كاتب الموضوع :
تمارااا
المنتدى :
القصص المكتمله
- 6 -
فتح نضال باب الغرفة ففوجيء بناديا تمارس أحد تمارينها الرياضية بطريقة مثيرة ألهبت دمه وأثارت أعصابه. وقفت رأساً على عقب على السرير مسندة جسدها إلى الحائط تاركة لقميص نومها الأصفر أن ينحسر حتى صدرها كاشفاً معظم مفاتنها .همهم بغضب وصفق الباب وراءه بعنف وتقدم من السرير لكنه سرعان ماتوقف وقد احتقن وجهه حتى الانفجار ما إن لاحظ أن الستارة مرفوعة عن النافذة مما يسمح لأي مار من الحديقة أن يراها على هذه الصورة الفاضحة. قفز إلى النافذة وأطل منها يتفرس بقلق ليتأكد من عدم وجود أحد ، ثم تطلع إلى شباك غرفة غسان المطلة جانبياً على غرفته. كانت مظلمة فأسدل الستارة بعصبية حتى كاد يسقطها واستدار صارخاً بحنق مكظوم:
-مابقي إلا أن تعملي معرضاً وتدعيهم للفرجة.. أنسيت أنك في أول حملك؟.
كان وجهها المحتقن ينضح بالعرق وعيناها حمراوين تكادان تخرجان من محجريهما فيما راحت تتنفس بصعوبة لكن ذلك لم يمنعها من اغتصاب ابتسامة ساخرة والتلويح برجليها في الهواء قبل أن تقول بصوت متحشرج مخنوق:
- لاتخف عليّ . ثم ليس هناك غرباء لتخشى أن أغويهم أو يغووني. اللهم إلا إن كنت ماتزال قليل الثقة في نفسك!.
ازداد فوران دمه لملاحظتها اللئيمة فاقترب منها وأنزل رجليها بغلظة دفعتها لاطلاق صرخة ألم قبل أن ينبر فيها بقسوة:
- لاداعي للتظارف السمج!. ماذا سيقول من يراك في هذا الوضع؟ على الأقل أحسبي حساب أمي..
- معك حق. فهي " الرجل" الوحيد الذي يحسب حسابه في هذه العائلة!.
تجاهل تعليقها وراقبها تتمطى وتتقلب شبه عارية إلى أن استعاد جسسدها ليونته تربعت من ثم على الفراش مغطية ساقيها بقميصها متصنّعة الاحتشام واردفت وهي تحرك رأسها دائرياً:
- مارس هذه الرياضة أسبوعاً وستكون لي من الشاكرين. إنها أفضل طريقة لتستعيد رشاقتك وتصقل عقلك!. بماذا تآمرتما أنت وأخوك الكبير؟.
حدجها بنظرة ثاقبة محاولاً استقراء قصدها . أضفى عليها تورد وجهها وتعرّقه رونقاً خمرياً زادها فتنة وإغراء مما جعل الرغبة تتمطى في أحشائه رغم حنقه عليها. نفخ بهدوء واكتفى بمتابعة حركاتها مقطباً.. توقفت وعادت تسأله بالحاح:
- ماذا دار بينك وبين غسان؟.
فك أزرار قميصه وقال باقتضاب.
- لاشيء يذكر.
- ليس ثمة أسرار عائلية خطيرة إذن؟.
قالت بسخرية فكشر وحذرها بحنق:
-لاتستفزيني ياناديا!... أشعر أنني واقف على برميل بارود فلا تحاولي إشعاله!.
- ياللهول !.. إنني غير راغبة في إشعال أي شيء ياعزيزي. لكن هذا لن يمنعني من قول رأيي . أتعرف مقدار الخيبة التي أشعر بها! كنت أحسب السيدة أمك كتلة من العقل والمنطق والأعصاب المتينة فإذا بها امرأة... أقل من عادية!.. كم أن المظاهر تغشّ.. أهي فقدت عقلها أم ماذا!.
حدجها شزرا وهو يلوح بإصبعه مهدداً:
- سبق وحذرتك من أن تتعرضي لأمي باي سوء!.
جلس بجانبها ومرر يده على فخذها بلطف مستدركاً بهدوء:
- لقد أحسنت صنعاً بالبقاء على الحياد الليلة...
أبعدت يده بجفاء:
- لا أريد الإساءة إلى أمك من قريب أو بعيد . بالأحرى بت أشفق عليها.. ما هو رأي غسان؟.
سألته بصرامة دفعته للقول باستسلام:
- يخشى أن تكون وقعت في شراك مكيدة مرتبة بإتقان..
ضِيقت عينيها وحدجته بحيرة وقد استعصى عليها. ادراك قصده. أوضح بعد صمت قصير:
- الشركة تعاني من بعض المشاكل المالية، و اليابانيون أنذرونا بأنهم قد يطلبون الحجز إن لم نسدد رصيد صفقة الإطارات قبل نهاية تموز.
- وما دخل الشركة بقصة أمك؟.
- أنت تجهلين طبيعة السوق وصراعاتها. الكثيرون يطمعون في الشركة ولربما اكتشفوا شبه الرجل بأبي فقرروا استخدامه للتأثير على أمي..
حدقت إليه بغباء فاغرة الفم هنيهة. حين فهمت ماقال نخرت وضربت على السرير.
- ماذا أصابكم الليلة ياآل مناف؟ قبل قليل أمك..والآن أنت وأخوك !. لا أعرف من منكما الأغبى أنت أم هو؟ تتحدثان عن الشركة وكأنها شركة البوينغ وعن أمك وكأنها اكرم النحاس.. يالأخيلتكم الواسعة السطحية !.. أمك تتوهم أن زوجها قام من بين الأموات فرجعت مراهقة طائشة تتقّد عيناها بالشبق، وغسان يتوهم أن الناس لاهمّ لهم إلا سرقة شركتكم العظمى، وأنت ضائع بين الاثنين.. متى ستنضج يانضال مناف؟ إن كان هناك مكيدة فهي في عقل أمك المضطرب أما الشركة اللعينة فلا يطمع فيها إلا غسان.
نفنح ببرود:
- كفي عن شكوكك في أخي . أظن أنك أنت الطامعة في الشركة لاهو!.
- تعرف جيداً أنني غير طامعة في شيء. لكني لن أسمح لأحد أن يغتصب حقوق زوجي المسكين.. إن طموح غسان لاحدّ له وسذاجتك لاحد لها..
لطمها بقسوة على ساقها فأطلقت صرخة ألم خافته وانتفضت غاضبة فيما هو يزمجر:
- لاتفقديني صبري ياناديا. أنت تفتعلين مشكلة لا أساس لها ، فأمي لن تتخلى عن الشركة لغسان أو لأي شخص فاطمئني ولاتشغلي رأسك الجميل بشؤون ليست من اختصاصك!.
رمته بنظرة نارية قبل أن تهدر بصوت محتقن غيظاً:
- إن مددت يدك عليّ مرة ثانية لاتلوم إلا نفسك!.
رفعت قميصها عن ساقها ومسحت مكان اللطمة التي تركت أثراً أحمر.. بدا عليه الحرج فغمغم وهو ينهض:
- آسف .. الأفضل أن أخرج..
سارعت تمسك بيده وقد سيطرت على أعصابها قائلة ببرود:
- أريد أن أعرف علام اتفقتما أنت وأخوك!. أتصور أنه اقترح عليك أن تغتالا هذا الطارق مناف!؟.
كانت تعرف تماماً كيف تستفزه بأسلوبها الخبيث في التكلم بأقصى درجات الجدية في أتفه المواضيع، وبتهكم مفرط في أخطرها.. بإمكانها أن تحول المزحة إلى مأساة والمصيبة إلى طرفة دون أن يتمكن من معرفة حقيقة مايدور في خلدها . ورغم غيظه فقد حافظ على برودة أعصابه وأبعد يدها بهدوء:
- أنت شيطانة ياناديا ولا أعرف إلى متى أستطيع تحمل كيدك ولؤمك؟!.
