لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > المنتدى العام للقصص والروايات > القصص المكتمله
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

القصص المكتمله خاص بالقصص المنقوله المكتمله


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack (1) أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 07-04-09, 02:52 PM   المشاركة رقم: 11
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jul 2007
العضوية: 33834
المشاركات: 1,230
الجنس أنثى
معدل التقييم: تمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 815

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
تمارااا غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : تمارااا المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 



- 11 -

كان عليّ أن أكون ما كنت كما كان على ما حصل أن يحصل. هو المصير الذي لا مهرب منه مهما حاول ابن آدم أن يقاوم ويتشاطر ويتملعن. منذ ولدت كُتب عليّ أن أعيش ما عشت وما سيأتي دون زيادة أونقصان. لا أميل إلى فلسفة الأمور ولكنني ألجأ إلى ذلك أحياناً محاولاً التوصل إلى تفسير أتقبل معه حتمية قدري باقتناع أو استسلام. لولا ذلك ما كانت الحياة مستطاعة بخيباتها وإحباطاتها وهزائمها.
وكنت إلى حقيقة أن طارق مناف مات. وهل هناك حقيقة أصرخ من الموت؟ كل شيء قابل للتشكيك به إلا الموت. قد نرفضه. ونكرهه ونستنكره. لكننا لا بد في المحصلة من أن نرضخ له صاغرين. فكيف إن كان هذا الموت، كما في حالة طارق، رغبة تدغدغ أكثر غرائزي الدفينة بدائية؟ لم ينزل خبر موته برداً وسلاماً على قلبي، فقد علمتني الحرب ألا أشمت بالموت، لكنني رأيت أن القدر تكفل مشكوراً بالانتقام لي ليس من طارق بل منك. لقد تماديت في تعجرفك واستكبارك وقسوتك بحيث بات لزاماً أن يتصدى لك من يكبح جماحك ويمرغ أنفك في التراب ويعيدك إلى حجمك الطبيعي. وهاقد جاءك القادر على ذلك، وبالضربة القاضية. وبموت طارق انبعثت آمالي بكل عنفوانها وضراوتها. وعدت ترافقينني حلماً أهدس به وامرأة أشتهيها وأمنية ألهث وراءها... ولكن!
كانت معارك جرش انتهت عملياً يوم تم تكليف لوائي بتمشيط المنطقة "ب" من الأحراش لتصفية ما تبقى من جيوب وفلول المقاومة. أبلغني قائد اللواء أن عليّ انجاز المهمة بأسرع وقت لقطع الطريق على أية محاولة لاستغلال المسألة إعلامياً وسياسياً ضد المملكة. كنت سأعتبرها نزهة صيف لطيفة لولا جيب صغير استعصى في المربع "ج" من مفرق جرش الجنوبي. أحاطت قواتي به إحاطة السوار بالمعصم وأمطرته قصفاً متواصلاً دون نتيجة. ما إن أحسب أنني نلت منه وأعطي أوامر الاقتحام حتى أفاجأ بزخ ناري ينصب علينا كما لو أن المتحصنين أشباح لا تطالهم نيراننا ولا ينفذ ما لديهم من ذخيرة. تحول الأمر إلى كابوس وأنا أرى كل ما حققته مهدداً بالانهيار أمام عناد زمرة مهووسة عصية على الامساك. بدا لي أن مصيري الشخصي مرتبط بالقضاء على هذا الجيب الملعون. ما عادت المسألة مجرد مهمة روتينية أنفذها بحرفنة عسكرية وبرودة أعصاب بل أضحت معركة حياة أو موت بيني وبين هذا المجهول الماكر الذي يتحداني باستخفاف متوارياً وراء قناع صخري استعصىعلى كل ما أملك من براعة قتالية وتفوق ميداني. ازداد حنقي اشتعالاً وانفعالي شراسة واللواء مضر يستدعيني ليسألني باستغراب وتأنيب عن سبب إخفاقي حتى الآن في استئصال الجيب..
أصرّ على ضرورة انجاز المهمة خلال /18/ ساعة لا غير وذلك قبل وصول لجنة عربية لتقصي الحقائق حول انتهاك الجيش لوقف إطلاق النار... رجعت وأعطيت الأمر بقصف التلة دون هوادة إلى أن يتم مسحها بالأرض. أمضيت ليلة ثقيلة وأنا أقلّب الأمر على أوجهه كافة محاولاً العثور على ثغرة أنفذ منها إلى الجيب. كانت ليلة تموزية ملتهبة راحت تشويني وتشوي كل ما حولي حتى خيل لي أن الجحيم نفسه أطبق على الكون. حين أبلغني النقيب أحمد في الفجر أن جهودهم باءت بالفشل وجدت أنني مرغم على اللجوء إلى الخيار المقيت الذي رأيته سهمي الأخير. قاومته بضراوة في البدء مدركاً خروجه الفظ على الأخلاقية العسكرية ومتحسباً من الشائبة التي قد يلحقها بسجلي المهني. لكني لم أفتقر إلى الذرائع. فالحرب بحد ذاتها فعل لا علاقة له بالأخلاق، والغاية فيها تبرر كل الوسائل. ثم إن الوزرسيقع على رأس القيادة الراغبة في الانتهاء من الأمر بأي شكل وبأسرع وقت.
استدعيت مساعدي وأبلغته أمري. اكفهر وجهه لكنه اكتفى بتأدية التحية بنزق عبر عن احتجاجه وخرج.. بعد ساعة كان زهاء خمسين امرأة وطفلاً جمعوا على عجل من معسكر الاعتقال يشكلون ترساً يتقدم قوة الاقتحام. حين وصلوا إلى عشرين متراً من التلة دون صدور طلقة واحدة أدركت أن خطتي نجحت دون سفك أي دم. شكرت الرب وغمرتني غبطة لا توصف ما إن لمحت علماً يرفرف في يد مقاتل خرج من خلف دغلة محترقة. أبلغت النقيب أحمد أنني سأفاوض قائد المجموعة بنفسي.
حين تواجهت والرجل كان كما تصورته تماماً. كائناً خارجاً من العصر الحجري بوجهه الصخري ولحيته الكثة الطويلة وشعره المتلبد كحزمة قش وثيابه المهترئة الممزقة وقد غطته طبقة سميكة من الغبار والأقذار. هذا هو غريمي الذي أعياني ستة أيام كاملة مع زمرة من المقاتلين ليسوا أقل شراسة منه. العينان فقط أشعرتاني بالرهبة. عينان كبيرتان منتفختا المحجرين مقلتاهما حمراوان بلون الدم ونظراتهما نفاذة قادحة تدل إما على ذكاء حاد أو على جنون مطبق. كنت حازماً وصلباً في شروطي. الاستسلام الكامل دون قيد أو شرط على أن يعاملوا كأسرى حرب وإلا فإن عليهم تحمل وزر مجزرة يروح ضحيتها خمسون مدنياً لا جريرة لهم. قلت له إنهم مهما صمدوا فإن نهايتهم حتمية. وأكدت له بصدق أنني أرغب في حقن دماء الجميع والخروج بأقل الخسائر الممكنة.
لفتت انتباهي مشية الرجل وهو يستدير راجعاً دون ان يتفوه بكلمة واحدة. بدا لي ارتفاع الكتف الأيمن وانخفاض الأيسر مألوفاً. تابعته بنظرات مدققة محاولاً تذكر صاحب تلك المشية.
ومضت في مخيلتي على حين غرة العينان المعروقتان متوهجتين كعيني هر. أمضيت ساعة متخمة بالقلق والهواجس بانتظار قرارهم من جهة ومحاولاً أن أتذكر أين رأيت الرجل ومن يشبه من جهة أخرى. حين عاد ليبلغني موافقته طالباً ضمانات خطية بأن يعاملوا كأسرى حرب انفجرت في ذهني صورة طارق مناف. رحت أنبش في وجه الرجل محاولاً إزاحة لحيته وشعره الطويل وندوبه. وكلما أوغلت كلما تأكد لي أن الرجل يشبه طارق مناف. اندهشت وقلقت في الوقت نفسه. طلبت من النقيب أحمد الاشراف على نزع اسلحتهم وعدت إلى مكتبي لرفع تقرير إلى القيادة. لكن صورة طارق مناف سيطرت عليّ وشتت أفكاري فاكتفيت بإرسال برقية موجزة تعلن إنجاز المهمة بنجاح ثم استدعيت النقيب وطلبت منه تنظيف الأسرى وإحضار قائدهم لمقابلتي على جناح السرعة.
بعد ساعة كان الرجل في مكتبي. وقفت مصعوقاً غير مصدق أن مخلوقين بشريين قد يتشابهان بهذه الدرجة. لو لم أكن واثقاً أن الرجل مات من أربع سنوات لأقسمت أن هذا الماثل أمامي هو طارق مناف بلحمه ودمه. ما هذه المصادفة الغريبة؟ لم تكن هناك فروقات تذكر بينه وبين طارق لولا ما خلفته المعارك على هيئة أسيري. خطر لي لوهلة أنه طارق مناف وقد قام من بين الأموات لكني سرعان ما طردت هذا الخاطر السخيف فلو كان طارق لعرفني بالتأكيد ولما ظل محافظاً على جموده. دعوته إلى الجلوس قائلاً بود:
-أنا المقدم إبراهيم نصار. يؤسفني أن الظروف لم تجمعني بك إلا في مثل هذا الموقف الصعب والمهين. كان المفروض أن نكون في خندق واحد لا في خندقين متعاديين. لقد أبليتم بلاء حسناً وصمدتم برجولة تحسدون عليها. كان بودي لو أنكم تواجهون إسرائيل بهذه البسالة والصلابة. على كل أعتقد أن كلاً منا قام بواجبه سواء عن قناعة أو تنفيذاً للأوامر. وآمل من كل قلبي أن ننتهي سريعاً من هذا الموقف...
حين ظل معتصماً بحبل الصمت دون أن يتخلى عن قناعه السميك سألته وأنا أقدم له لفافة:
-قدمت نفسك إلى مساعدي باسم غيفارا. ما هو اسمك الحقيقي؟.
-غيفارا.
رد بصوت حاد ثابت لم يوح إليّ بشيء. شعرت بغير قليل من التشويش فقررت أن ألعب اللعبة التي خطرت لي فجأة:
-سألتك عن اسمك الحقيقي الذي حملته قبل أن تحمل السلاح.
-نسيت اسمي الحقيقي.
لم أستطع التأكد من تشابه صوته مع صوت طارق. كان هادئاً وحاسماً بشكل أزعجني فنبرت فيه بحدة:
