلم أن تكون له. أول مزرعة امتلكتها اشتريتها من صاحبها بمصباح جيب ادعيت أن إله القمر يقيم فيه ليضيء لي طريقي في الأدغال . عندما راجعني زعيم قبيلته ليطالبني بالغاء عقد الشراء استعنت بكلولونيل فرنسي صادقته في الملاهي فأرسل لي قوة عسكرية قامت بطرد الرجل من أرضه وتحذير زعيم القبيلة من التعرض لي. لم يكن متهوراً كأبي ليجازف بروحه في سبيل الأرض . وكانت تلك البداية.. جرفتني الثروة في تيارها العظيم فانقلبت من شريد هارب مطلوب للعدالة إلى واحد من كبار السراة ألعب بالمال كما كنت العب بالرمال في شاطئ النحاسية. والثروة ساحرة وهائلة ياعواطف . إنها خاتم سليمان ومصباح علاء الدين والبساط الطائر معاً. وهكذا اتخذت قرارا بطي صفحة الماضي بكل مآسيه وآلامه والتطلع إلى المستقبل مصمماً على نيل العضوية في طبقة الصفوة التي تحكم العالم وتسيره حسب مصالحها ورغباتها. أتقنت اللعبة وتفوقت فيها فحق لي نيل تلك العضوية . أنت ماتزالين جديدة على عالمي ياعواطف ، لكنك ذكية إلى درجة تكفي كي تكتشفي سريعاً، ولربما اكتشفت، أن الحقيقة الأولى والأخيرة فيه هي المال. المال هو الرب الحقيقي ولارب سواه. هو الخالق والحاكم بأمره، كلمته مطاعة وأمره لايرد . وستسلمين بتلك الحقيقة سواء أعجبتك أم لا. انظري إلى اليهود كيف صاروا سلاطين زماننا لأنهم يتحكمون بالكتلة المالية الأضخم في العالم . والمال عطوف رحيم مع عباده.إنه يهبهم الحكمة والنضج والمتعة والأمان ويغري النجاح والحظ بالسير في ركابهم والقيام على خدمتهم ويعلمهم أن يتعاملوا مع الحياة بمنطق فلسفي مجرد قائم على الأرقام . لهذا فإن الأغنياء الكبار هم فلاسفة كبار بنظريات ومناهج بسيطة واضحة وكلما ازداد ثراء المرء ازدادت سعة افقه وحدة بصيرته وصار أقدر على التعامل مع عناصر الوجود واستكناه جوهر الحياة. وهكذا لم أعد أكرم النحاس ابن النحاسية الفلسطيني البسيط الساذج بل اكرم النحاس الغني القوي المتحكم بحياة الآلاف من العاملين في مؤسساتي ومصالحي والقادر على التلاعب بمصير الدول أحياناً . اكرم النحاسي الذي تمشي الدنيا في ركابي لا العكس، وصار بإمكاني الادعاء بأنني صرت قاب قوسين في القمة التي يتربع فوقها أساطين المال في العالم .. إنها أحلام مشروعة. ألا تحلمين أنت!.
فاجأها السؤال. لم تكن تصغي إلى حديثه بقدر ما كانت مأخوذة بأحاسيس الخيبة التي عبر عنها صوته. بدا لها وكأنه يناجي نفسه بصوت عال، أو كأنه يحاول تبرير قضية ما أثارها سؤالها عن العرافة السوداء. حدست أنه أجاب على سؤالها بطريقة مبهمة ، لكنها لم تنجح في التقاط ما رمى إليه. حين تلكأت في الرد عليه كرر سؤاله بإصرار من يريد جواباً.. غمغمت:
- الأحلام درجات حسب مراتب أصحابها.
- وماهي مرتبة أحلامك؟.
- الطقس يزداد برودة وقد تيبست أطرافي من هذه القعدة الطويلة.
- البرد محمول . لماذا لاتريدين الاجابة..؟!.
التفتت نحوه وتفرست فيه هينهة قبل أن تقول بحدة لم تخل من استفزاز:
- أن نعيش معاً إلى آخر العمر!.
شعت عيناه كجمرتين ودغدغتها أنفاسه الحارة وهو يغمغم وقد لامسىفمه خدها:
- هذه رغبة وليست حلماً. أسألك عن أحلامك الكبيرة.. العظمة. القوة . الثروة. الجاه..؟.
أغمضت عينيها مستكينة إلى إحساس خدري لذيذ راح يتماوج في أعطافها.
همت تقول له أنها تريد أن تمسك العالم بين يديها . لكنها أزاحت تلك الفكرة والتصقت به تحمي رأسها من الرياح التي تزايدت سرعتها:
- أن أكون سعيدة محبوبة وأن تتحرر فلسطين وأرجع إلى قدسي. أما الأحلام الأخرى فهي متروكة لكم أنتم الرجال . أحلام المرأة متواضعة بالمقارنة مع أحلامكم.
ضمها بين ذراعيه وقبلها من شفتيها بشبق ثم قال بصوت استعادت نبرته سخريتها المألوفة:
- ربما لأن أحلامي كبيرة فإنني أتوقع أن يكون سقوطها مدوياً. لقد حاولت نسيان تلك النبوءة فلم أفلح. لقد ارتبطت بنجاحي ذاته. وكأن القدر قرر أن يمارس معي لعبة قذرة لامثيل لها. أتصوره الآن واقفاً يمد لي لسانه شامتاً قائلاً: رويدك ياأحمق.. إنها مهزلة تبعث في النفس أشد حالات الغيظ والقهر.ليس المهم من يضحك كثيراً. بل من يضحك أخيراً. والقدر هو الضاحك الأخير دائماً.هذه هي الماساة المتربصة بنا من الأزل وإلى الأبد. يعرف واحدنا أنها تواكبه من لحظة خروجه من رحم أمه لكنه يتجاهلها ليمثل دوره المرسوم على مسرح الحياة. تماماً مثلما هي الحال في التراجيديات الإغريقية. أوديب الذي لعنته الآلهة قبل ولادته بدهور . ماهي اللعنات المكتوبة على كل منا؟ الآلهة لا تجد تسلية إلا في إتعاسنا فتتفنن في إنزال الكوارث بنا والتهكم علينا لتحتفل في النهاية بنصرها المؤزر بالرقص على أشلائنا الممزقة ونفوسنا المحطمة!..
أتساءل الآن من أنا؟ اكرم النحاس القوي القادر أم أكرم الصبي المشرد ابن النحاسية المغيبة تحت مستعمرة إسرائيلية في تلك الأرض القائمة على الساحل الآخر للمتوسط؟ أتمنى أحياناً لو أبادل كل ما أملكه ببيت صغير مريح يطل على الصخرة المرجانية أمضي فيه آخر أيامي..
|