-وأنا أيضاً لا أعرف إلى متى سأتحمل زوجاً لايشاركني كل أسراره العائلية!.
قالت بسخط وهي تبادله النظر بغضب. أسقط في يده فتجنب نظراتها وعاد يجلس على السرير وهو يزفر باستسلام:
- لم نتفق على شيء .. وأنت محقة .. إنه يشتط في شكوكه وأوهامه إلى درجة غير معقولة . تحدث عن محاذير ومخاوف لها أول وليس لها آخر.. برأيي ليس هناك ما نخشى عليه ومنه إن كان هذا الرجل طارق مناف أو لم يكن.
- ممتاز !.. وليس هناك مايمنع إذن أن يرجع إلى أمك ويعيشا في ثبات ونبات ويخلفا الصبيان والبنات وكأن العالم ينقصه أولاد الحرام!..
-لاتعودي إلى استفزازتك!.
-ولماذا تحسبني أستفزك؟ لست متبحّرة في القانون الكنسي ولكن إن ثبت أن هذا الرجل هو طارق مناف حقاً فإنه سيخلق لكم مشكلة كبيرة اسمها الزنى....لاتندهش . كلاهما تزوج مرة ثانية وهو مايزال مرتبطاً بالآخر بسر الزواج المقدس. أتعرف معنى هذا؟ معناه أن زواج أمك من أكرم النحاس زنى، وزواج والدك المفترض من تلك المرأة زنى أيضاً. أما أبناؤه منها فهم في عرف الكنيسة غير شرعيين.. أي أبناء حرام!..
دهمته القشعريرة وهو يحملق إليها بذهول .. نظرت إليه بانتصار ثم راحت تفصل فكرتها:
- هذا جانب بسيط من جوانب القصة التي طلعت بها أمك علينا . الزواج الكنسي رباط أبدي مقدس بين الرجل والمرأة لايفصمه إلا الموت ، أوالطلاق في حالات استثنائية كما لابد أنك تعلم . وقد تصرفت أمك على أساس أنها أرملة وتزوجت من رجل ثان. أما أبوك، المفترض أنه لم يمت، فقد حصل على اسم وسجل عائلي جديدين ، وسنعرف لاحقاً كيف فعل ذلك إن كان فاقد الذاكرة، وبموجبهما استصدر ورقة " مطلق حال" ليتزوج من المرأة الأخرى فيما هو ليس مطلق الحال. وهذا هو الزنى!.
- بالله كفي عن استخدام تلك التعابير المفزعة. الزنى. أولاد الحرام. وكأنك كنت تعملين في محكمة تفتيش!.
- ونسيت ان أذكر الحرمان .. هنا تكمن المصيبة الكبرى!.
- أنت مرعبة ياناديا . لم تخطئ أمي حين وصفتك بالشريرة.
- أمك وصفتني بالشريرة؟.
قاطعته بصوت كالفحيح وقد أكفر وجهها وقدحت عيناها شرراً. شحب وجهه لزلة لسانه لكنه سارع يحاول لفلفة الأمر:
- إنني أمزح.. ماذكرته لاينطبق على حالتهما. لا أرى أنهما زنيا أو خرجا على قانونك الكنسي أو المدني. لم يكن لهما يد فيما حدث، ولا يمكن لأي عاقل أن يعتبرهما مسؤولين عنه. أمي تزوجت باعتبارها أرملة، وهذا من حقها ، وهذا الرجل ، أن كان أبي فعلاً، فهو قد فقد ذاكراته ونسي أنه زوج وأب فتزوج لينشئ أسرة وهذا أيضاً من حقه. ولا أظن أن الكنيسة متحجرة إلى درجة اعتبارهما خاطئين يجب رجمهما. ان تلك المسألة لاتستأهل كل هذا التهويل لكنها تقودنا إلى تساؤل مهم فعلاً...
صمت يأخذ نفساً عميقاً محاذراً التقاء نظراتهما ثم أردف:
- نعم . إنه سؤال خطير يبدو أننا غفلنا عنه تحت وطأة الصدمة . وهو يتعلق بدين الرجل. ماهو دينه؟ ألا يمكن أن يكون مسلماً؟.
حدقت إليه بإمعان ثم عقدت حاجبيها مبدية الدهشة . سيطر على الاثنين صمت هادئ أوحى أنهما نسيا، أو تناسيا ، مناكداتهما.استعادت ناديا هدوءها وهي تقول:
- أستبعد أن تكون تلك المسألة غابت عن أمك . لاأشك أنه مسيحي.
قفزت عن السرير وخلعت قميصها قبل أن تستدرك:
-لم يسبق أن حدثتني عن أبيك.
لم يصرفه السؤال عن التفرس بشبق في عريها الصارخ بالند اءات اللاهثة. نفخ بقوة وقال فيما هي تبحث في الخزانة عن ثوب:
- وماذا تتوقعين من طفل في الرابعة من عمره أن يتذكر؟ لاشيء بتاتاً.. وعيت الدنيا دون أب وتأقلمت معها على هذا الأساس.
- على العكس مني إذن!.
قالت وهي تضع بعض مساحيق التجميل على وجهها بعد أن ارتدت بلوزة زرقاء سماوية وبنطلون الجينز الضيّق. طلت شفتيها بحمرة خفيفة ثم استدركت دون أن يبان في صوتها أي تأثر:
- لعل مأساتي الكبرى هي حرماني أبي قبل أن أتأكد من شخصيته!.
فاجأه كلامها فحدق إليها باستغراب وقد فغر فمه. اغتصبت ضحكة باردة وأردفت وهي تبادله النظر عبر المرآة:
- لاتزعم أنني فاجأتك أمك ماتزال حتى الآن تتهمني بأنني أبنة حرام!.
- أنت مخطئة ومتجنيّة.
قاطعها بحنق وقد أكفهرت ملامحه. نهض ودنا منها:
- أمي لم تتفوه بمثل هذه الافتراءات أبداً . إنها مثل حد السيف وراء ظهرك وهي لاتسمح لأحد بالاساءة إليك بكلمة. أنت صرت فرداً من العائلة وأية أهانة توجه إليك هي إهانة للعائلة كلها.. ولا أري أي معنى لمثل هذا الحديث الآن.
استدارت نحوه وواجهته بعينين ساكنتين وملامح جامدة مردفة بصوت لاحرارة فيه:
- كم أن القدر لئيم. فيما لم يرتح أي منكم لفكرة أن والده على قيد الحياة كنت أساءل لماذا لم يحدث الأمر لي أنا ، لماذا لايخرج من قبره لأعرف من هو
- لكنك تعرفين من هو!.
-على الورق فقط..
قالت بسخرية واتجهت إلى الباب:
- أهو حقاً حنا ديب أن أحد عابري السبيل الذين كانت أمي تتصيّدهم بين الوصلة والوصلة؟ أنا خارجة لاستنشاق بعض الهواء.
تابعها بوجوم وهي تخرج رادّة الباب وراءها بهدوء ثم لوح بيديه بعنف وتهاوى على المقعد يتبادل وصورته في المرآة نظرات خاوية. كانت تلك أول مرة بعد زواجهما تتطرق إلى هذا الموضوع بشكل مباشر وفجّ مبدية ذلك القدر الكبير من الأسى والألم.