-أنت الآن معتقل وقيد التحقيق فلا تراهن كثيراً على سعة صدري!.
-أنا أسير حرب وهذا يمنحني بعض الحقوق. أليس كذلك؟.
قال بلهجة جافة أدركت معها أنه أصعب مما توقعت. فقلت ببرود وأنا أتفرس فيه:
-نحن نبحث عن زعيم عسكري يدعى طارق مناف. ألا تعرفه؟.
بدت عليه الدهشة الحقيقية وهو يبادلني النظر بحيرة قبل أن يقول بتهكم:
-لا.. هذه أول مرة أسمع فيها باسم هذا الزعيم المطلوب!.
أثارني تهكمه لكني حافظت على هدوء أعصابي وغيرت مسار أسئلتي:
-اكتشفنا أنكم لا تملكون سوى عدة مئات من الطلقات وبعض القنابل اليدوية. أين أخفيتم ذخائركم؟.
-استهلكناها كلها.
آخر مرة رأيت فيها طارق مناف كانت قبل نيف وأربع سنوات. وتحديداً في الثالث من حزيران 1967. ليست فترة طويلة لكنها كافية لإبهات صورته في ذاكرتي. حاولت استرجاعه بهيئته وملامحه وما يملكه من علامات فارقة. الأنف. الشفتان. الذقن. أذكر أن ثمة شامة في صدغه. وهو أقصر من هذا الرجل. ثم إنه كان ميالاً بطبعه إلى المسالمة على عكس هذا الرجل، فلا يمكن أن يصبح قائداً عسكرياً بين عشية وضحاها... وهناك الصوت. الصوتان ليسا متشابهين. لكن بإمكان الرجل تغيير صوته!... شعرت بالغيظ فقلت بغلظة:
-وستدّعي أيضاً أنك لا تعرف عواطف بشارة زوجة طارق وولديه غسان ونضال؟
لم تتغير تعابير الرجل وهو يجيب:
-أبداً. ولماذا عليّ أن أعرفهم؟.
-لماذا استسلمت إذن؟.
كشرّ قائلاً:
-أكنت تريدنا أن نضحي بالرهائن؟
-امتزوج أنت؟.
- لا....
-أرمل؟ مطلق؟ أولاد؟
-لماذا هذا الاهتمام الكبير بحياتي الشخصية؟.
-مجرد فضول لمعرفة خصم يثير إعجابي!.
-أنت عند وعدك إذن بأن نعامل كأسرى حرب.
-بالطبع!..
-أرجو أن تؤجل استجوابي للغد فأنا لم أرتح منذ ثلاثة أيام وأريد الاطمئنان على رجالي. ذكرني طلبه بأنني أنا أيضاً لم أرتح منذ ثلاثة أيام. صرفته ونمت كالأموات فلم أستيقظ إلا على النقيب أحمد وهو يسلمني برقية عاجلة من القيادة تطلب نقل المعتقلين قبل المساء. صحوت لكن عقلي ظل نائماً بحيث خيل إليّ أن كل مامر عليّ منذ ليلة أمس كان مجرد كابوس ثقيل ليس إلا. تنفست الصعداء وطلبت منه تنفيذ أمر القيادة لكني سرعان ما عدت إلى الواقع بكل مرارته حين سألني إن كنت أنهيت التحقيق مع قائد المجموعة.
زرته في زنزانته. كان مستيقظاً وقد بدا عليه النشاط وكأنه نام دهراً جدّد به حيويته. كان عاري الصدر فبان منكباه العريضان وعضلاته المفتولة التي تدل على امتهان قديم للحياة العسكرية، وهذا ما قضى على كل شكوكي نحوه... سألته متى انضم إلى المقاومة فأجاب منذ خلق الله آدم! سخريته مريرة واستفزازية. لم يتح لي الفرصة للتفرس في عينيه. كان يسارع إلى الهروب بهما وكأنه يخشى أن أنجح في سبر غوره. حين قلت له إن نصفي فلسطيني من جهة أمي لم يبد أي اهتمام. أدركت أنه لا يريد رفع الكلفة بيني وبينه. خطر لي فجأة إزاء الشرود الذي لاحظته في حركاته، أنه ربما يعاني من لوثة عقلية. ولا يحارب بهذه الطريقة إلا المهووسون. تساءلت في سري عن حقيقة هذا الرجل. مستحيل أن يكون مجرد فدائي نكرة جاء من المجهول ليمضي إلى المجهول عصرت ذهني مجدداً. الفارق كبير بين طارق مناف المدني المتأنق المتقلب المزاج المسالم وبين هذا المقاتل المحترف المتمرس الواثق بنفسه إلى حد الغطرسة. انبعث فيّ مجدداً نفوري وتحفظي حيال طارق لينصب على هذا الرجل. رأيت فيه بحماقة، لا بد أنها نتجت عن ظروف تلك الأيام، مشروع منانسي جديد على قلب عواطف حبيبتي المأسورة في مدينتها المهزومة والتي أنتظر بفارغ الصبر اطلاق سراحها لنلتقي مجدداً! ماذا سيحصل إن التقت به هو؟ هل عليّ أن أخوض غمار صراع جديد من أجلها؟ وتبين لي. بالحماقة ذاتها. أن كل حروبي ما كانت إلا ضد هذا المنافس بهيئتيه واسميه وشخصيتيه طارق مناف وغيفارا. من هو هذا الغيفارا؟ لا يمكن أن يكون طارق مناف. فمن يكون؟ ولماذا اختارني القدر أنا بالتحديد لأواجهه وأأسره؟.
قررت تأجيل عملية ترحيل الأسرى وطلبت من أحمد أن يحقق مع الرجل باعتباره طارق مناف. بدت عليه الحيرة وهو يسألني:
-ومن هو طارق مناف يا سيدي؟.
-ستعرف حين يعترف..
عاد بعد ساعتين ليبلغني أنه مصر على غيفارا. شعرت بخيبة أمل. كنت واثقاً أنه ليس طارق مناف فهذا ميت من أربع سنوات وعظامه صارت رميما. لكني في سري تمنيت أن يكون طارق مناف.. لعلي توهمت أنني سأستطيع أن أثأر منه آنئذ. أن أستعيد كل ما أخذه مني. عواطف وسعادتي وآمالي. لم تكن في ذهني نية محددة حين طلبت من أحمد أن يحتجزه في غرفة منفردة ويمنعه من الاتصال برجاله. لكن الفكرة تبلورت في ذهني وأنا أعد تقريري المفصل عن المعركة. زرته في منتصف الليل فرحب بي بحرارة وكأنه كان ينتظر قدومي. دخلت في صلب الموضوع مباشرة وأبلغته أنني أريد مساعدته على الهرب. لم يبد أية دهشة وكأنه كان ينتظر ذلك مني، لكنه قال بسخرية:
-وأين تريدني أن أذهب؟.
لم يستطع اخفاء ذهوله حين قلت:
-إلى بيتي في عمان...
-عش رجباً ترى عجباً!.
همس وهو ينهض متجهاً إلى النافذة الضيقة ذات القضبان الحديدية حيث راح يدقق من العتمة الحالكة. التفت نحوي بعد وهلة متسائلاً:
-وماذا يهمك من أمري؟.
-لا شيء خاص، لكن لا تروقني فكرة أن يتعفن رجل مثلك في زنزانة تحت الأرض!.
-أما تزال تعتقد أنني هذا الذي تدعوه طارق مناف؟
-الشبه غريب بينكما.
-ألا تكون تنوي قتلي بحجة محاولتي الهرب؟.
-حسبتك أذكى من أن تراودك تلك الفكرة. لا مصلحة لي في قتلك أولاً، وإن أردت قتلك ثانياً فليس أسهل من أن أفعل ذلك الآن. أتعتقد فعلاً أن هناك من يعرف ماذا يجري هنا؟.
-ولماذا تتحمل هذه المخاطرة من أجلي إذن؟.
-قلت لك السبب.
لوح بيديه في حيرة:
-وكيف لي أن أثق برجل استخدم النساء والأطفال درعاً للانتصار في معركته؟.
-المعركة التي خضناها لا تسمح لأي منا بإدعاء النبل والشهامة والأخلاق. هذا إن كان ثمة نبل وشهامة وأخلاق في أية حرب. أموافق أنت؟.
-مهما يكن فهو أفضل من التعفن... وحتى لو قتلتني فالموت أرحم من معتقلاتكم!
تمت العملية بسهولة كبيرة. في السادسة صباحاً كنا نتناول الإفطار في البيت. حين انتهينا، وقد أكل بشراهة عجيبة، أعددت له إبريق قهوة وصببت لنفسي كأس وسكي وجلسنا في المضافة المطلة على الجبل. مرت عدة دقائق بصمت ثم تنحنح:
-ما حدث يبدو أقرب إلى الخيال بحيث أشعر بالعجز عن استيعاب أي شيء. لقد هيأت نفسي للموت أو الاعتقال لكن لم يخطر في ذهني أبداً أن أنتهي في دار عدوي. أعتقد أنه صار من حقي أن أسألك من أنت وماذا تريد مني؟.
ابتسمت محاولاً إخفاء حيرتي وكنت صادقاً وأنا أرد:
-لعلي مثلك ما زلت حتى الآن عاجزاً عن استيعاب ما جرى.. أتعرف بماذا أفكر .
الآن. تفرس بي ثم هز كتفيه دلالة النفي.
-لا أخفيك أنني بدأت أشعر بجسامة وخطورة ما قمت به. لقد جازفت بتهريبك وأنا أجازف الآن بإيوائك عندي ولا أعلم إن كان باستطاعتي النوم باطمئنان واثقاً أنك لن تستغل الفرصة فتقتلني وتهرب.
ضحك الرجل بخبث:
- وكأنك تريد أن تغريني بذلك! الاحتمال وارد لكن عليك الوثوق بي كما وثقت بك. لقد أعطيتني كلمة شرف وسأعطيك مثلها. أظن أننا أكتفينا من حربنا المجنونة وأصبح من حقنا استعادة بعض طباعنا الإنسانية. وما نحن الآن إلا رجلين مرهقين ضجرين يرغبان في امرأة جميلة وضحكة نابعة من القلب علّهما ينسيان كل ما مضى.
نهض وملأ فنجانه ثانية وشرب منه متلذذاً قبل أن يردف بغير قليل من التهكم:
-كم هي غريبة النفس البشرية يا سيدي. بالكاد أصدق أنك، بكل ما تبديه من لطف ودماثة اليوم، كنت البارحة على استعداد للتضحية بعشرات الأطفال والنساء لإرغامنا على الاستسلام..
-لكل حالة لبوسها..
-دكتور جيكل ومستر هايد؟.
-في كل واحد منا يقيم هذان الثنائيان ويتبادلان الأدوار حسب الظروف والمواقف على ما أعتقد. لا أريد الدفاع عن نفسي لكن إصرارك على تذكيري بمسألة الرهائن يفتقر إلى اللباقة .. لم أجد وسيلة أخرى لإنهاء المأساة بأسرع وقت ممكن ودون مزيد من الخسائر. كان كل شيء يدل على أنكم في وضع يائس وتقاتلون دون أمل معتقدين في أن الموت في المعركة قد يكون أرحم وأنبل من الاستسلام والموت إعداماً بالرصاص. فوجدت أن الرهائن ستوفر لكم الذريعة للاستسلام بشرف.
-ولإنقاذي بشرف؟.
سألني ساخراً وعاد يجلس:
-لماذا أنقذتني؟ ماذا تريد مني؟ أحاول الوصول إلى تفسير مقنع يريحني. فكرت في عدة احتمالات. أولها شبهي بهذا الرجل طارق مناف. لكن لا علاقة بيني وبينه. ثانيها أنك فعلاً معجب بشجاعتنا أو أنك متعاطف مع الثورة الفلسطينية لكن لماذا تنقذني وحدي؟ ثالثها..
ضيّق عينيه وتضاحك بلؤم:
-أرى أن البيت تنقصه لمسة امرأة وتعشش فيه البرودة والكآبة. إنه وكر أعزب يعيش دون امرأة وأطفال. أرجو ألا تكون شاذاً جنسياً وألا أكون وجدت هوى في نفسك فأنا رجل طبيعي لا أميل إلى...
حدجته بشزر قائلاً باشمئزاز:
-كفاك سخفاً... نعم البيت كئيب دون امرأة لكن ليس لما تلغو به فلا تجعلني أندم على صنيعي معك.
-وكأنك تهددني بإعادتي إلى حيث كنت.
-يجوز. لكن ليس قبل أن أعرف من أنت يا سيد غِيفارا!.
عبس الرجل ووضع الفنجان بنزق على الطاولة:
-من أنت؟ من أنا؟ إنني غيفارا قائد الجماعة الفدائية المكلفة بالدفاع عن القطاع الجنوبي في مفرق جرش. هذا أنا لا أكثر ولا أقل.
-أين كنت في حرب حزيران؟.
سكت وحدق إليّ بثبات قبل أن يتساءل:
-ولماذا تريد معرفة ذلك؟ قل لي على الأقل ماذا تريد مني فلربما أطمئن إليك وأشفي غليلك. أرغب في أن أثق بك لكن حدسي يمنعني.
-أنت فعلاً جاحد للجميل. ألا يكفيك أنك مستريح في بيتي الآن بعيداً عن الموت والعذاب؟.
-إنها وجهة نظرك. أعتقد أنني كنت أكثر راحة واطمئناناً في الأحراش. فهناك أعرف أين أنا وماذا ينتظرني. أنا معك فلا أعرف شيئاً. لا أنكر جميلك لكنني بحاجة إلى تفسير مقنع والا فإنني أفضل العودة إلى حيث كنت.
-قد أحقق رغبتك إن تبين لي أنك لست رجلي.
-ومن هو رجلك؟
-لم تقل لي أين كنت قبل الأحراش. أريد معرفة شيء عن ماضيك طفولتك. مسقط رأسك.
-لنقل أنني فدائي مقطوع من شجرة.
-وحرب حزيران.
-أوصلتنا إلى هنا.
-تحليل رائع! أين كنت خلال الحرب؟.
-لنقل أنني كنت أتبع دورة عسكرية في دولة عربية وحين رجعت كان كل شيء قد انتهى.
-ثمة رجل يشبهك مات في تلك الحرب.
-هذه هي المسألة إذن؟ كثيرون ماتوا في تلك الحرب. لعلنا جميعنا متنا في تلك الحرب. ألم تمت أنت؟.
الثامنة صباحاً استلقيت على سريري مرهقاً كئيباً مشوش الأفكار. راح شخير الرجل يحز في أعصابي المهترئة بقسوة. انتابتني الغيرة لاستغراقه في نوم عميق كطفل هادئ البال هدّه التعب بعد يوم حافل باللعب والبهجة. ماذا يفعل في بيتي وكيف رميت نفسي في هذه المغامرة الطائشة التي قد تدمر كل ما حققته حتى الآن من مركز وشأن؟.
طارق مناف ميت فلماذا أنقذت هذا الشبيه والإم أرمي؟.
لا أخفيك أنني ذُهلت حين تلقيت رسالتك عن طريق الصليب الأحمر تتحدثين عن ملابسات اختفاء طارق وتطالبينني بالبحث عنه في الأردن. شعرت، بغير قليل من الغبطة،أن الحرب نفسها عجزت عن التفريق بيننا، بل إنها أضاعت طارق، وربما قتلته، لتظلي على اتصال بي، وبحاجة إليّ. وللمرة الأولى منذ انسحابي المهين من محور الخليل تحت وطأة الضغط العسكري الإسرائيلي، سمحت لابتسامة دافئة بأن تداعب شفتي الممرورتين من مذاق الهزيمة... ولم أقصر في بذل كل جهد استطعته في البحث عنه.
حين بلغني بعد عدة أسابيع خبر وفاته ترحمت عليه وأقمت قداساً لراحة نفسه. لشد ما وددت لو أصل إليك لأواسيك وأقف معك في تلك الظروف العصيبة.. تذكرت آخر لقاء لي معك. معكما... دبرت ساعتي إجازة رغم حالة الاستنفار القصوى وذهبت مباشرة لعندكما فاستقبلتماني بحرارة وأعددتما لي عشاء سريعاً مع بعض المازاوات الشهية وكأسي عرق. سهرنا في الحوش تحت شجرة الياسمين المتلألئة بشريط من المصابيح الحمراء مما أضفى على جلستنا جواً من الإثارة الهادئة كنت في أشد الحاجة إليه بعد أيام الاستنفار الطويلة المرهقة... استرخيت محرراً حواسي الخمس من قيودها تاركاً لها أن تصطخب بمتع ناعمة تؤطرها ابتسامة ساحرة لم تفارق ثغرك. بدوت لي وكأنك طالعة من بحر أحلامي وأنت تنضمين إلينا بعد أن أنمت طفليك. زادك الحمل جمالاً وجاذبية بحيث لم أتمالك نفسي وأطلقت آهة إعجاب قوية سارعت بلفلفتها قائلاً إنك تزدادين حسناً مما يدل على أنك ستنجبين بنتاً. علّق طارق بمرح إنه ينتظر بنتاً تكمل عقد أخويها. وأضاف إنه يتوقعها في جمال أمها وذكائه! لا أعرف سبب انقلاب مزاجي عندئذ. سيطرت عليّ الكآبة وأنا أرى السعادة التي تبديانها والتي كان يمكن أن تكون من نصيبي أنا لو.!..
رحت تتحركين بغنج وغبطة وكأنك تناكدينني وتستفزين مشاعري. اشتهيتك كما لم أشتهك من قبل قط ورحت أتميز غيظاً في سري حانقاً على الدنيا كلها. كرهت نفسي وطارق والجيش والاستنفار لكني سيطرت على أعصابي ودخلت في نقاش حاد مع طارق حول الأوضاع السياسية السائدة واحتمالات الحرب. أبدى شكوكاً حول الموقف السوري وتهديدات ناصر ونوايا الملك لكنه توقع وقوع الحرب وأمل أن يحقق العرب الانتصار حين تحق الحقيقة. لعلي كنت من رأيه لكني اندفعت إلى معارضته بحماسة مؤكداً أن تجربتي /48/و/56/ لم تتركا لدي أية ثقة في قدرة العرب ورغبتهم في القتال لهذا استبعدت الحرب تماماً.
جلست أنت باسترخاء تاركة لفستانك الأخضر الفضفاض الطويل أن يتماوج مع تعرجات جسدك مكتفية بالإصغاء وقد أغمضت عينيك نصف إغماضة وعانقت بطنك بذراعيك المرمريتين. حين بلغ خلافنا أشده عدلت جلستك وطالبتنا بأن نكف عن نقارنا ثم قلت بعذوبة أدارت رأسي إنك تؤيدين طارق فأنت متفائلة وواثقة أن الحرب ستقع وسننتصر. أضفت بثقة أنك لن تضعي طفلتك إلا في يافا مسقط رأس طارق!..
كم هي لئيمة الأقدار في سخريتها... الهزيمة وموت طارق ووقوعك في الأسر! ماذا ستقولين إن علمت أنني قنعت بالانتصار على زمرة من المقاتلين اليائسين بينهم شبيه مسحور لزوجك الراحل؟ أيكون طارق مناف بُعث في ذلك الحرش المحروق أم هي الأجساد تتناسخ بدل الأرواح في عصر أفعواني ملعون؟ ماذا يمنع حدوث ذلك في وقت تترى فيه الأنباء عن ظهور الأولياء والقديسين فوق مآذن المساجد وقبب الكنائس في العواصم العربية المدحورة المذعورة ليهرول المؤمنون خاشعين متضرعين يرفعون إلى نصب حجرية أناشيد دينية صاغوها من مخاوفهم وهواجسهم وأوهامهم... هللويا... هللويا... هللويا.... المجد لله في الأعالي وعلى الأرض الخراب وفي الناس العذاب. طارق مناف ينبعث حياً من جيب فدائي محاصر. يسخر مني ويستعيد عواطف لأطرد من ملكوت الله مجدداً!. لكنه ليس بطارق، وإنما شبة لي ..أهرّبه من الأسر وأخفيه في داري... القدر أعمى لكنه يبصر بحدة الصقر ويلعب لعبته العشواء وقد أثملته الخمر المقطرة من دماء المساكين.. يسربلني الاحساس بالعار وأنا أتلقى أمر الإنسحاب الكيفي من قطاع الخليل. القدس تسقط .. الضفة... سيناء... الجولان... حسين يبكي... ناصر يستقيل. الكل يسقط. عواطف تفر من أحلامي فزعة. طوق ناري يحاصرني فتتفتت الأرض وتهوي السماء لينسحق حلم المجد والفخار تحت سنابك جنازير صدئة. خدعوني بقولهم الحرب مكرمة أمارسها في أجواء ملحمية مهيبة تتوفر فيها كل شروط الانتصار المؤزر!.
حين صحوت من كابوسي معانياً من حالة ضنك شديد كان الرجل قد رحل. على طاولة السفرة رسالة مكتوبة على عجل بخط مشوش "صباح الخير أيها المحسن الكريم. أرحل غصباً عني حاملاً لغزاً مؤرقاً لن يقيض لي حله على ما أحسب. أظن أننا لن نلتقي ثانية إلا إن وقعت معجزة موصوفة... أشكرك على كل ما فعلته سواء كانت دوافعك طيبة أو شريرة كان بودي البقاء لمعرفة نواياك بل إنني فكرت بأن أبقى متحملاً كل النتائج لكني فضلت في النهاية أن أخمنها وأنا بعيد مطمئن البال من أن أعرفها وأنا في موقف قد لا أحسد عليه! سمحت لنفسي باستعارة أحد بناطيلك وقمصانك و/20/ دينار وجدتها في جيب سترتك. أرجو أن تعذرني وتصفح عني وإن كتب أن نلتقي ثانية فسيكون من دواعي سروري أن أردها لك مع الفوائد. سأذكرك دائماً بتقدير وحيرة. شخيرك المزعج دل على مقدار ما تعانيه من إرهاق وعلى وثوقك بي.. أرجو لك نوماً عميقاً طويلاً خالياً من الأحلام المزعجة. ودمت لصديقك غيفارا".
امتعضت لكني تنفست الصعداء لتخلصي منه. ولحسن حظي لم يثر هروبه المزعوم أي إشكال لي مع القيادة. بعد أشهر طويت صفحته معتبراً أن تلك القضية تدخل في باب الحوادث الغريبة التي ليس أمامي غير القبول بها كما هي.
الآن فقط، وبعد مضي كل تلك السنوات عرفت أنه كان تقصيراً ملحوظاً مني ألا يخطر في بالي، رغم إلمامي الواسع بمبادئ علم النفس، أنه قد يكون طارق مناف ولكن بذاكرة مفقودة ..إلا أن تلك الفكرة تبدو لي مستحيلة بقدر ما هي سخيفة. ولشد ما أذهلني انسياقك وراء وهم أنه طارق. لم أتصور قط أن ينهار بنيانك العقلي المتين لترمي نفسك في شراك أوهام لا يمكن لعقل سويّ أن يتقبلها. اعتقدت في البداية أنك ستكتشفين الحقيقة سريعاً وتعوديي إلى رشدك. لكن إصرارك على رأيك شوّشني وجعلني أشك حتى في يقيني. فكان أن قررت التدخل. راقبت الرجل عدة أيام ثم رتبت الالتقاء به أثناء انصرافه من عمله مساء أحد الأيام وبشكل يبدو معه الأمر وكأنه حصل بالمصادفة. صعق الرجل ما إن رآني ووقف فاغر الفم مذهولا وقد شحب لونه وكأنه رأى شبحاً. تبعني مسلوب الإرادة ولم يستعد روعه إلا ونحن نقتعد زاوية خافتة الإضاءة في فندق القدس. رحنا نتبادل النظرات الباردة وقد خلا وجهه من التعابير. عيناه ما تزالان على حدتهما وإن استبدلتا الحذر الشارد بالحيرة القلقة. الملامح هي ذاتها لكن الوجنتين غارتا وتغضنتا والجلد ترهل فيما غز الشيب شعره. لا أعرف إلام كنا سنظل صامتين لولا الغرسون الذي جاء يسألنا ماذا نريد. طلبت وسكي فيما اكتفى هو بالقهوة. نفخ بهدوء ثم قال بصوت مهزوز:
-ما خطر لي أبداً أنناً سنلتقي ثانية يا سيادة..؟.
ونظر إلى كتفي فقلت برفق راغباً في طمأنته:
-ابراهيم يكفي. تقاعدت منذ عدة سنوات. وأنا كذلك ما خطر لي أن المعجزة الموصوفة ستقع وأننا سنلتقي مرة ثانية يا..؟.
-عامر كمال..
-أعرف لكنني أحببت أن أتاكد... الدنيا دولاب فعلاً... لا بد للأحياء أن يلتقوا كما يقول المصريون!.
-كيف عرفت اسمي؟ كنت تلاحقني؟.
سألني بقلق فأجبت مازحاً بعد أن وضع الغرسون الطلبين على الطاولة:
-أنسيت دينك لي؟ أنا لم أنسه. مع الفوائد المتراكمة منذ /15 سنة لا بد أنه صار ثروة!.
حافظ على جديته وهو يقول ببرود:
-بحساب الفائدة الجارية والتضخم وثمن البنطلون والقميص يكون لك بذمتي مئة دينار... لكنك لم تجبني على سؤالي هل كنت تلاحقني؟..
رفعت كأسي شارباً في صحته
-يبدو أنك أنت الذي كنت تتوقع ظهوري في أية لحظة لأطالبك بديني؟.
- مجرد احتياط.
حسا من قهوته ثم استدرك بقلق:
-أي دين تعني؟.
مرت فترة صمت تبادلنا النظر فيها بريبة قبل أن أغير دفة الحديث:
-أراك في أحسن حال كأنما العمر لا يتقدم بك. صحة جيدة وشباب نضر. أظن أنك تقاعدت بدورك من ثورتك المظفرة؟.
دقق النظر في عيني يحاول استشراف مرامي. إذ حافظت على جديتي قال بهدوء:
-لم يكن ثمة مفر من ذلك. على كل حال لقد قمت بواجبي كما قمت أنت بواجبك!.
-كلنا وصلنا إلى هذه النتيجة... لا أخفيك أنك خيبت أملي. ضايقني هروبك كالحرامي من بيتي. اعتقدتك شجاعاً إلى حد المجازفة بالبقاء لإشباع فضولك.
نقر الطاولة بعقب فنجانه قبل أن يقول متضاحكاً:
-كان الوضع مربكاً ومعقداً. على كل حال شرحت لك موقفي في الرسالة. لم يكن بإمكاني تسليم أمري إلى رجل غامض كان حتى اليوم السابق عدوي الذي لا يتورع عن قتلي. آسف لاستخدامي تلك الصفة لكنك كنت عدواً غريباً من نوعه عجزت عن فهمه وإدراك نواياه. لهذا قررت أن أنفذ بجلدي قبل الوقوع في المصيدة. قلت لك وقتذاك على ما أذكر أنني أستصعب فهم التناقض بين العسكري الفظ الذي لم يجد حرجاً في استخدام الرهائن لتحقيق نصر تافه على زمرة من المقاتلين، وبين الإنسان الذي أنقذني من موت محقق لسبب لا أعرفه. أقول موتاً محققاً لأن وعدك لنا بأن نُعامل كأسرى حرب كان مجرد كلام في الهواء. لا بد أنك عرفت أن ثلاثة من عناصر جماعتي ماتوا تحت التعذيب أما الخمسة الآخرون فقد أفرج عنهم أواخر السبعينات وهم أشباه رجال ومات اثنان منهم بعد أشهر!.
أحرجني كلامه فقلت بفتور:
-أنا شديد الأسف لكني غير مسؤول عما حدث لرفاقك. لقد سبق واتفقنا أنها كانت حرباً قذرة لا مكان فيها للأخلاق والشرف، لنعف عما مضى لأن أوان الندم فات والدهر كله لا يكفينا للتكفير عن أخطائنا الماضية.
-وهل يعفو الماضي عنا؟.
تساءل الرجل بكآبة. تفرست فيه محاولاً تخمين ما يعني، فأردف:
-هذا هو السؤال! الماضي يلاحقنا ولا مهرب منه. إنه يمسك بتلابيبنا كما تمسك العنكبوت بفريستها. هل سبق لك وراقبت مهارة العنكبوت في تلك العملية. كانت الكهوف في الأحراش مليئة بالعناكب السوداء الكبيرة الشرسة. وكنت أهوى مراقبتها. إنها تكمن غير مرئية في مكان ما وراء خيوطها الحريرية المتينة. تلطي هادئة ساكنة أشبه بناسك معتكف في صومعة منعزلة يزجي وقته في التأمل والتفكير والعبادة. لكن كل شيء ينقلب رأساً على عقب ما إن تقع في الفخ حشرة ما. يدب في العنكبوت نشاط محموم وتتحول إلى وحش ضار تنقض على فريستها ناسجة حولها بمتعة خيوط الموت الحريرية. هذا هو الماضي المتربص بنا.
-إنه. حسب مثالك يتربص بسيئي الحظ فقط. ماذا في ماضيك لتخشاه حتى الآن؟.
-ألا تخشى ماضيك أنت؟.
-لا ... لقد قلت لتوك أننا قمنا بواجبنا فماذا تخشى أنت؟.
حدق إليّ هنيهة شارداً ثم ضحك وقال بسخرية:
-أنت مثلاً. قد تكون أحد عناكب الماضي...
صمت فجأة وجرع بقية فنجانه قبل أن ينظر إلى ساعته. فسارعت أقول:
-لم تجب على سؤالي!.
-وكأنك تجهل الجواب؟.
-لا أعني ماضيك في الثورة.
-أي ماضٍ تعني؟.
تساءل بدهشة صادقة أربكتني وحين تلكأت في الإجابة تابع:
-أتعرف أن زوجتي نفسها لا تعرف شيئاً عن قصتي معك. لم أحدث أحداً بها.
-لماذا؟ هل تخجل منها؟.
رمقني بحنق:
-نعم. إن ضميري ما يزال يؤنبني لأنني رضيت بإنقاذ نفسي وتخليت عن رفاقي . كان عليّ أن أبقى وأشاطرهم مصيرهم لكن عرضك أغواني وأنساني نفسي وواجبي.
-غلط... لم يكن بقاؤك ليغيّر من الأمر شيئاً.
-بل كان غيّر أشياء كثيرة. فأنا القائد ولربما كانوا اكتفوا برأسي وحدي.
قاطعنا الغرسون فطلبنا دورة ثانية من الشراب تابع من ثم:
-لا يكابد هذا الشعور إلا من يعانيه. للآن لم أنس ولم أصفح عن نفسي.
-أهذا هو الماضي العنكبوتي الذي تتحدث عنه؟.
تشاغل بقضم حبة فستق غير مهتم بالإجابة فسألته:
-وكأنك لم تعد تهتم بمعرفة لماذا أنقذتك؟.
مط شفته السفلى دليل عدم الاهتمام.
-ربما من باب الفضول لا أكثر.
-وكأنك تسعى لقطع كل صلة بماضيك؟.
-في الحقيقة أفضل أن أبقى على جهلي مواصلاً حياتي بهدوء وراحة بال.
-استسلمت إذن؟
-أهناك خيار آخر؟ وأنت... ألم تستسلم؟.
شعرت بالحيرة إذ لاحظت أن الحديث يتشعب في مسارات غير التي أريدها.. طارق مناف وعامر كمال... ثمة جناس أو طباق أو لا أدري ماذا بين الاسمين. طارق - عامر. مناف- كمال. لكن الشخصين بعيدان عن أن يكونا الشخص نفسه بعد الأرض عن السماء... من أين طلعت أيتها المخبولة عواطف بأسطورة فقدان الذاكرة؟ الرجل الماثل أمامي سويّ طبيعي لا يشكو من شيء. ومن المحال أن يكون طارقك الميت وغريمي الراحل... وبالرغم من ذلك وجدت نفسي أجيب على سؤاله:
-وأنا أيضاً استسلمت. تركت الجيش عام /75/ فقد كفتني ثلاثة حروب كاريكاتورية في سبع سنوات فقررت خوض حروبي الخاصة.
-عاقل. ويبدو لي أنك حققت انتصارات مهمة في تلك الحروب. المرسيدس التي تقودها هي أحد أوسمتك الرفيعة على ما أعتقد؟.
أغاظتني سخريته فحدجته بشزر. انكمش بلطف وكأنه يعتذر:
-ألم يحن الوقت لتفصح؟.
-بالتأكيد فأنا شخصياً مللت وتعبت من اللف والدوران. المسألة إن كنت ما تزال تذكر هي أنك تشبه رجلاً يهمني أمره وتشبهه إلى حد أنني مستعد لأقسم أنك هو رغم ثقتي أنك لست هو!.
-طارق مناف؟.
تهجأ الاسم ببطء وهو يحدق إلي بثبات فشعرت بالحيرة:
-أتعرفه إذن؟.
رشف من فنجان قهوته ثم قال ببرود:
-لا أعرف أحداً بهذا الاسم. وعلى حد علمي ليس هناك كائن يشبهني في هذا العالم سوى صورتي في المرآة، وهي خيال وهمي كما مر معي أثناء تدريسي لابني. سبق وقلت هذا لمساعدك النقيب أحمد قبل /15/سنة!.
لفتت انتباهي حدة ذاكرته فهو لم ينس اسم ورتبة أحمد رغم مضي تلك السنوات وهذا بالطبع لا يتلاءم مع قصة فقدان الذاكرة. حين خرجت من شرودي كان يراقبني باستغراب وهو يتابع:
-رغم ذلك ينتابني حالياً هاجس غريب بأن هذا الرجل يحوم حولي بطريقة من الطرق منذ اسبوعين. ورد اسمه مرتين أمامي من قبل سيدتين غريبتي الأطوار. الأولى عجوز جاءت تطلب مساعدتي في توظيف ابنها رغم أنه لا معرفة لي بها وبابنها والثانية أرملة أكرم النحاس الثري الكبير. وهي سيدة لا يستطيع أحدنا الحفاظ على ثبات رأسه أمامها. وقد عرضت عليّ العمل معها بشروط مغرية ومثيرة للريبة في آن. من هو هذا الطارق مناف وما علاقتي به وعلاقتك أنت وهاتين السيدتين؟.