حين وافته إلى عند سبيرو لتبلغه، بعد أسبوع كامل من التفكير، موافقتها المبدئية على الزواج به، صفق بفرح طفولي ونادى على سبيرو بأعلى صوته ليسأله إن كان يوافق على أن يكون اشبينهما. سارعت تضع يدها على فمه ترجوه أن يهدأ ثم لوحت لسبيرو الذي أطلق صرخة ابتهاج أن يصمت ويبقى في مكانه . تفرست فيه بعينين ضاجتين بالانفعالات والمشاعر ثم قالت بهدوء:
- لاتستعجل كثيراً يانضال فثمة مايجب أن أقوله. أعتقد أنك سمعت أقاويل كثيرة حولي. لذا أرى أن تسمع الحقيقة مني الآن وتتراجع. وسأتفهم موقفك وأعذرك إن فعلت ، فهذا أفضل ألف مرة من أن تعرفها بعد الزواج حينما يكون الأمر قد خرج من يدك فتندم ساعة لاينفع الندم. كنت في الثالثة من عمري يوم هجرت أمي أبي بعد أن أصبح مستحيلاً عليهما الاستمرار في العيش تحت سقف واحد. أخذتني إلى حضانتها وعادت إلى ممارسة مهنتها الأولى, الرقص في الملاهي. كان أبي قد تزوجها غصباً عن أسرته. يزعمون أنه أحبها بجنون فيما لم تحب هي إلا ثروته. وقد استطاعت، بالحيلة والمكر، أن تستولي عليها وتبددها على متعها . والظاهر أن أبي لم يكن إنساناً طبيعياً، أو أن الغضب والحقد أفقداه صوابه بعد أن بددت ثروته واكتشف أنها لاتحبه، فراح يشهر بأمي مدعياً أنني لست من صلبه وأنه طردها بعد أن اكتشف أنني ثمرة علاقة محرمة قامت بينها وبين أحد زبائنها ، وتقدم بدعوى إلى الكنيسة يطلب التفريق بينهما مستنداً إلى هذه الادعاءات. أمضيت معها خمس سنوات نتنقل مثل النوّر من مدينة إلى أخرى إلى أن أتاها عرض للعمل في ملهى عربي في لندن. أدخلتني إلى دير للمريميات وأوصت الراهبات بي بطريقة نمت عن أنها قررت التخلي عني بدورها نهائياً. غابت خمس سنوات ثم عادت إلى عمان لتبيع بيتاً كانت تملكه في الدوار وقطعة أرض في منطقة التوسع الجديدة. زارتني مرة واحدة وأمضت معي أقل من ساعة. لم أعرفها أول مارأيتها. كانت لم تتجاوز الخامسة والثلاثين من عمرها إلا أنها بدت كالمومياء بوجهها الأصفر الناحل المسلول وعينيها الغائرتين ويديها المرتجفتين دائماً لإدمانها على المخدرات على ما أعتقد. شعرت بالنفور منها لكني اشفقت عليها. أبلغتني ببرود أن والدي توفي في بيروت قبل عدة أشهر وأنها ستهاجر إلى استراليا لافتتاح مدرسة لتعليم الرقص الشرقي بالاشتراك مع مغترب فلسطيني قد تتزوجه إن سارت أمورها على مايرام . وعدتني بأن ترسل ورائي ما إن تستقر هناك . لكني شعرت بأنها غير صادقة. لم يزعجني الأمر. على العكس سررت إذ أدركت أنني سأتحرر منها نهائياً . لعلي أخذت منها قسوة القلب وبرودة العاطفة. عشت مرتاحة هانئة مع الراهبات بحيث نسيت أن لي أباً و أماً. تمنيت لها الخير وسألتها عن حقيقة خلافها مع أبي وما أسمعه من بعض الطالبات حول إنكاره بنوتي. كانت تلك الأقاويل تحرجني وتسبب لي شعوراً بالنقص رغم أنني أعيش وسط بنات معظمهن يتيمات أو لقيطات. أجابتني أن أبي كان يعاني من مرض عصبي وأنه خسر معظم ثروته في القمار والصفقات التجارية الفاشلة ، فأصابته لوثة جعلته يتوهم أنها خانته وسلبته ماله. وقد بذلت كل ما في وسعها لرعايته ومساعدته على تجاوز أزماته الصحية والمادية لكنها فشلت ثم قررت أن تهجره بعد أن بدأ يصب جام غضبه عليّ فخافت أن يؤذيني في واحدة من ساعات جنونه. نصحتني ألا أعطي بالاً لتلك المزاعم التي تحاول النيل مني وأخبرتني أنها دفعت لادارة الدير خمسة ألاف دينار هي نصف ماتملكه أربعة منها تكاليف إقامتي وتعليمي إلى أن أبلغ الثامنة عشرة والألف الخامسة لأسافر بها إلى استراليا عندما تستدعيني. بكت وهي تودعني مؤكدة أنها ستبقى على اتصال دائم بي. لكني منذ ذلك الحين لم أسمع عنها خبراً.
صمتت ترتاح قليلاً بعد حديثها الطويل وتبادلت التحيات الرأسية مع عدد من رواد "السناك" ثم بللت ريقها بجرعة من النبيذ قبل أن تردف:
- اقتنعت بما قالت واستعنت به لاستعادة ثقتي بنفسي والتصدي بشجاعة لأية بنت تحاول التعريض بي. لكني عدت بعد عدة أسابيع إلى وساوسي وعذاباتي حينما رحت أفكر في أنها لم تجزم بشكل صريح أنني ابنة حنا ديب. لم تقسم لي. كما كان يجب أن تفعل، أنه أبي. أسهت عن ذلك أم تجاهلته قصداً لأنها تعرف أنني لست سوى ثمرة علاقة أثيمة أقامتها مع لا أعرف من؟ مضت حتى الآن عشر سنوات وماتزال الشكوك تؤرقني، وستظل إلى أن ألتقي بها ثانية لأجعلها تقسم إنه أبي لاغيره. والمشكلة أنني أجهل إن كانت ماتزال على قيد الحياة أم ماتت. لم أتلق منها حتى بطاقة معايدة في الأعياد. أعتقد أن الناس نسوا تلك القصة بعد كل هذه السنوات ، لكن زواجي ، ومنك أنت تحديداً، ابن عواطف بشارة سيدة الأعمال الكبيرة وارملة اكرم النحاس، قد يعيد فتح ملفي من جديد ويضعني تحت مشرحة أهل عمان جميعهم.
لم تزده صراحتها إلا ولعاً بها وتصميماً على أن تكون له. تناول يدها وقبلها قبل أن يسألها مجدداً إن كانت توافق على الزواج به. فهو يحبها هي ، كما هي، وسيظل يحبها إلى آخر الحياة . وأومأت برأسها بالإيجاب.
وهو فعلاً أحبها من النظرة الأولى. صرعه جمالها ودلالها وخلبت لبه عيناها الساحرتان فاستسلم لها وأسلمها قياده بغبطة ونشوة وانطلاق.
لم يتصور أن المهمة السخيفة التي كلفته بها أمه بأن ينوب عنها في حضور المهرجان الخيري السنوي الذي تقيمه جمعية الشبان المسيحية الاورثوذكسية في ذكرى اغتصاب فلسطين، ستقلب حياته رأساً على عقب . كانت عواطف قطب ذلك المهرجان ولولبه، بل هي التي اخترعت فكرة إقامته لتطل منه على ساحة القضية الوطنية التي شغلتها أعمالها ومشاغلها عنها.وقد اعتادت أن تختتم المهرجان بالتبرع بمبلغ كبير لايقل عن الخمسة ألاف دينار لنصرة قضية فلسطين مثيرة بذلك نخوة وجهاء الطائفة أو غيرتهم فيسارعون إلى الحذو حذوها .
استيقظت صبيحة المهرجان مصابة بنزلة صدرية ترافقها حرارة عالية طرحتها الفراش. حين أدركت أنها لن تستطيع حضور المهرجان طلبت من غسان أن يحل محلها لكنه رفض ببرود وقح، ولم يتحرج عن تكرار انتقاده لما يعتبره تصرفاً غير محمود من قبلها في استغلال المهرجان للظهور بمظهر المحسنة الكبيرة بينما هي في الواقع لاتعمل أكثر من تنفيذ وصية أكرم في تخصيص نسبة من أرباح الشركة لقضية فلسطين.
جرحها كلامه بحيث نسيت مرضها وزعقت فيه بغضب أنها ليست بحاجة الى وغد مثله ليعلمها كيف تقوم بواجبها الوطني. وأنه كان مجرد شخاّخ في القماط حين كانت هي تناضل.