تشاغلت بالشرب شاعراً بالضياع. تساءلت لماذا لايكون طارق فعلاً بالنظر إلى التشابه الكامل بينهما من جهة وإلى إصرارك على أنه طارق من جهة ثانية؟ .خطر لي أن أفرد أمامه الحقيقة كلها لأرى ردة فعله. لكن التفكير بك كبح جماحي. تناولت جرعة كبيرة من الكأس ثم قلت بلا مبالاة:
-أعتقد أنها مصادفات ليس إلا. إن طارق مناف اسم شائع ولعلك توهمت أنك سمعته من المرأتين.
-لم أتوهم.
قاطعني حانقاً بصوت ثاقب لفت نظر الرواد إلينا فارتبك وأطرق برأسه مردفاً بهدوء:
-ذكرت المرأتان اسم الرجل أمامي بشكل مقصود وكأنهما تعتبرانه مفتاحاً لكشف سر أو لغز ما. صدقني لا أعرف هذا الطارق ولا سمعت باسمه إلا في الأحراش منك وقبل أيام من المرأتين.
-وماذا كنت قبل الأحراش؟ قبل غيفارا؟.
بدت عليه الدهشة الحقيقية ثم ضحك ببلاهة:
-أأنت تمزح أم ماذا؟.
-على العكس أنا جاد جداً. ماذا كان اسمك قبل غيفارا؟.
-منذ وعيت الدنيا وأنا عامر كمال.
-ولماذا كنت مصراً على كتم اسمك؟.
حين تلكأ في الاجابة قلت راغباً في استفزازه:
-أعتقد أن هناك كمية كبيرة من عدم الصدق في أقوالك.
تجهم وضم قبضته حول فنجانه بقوة ثم غمغم باستهجان:
-أنا لست مضطراً إلى تحمل اتهاماتك المهينة!.
-لا أريد إهانة أحد بل أورد حقائق ثابتة. لقد كذبت عليّ من البداية. وأنا متأكد أنك انتحلت اسم عامر كمال بعد أحداث أيلول لتخفي شخصيتك الحقيقية.
حدجني شزرا ثم أخرج بطاقته الشخصية من جيب قميصه ودسها تحت أنفي قائلاً ببرود:
-وهذه الهوية كاذبة أيضاً؟.
-محتمل! لقد كانت الفوضى تسود البلاد أيامذاك، وكان بإمكان أي شخص أن..
-مهلاً يا رجل... مهلاً...
قاطعني بحدة واقترب برأسه مردفاً بصوت خافت:
-الآن بدأت أفهم... أنت تدعي إذن أنني صاحب شخصيتين مختلفتين. الأولى قبل معارك أيلول والثانية بعدها... يا للخيال... هذا هراء. ثم ما الذي يدعوني إلى ذلك؟ كان هناك الآلاف مثلي ولم يضطر أحد منهم إلى تغيير شخصيته سواء شارك في أحداث أيلول أو اعتبر معادياً للنظام.
-لكن ليس هناك سوى شخص واحد يشبه طارق مناف وهو أنت.
-اللعنة على هذا الرجل!. وما محله من الإعراب لتكون له هذه الأهمية بالنسبة إليكم. أهو مجرم كبير أم جاسوس خطير أم ماذا؟.
-لا أستطيع البوح بأي شيء قبل حسم الأمر.
أخذت نفساً عميقاً وأردفت بهدوء:
-مهما يكن الأمر فإنني أريدك أن تثق بي وتعتبرني صديقاً يريد لك الخير ولا تنسى أنك إن كنت ما تزال حياً فهذا بفضلي. لا أمنّنك ولا جئت لمطالبتك برد الجميل. لقد نسيت الماضي فانسه بدورك وتأكد أنني أسعى لمعرفة الحقيقة كي أساعدك على التخلص من الأخطار المحدقة بك لشبهك بطارق مناف. إن كنت طارق فسأتركك لتتحمل وزر شرورك وحدك وأنا مرتاح الضمير. أما إن كنت مجرد شبيه وهذا ما أعتقده فإنني أشعر أن من واجبي حمايتك ودرء خطر داهم عنك وعن أسرتك. إن أعداءك المتربصين بك قساة شريرون لا تعرف قلوبهم الرحمة.
كانت مجرد رمية طائشة لكنها أصابت، على ما بدا لي، نقطة ضعفه الأكبر. شحب وجهه رغم المجهود الكبير الذي بذله للسيطرة على أعصابه، وراحت نقط العرق تتفصّد من جبينه فيما ضاقت عيناه وتصلبت يداه. تيقنت إذّاك أن ثمة سراً في حياته، لا علاقة له بشبهه بطارق، تقودني المصادفة إلى نبشه دون وجه حق. خطر لي أن اعتذر منه وأرحل. وتساءلت ماذا أريد منه ومنك؟. إنه ليس بطارق مناف ولا يمكن أن يكون أما أنت فقد آن الأوان لفك ارتباطي بك وتركك لمصيرك..
استطاع أخيراً أن يتمالك نفسه ويضحك باستهتار قبل أن يقول بسخرية:
-ليس هناك ذرة حقيقة في لغوك.
ورفع يده يشير إلى الغرسون طالباً الحساب. أنزلت يده قائلاً ببرود:
- الهروب والإنكار لن يفيداك يا صديقي وعليك أن تواجه استحقاقات الماضي إن عاجلاً أو آجلاً!
سكن وتطلع إليّ بحيرة. إنه ليس طارق مناف فلماذا لا أصنع منه طارق مناف؟ ومضت تلك الفكرة في ذهني فجأة. راح نصفي الشرير، دون أن يلقى أية مقاومة، يحتل مساحة كياني كلها. نعم. ليصبح طارق مناف ولنر ماذا يحصل. ليس هناك ما أخسره أكثر مما خسرت. طلبت دورة شراب جديدة وسألته:
-ألا تشعر أحياناً أن شخصاً ما يشاركك ذاتك؟.
بدا عليه الاستغراب فأوضحت:
-كأن تتقمصك روح تشعر وكأنها جاءت من عالم آخر، أو أن تشعر وكأنك عشت حياة أخرى ومرت بك أحداث لا تذكرها تماماً، كما لو أنها... لو أنك كنت في حلم أو كابوس!.
أطلق الرجل ضحكة صفراء وقال برجاء:
-كف شرك عني يا سيدي. أنا إنسان بسيط أعيش في حالي وإن كنت أتكتم على ماضيّ فذلك لأسبابي الخاصة ولا علاقة لي من قريب أو بعيد برجلك فأرجوك دعني بسلام.
-أريد من كل قلبي أن أدعك بسلام. لكن تشابهكما يثير الشكوك والقلق والحيرة ولقد طرحت عليك السؤال بقصد اختبار فكرة خطرت لي. فأنا مثلاً أذكر أنني بعيد حرب حزيران وصلت إلى تخوم الانهيار العصبي وسيطرت عليّ حالة من الاستلاب تخيلت معها أنني لست أنا وأن ما يحدث لا يحدث لي أو معي بل مع شخص آخر غريب عني كل الغرابة.
حدق إليّ بامعان ثم رفع حاجبه الأيسر وقال بفتور:
-إنها هلوسات تنتج عن الضغط الهائل الذي يتعرض له المقاتلون ولا سيما إذا انتهت المعركة إلى الهزيمة. هي حالة مؤقتة تزول على ما أعتقد بعودة المقاتل إلى الحياة الطبيعية. بالنسبة لي فإنني والحمد لله لم أصب بمثل هذه الحالة... ولا أظنك جئتني بعد كل تلك السنوات لتناقشني في هذا الموضوع. لقد أخذنا الوقت وليس من عادتي التأخر في العودة للبيت دون إبلاغهم مسبقاً. أرجو أن تعذرني.
نهض فقلت مازحاً:
-يعجبني الملتزمون. سيكون من دواعي سروري التعرف إلى أسرتك.
صرّ ما بين عينيه وحدجني بريبة قبل أن يقول بحزم أقرب إلى التهديد:
-لا أريد زج اسرتي في تلك القضية.
وغادر وكأنه يولي الأدبار. على كل حال خرجت من هذا اللقاء وقد قطعت الشك باليقين. فهو ليس طارق. لكن الأحداث راحت تأخذ منحى أثار قلقي ولا سيما حين تكررت لقاءاتك معه. هاتفته إلى عمله أكثر من مرة فقيل لي إنه غير موجود. فلم أجد بداً من مهاجمته في عقر داره رغم تحذيره.
صعق حين فتح الباب وشاهدني. وأظن أنه كان سيغلقه في وجهي لولا مسارعتي إلى الدخول وأنا أعتذر لحضوري دون موعد مسبق. أجبره ظهور امرأته على ضبط نفسه وقدمني إليها باعتباري صديقاً قديماً باعدت ما بيننا الأيام. رحبت بي باستغراب وتقدمتنا إلى الصالون وهي تغمغم معتذرة عن الفوضى السائدة في البيت.
أول ما لفت انتباهي وجود قدر من الشبه بينها وبينك. لم يكن شبهاً حسيّاً ملموساً بقدر ما كان ايحاءً بالشبه!... لعله تمثل في الجسد الرشيق والبشرة الناعمة والعينين العشبيتين الصافيتين. كانت حسناء لكن جمالها أقرب إلى النوع المدجّن الهادئ الحيي منه إلى جمالك البري الذي يستفز رغبات الرجل ويلهب عواطفه. وعلى الرغم من أن الفارق في العمر بينكما لا يقل عن العشر سنوات فإن المقارنة كانت، كما قررت دون تلكؤ، لصالحك أنت... نعم ليست هناك امرأة مثلك ولن تشبهك امرأة. فلجمالك ذلك السحر الذي لا يستطيع رجل مقاومته. فهل صمد عامر كمال أمامك؟ حين سألتني امرأته عن صداقتنا القديمة قلت مازحاً:
-رفقة سلاح طويلة.
لم أكن أتقصد استفزاز الرجل بل كانت مجرد رغبة في دفعه لكشف المزيد من أوراقه. طافت في عينيه نظرة غضب سرعان ما سيطر عليها قبل أن يطلب من امرأته بنبرة أقرب إلى الأمر أن تعد لنا فنجان قهوة. حين خرجت استعاد جفاءه وقال باستياء:
-زيارتك غير مرحب بها يا سيدي. قلت لك إن زوجتي لا تعلم شيئاً عنك. لا أنكر فضلك لكن هذا لا يجيز لك أن تفرض نفسك عليّ بهذا الشكل. كنت...
قاطعته بهدوء:
-لا داعي لخوفك مني... اتصلت بك عدة مرات إلى عملك فتهربت مني. لذا لم أجد بداً من الحضور.
-ولم؟ ماذا تريد مني؟.
-لماذا أخفيت عليها أمري؟.
-وماذا تريدني أن أقول لها؟ أنقذني المقدم ابراهيم نصار دون أفراد جماعتي كلهم لمجرد أنني أشبه هذا المدعو طارق مناف؟ لا أعتقد أنك، على سبيل المثال، أفشيت لأحد سر انتصارك علينا!.
امتعضت وكدت أخرج عن طوري وأنا أقول:
-لم آت لنتبادل التجريح. وإن كانت زيارتي قد أزعجتك لهذه الدرجة فأعدك ألا أعيدها. كل ما في الأمر أنني أرغب في متابعة ما أعتبره قضية مشتركة بيننا... ولا تنسى أنني الرجل الذي أنقذ حياتك!.
حدق إليّ بامعان وكأنه يتساءل إلى أي مدى يستطيع الوثوق بي، حين عادت امرأته، وقد عجلت في إعداد القهوة وكأنها لاتريد أن يفوتها حديثنا، تناول منها الصينية وطلب إليها أن تسبقه إلى بيت أختها وسيوافيها بعد قليل نظرت إليه بدهشة لا تخلو من امتعاض، لكنها أطاعته وخرجت بعد أن اعتذرت مني بفتور. قلت برفق:
-أكرر اعتذاري. أرجو ألا تسبب زيارتي أي إشكال بينك وبين زوجتك... أرى أنها امرأة رائعة وأظن أنكما متفاهمان!.
أثار كلامي حفيظته على ما بدا لي. حدق إليّ بحدة ثم قال بجفاء:
-انقاذك حياتي لا يعطيك الحق في التدخل بشؤوني الخاصة. لهذا أرجوك أن تفي بوعدك وتبتعد عني. لا تحسب أنني أخشى شيئاً أو أحداً لكني مرتاح لوضعي الحالي ولا أريد لشيء أن يعكر صفو حياتي ويزعج عائلتي، وبخاصة إذا كان له علاقة بالماضي...
نفخ بقوة وعاد يحدق إليّ... طال الصمت فقلت أستحثه:
-عليك أن تثق بي..
وبدا عليه أنه حزم أمره:
-يبدو أنني مرغم على الوثوق بك! أتريد الحقيقة؟ إنها كما خمنت... بعد مغادرتي لمنزلك لجأت إلى عشيرة أمتّ إليها بصلة قرابة بعيدة فأواني شيخها إلى أن عادت الحياة إلى طبيعتها. لقد أمضيت عامين كاملين متوارياً عن الأنظار في البادية أعاني من هاجس أنني مطارد ومطلوب ثم تمكنت من استخراج هوية جديدة باسم عامر كمال.
حدقت إلى الرجل بذهول...لم أستوعب ما قال للوهلة الأولى... لكنه أردف بهدوء قبل أن يترك لي الوقت لقول أي شيء.
-تزوجت مكتفياً بالعيش في دائرة مغلقة تقتصر على بيتي وعملي. والقول نفسه ينطبق على علاقاتي. لا معارف لي سوى ما تفرضه أواصر القرابة بالنسبة لامرأتي وعلاقات الجيرة. لهذا كان من حق زوجتي أن تندهش حين قدمتك لها باعتبارك صديقاً قديماً، ولا بد أنها ذهلت حين أدعيت أنت أننا تربطنا رفقة السلاح! -أنا المذهول. وأنا الذي بت لا أفهم شيئاً... من أنت إذن قبل غيفارا وعامر كمال؟ إنك تشوّشني و... ألا تكون طارق مناف؟.
ضحك بسخرية:
-لا لست طارق مناف. كن على ثقة من ذلك...
نظرت إليه وقد أسقط في يدي... كنت محتاراً بين أن أصدق ما سمعت أو أكذب... لم تساعدني ملامحه على سبر أغواره. فعدت أسأله بإلحاح:
-من أنت وماذا تخفي كي تتستر على ماضيك؟.
-إنه ماضيّ أنا ولا علاقة لأحد به. لهذا أرجوك أن تتركني بسلام وتبلغ المهتمين بأمري أنني لست رجلهم.
نهض واقفاً في إشارة إلى أن الوقت حان لأنهي زيارتي. لكنني تجاهلته وقلت:
-وهل تعرف زوجتك كل شيء عن ماضيك؟.
-تقريباً... إنها تعرف أنني عملت مع المقاومة وشاركت بشكل ثانوي في أحداث أيلول.
-من يسمعك يحسبك جئت من فراغ قبل أيلول!
-لا.. أعرف تماماً من أين جئت.
-لكن دورك في أحداث أيلول لا يبرر كل هذا التكتم والخوف... عرفات نفسه عُفى عنه!.
حدجني شزرا ثم قال بحنق:
-لولاك لما حصل ما حصل. كنت سأعتقل كرفاقي فإما أن ألقى حتفي وإما أن أمضي عدة سنوات في السجن ثم يطلق سراحي. أنت المسؤول عن المسار الذي أخذته لنفسي بعد الأحراش..
صمت هنيهة ثم استدرك صارخاً:
-أتعرف معنى أن يتخلى رجل مثلي عن رجاله ويتركهم لمصيرهم الأسود مكتفياً بأن ينجو برأسه؟ أتعرف معنى أن أعيش منذ /15/ سنة بشعور أنني كائن نذل وضيع خان ثقة رجاله؟ إنني..
توقف وأخذ نفساً عميقاً وهو يرمقني ببغض... استأنف كلامه لكن بحدة أقل:
-أتذكر حديثنا عن الهلوسات التي تصيب المقاتل بعد الحرب؟ لقد كذبت بالقول إنني نجوت منها، على العكس، إنني ما أزال حتى الآن أعاني منها. كثيرة هي الليالي التي استيقظت فيها من نومي أرتجف فزعاً من نظرات الإدانة والإزدراء التي يلاحقونني بها. لقد حسبت أنني إن غيرت اسمي سأنساهم. سأنسى جريمتي التي أنت مسؤول عنها وأبعدهم عني. لكنهم لا يبتعدون... إنهم يريدونني أن أدفع الثمن..
استمعت إليه بهدوء لكن بريبة. بدا لي أقرب إلى ممثل أتقن دوره منه إلى رجل صادق. كان ثمة افتعال في كلامه وفي حركاته. تركت له الوقت ليأخذ أنفاسه قبل أن أقول ببرود:
-هذا لا علاقة له بما أريد معرفته.. من كنت قبل أيلول؟.
أجاب بإصرار:
-لا يعنيك من كنت.
-القضية تتعقد حتى بت أنا نفسي أرتاب في الأمر... نعم.. إن قصتك تزيد الأمر غموضاً وتبلبل أفكاري أكثر مما هي مبلبلة..
-هذه مشكلتك أنت لا مشكلتي.
قال بنفاد صبر فنهضت وواجهته بانفعال:
-بل مشكلتك. وما أدراني أنك صادق وإنك لست طارق مناف.
-لأنني لست طارق مناف..
-قد أقتنع وأوافقك الرأي. لكن هل سيقتنع الذين يبحثون عن طارق مناف؟
بلع ريقه قبل أن يغمغم:
-أتعني السيدتين وعرض العمل؟.
هززت رأسي ببطء فاردف:
-تريدني أن أعمل معها بأي ثمن السيدة عواطف بشارة!..
-ألم تتساءل عن السبب؟.
-بالطبع هي مثلك تعتقد أنني طارق مناف.
-أو تعرف ماذا تريد منك. بالأحرى من طارق مناف؟.
هز كتفيه دلالة جهله قبل أن يقول:
-في البدء حسبت أنها تظنني خبيراً متمكناً في مجالي لهذا رغبت في أن أعمل معها.
لكن بعد لقائي معك الأسبوع الماضي ربطت الأمور ببعضها و..
صمت هنيهة ثم سألني بشبه ضراعة:
-من هي عواطف بشارة أرملة أكرم النحاس ومن هو طارق مناف بل من أنت يا سيدي؟ لا بد أنك تعرف الاثنين عواطف وطارق..
تشاغلت باحتساء بقية قهوتي قبل أن أسأله:
-ألم تتحدث عواطف معك في أمور خارجة عن نطاق العمل؟.
-لا..
أجاب بسرعة وإصرار لفتا انتباهي وجعلاني أتأكد بأنه يكذب. حين هرب بعينيه من نظراتي دهمتني فكرة بأنه قد قامت علاقة ما بينكما... لا شيء يمنعك من استخدام كل وسيلة لديك لتكتشفي حقيقة الرجل، فهل اكتشفتها أيتها ال***** الصغيرة؟ أطاح بي شعور قوي بالحقد وأنا أفكر أنك تمنحينه ما أبيته عليّ لمجرد أنه يشبه طارق... لكنني تماسكت وقلت بهدوء:
-علاقتي بعواطف وثيقة جداً. إنها فعلاً تبحث عن طارق مناف... ولكن للانتقام منه. وأعتقد أنها لم تتأكد بعد بأنك هو وإلا لما كنت حياً حتى الآن.
شحب وجه الرجل ورمقني بهلع جعلني أشفق عليه لكنني أردفت:
-إنه ابن عم زوجها الأول واسمه طارق مناف أيضاً. أسس الإثنان شركة في القدس عام /65/ لكنهما سرعان ما اختلفا...وقبل الحرب بشهر قُتل زوجها واختفى ابن العم ومبلغ مئة ألف دينار. وأدت الحرب ونتائجها إلى إغلاق القضية، لكن عواطف لم تفقد الأمل في العثور على قاتل زوجها.
-إنك تخرف يا رجل!.
زعق بصوت مخنوق وهو يحدق إليّ برعب... أردف بعد وهلة وقد بدت عليه أقصى درجات الحيرة:
-تدعي أنني أشبه قاتل زوجها، وهي تبحث عنه للانتقام منه، فكيف يمكن لها أن.. أن...
أكملت كلامه ببرود:
-أن تنام معك؟.
فتح عينيه على وسعهما فيما تعابير الدهشة والذهول والخوف تتواتر على محياه:
-إنني مطلع على كل شيء وعليك أن تثق بي وتصدقني.
حين ظل صامتاً جامداً أردفت بنبرة تحذير:
-أتذكر العناكب التي كنت تراقبها في كهفك في الأحراش؟ ألم تر أنثى العنكبوت الأسود وهي تقتل شريكها بعد النوم معه؟ هكذا هي عواطف بشارة إنها شيطان في ثوب امرأة. وقد لا تكتفي بقتلك وحدك. لا شيء يردعها عن إيذاء أفراد أسرتك أيضاً!
لم يكن يصغي إليّ أو أنه لم يفهم ما قلت. اقترب مني وقال بضراعة:
-لكني لست طارق مناف ولم أكن.
-ولماذا فزعك طالما ليس هناك ما تخشاه؟.
-كيف ليس هناك ما أخشاه؟ عليّ أن أخشى كل شيء. أمعقول أن تتوافق كل تلك المصادفات معاً وفي هذا الوقت بالذات؟ ابنا العم يحملان الاسم نفسه أحدهما زوجها والثاني قاتله!.. أنا أشبه زوجها لكني عاجز عن إثبات براءتي لأنني أعيش منتحلاً شخصية أخرى. لا أجرؤ على كشف شخصيتي الحقيقية لأنني بذلك أميط اللثام عن جبني وعاري في التخلي عن رجالي!... لن يصدق أحد أنك أنقذتني لأنني أشبه طارقك اللعين هذا بل سيقولون إنني بعتهم لأنقذ حياتي. لقد ظنوا أنني قضيت في الأحراش وأنا أقاتلك واعتبروني شهيداً. فهل تريدني أن ألوّث هذه الذكرى الآن؟ الآن وبعد أن استقرت أوضاعي وخلت أن الماضي قرر إطلاق سراحي وتحريري من إساري أجد نفسي في ورطة ليست في الحسبان!. منذ تلك المقابلة التلفزيونية وأنا أعيش في خوف داهم من.. أوه.. إن عقلي عاجز عن استيعاب أي شيء..
كذلك كان عقلي. فالمصادفات، ولعلها المفارقات، أكثر من أن يتمكن واحدنا من تصديقها. وها كل شيء يسقط مجدداً في متاهة سرمدية لا مخارج لها فلا أعرف من أصدق وبمن أثق وماذا أفعل... بل ماذا فعلت!..
حين قلت له بهدوء إن عليه أن يتوارى عن الأنظار حفاظاً على نفسه وأسرته كنت واثقاً أن هذا ما سيفعله. أضفت أنني أنقذته مرة وسأنقذه ثانية. لم يسألني لماذا وماذا أريد... غريب أمره.. لقد طاش صوابه فعلاً... لقد طاش صوابنا كلنا. من هو هذا الرجل!. لن أعرف ولا يهمني أن أعرف.
أيتها المرأة الملعونة التي لم تكفي عن تعذيبي... لقد زرعت الريح وها أنتذي تحصدين العاصفة.