كان متفقاً مع غسان في الرأي حول هذا الموضوع وسبق لهما أن ناقشاه أكثر من مرة منتقدين ليس أمهما ولكن الأسلوب الذي حوّل تلك المناسبة إلى فرصة يشبع أثرياء الطائفة بها نزواتهم وأهواءهم في التشاوف وادعاء الوطنية وشراء راحة البال بحفنة من الدنانير. لكن وقاحة غسان الصفيفة أزعجته وجعلته يتعاطف بحرارة مع أمه. لذا وجد نفسه ينساق باستسلام لتلبية رجائها حين التفتت إليه تستنجد به. كان عاجزاً عن محاكاة غسان في تمرده الجلف أو مجاراة عطاف في لامبالاتها المقرفة. وهذا مادفعه لأن يكون معظم الأحيان، بغير قليل من الغيظ المكبوت، الحل الوسط في أية مشكلة تطرأ بين أمه وأخيه، والوسيط الحريص على الحفاظ على الحد الأدنى من التفاهم بي ن أفراد اسرته. لكنه لم يندم هذه المرة. فلولا حضوره المهرجان ماالتقى بناديا ، ولا انفتحت أمامه أبواب السعادة والحب على مصراعيها. وكان الندم من نصيب أمه التي لعلها ماتزال حتى الآن تعض أصابعها!.
حين أطلت على الحضور بكل حسنها ونضارتها لتفتتح المهرجان ببعض القصائد الوطنية أحس بكيانه كله يتزلزل وهو يحدق إليها مشدوهاً انشداه آدم ما إن وقعت عيناه على حواء للمرة الأولى. سحرته وقفتها الشامخة بقدر مافتنته حركاتها التمثيلية المتناغمة مع إيقاع قصيدة بيروت لممحمود درويش. كان معجباً بالقصيدة،لكن أسلوبها البديع في الالقاء، الجامع بين عذوبة الصوت وغنائية الكلمات وعنفوان المعاني ، أسر مشاعره فاستكان إلى خدر لذيذ جعله يفقد الإحساس بالمكان والزمان في آن. أهي القصيدة التي أسبغت على الفتاة شاعرية مجنحة كالطيف أم هي الفتاة التي كست القصيدة بثوب من السحر اللألاء؟ تسمرت نظراته عليها لاتستطيع عنها فكاكاً وقد انتابته رغبة جامحة في اختطافها والهرب بها إلى حيث لايكون سواهما. وراح يتابعها بجماع أهواء نفسه وكتلة شهوات جسده محاولاً جهده جذب انتباهها إليه . التقت نظراتهما غير مرة لكنها لم توله أي اهتمام رغم افتراضه أن جلوسه، وهو الشاب الطارئ على المهرجان- إلى يمين المطران لابد أن يثير فضولها ويدفعها للتساؤل عمن يكون ، خفق قلبه بقوة وقرصته الغيرة وهي تترجل عن خشبة المسرح برشاقة لتقف إلى جانب شاب وسيم رياضي القوام انهمكت واياه في همس ضاحك خاله ، إذ أمسك بعينيها تطرفان نحوه، يدور حوله.في تلك اللحظات ، على الأرجح، قرر أن تلك الفتاة يجب أن تكون له. التفت عنها يتطلع فيما حوله بثقة وكأنه يكتشف . للمرة الأولى ، ماذا تعني الثروة من جاه ونفوذ وسلطة. فمقعده، بالأحرى مقعد والدته، بين المطران وممثل وزارة شؤون الأرض المحتلة،أما بقية الحاضرين، بمن فيهم وجهاء الطائفة وأكابر القوم، فقد تقهقروا إلى الصفوف الجانبية والخلفية.وحدها أمه، بالخمسة ألاف دينار ، تنال حظوة الصف الأول بكل مايعنيه ويوحي به. وللمرة الأولى أيضاً يدرك قيمة أن يكون ابن عواطف بشارة، أرملة اكرم النحاس !. لم يشك في أنه محط اهتمام جميع هاته الصبايا الحسناوات المنتشرات كالزنابق في القاعة ضاحكات لاهيات عابثات يبحثن عن فوارس أحلامهن. كان ، حتى تلك الليلة، قليل الخبرة ضعيف التجربة في علاقاته مع الجنس الآخر. وهذا ما أنمى فيه أحاسيس خجل فطرية تجاه المرأة دفعته إلى الترفع، وربما العجز، رغم الفرص التي يوفرها له مركزه الاجتماعي، عن إقامة علاقات حميمة متعددة ومتشعبة وفاسقة كالتي كان غسان مجليّا فيها. فكان أن انصرف بكليته إلى التحصيل العلمي وقد سيطرت عليه فكرة نيل الدكتوراه في الاقتصاد وكأنه يريد إثبات قدرته على بزّ غسان في مجال من المجالات.
أما تلك الليلة ، وهو يتابع منفعلاً غادته العابثة التي راحت توزع تحياتها ذات اليمين واليسار وكأنها تناكده، فقد شعر أن شخصاً جديداً ينمو داخله ، وأن الشاب المراهق الخجول الحالم الذي كانه حتى الآن راح يضمحل تاركاً مكانه لرجل واثق بنفسه يعرف تماماً ماذا يريد . وهو يريد تلك الانثى.
لم يعرف كيف مر الوقت وهو يتقلب على جمر القلق يلاحقها بقحة ما إن تقع عيناه عليها ويفتش عنها بشوق ما إن تختفي عن ناظريه. لم يصدق ان المهرجان انتهى وقدم الشيك إلى المطران حتى سارع يتخلص من الجمع الذي التم حولهما دالفاً إلى الكواليس. تفاءل حين وجدها وسط مجموعة من الصغيرات تنتظر حضور أوليائهن لاصطحابهن . اتجه نحوها بثقة ومدّيده قائلاً بحرارة:
- آنسة ناديا؟. أنا نضال مناف. جئت لتهنئتك وشكرك . لقد وفرت لي سعادة لم أعرفها منذ زمن طويل. كنت رائعة في إلقائك. ولا تلقي بهذا الأسلوب المتميز إلا شاعرة حقيقية.
شع الزهو في وجهها المشرق الذي خضبته حمرة خجل خفيفة وصافحته بود وهي تقول بارتباك:
- أنت الذي يجب شكره. إن كرم السيدة والدتك يبعث على الاعتزاز. وأعتقد أن هذه صفة أصيلة في العائلة. أليس كذلك؟.
كان غاطساً في سحر عينيها فلم يستوعب معنى ما قالت، وإذ سترجع كلماتها ببطء ادرك أنها قدمت له طعماً لايفوت . ولم يعرف كيف واتته الجرأة ليقول بثقة مسيطراً على انفعالاته محاولاً تقليد أسلوب غسان:
- عليك أن تكتشفي ذلك بنفسك. هذا إن سمحت لي!.
وكأنها بدورها لم تكن تنتظر غير تلك الإشارة لتجيب بمرح وهي تداعب شعر إحدى الصغيرات:
- حب الاكتشاف يسري في عروقي. لقد بدأ الأهل بالحضور لأخذ أطفالهم. قد أفرغ من عملي بعد ربع ساعة، وبعدئذ أصعد إلى البوفيه لشرب فنجان قهوة.
- أأعتبر نفسي مدعواً لمشاركتك القهوة؟.
رنت إليه وقد ضيّقت عينيها قبل أن تقول بمكر:
-جرت العادة أن يدعو سيادة المطران ضيوفه إلى فنجان قهوة في الصالون في ختام المهرجان وأظن أنه من المستحسن ألا تتخلف عن دعوته.
- حين يتلقى الرجل دعوة من ملاك فإن البابوات أنفسهم يسقطون من حسابه!. حتى هو نفسه فوجيء ببلاغة جوابه وأحس بالرضا وهو يرى ضحكتها الصافية الرنانة . حين تمالكت نفسها دندنت بصوت غرّيد:
- ألاتكون تتعاطى الشعر بدورك: أنا أعشق الشعر والشعراء ولكن حذار فإنني ناقدة لاترحم!.
هي التي خطفته تلك الليلة وطارت به إلى حقول النجوم. رفضت ركوب السيارة أو أمّ أي من المرابع الليلية والفنادق الفخمة التي اقترح أن يسهرا فيها. أخذته سيراً على الأقدام إلى سناك بسيط محشور في قبو إحدى العمارات في حارة متطرفة من منطقة الكرامة لم يسبق له أن طرقها قبلاً . كان عبارة عن شقة متوسطة الحجم واطئة السقف تضم صالة مربعة مفتوحة على ثلاث غرف استعيض عن أبوابها بستائر قصبية ملونة يمكن إسدالها لفصل الرواد عن بعضهم . كانت الإنارة خافتة حمراء تضفي جواً من الحميمية على المكان وتتناسب مع موسيقا يونانية جميلة مألوفة الوقع على أذنه . تحلق عدد غير قليل من الزبائن حول عدة طاولات من الفور مايكا في الصالة وكان أغلبهم من الشبان باستثناء رجلين وامرأة في منتصف العمر انزووا يتهامسون حول طاولة ركينة.
نمّت الهتافات الودية التي استقلبتها بترحاب والابتسامات العذبة والتعليقات المرحة التي ردت بها عن إلفة عميقة تربط فيما بينهم وبينها . تقدمته إلى طاولة في أقصى الصالة مخصصة لشخصين فقط ولوحت بيدها تحيي باليونانية امرأة مربوعة القامة مكتنزة الجسد لاتخلو من جمال وقفت وراء البار تعد الشراب، ثم قالت:
- إنه أرخص وأحسن وأرقى سناك في العالم كله وصاحبه المسيو سبيرو ألطف وأظرف رجل في العالم ولايستقبل في وكره سوى اللطفاء الظرفاء أمثاله..
انتظرته إلى أن جلس وشمل المحل والرواد بنظرة سريعة وأشارت صوب عجوز ناحل صغير الرأس قطني الشعر في العقد السابع من عمره توارى وراء طاولة عليها جهاز تسجيل متوسط الحجم وكأس خمر طافحة ، ثم أردفت بمرح:
- المسيو سبيرو وفلسطيني من أصل يوناني، أو يوناني من أصل فلسطيني لافرق. كان يحتفظ بوثائق تثبت أن أهل كريت والفلسطينيين ينحدرون من أصول كنعانية واحدة. لكنها بقيت في فلسطين!. هاجر والداه إلى حيفا قبل نصف قرن وهرب منها عام /48/ إلى القدس وحارب مع عبد القادر. استقر من ثم فيها حيث عشق وتزوج امرأة جميلة لعوباً. عام /1968/ أبعدته سلطات الاحتلال لتعاطفه مع الفدائيين ووعدته زوجته أن تلحق به. لكنها لم تفعل حتى الآن. افتتح هذا السناك وتخندق فيه يغرق أحزانه في الخمر والصداقة والشعر بانتظار حضورها.
- يبدو أنه شخصية طريفة صديقك المسيو سبيرو.؟.
- إنه شخص استثنائي وستكتشف ذلك بنفسك . لقد أوقف محله على شلة من أصدقائه ومعارفه وضيوفهم الحميمين. قاسمنا المشترك شرب الخمر والحب والاستماع إلى الموسيقا اليونانية والشعر ومأساة سبيرو. الاسبوع الماضي أنشدنا عباس منذر، وهو الكهل السمين الجالس إلى الطاولة المنزوية قصيدة جميلة أعجبت المسيو سبيرو فوزع على كل طاولة زجاجة خمر مجانية. إنه الآن يتفحصك فإن رقت له ونزلت في نفسه منزلاً حسناً سيرسل لنا زجاجة من الخمر الممتاز وينضم إلينا ليشرب معنا قدحاً. وإن لم تعجبه ستكون الزجاجة من النوع الرخيص فأفهم أنه غير مسموح لي باصطحابك إلى هنا ثانية . لكن اطمئن ستروق للمسيو سبيرو.
ضحك بسعادة وأمسك يدها بعفوية قائلاً وقد بدأ يستمتع بالجو المحيط به:
- أحب المسيو سبيرو . لكن مايهمني أنك تعتبريني ضيفاً حميماً وصديقاً عزيزاً بحيث غامرت بإحضاري إلى هنا.
افترقا بعيد منتصف الليل شاعراً أن القدر نسج حبائله حولهما وحدد مسار حياته من الآن وصاعداً. لم يتحدثا عن نفسيهما بما يذكر . هبط عليهما المسيو سبيرو بزجاجة خمره اللذيذ وقصصه المشوقة عن آلهة الاغريق الذين ندموا على ماأنزلوه من بلاء على رؤوس مخلوقاتهم المسكينة فمنحوها سر صنع الخمر لمساعدتها على تحمل شقائها وعذاباتها وإيهامها أنها صنو الآلهة ذاتها في سموها وعظمتها وحريتها..وعن زوجته اللعوب الغادرة:
- السمراء الأجمل من افروديت . لكنها مثل أفروديت قاسية القلب على عشاقها وطالبي وصالها . لقد فضلت القدس عليّ ولا ألومها. هي في الستين الآن لكني أراهن أنها ماتزال تحب وتعشق كما لو أنها في العشرين.
قال المسيو سبيرو بأسى بلغة عربية سليمة مقدسية اللهجة لم تخل تماماً من لكنته الأجنبية. عقد حاجبيه واستدرك بخبث وهو ينقل بصره بينهما رافعاً قدحه الأحمر:
-الحب الحقيقي لاينتهي ابداً ياأصحابي. وستعرفون ذلك إن أحببتم بعضكم بعضاً حباً حقيقياً صادقاً.
ابتسمت ناديا بود فيما انتشى نضال بتلك الرمية المواتية فهتف بمرح :
-حبي حقيقي يامسيو سبيرو وأراهنك أنه سيدوم ابدا!.
تدرجا في شوارع عمان المعتمة الهادئة اللطيفة الجو صامتين متشابكي الأيدي شاعرين أن أي كلام لن يرقى إلى مصاف عواطفهما التي تفتحت على تلك المنحة الآلهية المسماة حباً. اختلطت مشاعرهما وخواطرهما وأحلامهما بالمسيو سبيرو وفلسطين والآلهة الاغريقية والزوجة اللعوب التي فضلت القدس والنبيذ المعتق الفاخر والموسيقا اليونانية الساحرة.
لم يندهش حين وجد أمه تنتظره ، رغم مرضها، وقد تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل . تلقته مكفهرة حانقة لتؤنبه بقسوة على سلوكه المعيب في التغيّب عن دعوة المطران دون اعتذار مفضلاً رفقة فتاة عابثة سيئة السلوك!. فاجأه تهجمها العنيف على ناديا وزاد من حنقه أنه تم بحضور غسان الذي راح يرمقه باستخفاف وكأنه يشمت به. فانفجر يقول بانفعال لم يسبق أن تجرأ على مثله:
-سيئة السلوك التي تتحدثين عنها هي أجمل وأنبل فتاة قابلتها في حياتي، أرجو ألا تسيئي إليها بأية كلمة لأنني لن أسمح لأحد بالتهجم عليها أمامي.
لقد توقع أن تغضب أمه لتغيبه عن دعوة المطران، وأن تسأله أين أمضى كل هذا الوقت ومع من، لكنه لم يتصور أن تكون قد صارت على علم بكل شيء، وأن تصب جام غضبها على رأس ناديا بهذا الشكل المهين. لكن رجاءه لم يلق أذناً صاغية من أمه التي راحت ، دون أية مراعاة لشعوره ، وغير مبالية بوجود غسان ، تقرعه كأنه طفل اقترف ذنباً كبيراً قائلة إن عليه أن يبتعد عن تلك الفتاة . لم تداور أو تلمح، بل راحت تقصفه بكل ماتعرفه عن ناديا سواء مايتعلق بأمها الراقصة وأبيها الذي أنكر أن تكون ابنته، أو فيما يخص سلوكها الشخصي:
- إنها ليست أحسن من أمها. لقد شقت عصا الطاعة على الراهبات وتركت الدير لتسكن وحدها في غرفة لدى أرملة مشبوهة السلوك بدورها. ولولا أن رئيسة الدير تخشى عليها الانحراف لطردتها من وظيفتها في المدرسة.
وكأن غسان شعر أنعليه تقديم يد العون لأخيه ، قاطع أمه يقول بحدة:
-رويدك ياأمي . منذ متى صرت قاضية معصومة عن الخطأ لترجميها بكل هذه الحجارة؟.
استمد من تدخل أخيه الجرأة ليقول بتصميم:
- كل هذا لايعنيني في شيء. إنها فتاة لاغبار عليها.
- أفقدت عقلك ياولد؟ ألم تفهم بعد أن أمها كانت بنت هوى. أتدرك معنى ذلك؟.
حملق في أمه ببلاهة بدت له قاسية متجبرة إلى درجة أفزعته. شعر بالضعف إزاء اتهامها الأخير فأطلق ضحكة صفراء يداري بها اضطرابه وسألها بقلق :
-من أين لك كل هذه المعلومات ؟ إنها أقاويل وأكاذيب. ثم كيف عرفت أنني سهرت معها؟ أوضعت جواسيس في إثري؟
زجرته بقسوة:
-كف عن التساخف يانضال ، مثلي لايخفى عليها شيء. ليس هناك من يجهل حقيقة أمها. لهذا صارت في الخامسة والعشرين دون زواج رغم ماتمتاز به من جمال وذكاء وثقافة رفيعة. لاأحد يغامر بالتورط مع بنت لها هذه الأم. صادق واحبب واله مع من تشاء من الفتيات، لكن ليس مع واحدة مثل ناديا وتكبرك بثلاث سنوات.لا أريد أن تكون لك أية علاقة معها.
وفقد أعصابه . لم يعرف كيف أفك تزمامها من يده لينفجر في وجه أمه في ثورة غضب لاسابق لها. لعل السبب نتج عن شعوره العميق بالعطف على فتاة رائعة الجمال سامية الأخلاق تتهم زوراً وبهتاناً فتحركت فيه النخوة للدفاع عنها.
أو قد يكون باعثه نظرة غسان المشفقة التي صبت الملح على جرح كبريائه، فانتفض راغباً في إثبات رجولته . أوهو الاستخفاف الذي تبديه أمه في كلامها معه. فوجد الفرصة سانحة لاعادة الاعتبار إلى شخصه ووضع حد لها . زعق مطلقاً لانفعاله العنان:.
- أنا ما عدت طفلاً لتكلميني بهذه اللهجة ولست بحاجة إليك أو إلى أي شخص آخر ليبصرني بصالحي ويعرّفني بما يفيدني ويضرني. قلت لك وأعيد إن البنت أنبل وأطهر مخلوقة تعرفت إليها. سمعتها أعطر من سمعة الراهبات أنفسهن.! وحتى لوصح ماقلته عن أمها فهذا لايعيبها ولايعنيني وليست مسؤولة عنه، ثم أنك تتحدثين عن أصلها وفصلها وكأننا من السلالة الملكية بينما نحن لسنا سوى لاجئين لم نكن لنساوي فلساً لولا أموال اكرم النحاس. فخففي تحاملك عليها ولاتشغلي فكرك بأمري وحرريني من وصايتك.
لم يتوقع أن يتطور الأمر إلى مواجهة عنيفة بينه وبين أمه كادت تصل بهما إلى حد العداء. صدمه موقفها المتعنت السلطوي فواجهها بعناد وركب رأسه معتبراً أن المسألة تحولت من مجرد علاقة حب إلى قضية إثبات وجود. لم يكن سهلاً عليه الخروج من ثوب الابن البار المطيع المحب السلس القياد الذي يحاول تعويض أمه عما يراها تفتقده في أخيه المتمرد والشرس الأناني والدخول في ثوب الرجل المستقل المصادم الخارج عن طوعها والمتطلع إلى ممارسة حياته دون وصاية ورقابة وتوجيه. ورغب بصدق أن يصل إلى حل وسط معها. أن يقنعها أن من حقه أن يحب ناديا ويقيم معها العلاقة التي يهوى ويشاء،وأنه ليس على البنت أن تضرس للحصرم الذي أكله والداها. ذكرّها أنها هي نفسها كانت السباقة إلى عصيان أبيها والتمرد على مشيئته لحماية حبها والارتباط بالرجل الذي اختاره قلبها. فكيف تحللّت لنفسها ماتحرمه عليه؟ لكن جوابها كان قاطعاً وجاهزاً دائماً: سيرة أمها والفارق في العمر بينه وبينها . وإذا كان هو غارقاً في حالة من العشق الأهوج تعميه عن رؤية هذه المحاذير فإنها مصممة على السعي بكل قواها لاعادته إلى صوابه وإنهاء العلاقة بينه وبينها قبل أن يتورط فيما لا تحمد عقباه.
وكان ذلك بداية الشرخ بينه وبين أمه، وهو شرخ راح يكبر يوماً بعد يوم مع اتساع شقة الخلاف بينهما وتشبث كل منهما بموقفه بعناد.
قابل ناديا في الليلة التالية عند المسيو سبيرو. هناك انفتحت أمامه أبواب عالم جديد صاخب ممتع التقى فيه نماذج إنسانية متنوعة المشارب والطبائع والأهواء، تضم الشاعر والفنان والسكير واللامبالي والمتبطل والحزبي والمتمرد والفقير والميسور.
كان قاسمهم المشترك ، كما قالت ، الشعر والخمر وفلسطين والمسيو سبيرو والموسيقا اليونانية، وأضاف هو إلى ذلك جو السناك الغرائبي الذي أضفى عليهم مسحة فريدة من نوعها ليس سهلاً تحديدها.فآناً هم شخصيات كاريكاتيرية عابثة لاهم لها إلا قتل الوقت فراراً مما تعتبره سخف الحياة الانسانية وخيباتها اللامتناهية،فترفع لواء التمرد والرفض حالمة بعالم يستحيل وجوده. وحيناً هم أرباب حكمة ومفكرون يفتشون عن نظريات جديدة تطمح إلى تفسير معنى الحياة وتقويم اعوجاجها ورفع المظالم والآلام عن بشرها.
في هذا الوسط كانت نادياه ، كما ألف مناداتها ، قلب المجموعة النابض ولولبها وعقلها، كأنما الآخرون زمرة من الأطفال وهي المعلمة والمشرفة عليهم .وجودها الملح الذي يعطي الطعام نكهته والشذا الذي لاتحلو الوردة دونه والصوت الأبح الذي لاتشتعل القصائد إلا به. فهي الأجمل والأبهج والأمرح والأمهر والأذكى..
ومازادته لقاءاتهما المتواترة، من العصر حتى بعيد منتصف الليل ، إلا تعلقاً بها وانكاراً لشكوك أمه، وبحيث أصبح متيقناً بانها حتى لو كانت ثمرة خطيئة ونتاج علاقة أثيمة، فإن أباها هو بالتأكيد واحد من تلك الآلهة العابثة التي اعتادت غواية الحسناوات وانسالهن أطفالاً يقفون في منتصف الطريق بين الآلهة والبشر، كما كانت تحكي أساطير سبيرو عن أرباب الاولمبوس!.
فاجأته بعد شهر تدعوه لتمضية السهرة عندها قائلة إنها ملّت من الأماكن العامة وبمقدورها الآن ، مستدركة بغير قليل من الاستهتار، استقباله في غرفتها بعد أن سافرت صاحبة البيت إلى بيروت لزيارة أقرباء لها. وافق بغبطة لكنه لم يستطع منع عقرب شك صغير من الدبيب في صدره. فبقدر ما دغدغت الدعوة في كيانه من رغبات جامحة، فأنها أثارت قلقه بما دللت عليه من سلوك متحرر يبرر اتهامات امه لها. ولاجدال في أنه رغب في امتلاكها منذ وقعت عيناه عليها. لكن علاقتهما لم تخرج، حتى تاريخه، عن حدود الحب العذري. لم تسمح له بالتمادي كثيراً في التعبير عن مشاعره، وتحفظت في إظهار عواطفها مكتفية باعتباره صديقاً حميماً فقط. تغاضت عن عناقه الحار لها وهما يرقصان وعن ملامساته العفوية لجسدها، لكنها رفضت بحزم أن تمنحه شفتيها وهما يفترقان ليلاً. كانت نظراتها زاجرة إلى درجة أنه لم يجرؤ حتى على اختطاف قبلة من خدها رغم رغبته الشديدة فيها!.
أمضى بعد ظهر كئيباً في انتظار موعده المسائي وهو يتقلب على نار النشوة والقلق، الرغبة والخوف، اليقين والشك. كان يريدها بكل قواه ، بل إنه راح يرسم وقائع الليلة الاسطورية التي سيمضيها وهو يمتح من محاسنها ومفاتنها ماشاءت له غرائزه ورغباته. ستكون تجربته الأولى مع امرأة حقيقية خارج نطاق ال****** والعذراوات اللواتي كن يوفرن له متعة سطحية باردة. لكنه كان مرعوباً حتى الموت من فكرة أن تتبدى له عن امرأة متحررة إلى درجة ألا ترى مانعا من النوم معه. ماذا سيكون موقفه إن اكتشف أنها ليست عذراء، وهل يستطيع حبه تحمل تلك الصدمة أم سينهار مع انهيار.صرح العفة والطهارة الذي رفعه لها حتى السحاب؟.
ذهب في الموعد المحدد مسلحاً بباقة ورد وزجاجة "سننرانو" وخاتماً ماسياً.
فتحت له الباب قبل أن يطرقه وكأنها كانت تراقب قدومه. استغرب ذلك الأمر لكنه أرجعه إلى حرصها على عدم لفت انتباه الجيران، دارى ارتباكه بالتلويح بالباقة والزجاجة قبل أن يلقي تحية خافتة ردت عليها بابتسامة وسارعت تغلق الباب بهدوء موضحة:
- ستزعل الست روز إن علمت أنني استقبل أصدقائي في غيابها!.
كانت ترتدي بنطلون جينز كاحت اللون وقميصاً أبيض معقودا من طرفيه حول وسطها وبشكل كشف حيّزاً من بطنها. هز رأسه بتفهم وتبعها إلى غرفة بسيطة الأثاث تحوي سريراً مفرداً وأريكة وأربعة مقاعد متوسطة الحجم قديمة الطراز وجهاز تلفزيون أسود وأبيض ومكتبة جدارية تكدست فيها الكتب دون ترتيب . شكرته على الورد والخمر بصوت خلا من الحرارة ، فلم يجرؤ على إخراج الخاتم من جيبه خوف استيائها. وتشاغل بتفحص غرفتها. لاحظ وجود زجاجة نبيذ يوناني نصف ممتلئة وصحون فستق وبذر على ترابيزة بين الأريكة وطاولة التلفزيون . في الجدار الموازي للمكتبة لوحة جدارية لخارطة فلسطين مجسمة وبجانبها ملصق ملون لفدائي ملثم متنكب بندقية كلاشن وقد التفت برأسه إلى خلفه يحدق فيه بعينين نفاذتين مليئتين بالتصميم . في الجدار المقابل ملصق آخر لرجل ملثح جالس على كرسي خشبي وقد تناثرت حوله الكتب والأوراق وأطرق غارقاً في تفكير عميق. كان الوجه مألوفاً لكنه عجز عن تذكر اسم صاحبه وان كان متأكداً أنه لزعيم إحدى الثورات الشهيرة. اقترب من الملصق وتفرس فيه بامعان قبل أن يستدير عنه وهي تدخل إلى الغرفة. وضعت مزهرية الورد على ظهر التلفزيون:
- أيعجبك غيفارا؟ إنه أحد أسباب تركي الدير . هناك لاتستطيع استبدال صور المسيح والعذراء والقديسين بصور الفدائيين وغيفارا وحبش....
قالت بلهجة غلب عليها المرح وهي تسكب النبيذ في قدحين ناولته أحدهما ورفعت الثاني بإرة في صحته. رشف جرعة صغيرة ثم تلمظ بنشوة:
-لذيذ. لكن ليس أكثر منك.
تندت شفتاها بالخمرة فتلألأتا كعنبتين ناضجتين شهيتين . أشارت إليه بالجلوس وهي تقول برصانة:
- لدينا أقل من ساعة قبل حضور الآخرين.
فوجئ ورفع حاجبيه متسائلاً فاستدركت:
- عباس ورأفت وسعاد وزينب . الشاعر قابلته عند سبيرو وستتمتع بصحبة الآخرين. إنهم ظرفاء وسهرتهم لطيفة.
لم يستطيع السيطرة على نفسسه فترك لملامحه التي شحبت أن تكشف عن امتعاضه وأطبق بيده على القدح بقوة حتى أوشك أن يحطمه وهو يحدجها بخيبة واضحة . حين رآها لم تبد أي اهتمام تنحنح ثم قال بمرح مصطنع:
- حسبت انك دعوتني لتبوحي لي بمكنونات قلبك!.
ظلت جامدة الملامح وهي تقول بجفاء وكأنها معلمة تقرع تلميذاً مشاغباً:
- قلت أمامنا ساعة قبل حضورهم. وهذا أكثر من كاف للبوح بمكنوناتنا ووضع النقاط على حروف علاقتنا..
أفرغت قدحها في جوفها وكأنها تستمد القوة من الخمرة:
- لم يمض على علاقتنا سوى أسابيع لكن بإمكاني القول إن عواطفنا نحو بعضنا تبلورت إلى درجة أنك بدأت تلمح إلى الزواج، رغم أنني أعتقد أن الوقت لازال مبكراً على ذلك، أقله بالنسبة لي. أريد الآن معرفة إلى أي مدى أنت مستعد للمضي في تلك العلاقة.
سارع يرد بحماسة:
- إلى آخر الشوط .. الزواج.
لوحت بيدها تخفف من غلوائه قائلة:
- لاتستعجل . أتحسب الزواج مجرد كلمة؟ أريدك أن تفكر بهدوء وإمعان فالشوط لايزال في أوله. وأنا صرت، أو هكذا أعتقد، على درجة من النضج والتجربة تحصّن رأسي من الدوران بالوعود المعسولة للرجال المتخصصين في أغواء بنات جنسي!.
هم أن يتكلم ليؤكد لها صدق نيته، لكنها لوحت بيدها تمنعه:
- تعرف أكثر مني أن طريقنا ليست مفروشة بالورد بل بالديناميت . أنا أكبر منك بسنتين وسبعة أشهر وعشرين يوماً. وإذا نجحنا في تجاوز هذه النقطة، رغم أهميتها الكبيرة، فلا يمكن أن ننسى أن هناك فوارق اجتماعية كثيرة بيننا . فأنا يتيمة نشأت في دير ومعلمة ابتدائي بسيطة وفتاة متحررة كثيرة الصداقات أعيش على سجيتي دون عقد ومحاذير. أما أنت فمن عائلة ثرية معروفة، ويكفي أن أمك هي أرملة اكرم النحاس. ولم أندهش حين اكتشفت أنها مغرورة مدعية بقدر ماهي ثرية وحريصة على ألا تلطخ أية شائبة نصاعة مركزها ومكانتها.
إنها لن تسلم أبداً بفكرة أن اصبح زوجة لابنها.
قاطعها يقول بحماسة:
- آه منكن أنتن النساء! تتسرعن دائماً في اصدار أحكامكن دون تفكير. أمي ليست كما تتصورينها كما أنك لست كما تتصورك. من لايعرفها يحسبها امرأة مخيفة مغرورة متكبرة بينما هي في الواقع سيدة عادية طيبة بسيطة واعية وأنا واثق أنكما عندما تتعارفان ستتفاهمان وتتفقان بسهولة.
- يبدو أنك لاتعرف أمك!.
فاجأته لهجتها القاسية المليئة بالتهكم ، وانتبه حينذاك إلى أنها تتكلم عن أمه بثقة من يعرفها حق المعرفة. وهذا ما توضح له وهي تستدرك:
- زارتني أمك صباح اليوم في المدرسة.
امتقع وجهه وتقلصت ملامحه فيما راح العرق يتصبب من رقبته وكتفه. أردفت قبل أن يتمكن من قول أي شيء :
- لم أشعر بأي ود نحوها. ربما لأنني بطبعي أنفر من جميع هؤلاء الأدعياء الفارغين المصنّفين في خانة علية القوم والأكابر الذين يتسلقون على اكتافنا ويتاجرون بكل ماله قيمة في حياتنا ، حتى الوطن، ليحولوه إلى تفاهة. أيضايقك ما اقول؟.
سألته باهتمام لم يخل من قلق حين لاحظت توتره واستياءه. اعتصر قلبه ألم عميق وهو يرى إلى هذا العداء غير المبرر بين أحب امرأتين إلى قلبه. هم بالتكلم لكنه شعر بأنه محاصر، ولا يستطيع قول شيء قبل معرفة ماذا حدث بينهما. لذا أبقى فمه مطبقاً واكتفى بالتطلع إليها محاولاً جهده السيطرة على أعصابه . هزت رأسها بضيق وغمغمت بغيظ:
-معك حق في أن تنزعج. قد أبدو قاسية ومتجنية على أمك، وهذا ما أشعر به، فلا يحق لي إطلاق الاحكام على الآخرين خاصة وأنا أعاني من قسوة الأحكام التي يصدرها الآخرون عليّ، على كل حال فإن أمك كانت البادئة ، وكانت قاسية وليئمة بحيث لم أستطع ضبط أعصابي فانفعلت وأهنتها. والعصبية نقيصة لم استطع أبداً التخلص منها. أما أمك فهي استاذة في فن ضبط النفس . إنها قادرة على التصرف بلطف وتهذيب مفرطين وهي تطعنك في صميم فؤادك. وهذا ماحدث اليوم. اتجهت مباشرة إلى هدفها. قالت، ولا أعرف مدى صحة قولها، إنها لم تفكر يوماً أنها ستتدخل في مشاكل أبنائها العاطفية فهي ربتهم على أن يكونوا أحرار في شؤونهم، ولكن ضمن المنطق والمعقول وأن يلتزموا القيم والأعراف السائدة . ولهذا فقد حضرت لمقابلتي وهي مدركة مسبقا تلك المحاذير التي ستنتج عنها. أنها لم تستطع الصبر أكثر مما فعلت وهي ترى العلاقة تتطور بيني وبين ابنها الطائش.
قالت الكلمة الأخيرة باستهزاء وسكتت هنيهة تحدق إليه بتحد:
- تتطور بسرعة البرق بحيث تخشى أن يفلت الزمام من أيدينا نحن الثلاثة. ليس لها اعتراض على شخصي الكريم، فأنا شابة جميلة جداً ومثقفة جداً وأتمتع بمزايا -لم تذكرها- تجعل أي رجل يتمنى أن أكون زوجته . كلام جميل مغموس بالسم والإهانة.
قالت بازدراء ثم تشاغلت بملء قدحها ورشفت منه عدة رشفات:
- لكني ان كنت أصلح لأي رجل فإن ابنها مستثنى بإلا ولأسباب عديدة. الأول أنه مازال صغيراً على الزواج. وفهمت من ذلك أنك أبلغتها أنك تريد الزواج بي. السبب الثاني، وهي محقة فيه، أنك تصغرني بثلاث سنوات. وهذه مشكلة قد تبدو بسيطة الآن لكنها ستكبر وتتفاقم مع الزمن. السبب الثالث أنك تنوي السفر إلى الولايات المتحدة للتخصص، والزواج سيحول دون ذلك. السبب الرابع والأهم أنها ترى أنك غير جاد في علاقتك معي. وهي على الأغلب نزوة سرعان ماتعبر ولاتريدني أن أكون ضحية شاب عابث حتى لو كان ابنها. إنها داهية ولكن...
زفرت بقوة واستدركت ملوحة بيديها:
- كان حديثها منطقياً ومقنعاً بحيث تعاطفت معها وهممت بإن أطمئنها إلى أنني مستعدة للخروج من حياتك إن كانت علاقتنا ستؤثر سلباً على مستقبلك. لكنها ارتكبت خطأ فادحاً لايرتبكه إلا كل غبي قصير نظر. إنه غرورها الذي يجعلها تعتقد أنها قادرة على فرض رأيها وشراء من تشاء بمالها. فاجأتني تقول، برياء صفيق ، إنها مهتمة بمستقبلي لما عرفته عني من تفوق. وقد سمعت من السيدة رئيسة الدير أنني كنت أنوي متابعة دراستي الجامعية في باريس للتخصص في العلوم الإنسانية لكن الظروف عاكستني. وهي لاترى ما يمنع من أن تساعدني وتتكفل بنفقات دراستي هناك.
أفرغت كأسها في جوفها:
-رحت أرتجف وقد فقدت صوابي . طلبت منها أن تغرب عن وجهي وهددتها بأن أنشر على الملأ كيف أن سيدة كبيرة القدر مثلها تريد شرائي بمالها القذر كي أقطع علاقتي مع ابنها . جاءت السيدة الرئيسة على صياحي وحاولت تهدئتي. أتصدق أن أمك لم تبد أي انزعاج وهي تقول إن الانفعال لاينفع في مثل هذه المسائل، وعليّ أن أكون عاقلة كي لا أخسر كل شيء. وأي عقل أبقت لي؟ ياللسخرية ! اردت أن أقول لأمك إنها ليست أفضل من أمي التي جاءت تعيّرني بها. وإن نقودها ليست أنظف. وأنني تبرعت بما تركته لي أمي للثورة لأنني لم أرد مالاً غير نظيف. لكنني سكت من أجلك . لقد فكرت بالأمر وندمت على سلوكي المعيب وعلى تسرعي في رفض رشوة أمك!. كانت فرصة لن تتكرر ثانية ، منذ سنوات وأنا أحلم بباريس ليس للعلم والتخصص بل لما تعنيه لي من حرية واستقلال . هناك سأكون من أشاء وأعيش كما أهوى دون إدانة ومحاسبة على أخطاء أمي وأبي. هناك سأحب دون خوف.. ألا توافقني على ذلك؟.
- لقد تجاوزت حدودها. إنها أمي ولكن ليس إلى هذه الدرجة. لاأصدق أنها يمكن أن تتصرف بهذا الشكل. طلبت منها بوضوح ألا تتدخل في شؤوني. وسأعرف كيف أضع حداً لها . سنتزوج لتونا.
بعد أن هدأت عاصفة زواجهما واستكانت عواطفه واضطرت أمه إلى منحه موافقتها وبركتها، بدأ يدرك ، بغير قليل من الغضب ، أنه تسرع أكثر مما يجب، وأن ناديا ساقته بدهاء إلى شراكها. فهي التي صورت له الأمر على الشكل الذي تصوره، وهي التي أذكت جمر التحدي في صدره لتدفعه دفعاً في طريق حددت اتجاهاته سلفاً.وهو لم يتمكن حتى الآن، رغم تحرقه إلى ذلك، من ترميم علاقته بأمه وإعادتها إلى سابق عهدها من الحرارة والمتانة. بل إنه بدأ يرزح تحت وطأة إحساس مكرب بأنها لن تغفر له أبداً فعلته رغم استسلامها للأمر الواقع. كذلك أخفق في جهوده ، المباشرة والملتوية ، لتنقية الجو بين المرأتين. ظلت العلاقة بين أمه وامرأته فاترة حذرة تفتقر إلى الوئام والتفاهم. وهذا ماكان يصيبه بحالة عصبية من الإحباط والتوتر ويحرمه الطمأنينة وراحة البال.
لايعني ذلك أنه بدأ يندم. على العكس فإن حبه مايزال متأججاً قوياً رغم العواطف التي اجتاحته والتي لاينجو منها، كماقيل له، أي زواج في سنواته الأولى... ولكن!.
|