 
 

 

عرض البوم صور تمارااا   رد مع اقتباس
قديم 07-04-09, 02:54 PM   المشاركة رقم: 12
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jul 2007
العضوية: 33834
المشاركات: 1,230
الجنس أنثى
معدل التقييم: تمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 815

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
تمارااا غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : تمارااا المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 

- 12 -

طوت عواطف رزمة الأوراق:
-والآن؟.
كانت طبيعية جداً ومتماسكة أكثر من أي وقت مضى من الليل. في عينيها نظرة غضب هادئ أقرب إلى اللامبالاة. قدمها اليمنى تنقر الأرض دون صوت. تبادلوا النظرات فيما بينهم بوجوم وتقطيب وكأنما يستمهلون أنفسهم لاستيعاب ما سمعوه. حين طال الصمت قالت بهدوء:
-لا أصدق كلمة واحدة. لقد فقد عقله وصار يخرف!.
كشر غسان وتنحنح قبل أن يقول ببرود:
-لست من رأيك... قصة غريبة لكنها ليست أغرب من قصتك. وأظن أن المسألة باتت واضحة جداً يا عزيزتي. هذا الرجل ليس طارق مناف. إنها خيبة أمل قاسية لكن عليك التسليم بالأمر. لقد التبس عليك...
-لا.
قاطعته عواطف وهي تخبط الأرض بقدمها بانفعال. نهضت مردفة بحدة:
-أنت لا تعرف ابراهيم كما أعرفه. إنه لا يتورع عن شيء للانتقام مني وإفشالي. الحقد ينقط من كل كلمة كتبها... لم يجرؤ على مواجهتي فترك قريته وهرب. أتصدق حقاً قصته عن الأحراش والمعركة وإنقاذه الرجل لأنه يشبه طارق؟ لو كانت حقيقية لكان قتله بكل برودة دم. أم تريدني أن أصدق أن الرجل صدق فعلاً أنني أريد قتله لأنه... اوه.. ليس هناك عاقل يقبض ذلك اللغو..
-لا أظن أنه بقي عقلاء بيننا!.
قال يوسف بتقريرية وهو يمد يده إلى عواطف طالباً الرزمة. لكنها تمنعت:
-ثمة خصوصيات أفضل الاحتفاظ بها لنفسي.
حدجها بدهشة خالطها غير قليل من الاستياء ثم أرجع يده بخيبة:
-الم تقرئي لنا كل شيء إذن؟.
-المهم فقط.
ردت بجفاء وهي تطوي الأوراق. قال يوسف بضيق:
-هذا حقك. يبدو أننا نطلع من متاهة لندخل في أخرى أسوأ ولا أعرف إلى متى ستستمر هذه اللعبة المزعجة. لقد حان الوقت لنخلص ونرتاح قليلاً..
وتدخلت عطاف تؤيده:
-كلنا تعبنا ونريد أن نرتاح قليلاً. أنت محقة فيما يتعلق بابراهيم يا أمي. إن قصته فعلاً ضرب من الخيال، وهو خيال واسع على ما يبدو لي لكنه سقيم وغير مقنع. إنها مكيدة من ابراهيم.
-والنتيجة؟ هل سنرجع إلى قصة إبريق الزيت من جديد؟.
دمدم غسان بعصبية ثم نهض وواجه عواطف:
-ما خلصنا بعد من مشكلة طارق حتى وقعنا في مشكلة ابراهيم. ولماذا يكذب؟ ما ذكره يفرض عليك إعادة حساباتك من جديد.
-ماذا تعني؟.
-ما أعنيه واضح. لقد بنيت قضيتك على نظرية مفادها أنه طارق فاقد الذاكرة. وعلى هذا الأساس جمعتنا لنتفق على أسلوب معين للتعامل معه. وهذا يدل على حكمة معهودة فيك أولاً،وعلى أنك لن تقدمي على أي تصرف لا ينال موافقتنا جميعاً ثانياً. وأنت نفسك اعترفت بوجود كمّ هائل من الصعوبات والعراقيل أمامك..
أجال بصره فيما حوله ليرى تأثير كلامه ثم استطرد بلطف:
-والآن طرأت مستجدات لا يمكن لأحد تجاهلها. هناك ثلاثة أشخاص فقط يعرفون طارق وقادرون على التحقق من شخصه. أنت ومريم وابراهيم. وعلى شهادات هؤلاء الثلاثة يتحدد موقفنا. وعندما يقول أحدهم إن الرجل ليس طارق مناف فإنني مضطر لأخذ كلامه بأكبر قدر من الاعتبار وإغلاق القضية نهائياً...
-حتى إن كان هذا القائل شاهد زور؟.
تساءل نضال بنبرة ساخرة فرد غسان بحنق:
-لا أعتقد أنه شاهد زور. ثم كفانا تحاملاً على الرجل. من العار أن ننسى أفضاله علينا وخدماته لنا كل هذه السنين!.
لوحت عطاف بيدها وقال بضجر:
-لم يبق إلا مواجهة عامر كمال إذن. وأنا واثقة أننا لن نخسر شيئاً.
-لا..
زعق غسان محتداً وهو يستدير نحوها:
-لا أعهدك ساذجة إلى هذا الحد يا صغيرتي. لقد ناقشنا تلك الفكرة بما فيه الكفاية ولن أسمح بأية مجازفات. لا أستطيع تقبل هذا الرجل أياً كان كأب لي أو كزوج لأمي إن كان عامر كمال فلا علاقة لنا به ولا علاقة له بنا، وإن كان طارق مناف فهو نسينا ولم تعد له أية علاقة بنا أيضاً. هو نفسه لم يعد يريد الماضي بسبب حادثة الأحراش!.
-أفهم من هذا أنك حسمت أمرك؟.
سألت عواطف ببرود فرد بتحد:
-نعم!.
حافظت عواطف على ملامحها جامدة وهي تلتفت إلى نضال ثم عطاف.
-وأنتَ... وأنتِ؟.
بدت الحيرة على الاثنين وتجاهلا الإجابة. فقال غسان بازدراء:
-إنهما أجبن من أن يقولا رأيهما.
اكفهرت عواطف وصرخت فيه وقد فقدت السيطرة على أعصابها.
-أنت الجبان والعاق يا غسان. إنه أبوك الذي نتكلم عنه. أتدرك ماذا يعني أنه أبوك وماذا يعني أن تنكره وترفضه؟ ستكون ملعوناً بقية عمرك...
حدق إليها بحنق ثم هز رأسه دلالة يأسه وقال بتهكم:
-لا مشكلة ما دامت اللعنة ترافقنا منذ ولدنا... لم يعد لديّ ما أقوله ولا أرى أي معنى لبقائي افعلي ما يحلو لك لكن لا تستنجدي بي حين... حين..
استدار وغادر الغرفة بخطا سريعة دون أن ينظر إلى أحد. تبادلوا نظرات واجمة فيما مريم تقترب من عواطف وتقول مواسية:
-لا تغضبي منه يا عواطف... لا أحسبه يقصد الإساءة إليك.
أشعلت عواطف سيكارة بيد مرتجفة وقالت بحنق:
-سايرته أكثر مما يجب فحسب حلمي ضعفاً وصبري قلة حيلة. يريد أن يكون رجل العائلة فليكن. هذا حقه لكن ليس على حسابي. لن أسمح لأحد بفرض وصايته عليّ... لا أبي ولا طارق ولا أكرم أشعروني في يوم من الأيام أنهم أوصياء عليّ، ولن أسمح بذلك لأبنائي. إنني ما زلت سيدة نفسي وسأبقى كذلك..
تنحنح يوسف ثم قال بحذر:
-أنا مع رأي مريم يا عواطف. غسان عصبي وعنيد لكنه طيب القلب.
-منذ زمن طويل لم أر منه هذه الطيبة!.
تمتمت بسخرية مريرة فنهض يوسف واقترب منها قائلاً بحدة:
-أنت تقسين عليه كثيراً. لقد عشت معه شهرين في بيروت وبإمكاني الإدعاء أنني أعرفه جيداً. حين يعيش الإنسان الستين يوماً التي عشناها في الحصار محاطاً بالموت والألم والخوف فإنه لا يستطيع إلا أن يكون على حقيقته دون رتوش وأقنعة. غسان رجل شهم وشجاع وهو يحبك ويحترمك أكثر بكثير مما تتصورين. مشكلته الوحيدة هي.. هل يمكنني أن أتكلم بصراحة؟.
حدقت إليه هنيهة بإمعان ثم هزت رأسها بالإيجاب:
-تكلم بما تشاء..
-مشكلته هي أكرم.
نفخت عواطف بنفاد صبر:
-لم يعد غسان طفلاً... من المعيب وقد صار في الخامسة والعشرين أن يظل متحاملاً عليّ لأنني تزوجت أكرم..
-إنه ليس متحاملاً... لكن زواجك سبب له عقدة ما يزال يعاني منها حتى الآن وهذه العقدة هي التي تفسر موقفه منك. إنه يخشى أن يلدغ من نفس الجحر مرتين لهذا يرفض أن يمثل دور الشاهد الأخرس في تلك المسألة. وهو لن يسكت لأنه مقتنع أن الرجل ليس طارق.
-يجب أن ننتهي من تلك القضية. إنه طارق وكفى..
زمجر يوسف بحنق وقال بجفاء:
-غير معقول عنادك يا عواطف. وكأنك تريدين فرض الرجل علينا فرضاً!؟.
-ليس هذا صحيحاً. لو أردت ذلك لتصرفت بطريقة أخرى. كنت أبلغته الحقيقة ووضعتكم أمام الأمر الواقع.
-لو فعلت ذلك ما كنا وصلنا إلى هنا يا ماما!.
لم يفاجئهم تدخل ناديا في الحديث خارجة عن الصمت المطبق، وإنما فاجأتهم الصفة التي استخدمتها في مخاطبة عواطف. بدت الدهشة على وجه هذه الأخيرة ودققت النظر إلى كنّتها محاولة سبر غورها. تابعت ناديا بود موجهة كلامها إلى عواطف:
-كنت مقررة أن أحتفظ برأيي لنفسي مكتفية بالاستماع وذلك خوف أن يفسر أي شيء أقوله على غير معناه. فأنا حديثة العهد بكم ولا أستطيع الزعم أنني أعرفكم معرفة طيبة. لكني لو كنت المعنية بالأمر، أي مكانك يا ماما، لتصرفت حسبما يمليه عليّ رأيي كنت واجهت الرجل رأساً لرأس فإن تبين أنه هو أعلنت الأمر وإن وجدت أنني مخطئة أغلقت الموضوع وجنبّت نفسي المحنة التي تعانينها الآن!.
ابتسمت عواطف بامتنان لكنها سارعت تقطب ويوسف يقول بهزء:
-إن عزيزتنا ناديا لم تعمل سوى دق الماء وهو ماء! لا أريد أخذ دور غسان في المعارضة والتشكيك. لكن لا مفر من قول ما يجب قوله. أرى أن القضية باتت أشبه بالمماحكة الفكرية بما تطرحه من احتمالات وافتراضات. دعونا نقرر الآن أنه طارق وقد استعاد ذاكرته فما هي الاحتمالات القائمة؟.
وجه السؤال إلى ناديا التي تفرست فيه بحيرة فأردف ملتفتاً إلى عواطف:
-الاحتمال الأول -وهو الأرجح والأقوى والمنطقي- أن يقرر البقاء مع أسرته الحالية فهي أولى به وأقرب إليه منكم. أرجو ألا يزعجك كلامي يا عواطف؟.
سألها بحذر فهزت رأسها نفياً... استطرد:
-سيبقى إذن معها لأن استعادته الذاكرة لا تعني بالضرورة أن يستعيد معها حبه القديم لك ولغسان ونضال فهو لا يعرف عطاف. أو أن يتبخر حبه لزوجته وأولاده الجدد وفي هذا السياق سيفضل أن يستمر كعامر كمال كي لا يتورط في المشاكل والتعقيدات القانونية المرتبطة بتغيير هويته... أما الاحتمال الثاني...
صمت لحظة وهو يتفرس في عواطف:
-الاحتمال الثاني- وهو ضعيف جداً- أن يقرر العودة إليك لأنه وجد أن مكانه الطبيعي بينكم باعتباره طارق مناف لا عامر كمال.. والآن أفترض أنني طارق مثلما افترضت ناديا أنها عواطف. فما هي النتائج المترتبة على قراري باستعادة شخصيتي الحقيقية؟
حسب السجلات المدنية في القدس أنا ميت من عشرين سنة. فما هي الفرص المتاحة لي للعودة إلى تلك السجلات لإثبات أنني لم أمت بل أنا حي أرزق؟ ولا فرصة!. إذن لنترك القدس ونحصر عملنا في عمان. في سجلاتها أنا عامر كمال. فما هو الدليل الذي سأقدمه لإقناعهم أنني طارق مناف وأن عامر كمال ما هو إلا أكذوبة؟ وما هي المشاكل القانونية والأمنية التي سيثيرها إدعائي هذا. هل هو اسم مزور اخترته لا على التعيين أم يوجد مواطن باسم عامر كمال انتحلت شخصيته! إن كان يوجد فماذا حصل له؟ لا بد أنه مات حتى تمكنت من وضع يدي على وثائقه. فهل مات ميتة ربه أم قتلته لأنتحل شخصيته مستغلاً أحداث أيلول وموقعي في الثورة؟وحسب قصة ابراهيم- وأميل إلى تصديق قسمها الأول رغم كل شكوكي في الرجل وحيرتي إزاء تصرفاته ومواقفه- فإنني أخفي كثيراً من الأسرار عن تلك الفترة من حياتي فهل قمت بكل ذلك بمفردي وأنا فاقد الذاكرة أم أن هناك من ساعدني؟.
سكت يأخذ نفساً عميقاً قبل أن يستدرك:
-لا أريد اتهام هذا الرجل أو التشكيك به، بل أعرض لأولى النتائج التي سيثيرها إعلان أنه طارق لا عامر. أنتقل بعد ذلك إلى مسألة مهمة أيضاً وهي دين الرجل. بفقده ذاكرته لم يتذكر حتى اسمه. فكيف تذكر أنه مسيحي؟ وكيف عثر على عامر كمال المسيحي لينتحل شخصيته؟ ثم كيف نجح في الانضمام إلى الثورة وهو فاقد الذاكرة؟.
وسارعت عواطف تقاطعه رغم اعتراضه:
-تفسير ذلك بسيط. لا علاقة للذاكرة بالغريزة لدى الإنسان. يرى الدكتور جلال أن الدين طقس إنساني أقرب إلى الغريزة منه إلى الفعل العقلاني الواعي. الإنسان يكتسب دينه كما يكتسب اللغة التي يتكلمها والطباع التي ينشأ عليها فيترسخ في عقله اللاواعي. فلو افترضنا أن طارق فقد الذاكرة في القدس لكان محتملاً جداً أن تقوده قدماه بشكل غريزي إلى بيته. إن حالته ستكون كحالة بعض الحيوانات التي يبعدها أصحابها إلى مناطق نائية لكنها تعود معتمدة على غريزتها. أما طارق ففقدها في بيئة غريبة عليه وضاع تماماً. لكنه ظل بالغريزة مسيحياً ولعله لجأ، أول ما لجأ إلى أول كنسية مرّ بها. أما انضمامه للثورة، إن صدقنا قصة ابراهيم، فقد كان كل من هب ودب يومذاك قادراً على ذلك دون صعوبة. كانت الثورة تبحث عن مقاتلين لا عن حكماء وأبناء ذوات وزعماء!.
خنخن يوسف باستسلام:
-يبدو أن لديك جواباً لكل سؤال!... دعيني الآن أنهي مرافعتي- قال بسخرية ثم استدرك بجدية- أرى أن المسألة تعرض نفسها علينا في صورة فلسفية ذات متعة ذهنية لا يمكن مقاومة إغراءاتها. إنها تقودنا إلى طرح تساؤلات حول الوجود والإنسان والعلاقات الاجتماعية والأسرة والالتزام والحب..
صمت هنيهة وقد بدا عليه الشرود ثم تابع:
-كل ما قلته قبل قليل قام على افتراض أنني طارق... إنه افتراض ليس إلا... أما الواقع، الواقع الملموس والحقيقي، فهو أن الرجل عامر كمال ليس إلا. وكل شيء يدل على ذلك. لقد انضم إلى الثورة وقاتل في صفوفها ونجا من أحداث أيلول بسبب ذلك الشبه بينه وبين طارق. أما لماذا أنقذه إبراهيم بدل أن يقتله فلأنه أثار فضوله وأراد أن يكتشف حقيقته. لكنه أفلت منه وعاد لممارسة حياته الطبيعية وتزوج وأنشأ أسرة ومن الممكن جداً أنه غير اسمه للتغطية على ما اعتبره جريمة اقترفها بحق رجاله.أما ادعاء ابراهيم بأنه أقنع الرجل بأنك تلاحقينه للثأر منه فهذا ما لايمكن لعاقل أن يأخذ به...
تهدج صوته وكانت كلماته الأخيرة غير واضحة. أطبق صمت متوتر ما إن انتهى وراح يجيل بصره فيما حوله. حافظت عواطف على جمود تعابيرها إلا أن شفتيها المزمومتين ويديها المطبقتين دلت على توترها. أجالت نظرة سريعة فيهم ثم قالت بخواء:
-قد يكون ما قلته صحيحاً نظرياً... لكن الحياة ليست نظريات جبرية منزلة حيث الأبيض أبيض والأسود أسود والـ..
سكتت تأخذ نفساً عميقاً وقد بدا عليها الذبول. مسحت عينيها اللتين ترقرقتا بالدمع ثم هزت رأسها بقوة أشعلت سيكارة:
-قلت لكم وأعيد أنني راودتني كل الأفكار والشكوك والافتراضات التي راودتكم وهي منطقية. بل إنها المنطق نفسه. لكن متى كان المنطق هو القوة السائدة في هذا العالم العجيب الغريب؟ أي منطق في أن أعيش أرملة وزوجي حي؟ أي منطق في أن نطرد من وطننا ونفقد بيتنا وسعادتنا وأمننا كي يحل محلنا أعداء يبحثون عن وطن ومأوى وأمن على حسابنا؟ أي منطق في أن يموت الآلاف من التخمة والملايين من الجوع؟ إنني أرفض هذا المنطق وكل ما أعرفه أنه طارق وليذهب المنطق إلى الجحيم.
لوحت بيديها واستدركت بحدة:
-أنتم تستخدمون منطقكم في خلق افتراضات تؤكد استحالة أن يكون طارق. أما أنا فأستخدم منطقي في البحث عن افتراضات تؤكد أنه طارق.
اختتمت كلامها بنبرة مسرحية فنهضت عطاف واقتربت منها قائلة بصوت متهدج:
-لنذهب ونقابل الرجل ما دمت على هذه الثقة..
-أنت معي إذن؟.
-حتى النهاية.
-انصري أمك ظالمة ومظلومة!.
غمغم يوسف بسخرية فيما نضال ينهض ويغمغم بقلق:
-يبدو أنكما نسيتما غسان!.
تطلعت إليه عواطف بحيرة فأوضح:
-الأمر واضح يا أمي غسان لم يترك لك أي خيار. إما هو وإما هذا الرجل.
ازداد شحوب وجه عواطف:
-لا تبالغ لن يبتعد كثيراً وسيرجع بأسرع مما تحسب.
-أنت متفائلة أكثر مما يجب. أنسيت أم تتناسين؟
-وأنتما تتكلمان بالألغاز!.
قالت ناديا بحيرة وهي تجيل بصرها بين عواطف ونضال. بدا على هذا التردد ثم أوضح متجاهلاً نظرة التحذير الصارمة التي رمته بها أمه:
-ناديا من العائلة ومن حقها أن تعرف أسرارنا الصغيرة، وكذلك يوسف. مشكلتنا هي أن أزماتنا العائلية تنتهي دائماً بمصائب! بعد زواج أمي ترك غسان المدرسة وتورط مع زمرة من رفاق السوء واعتقل معهم بتهمة السطو على أحد المنازل. ولولا نفوذ أكرم والرشوة الكبيرة التي دفعها لكانت العاقبة وبيلة. وبعد بيروت أدمن المخدرات. لكن ابراهيم أجبره على الإقلاع عنها وأخضعه لعلاج طبي. والله وحده يعلم ما قد يفعل الآن!.
-لن يفعل شيئاً... اطمئن يا أخي الصغير.
أجفلوا على صوت غسان وهو يدخل راسماً ابتسامة صفراء على وجهه. استدار إلى ناديا مردفاً قبل أن يتغلبوا على المفاجأة.
-ها قد عرفت كل أسرارنا الصغيرة والخطيرة يا زوجة أخي العزيزة!.
سارعت عواطف تقف بينه وبين نضال قائلة بلطف:
-كنت واثقة أنك سترجع ولن تتخلى عني!.
حدجها بنظرة غامضة ثم قال ببرود:
-رجعت لأنني التقيت بإبراهيم..
-أرجع هو أيضاً؟.
سألت ناديا بصوت مفعم بالحيرة. فهز غسان رأسه نافياً:
-لا. إنه راحل كما أكد لي، راحل دون عودة.
-إذن؟
سأل نضال بنفاد صبر. فأطلق غسان ضحكة قصيرة ساخرة:
-يبدو أنه لن تشرق الشمس إلا ونكون قد صرنا كلنا على أبواب الجنون... وجدته ينتظرني في السيارة. قال إنه كان واثقاً من أنني.. لا يهم.
فقدت عواطف أعصابها فصرخت به:
-وما المهم إذن؟.
تلكأ غسان هنيهة ثم قال بهدوء:
-سألته عن قصته مع عامر كمال فأقسم إنه لم يقل إلا الحقيقة...
وسأله نضال:
-ورجعت لأنك صدقته؟.
-لأنه... لأنه أبلغني أنه قرر إسدال الستارة على قضية طارق مناف. ألم أقل لكم إننا سنصاب بالجنون جميعاً! بل لعلنا فقدنا عقولنا وانتهى الأمر ... يبدو لي وكأننا نتخبط في كابوس خانق ليس فيه إلا الهذيان والضياع قال أبراهيم إنه أقنع عامر كمال بمغادرة الاردن إلى الطرف الآخر من المعمورة.
بدت الحيرة بأجلى معانيها على عواطف التي أمسكت بساعده وسألته بقلق:
-ماذا تعني؟.
-أوهمه أن بقاءه في عمان بات يشكل خطراً داهماً على حياته ما دمت تلاحقينه.. لا أعرف كيف نجح في ذلك لكني صرت مقتنعاً أن هناك سراً غامضاً في حياة هذا الرجل أرغمه على الرضوخ... بصراحة لست أدري... لست أدري!..
ضغط على يد عواطف وأردف وقد خالطت صوته نبرة إشفاق:
-قد تقولين إنها ذاكرته المفقودة التي فشل في استعادتها فخشي أن يكون مطلوباً فعلاً للعدالة بسبب جريمة اقترفها كما أوهمه إبراهيم. وقد يكون صاحب سوابق حقيقية وقد خاف افتضاح أمره. أو أن للأمر علاقة بدوره في المقاومة وأحداث أيلول. أو أنه مجرد إنسان ساذج وغبي استطاع إبراهيم أن يتلاعب به!... وربما ليس هناك شيء من هذا كله وقصة إبراهيم مجرد كذبة كبيرة!... لا أعرف... لا أعرف... المهم أن الرجل رحل... هاجر... وسفره بهذه السرعة يؤكد أنه كان مستعداً دائماً لمغادرة البلاد لدى أي خطر.
-إبراهيم كذاب.. إنه.. إنه كذاب وضيع...
فحّت عواطف وقد امتقع لونها..
- ليس هناك سبب واحد يجعله يخشاني أو يهرب من ماضيه كما يدعي إبراهيم قابلته الأحد الماضي وكان طبيعياً جداً و... أبلغني أنه قرر قبول الوظيفة وسيباشر بالعمل ما إن يرجع من دمشق فهو... لقد... لقد... أنا لا أصدق... إنني... مستحيل. سيرجع غداً وإبراهيم يكذب وأنا..
-اهدئي... اهدئي أرجوك يا أمي.
قاطعها غسان بإشفاق.
-لا أعرف ماذا يريد إبراهيم ولماذا فعل ما فعل. لكني أعتقد أنه صادق هذه المرة يا أمي. الرجل لم يذهب إلى دمشق كما قال لك. وإنما إلى أبعد منها بكثير... إلى كراكاس
اقتربت عطاف منه قائلة بسخط:
-أنا أيضاً لا أصدق. لا يستطيع الرجل أن يترك كل شيء فجأة ويهاجر بهذه السهولة إلى كراكاس.
-لكنه هاجر... شقيق زوجته مغترب في فنزويلا وقد أرسل له فيزا الهجرة منذ عدة أشهر لكنه تريث لافتقاره إلى المال والحماسة. ويبدو أن إبراهيم وفرهما له بسخاء. دفع له ثمن بطاقة الطائرة وأقرضه ألف دولار. أراني إبراهيم صورة عن الفيزا والبطاقة. وستلحق به امرأته في نهاية الصيف بعد أن تنهي معاملة استقالتها من الوكالة وتصفّي أمورها المالية.
-هذا هو انتقام إبراهيم إذن!.
غمغم يوسف بصوت مخنوق. نظرت إليه عواطف هنيهة بشرود ثم اتجهت إلى النافذة. رفعت الستارة وألقت نظرة ساهمة إلى الخارج.. سقطت أولى أشعة شمس الصباح على وجهها المتغضن فتوضحت ملامحها مرهقة محبطة ذابلة فيما شفتها السفلى ترتجف بقوة... أغمضت عينيها لحظات وراحت تتنفس ببطء وعمق. حين التفتت تواجههم بدا عليها الثبات. حدقت إليهم واحدا إثر الآخر ثم قالت بثقة:
-كان عليّ أن أتوقع كل شيء من إبراهيم.. كل شيء.. لم أستبعد أن يفقد صوابه ذات يوم ويقتلني... ولو كان رجلاً لقتلني من زمن بعيد... على كل حال قصتنا لم تنته بعد، نحن ما زلنا في البداية. فنزويلا ليست بعيدة. إنه طارق وسيرجع... نعم.. سيرجع!.





vvv



 
 

 

عرض البوم صور تمارااا   رد مع اقتباس
قديم 29-04-10, 03:51 PM   المشاركة رقم: 13
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2006
العضوية: 5763
المشاركات: 167
الجنس أنثى
معدل التقييم: توتةتوتة عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 18

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
توتةتوتة غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : تمارااا المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 

 
 

 

عرض البوم صور توتةتوتة   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الخاص, العاصفة, الكاتب انيس خوري, انيس, حصاد, حصاد العاصفة للكاتب:الياس انيس خوري, حصاد العاصفة الياس انيس خوري, دوري, روايه حصاد العاصفه
facebook




جديد مواضيع قسم القصص المكتمله
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


LinkBacks (?)
LinkBack to this Thread: https://www.liilas.com/vb3/t108640.html
أرسلت بواسطة For Type التاريخ
Untitled document This thread Refback 17-01-10 03:33 PM


الساعة الآن 04:20 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية