06-04-09, 01:22 AM
|
المشاركة رقم: 1
|
المعلومات |
الكاتب: |
|
اللقب: |
عضو راقي |
|
البيانات |
التسجيل: |
Sep 2006 |
العضوية: |
11622 |
المشاركات: |
1,113 |
الجنس |
ذكر |
معدل التقييم: |
|
نقاط التقييم: |
13 |
مدونتي |
|
الإتصالات |
الحالة: |
|
وسائل الإتصال: |
|
|
المنتدى :
كتب المسرح والدراسات المسرحية
صلاح عبدالصبور , جماليات المكان في المسرح , مقال
مدحت الجيار
مجلة ( ألف / البلاغة المقارنة)
الجامعة الأمريكية بالقاهرة
قسم الأدب الإنجليزي المقارن
العدد السادس - ربيع 1986
جماليات المكان في المسرح
صلاح عبدالصبور
1 - مدخل نظري
لا نريد بجمالية المكان ذلك المنحى الشكلي الذي اتسمت به الاتجاهات النقدية الجمالية طوال القرن الماضي أو هذا القرن، ذلك أن الجمالية هي بحث في نسق العناصر المكونة للظاهرة، لبيان الوظيفة التي تقوم بها داخل العمل الأدبي بشكل عام. وجمالية المكان يمكن أن تدرس في القصيدة كما تدرس في النص القصصي أو المسرحي. وإذا كان المكان عاملا مشتركا فلا بد أن نجده بأشكال متناسبة في كل نوع من هذه الأنواع، فهو عنصر جوهري في الأعمال القصصية والمسرحية. وتتميز المسرحية (والمسرحية الشعرية بخاصة) بدور جوهري للمكان، حيث لا بد من تحديد المكان والزمان لنرى دورة الفعل والظروف المحيطة به.
ويتداخل في المسرح الشعري دور المكان في العناصر المسرحية مع دوره في العناصر الشعرية، حيث تعتمد الأولى (أي العناصر المسرحية) على وحدة من وحدات أرسطو (الزمان- المكان- الموضوع)، وتضيف إليه الثانية (أي العناصر الشعرية) بعد الصورة الشعرية التي تختزل الزمان والمكان داخلها.
ولا بد أن نشير في هذا السياق إلى الارتباط الجوهري بين الزمان والمكان، إذ "في بعض الأحيان نعتقد أننا نعرف أنفسنا من خلال الزمن، في حين أن كل ما نعرفه هو تتابع تثبيتات في أماكن استقرار الكائن الإنساني الذي يرفض الذوبان، والذي يود حتى في الماضي- حين يبدأ البحث عن أحداث سابقة- أن يمسك بحركة الزمن. إن المكان، في مقصوراته المغلقة التي لا حصر لها، يحتوى على الزمن مكثفا، وهذه هي وظيفة المكان"1 تجاه الزمن، إلى جانب وظائف أخرى ترتبط بتقنيات النص، وبنوعه الأدبي، بل بالموضوع المعالج أيضا.
والمكان هو الإطار المحدد لخصوصية اللحظة الدرامية المعالجة، فالحدث لا يكون في لا مكان، إنه في مكان محدد يحدث كذا بين الشخصيات. وهنا يكشف المكان عن وظيفته الأساسية في المسرحية، وهى الخلفية الدرامية للنص، حيث يشير نوع المكان إلى اختيار خاص للخلفية التي يقصد الكاتب الدرامي إجراء أحداثه وصراعه عليها. ولا شك في أن الصورة الشعرية، بتكوينها "الزماني"، تزيد من خصوصية اللحظة الدرامية، حيث يشير البعد المكاني (وزمانه) فيها إلى عالم المتكلم، أو "المحاور"، وهو جزء بالضرورة من عالم النص كله.
ونشير، هنا، إلى البعد النفسي "للمكان" داخل النص، وداخل الصورة الشعرية، إلى جانب وظائفه الفنية وأبعاده الاجتماعية والتاريخية، والعقائدية التي ترتبط بالمكان ولا تفارقه، حتى أننا نسترجع هذه السياقات والأبعاد عند استرجاعنا للمكان نفسه أو ما يرتبط به. لذلك فاختيار الكاتب الدرامي- وغيره- لأماكن خاصة، يستتبع أن ينهض وعينا بالحوار معه.
ولعل أطلالنا، في شعرنا العربي القديم، مازالت تقوم بهذا الحوار، واستبعادها عند شعراء الحداثة يقوم بدور معاكس، يستهدف الرفض: رفض المكان وسياقاته، وما يرتبط به في مواجهة من يعيش شعريا مع هذه الأطلال. ومن هنا يشحن المكان بموقف معه أو ضده، أو بالتجاوب معه أو الازورار عنه.
ويكشف المكان عن تواصل زمني معه، فلا مكان بدون زمانه- كما أسلفنا- في نفس الوقت الذي تدمر الصورة الشعرية العلاقة المنطقية بين الماضي والحاضر والمستقبل، وتتحول إلى "زمكانية" وجودية خاصة بتكوينها، وهى قادرة على أن تحول الزمان إلى مكان، والمكان إلى زمان بفضل ما تتميز به من قدرة على تخطى حواجز الزمان والمكان، وإبدالهما في وجود جديد، وهى بذلك قد تخلق موقفا دراميا بما ترحمه من مكان وزمان قد يمتد من الصورة الشعرية المفردة إلى الصورة الشعرية العامة التي تحتوى النص كله، وتخلق وحدة "الجو" مع المكان؟ لذلك تتفاعل الصورة الشعرية- في هذا السياق- لخلق بنية النص مع بقية التقنيات، ومن ثم "فالحكم على الصورة الشعرية في التراجيديات يكون وفقا لدرجة التناسب الموجودة لون الصورة وبين الموقف الدرامي الذي تخلقه. ويمكن للموقف الدرامي أن يسمح باتساع أغنى للصورة الشعرية"2 . ولا شك في أن المكان وسيط مشترك بين بنية الصورة وبنية النص.
لذلك فجماليات المكان في المسرح الشعري ذات طبيعة مزدوجة، فهي من ناحية تتعامل مع المكان كإطار (يشترك مع الزمن)، ومن ناحية ثانية تتعامل مع المكان داخل الصورة الشعرية. من هنا كانت جماليات المكان جماليات تشكيلية، وظيفية.
ويقدم المكان حلا للمبدع حين يريد الهروب، أو حين يعمد إلى عالم غريب عن واقعه، ليسقط عليه رؤاه التي يخشى. معالجتها، وهنا يتحول المكان إلى رمز وقناع يخفى المباشرة، ويسمح لفكر المبدع أن يتسرب من خلاله. وقد يكون المكان تقنية مستقبلية يتجاوز بها. المبدع مكانه وواقعه، فيصعد إلى السماء والفضاء، وقد ينزل إلى أعماق الأرض والبحار، ليبث الرمز نفسه، ويهرب، بل ينسرب من خلاله أو ينقده.
وهنا نشير إلى المكان الأصيل، واقع المبدع الجغرافي الأليف، وإلى المكان المضاد له، أو البديل لكليهما. ذلك أن القرية غير القرية الحديثة وغير المدينة، والسجن والبئر غير الساحة وبيت العائلة. ولكل مكان من هذه الأماكن أن يحمل دلالته وسياقاته، كما أسلفنا. لذلك سنعالج المكان في المسرحية الشعرية كدالة، ورمز، وقناع، من خلال التعرف على وظيفته التقنية والدرامية. وبذلك تشترك القصيدة، وغيرها من الأنواع الأدبية، في التشكيل المكاني لأنه في هذا التوقيت يكون "كالتشكيل الزماني، معناه إخضاع الطبيعة لحركة النفس وحاجتها، وعندئذ يأخذ الشاعر كل الحق في تشكيل الطبيعة، والتلاعب بمفرداتها وبصورها الناجزة كذلك كيفما شاء، ووفقا لتصوراته الخاصة" 3. وتلك التصورات قادرة عند التشكيل أن تجعل المكان بطلا دراميا كما في بعض المسرحيات.
2- ثنائية البيت والسجن
يرتبط المكان في مسرح صلاح عبد الصبور بالموضوع المعالج، حيث يختار من مادة الموضوع المكان الذي يمثل وحدة تكوين لمشهد أو فصل. كما نجده في بعض المسرحيات يتجه إلى تجريد المكان وتغريبه. وهنا تظهر وظيفة المكان في مسرحه.
ففي مأساة الحلاج نحن أمام "ساحة في بغداد"، و"سجن"، و"محكمة"، و"بيت الشبلي". وهى أماكن تمثل وحدات عامة، أو مشاهد عامة خرجت من طبيعة الأحداث التاريخية التي توالت فيها أحداث موت الحلاج.
ثم ينتقل عبد الصبور إلى أماكن مختارة من حياة بعض الصحافيين في ليلى والمجنون، وينتقل من التاريخ، تاريخ المتصوفة، إلى واقع الحياة في مصر قبل 1952، لذلك نجد الأماكن تبدأ من "قاعة تحرير"، ثم "مقهى وحانة"، ثم "بيت حسام". وفى هذا السياق يستدعى "بيت أمه وأبيه" على لسان سعيد الشاعر ليقارن بين أمه وبين ليلى، وينهى المسرحية في "السجن".
وفى الأميرة تنتظر نحن في "وادي السرو"، حيث تعيش الأميرة مع وصيفاتها الثلاث، في "كوخ" يقع على طريق في غابة. وتنتهي المسرحية والأميرة ووصيفاتها يستعددن للخروج من الكوخ تجاه القصر، قصر الورد، قصر والدها القديم، بعد ما قتل القمندل السمندل الشرير، مغتصب ملك أبيها.
وفى مسافر ليل يتوحد المكان مع الزمان، فيتحولان لشيء واحد، على خلاف بقية مسرحيات عبد الصبور، فالحوادث كلها تدور في "عربة قطار" تمضى بعد منتصف الليل. وهنا يطلق المؤلف تجريداته حتى النهاية، فيكون القطار في سيره هو الزمان، وهو المكان في آن، ولا ينتقل المكان في القطار إلا مع الاسترجاع، خاصة على لسان عامل التذاكر.
وفى آخر مسرحياته، بعد أن يموت الملك، يكون المكان في "قصر الملك"، وفى"قاعة العرش"، وفى "حجرة نوم الملك" في الفصل الأول، ثم "نهر" و "كوخ" حيث يجلس الشاعر والملكة، وأخيرا تتحول "قاعة العرش" إلى "محكمة"، وتنتهي المسرحية وقد تحول القصر "في قدمه وتهدمه" إلى قصر جدير بالملكة والابن والشاعر صانع المستقبل.
ونلاحظ على المكان في هذه المسرحيات ثباته- بشكل عام- في ثيمات نجدها في كل مسرحية، سواء برسمها داخل المشهد، أو بالإخبار عنها في السرد، أو في الصورة الشعرية.
أول هذه الثوابت ثيمة "البيت" أو "الخدع" أو "حجرة النوم"، فبيت الشبلي في مأساة الحلاج، نجده بيت حسام وبيت الشاعر الأول في ليلى والمجنون وفي ه في فع الملك في بعد أن يموت الملك. ونجدها بالتلميح في الأميرة تنتظر ومسافر ليل، حيث يتحول كرسي الراكب وعامل التذاكر إلى مخدع أيضا، حيث نلاحظ- في بداية المسرحية- الوصيفات وقد قمن بعمل الحفلة للأميرة. ثم يعالج المؤلف السرد فيقول: "تجلس الوصيفتان الأولى والثالثة على الأرض في الظلام، وتنهض الأميرة متهادية لتتمدد على المائدة في"وضع إغراء" بحيث تبدو "المائدة" "كسرير" وتختفي الوصيفة الثانية لحظة لتعود وعلى وجهها قناع رجل في كمال العمر".
(396/2) 4
وهو نفس الوضع الذي نجد فيه ليلى مع سعيد ومع حسام في الفصل الأخير من ليلى والمجنون، كما سنجده مع الملكة والشاعر في مشهد الكوخ في الفصل الثاني من بعد أن يموت الملك. 30
أما في مسافر ليل، فتتحول كراسي العربة إلى مخادع وأميرة. ها هو عامل التذاكر (الاسكندر) يرد على ما يستدعيه من ذاكرة التاريخ:
"من يصرخ باسمي؟ من يدعوني؟
من أزعج " نومي في زاوية العربة "؟
(62212)
وثيمة "المخدع" (السرير) و "حجرة النوم" ثيمة متكررة عند صلاح عبد الصبور في قصائده أيضا، بل نجد جذرها في " مذكرات الملك عجيب بن الخصيب)*؟ وغيرها من القصائد، وهى أيضا ثيمة متكررة في مسرحه كله- كما أسلفنا- حتى في مأساة الحلاج. يتحول الصليب في أول مشهد من المسرحية إلى صورة النائم، بل الغارق في النوم، يقول:
"الفلاح: شيخ مصلوب
الواعظ: يبدو كالغارق في النوم/
التاجر: عيناه تنسكبان على صدره
الواعظ: وكأن ثقلت دنياه على جفنيه
أو غلبته الأيام على أمره
التاجر: فحنا الجذع المجهود، وحدق في الترب
الواعظ: ليفتش في موطئ قدميه عن قبره "
(449/2-450)
فحتى الحلاج، المصلوب يبحث عن قبره بعينيه النائمتين ليستريح ويرقد. لذلك، نلاحظ أن ثيمة "النوم"، و "حجرة النوم" و "سرير الملك" و "المائدة"، و "السرير"؟ ثم النوم في "عربة القطار، ونوم الأميرة مع الرجل " القناع "، وليلى مع سعيد، وأم الشاعر مع زوج (غير أبي الشاعر)، والملكة مع الشاعر ليهبها الطفل المستقبل، نقول كل هذه الثيمات تكاد تكون ثيمة واحدة تأخذ تجليات مختلفة، لكنها على كل حال ترتبط بالجنس داخل كل السياقات التي ورد فيها ذكر امرأة مع رجل؟ وذلك حتى في قصائده. كما ترتبط هذه الثيمات بمحاولة، "خلق الحب" أو "الطفل" كما في الأميرة تنتظر، وفى بعد أن يموت الملك، وليلى والمجنون. أما في مأساة الحلاج فهي ترتبط بعالم روحي يستدعى فيه عبد الصبور صورة المسيح صليبا. وفى مسافر ليل نحن أمام رمز كبير يتوازى فيه النوم في زاوية العربة مع نوم الشخصيات في زاوية التاريخ، كما نجد العبارة الشعرية على لسان عامل التذاكر تفسر ثيمة النوم بأنه: 31
"أشهى خبز في مائدة الله ".
(632/2)
ويهمنا المكان هنا لأنه ثيمة أساسية في تشكيل مسرح صلاح عبدالصبور.؟ أنه مكان نوعى له سياقاته الحلمية والطفولية التي تنسرب إلى تشكيل المشهد والنص، حيث البيت والراحة والاستقرار أو المتعة والدفء الإنساني والألفة حيث "يشحن البيت الذي ولدنا فيه بقيم الحلم التي تبقى بعد زوال البيت. تتجمع مراكز الوحدة والضجر والأحلام، وهو أكر ديمومة من ذكرياتنا المشتتة عن البيت الذي ولدنا فيه" 5 . ولذلك نلاحظ أن دلالة الاسترخاء والراحة عامة لهذه الثيمة، في الوقت الذي يأخذ فيه هذا المشهد مكانا مهما في المسرحية، ويأخذ المكان المرتبط به دورا أساسيا في تشكيل النص، إذ-؟ ألمحنا- لا تخلو مسرحية عنده من إحدى تجليات هذا المكان. ويكشف صلاح عبد الصبور عن سياقات هذا المكان وتجلياته، المشار إليها سابقا في مشهد تأبين الملك على لسان الملكة، في صورة حلمية تكشف هذا البعد الطفولي البعيد، وتوازيه مع الطائر والعش، وتقوم هي بدور الأم، حيث:
"تدخل الملكة في ثياب مهلهلة، يبدو عليها الإعياء والذهول".
"الملكة:
أغفى "الطائر" في ناعم قشه
بالله عليكن... بالله عليكن
لا توقظن الطائر حتى "يدفئ" "عشه"
يا هذا الطير الفضي
إني أحجب عنك الرج، فنقر ما شئت على الغصن
يا هذا الطير الفضي
إني " أحضنك "بعيني، لأبعث فيك"الأمن"
"فليتمدد" ريشك و "لتغف" سعيدا مقرور العين.
ب 3 ص 324
وواضح أن "عديد" الملكة يكشف عن تداخل هذه الدلالات المرتبطة بالطفولة والرعاية والأمان والراحة، وهى ما أدركناها من خلال عرض الثيمة الأولى المتكررة. الثيمة الثانية هي "السجن"، وهو "مكان" مضاد لمكان الثيمة الأولى، وتقوم جالياته على أنه ثيمة أساسية في مأساة الحلاج وليلى والمجنون. ثم نجدها لمجل غير 32
مباشر في مسافر ليل، وبعد أن يموت الملك. وهى مرتبطة دائما "بالقبض" على الشخص عن طريق الشرطة أو الجلاد، ثم بتقديمه "للمحاكمة". لذلك تبدو ثيمة "المحكمة" مكملة لثيمة "السجن" وليست نقيضا لها، فهما في مسرح عبد الصبور متوازيتان، في حين كان يجب أن تكونا مختلفتين، إذ ربما يصبح المسجون بريئا في ساحة المحكمة.
هناك، إذن، "سجن" و "محكمة"، وكلاهما يفضي للآخر؟ والنتيجة معروفة سلفا. ولا شك في أن سياقات ودلالات هذه الثيمة النقيض تختلف عن جو الألفة والأمن السابق.
كما يرتبط "السجن"، "بالظلام" و "القسوة" التي تتم بيد السجان أو الجلاد، ثم بالظلم الواقع من القاضي على رأس المتهم (البريء).
ونلاحظ في هذا السياق أن " الكوخ " و "الظلمة" يتوازيان أحيانا مع "السجن"، في القسوة والشظف، حيث يستخدم "الكهف" نقيضا "للقصر" ورقة العيش. ولكن "الكوخ" يؤدى وظيفة دلالية نقيضة في بعد أن يموت الملك، حيث توازى "الكوخ" مع العودة للماضي والرحم الرؤوم. وفى كوخ الأميرة، ارتبط بالظلمة وبالهروب من حياة قصر والدها، بعد أن اشتركت في قتل أبيها دون قصد منها. من هنا يلعب المكان أحيانا على عدة مستويات دلالية تحددها السياقات الشعرية والدرامية داخل سرح عبد الصبور كما أشرنا في إطار "الكوخ".
وحين نمسك الفكرة من بدايتها، نجد أن صورة "السجن- المكان" بدأت من سجن الحلاج. وفى مشهد السجن هذا، أخذت الثيمة جذرها الدلالي من بداية السرد في المنظر الأول من الجزء الثاني من المسرحية " الموت ". يقول:
"سجن"مظلم" ينفتح بابه، ليدخل منه الحلاج " يدفعه "حارس". (515/2)
ثم على لسان سعيد الشاعر في ليلى والمجنون نسمعه يقول:
"لا مهنة لي، إذ أني نزيل السجن الآن
متهما بالنظر إلى المستقبل".
(869/2)
ثم في استرسال، يسقط على ليلى ما يتوهمه من بطش وتعذيب، إذ تخيل أنها أسيرة
في يد الأعداء والقضاة: 33
سعيد: هل مازلت أسيرة
في أيدي الشركس والكهنة
ليلى:....
سعيد: ماذا؟ لسعوك بالنار
لا. لا أخشى أن تنهاري،..."
(87112-872)
وتنتهي مأساة الحلاج بالحكم على الشيخ بالموت، في حين تنتهي ليلى والمجنون بقول سعيد في السجن:
(أنا أنتظر القادم ".
(87412)
وعلى الرغم من تركيز عبد الصبور على (المحاكمة" و "السجن) في مأساة الحلاج، عالج "السجن) بمشهد وصفى سريع في نهاية النص ليعطي السجن (رمزه" الآني وهو "الانتظار). ويعطي للآتي رمز (المخلص) من السجن، وحتى من هم خارج السجن جعلهم أسرى كليلى، لكنه ث الفصل الأول، وعلى لسان حسام في المشهد الثاني، يفصل وصف "السجن" على اسمان من خرج منه في حواره مع الأستاذ:
" الأستاذ: حدثنا عما فعلوا بك ا
حسام: كانوا رفقاء
أخذوا منى الساعة والنظارات، ووضعوني في قبو محكم
حتى أحيا في " ظلمات العمر الحجري.
فأقدر حين، خروجي ما منحوه للوادي من عز وتقدم
إذ نقلوه من ظلمات العصر الحجري إلى بهجة عصر الشرطة ".
(74912)
ثم على لسان حسام يدافع عن نفسه أمام حسان:
... "معتقلا
لا يدرى هل يبقى عاما أو أعواما أو أجيالا حتى يتحلل
في الأسفلت الأسود
سيان لديه اليوم الواحد والأبد الممتد".
(83612) 34
وتبدو المحاكمة والاستجواب في ليلى والمجنون على لسان رفقاء الدرب لمن يشكون فيه، رغم التضحية. ونجد وصف آثار السجن النفسية دالة على البعد الزماني والمكاني الذي يجده المسجون داخل المسرحية؟ ولذلك يلعب "المكان- السجن"- هنا- على نفس الوتيرة النفسية والاجتماعية التي لعب عليها في مأساة الحلاج مع اختلاف نوع التضحية؟ وبذلك يعكس عبد الصبور الفرق بين سجنين: نفسي وروحي، انتهى ببوح العاشق المتصوف حين فاه بالسر، وآخر من حجر مظلم جعل العاشق يبوح بأسرار زملائه، فعدوه خائنا. وهكذا نجد المكان يعص الدالة نفسها، مع تغيير في تأثيره على الشخصيات المختلفة.
وفى مسافر ليل تتم المحاكمة وتنتهي بقتل الراكب. وهى محاكمة صورية تمت في القطار (الزمان والمكان)، ونفذ الحكم فوريا، في حين كان القاتل الحقيقي هو منفذ حكم الإعدام، وهنا يتحول المكان كله (العربة) إلى سجن، وقاعة محكمة، لكن في صورة تجريدية ظهرت إرهاصاتها على لسان عامل التذاكر وأدوات بطشه التي أنبأتنا بمصير الشخصية، أعطت المكان إيحاءات السجن والظلمة، والمحكمة الصورية، بل كان وصف العربة ليلا على لسان عامل التذاكر كوصف السجن تماما؟ يقول:
(أحيانا لا "تحوى" القاطرة سوى حفنة ركاب
ينتثرون كأجولة "ملقاة" في "مخزن" قطن "مهجور"...
تبدو "مظلمة" "بار ة" "خافتة الأنفاس"
كبطن الحوت).
(632/2)
حيث نجد أن صفات (ملقاة، مخزن، مهجور، مظلمة، باردة، خافتة)، ثم التصوير المجازى الموازى لها (كبطن الحوت)، تعطى للقاطرة صفات السجن، مما يعص المكان (القاطرة) بعدها الرمزي في الوقت نفسه. ومحاولة التوازي بين السجن والقاطرة واضحة منذ البداية، الأمر الذي يجعلنا نفسر " كهف الأميرة " في ساعات الليل كمواز لهذا السجن.
فقد هربت الأميرة بعد أن اكتشفت موت أبيها مقتولا، فقد هربت إلى الكوخ (الكهف) في الغابة في وادي السرو هروبا من القصر والناس، وانتظارا للعاشق القاتل. ويتحول الكهف إلى "مصيدة" للسمندل القاتل، حين يصل إليه القمندل ويقتله بعد أن يتلو عليه الحكم وحيثياته سريعا، ملخصا في:
"القمندل: 35
طعنت قلب مدينتنا ذات مساء كذبه...
والليلة قد تهوى ميتة أنهارا وتلالا ومنازل
لو ولدت في ساحتها أخرى ".
(436/2)
فيتحول "المكان- الكوخ" و "المهرب والملجأ"، إلى سجن، ومحكمة، وقبر، حين يتوازى "القمندل" مع "الحق والعدل"، ويقتل القاتل الكاذب (السمندل). ونلاحظ أن القتل كان عاملا مشتركا حتى الآن، وإن كانت، بعد. أن يموت الملك قد اتخذت من الموت مهربا من صور القتل المباشرة السابقة، وإن أشارت على لسان الجلاد إلى رغبته في تكسير الشاعر (وهو رمز لصانع المستقبل):
(لا أدرى هل ينفع هذا في بعث الملك النائم أم لا ينفع
لكن قد يغريني أن أتسلى بالعبث بأضلاع الشاعر
فأنا منذ زمان اكره هذا المأفون الماكر ".
(37213)
وعلى الرغم من أن المكانين الثيمتين (البيت بمعناه الواسع والسجن بمعناه الواسع) يحتويان الشخصية إلا أن الأول يحتضن ويؤمن، في حين أن الثاني يبتلع ويخيف. وهذه الثنائية التقابلية تخدم في فهم الصراع الدرامي في مسرح عبد الصبور، إذ يجعله دائما بين قوتي الحلم # البطش؟ فنجد الحلم يتوازى مع "البيت"، والبطش يتوازى مع "السجن"، وبالعلاقة المضادة نفسها.
3- الاتساع في المكان
حين نخرج من ضيق البيت، ومن ظلمة السجن، ونخرج إلى المكان المتسع نجد أنفسنا في "الساحة" و "الغابة"، و "القصر"، و "المقهى". في الساحة حيث الحلاج صليبا، وفى الغابة حيث الأميرة في مفترق الطريق إلى فصر أبيها رافضة (الكوخ / الكهف / السجن / الهروب)، وفى القصر حيث الملك يلهو بالأنثوات ويغرق في ماخور الشراب والجنس، ولكنه عقيم لا يستطيع أن يهب الملكة وليا للعهد، وفى القصر حيث يقتل السمندل والد الأميرة بحجة:
"أن السوس الناخر في أخشاب " المخدع"
قد جاوزها ليعربد في ساق الملك الخشبية ". ( 2/ 417 )
وفى المقهى حيث رفقاء الدرب يسكرون على روح هزيمتهم بعد إغلاق الجريدة والمطبعة.
ونلاحظ هنا أن الساحة في بغداد شهدت مقتل الحلاج، وساحة القصر تشهد عربدة الملك، بالكأس المعدول (الخمر) والكأس المقلوب (ثدي المرأة). والساحة (الاتساع في المكان) فرصة درامية لتجمع الشخصيات والمجموعات؟ وهكذا فعل عبد الصبور، جمع المتصوفة والعامة وأصحاب الحرف في الساحة في بغداد، حيث يدور المنظر الأول من المشهد الأول، وقد استطاع أن يحرك " المجاميع " بين أضلاع المسرح وزواياه.
كذلك استخدم ساحة القصر لإقامة الحفلات الملكية، وإقامة الحوار بين شخصيات المسرحية في مكان يسمح للناظر أن يرى كل الشخصيات وكل التفاصيل. يقول في مقدمة المشهد الأول سرديا:
(قاعة واسعة يتوسطها مقعد ملكي ضخم... وسط قاعة العرش يقف الملك مزهوا، ووراءه صف من ا الرجال...).
(23513-236)
وبذلك يوظف عبد الصبور اتساع المكان لخدمة الدراما والمشهد المركب، كثير الحركة؟ وفى الوقت نفسه يعرض فخامة قصر الملك، وضخامته ليعطي فرصة اكبر لبيان التناقض بعد ذلك مع "العقم".
أما في الأميرة تنتظر فقد سمعنا عن القصر في البدء وفى الختام، لكنا لم نشهده، ومع ذلك أحسسنا به عن قرب في وصف الأميرة والسمندل، كذلك كان الشأن مع الغابة حيث فهمنا عنها من حديث المتحاورين.
ولا بد أن نشير- هنا- إلى أن تعليق الأميرة في نهاية المسرحية، قد كشف البعد النفسي والاجتماعي، في فعل الخروج من (الكوخ " إلى "القصر"، وفى المقارنة بينهما. وعلى الرغم من أن الملكة في مسرحية بعد أن يموت الملك قد عاشت مع الشاعر في "الكوخ"، حتى حملت بالطفل بعد موت الملك، إلا أن الخروج هنا كان تختلف الدلالة، فخروج الأميرة كان عودة من الماضي / والهروب وتأنيب النفس / وضيق الأفق / والتوهة (؟ في 35312، 356، 389). وكان خروج الملكة مع الشاعر وصلا للحلم وليس بداية جديدة. وفى هذا السياق نقول إن تصوير الأميرة قد لخص لنا تلك المسافة بين الكمون ا الكوخ والخروج ا القصر: 37
" الأميرة: فسأمشى في طرقات " الغابة "
حتى أبواب " القصر "
وسأدخل " ساحة " قصري مترجلة
حتى أتلقى من
خدمي ورعاياي
ما يبهج نفسي من حب وخضوع ".
(12 ير 44)
ولا شك في أن البهجة النفسية كانت نتيجة لقطع هذه المسافة المظلمة الكامنة. وعلى المستوى الاجتماعي خرجت الأميرة والملكة إلى عصر اجتماعي مغاير في الحكم والسلطة، أعنى خرجتا "للحرية"، بعد هروب الأولى كمون الثانية. وبذلك تكون الحرية أوسع من السلطان الملكي، فقد خرجتا إلى حيز اللادولة، إلى الكهف، إلى الطبيعة الأم، حيث الحرية بكر، أو كما يقول العروي: "إن الحرية في نطاق الدولة أ تكن تمثل بالنسبة للفرد إلا حيزا ضيقا. إن حيز الحرية مواز ومخارج لحيز الدولة. لكن حيز الدولة ضيق وحيز اللادولة (أي حيز الحرية) واسع"6 .
وبذلك يكون الاتساع في المكان، تأكيدا على حرية الفرد، أو تأكيدا على الخروج من الذات إلى الآخر.
وهنا يجب أن نشير إلى "المقهى" كمكان أدى دوره الدرامي في ليلى والمجنون، حيث كان فرصة "للغناء"، و"قول الشعر"، و"شرب الخمر"، و"الاصطدام بين الرفقاء"، وكان نقطة تحول درامي داخل المسرحية.
ويتكشف لنا الآن أن المكان في مسرح صلاح عبد الصبور حين يدور في هاتين الحلقتين: ثنائية البيت والسجن، ثم الاتساع في المكان، فإنما يشير إلى اختيار واع، وهذا الاختيار هو ما يجعل للمكان جمالياته الوظيفية الدرامية التقنية، حيث اشتقت الأماكن من الموضوع المعالج، واختيرت الأماكن في الأميرة تنتظر و مسافر ليل بوعي شديد حتى يصل المكان إلى دوره الرمزي، وتحوله إلى قناع، تماما كالشخصية الدرامية. ذلك أن مسرحيتي الفصل الواحد ينتميان إلى مسرح الفكرة، على الرغم من المعالجة الشعرية، الأمر الذي يكشف عن الدور الدرامي الهام للشعر وللصورة الشعرية فيهما. وبعيدا عن اعتبار الأميرة رمزا للوطن، أو الراكب رمزا للضعفاء، وعامل التذاكر والسمندل للتسلط والخداع، فإننا نعتبر المكان بطلا جوهريا في المسرحيتين كالشخصية.
حيث قام "الكوخ" و "القصر" كلاهما ببيان التناقض والتضاد، كما قام "القطار" بتوحيد الزمان والمكان.
أما في بقية المسرحيات الخمس، فالمكان يلعب دوره، ليس كفكرة وقناع وإنما كحيلة وتقنية درامية، ساعدت المبدع على العرض والاتساع والتضييق في آن.
ولا بد أن نشير هنا إلى ضرورة دراسة صور النور والظلمة في مسرح صلاح عبد الصبور، فلهما ارتباط عضوي وثيق بنوع المكان ووظيفته، فقد لاحظنا ارتباط النور بالاتساع وارتباط الظل من ناحية والظلمة من ناحية أخرى بثيمة البيت والسجن، بصرف النظر عن الإضاءة والإظلام كتقنية في يد مختص الإضاءة أو الديكور أو الخرج، إذ لا يتسع المقام هنا للإفاضة في أبعاد هذه الظاهرة بالرغم من أهميتها، ولا بد أن تفرد لها دراسة مستقلة تجمع بين المسرح الشعري والقصائد في إبداع صلاح عبد الصبور.
كما يجب أن نفرق في هذا السياق بين القناع الذي تلبسه الشخصيات في الأميرة تنتظر، وهو قناع حقيقي يساعد على التمثيل والتجريد وتوفير عدد الممثلين، وبين المكان كقناع يغرب الأحداث ويجعلها بعيدة عن واقعنا. ومن ثم تساهم المسافة الحادثة بين الواقع ومشاكله والنص ومشاكله في إثراء التفسير والإيحاء، وتوسيع دلالة المكان والمشهد وما يرتبط به من سياقات نفسية أو اجتماعية؟ وبالتالي يرتفع إلى درجة النموذج التصويري، ويحول المكان وحوادثه إلى مكان مجازى بم وفى هذه الحالة فإن " طبيعة النمذجة في التصوير الأدبي تسبغ القنونة على التعبير المجازى كصيغة من صيغ التصوير الواقعي. وفى التعبير المجازى يستخدم وصف أحد الحوادث: من باب المقارنة، في وصف حادث آخر، وتكون عناصر الحادثتين مختلفة نوعيا ولكن بنيتهما متماثلتان. وإن الإمكانية الموضوعية لعكس العمليات على شكل نماذج بواسطة المجاز قائمة في وجود تماثل في الواقع "7 . وكذلك الحال مع المكان في المسرحية ذات الفصل الواحد عند عبد الصبور.
أما بقية الأماكن فتنبع جالياتها من تاريخ الموضوع المعالج في مأساة الحلاج، أو من الواقع المعاش في ليلى والمجنون، أو من عالم مواز في بعد أن يموت الملك، وقد قامت بدورها الدرامي.
وإذا ربطنا بين الزمان والمكان عنده، لاحظنا أن الزمان والمكان يقتربان حتى يتطابقا في مسرحية الفصل الواحد، بينما يستحضر المكان في زمان يحدده المبدع له، أو يحدده التاريخ بملامح لا يمكن تخطيها في بقية المسرحيات.
4- الصورة الشعرية والمكان
الصورة الشعرية فعالية لغوية، تخرج أنظمة اللغة من بعدها الإشاري إلى بعد مجازى تصويري ورمزي، بمعنى أنها "علاقة لغوية متولدة" تتمتع بخصوصياتها من السياق والموضوع داخل النص المعالج. فهي لذلك بتعبير بشلار "تعبر عنى بتحويلي أنا إلى ما تعبر عنه"8 ، أي أنهها في المسرحية تتحول من ذاق إلى الدراما.
وما يهمنا هنا هو قدرة الصورة الشعرية على خدمة النص المسرحي الذي يعمد أساسا إلى وضع "بصري"، يقوم المكان فيه بدور كبير، حيث تلجأ الصورة الشعرية إلى تحطيم الزمن (ماض، حاضر، مستقبل)، إلى جانب تحطيم (المكان)، بل تحول كليهما إلى الآخر. وهى في هذا تقوم بدور "المونتاج" في الفيلم، حيث تحاول الصورة الشعرية خلق المشهد والمساهمة في رعه مع بقية الأدوات المسرحية الأخرى، إلى جانب أنها تقوم بوظائف عديدة في تشكيل النص الدرامي ثم عند تنفيذه مسرحيا.
ونحاول هنا أن نركز على فكرة واحدة، وهى قدرة الصورة الشعرية، في مسرح صلاح عبد الصبور، على تحويل الزمان إلى مكان، أو تحويل المجرد إلى حس، ذلك أن الصورة الشعرية في مسرح عبد الصبور ذات وظائف عديدة يهمنا منها هذه النقطة- كما حددنا - لاتصالها الوثيق بموضوع البحث- وسنحاول أن نتعرض لأمثلة من مسرحه كله. وحين نبدأ معه من بدايته التاريخية (مأساة الحلاج) نجد الزمان يعبر عنه بصور الشمس، والقمر، والنهار، والصباح، والليل؟ ولكن حين يتحدث عن الأيام التي عافى فيها، نجد صورة الزمان تتحول إلى مكان يتوازى مع نوع هذه الأيام، لذلك نسمع السجين الثاني يقول للحلاج:
"لكن، هل تقضي عمرك مقهورا في ظل
الجدران المربدة؟
كالبومة تنعب فوق خرائب أيام السوء ".
(54312)
فنجد صورة الزمن السيئ (أيام السوء) تتحول إلى "خرائب أيام السوء"، ويتوازى في هذا السياق الحلاج والبومة. وطبيعي أن صورة جزئية لا تفصح عن هوية المسرحية، لكننا نود أن نعرض ملمحا، فكرة جزئية ترتبط بالمكان. ويلاحظ أن الجملة الشعرية السابقة قيلت في السجن.
وفى ليلى والمجنون يشكل الزمن أخطر قضية عند شخصيات: "الشاعر" لأنه في حالة الانتظار لزمن تتحول فيه الحياة إلى الأفضل، ونجد وصف "الأستاذ" للزمن يحوله إلى مكان أيضا:
"الأستاذ: أسد لا يحمل سيفا،
بل يحمل بوقا يصرخ في صحراء الزمن اليابس".
(717/2)
وفى الأميرة تنتظر، وهى تنتظر أيضا كشخصيات ليلى والمجنون، يتحول الزمان إلى حقائب، أو بيت:
"وصيفة 2: خمسة عشر خريفا مذ فارقنا قصر الورد
وصيفة ا: خمسة عشر خريفا مذ حملتنا في العربة
من بين حقائب ماضيها ".
(356/2)
وعلى لسان الأميرة، يتحول الزمن (الماضي/ الميت) إلى بيت، تقول للسمندل:
"هل تكسر باب الزمن الميت
وتبلل أحزاني بالحلوى والقبلات
هل ستعيد إلى الطفلة؟"
(424/2)
وفى مسافر ليل، يتحول الزمن إلى مطلق، والراكب:
"يسقط من عينيه أيامه
تتبدد دوامات فوق حديد الأرضية
لا تتكسر قطعا وشظايا
إذ ليس هنالك شئ صلب".
(619/2)
ونلاحظ أن المطلق والمجرد يصلان إلى زمان الراكب، لذلك تتجمع كل أيام الزمن وتسقط وهو ينظر إلى أوراق الماضي. لذلك يصور الشاعر بدوامات متبددة فوق حديد الأرضية، ليست صلبة، الأمر الذي يجعل هدف الصورة بيان ميوعة هذه الأيام وعدم جدواها لصاحبها.
وفى بعد أن يموت الملك، على لسان الملكة، يتم تصوير الزمن بواسطة المكان. والملكة تكرر صورة الزمن ذي الباب، وهى الصورة التي أوردناها سابقا. تقول:
"الويل لمن يوقظ هذا الطير النائم*
سيكسر "باب الزمن الموصود" ويحطم أقفاله
حتى تخرج من "سرداب الماضي" قطع الظلمات المختالة".
(32513)
ونلاحظ أن الصورة (باب الزمن) تكبر هذه المرة وتنمو وتمتد، وفى لحظة يكون الزمن هو التحدي الوحيد في المسرحية.
وبالصورة الشعرية: الزمكانية يكتمل دور المكان في تشكيل النص عند عبد الصبور، خاصة، وقضية الزمن قضية جوهرية في كل مسرحياته، وتحولت أيضا على يديه، وعلى لسان شخصياته، إلى مكان، أو حس مادي مكاني.
وعلى الرغم من تعدد مسرحيات صلاح عبد الصبور الخمس، من حيث الموضوعات المعالجة، والشخصيات، بل الأجواء الدرامية التي يستخدمها داخل نصوصه، أقول إنه على الرغم من ذلك، فإن مسرح صلاح عبد الصبور يبدو ضيقا، ترتد عناصره المكانية إلى حيز ضيق.
أعنى أن مسرحياته تتحرك حول ما عرضناه على المستوى المكاني، ثنائية البيت والسجن، ثم الاتساع في المكان. وقد لاحظا أن البيت قد يتحول إلى قصر أو كوخ بسيط، أو منزل شعبي أو مقر جريدة؟ لكنه يظل محتفظا بدلالة الألفة والنشأة. وعلى النقيض يتحول السجن ولوازمه (المحكمة) إلى الضيق من المكان، ويترادف في غالبية السياقات مع "الظلم" و "القهر". وأيضا يقف الاتساع في المكان وسيطاً بين ثنائية الألفة والخوف (البيت 2 السجن) يحل مشكلة الضيق المكاني.
ومن هنا نستطع القول إن مسرح صلاح عبد الصبور يتحرك خلال عناصر مكانية محدودة، وثيمات مكانية ثابتة، وإن كانت تتعدد، فهي تتعدد في تجليات مختلفة، لا يتغير جوهرها، بل يظل الجوهر ثابتا، ويتحرك العرض، الشكلي؟ الأمر الذي يلقى سؤالا حول المكان في مسرح صلاح عبد الصبور، هل هو فقير في عناصره ومكوناته، وهل يترتب على ذلك القول بضيق ومحدودية عناصر الرؤية الجمالية للواقع عند عبد الصبور؟ خاصة وأن مسرحياته ترتد دائما للوراء حيث نجد الكوخ، والقصر، * "والطير النائم" هو الملك الميت/ الماضي الميت.
والسجن، والبيت، ومخدع النوم، ومحل العمل، وكلها مفردات كثيرا ما شكلت مسرحيات كثيرة قبله، وليس ببعيد، مسرح أحمد شوقي الشعري، أو مسرح على أحمد باكثير.
ومن هذين السؤالين، نستطيع في ثقة، أن نقول: إن توظيف صلاح عبد الصبور لهذه المفردات المكانية المحدودة قد أغنى هذه المفردات، حتى أننا نحس للوهلة الأولى بتعددها، وكثرتها، بسبب جودة التوظيف، والقدرة على وضعها موضعا صحيحا يبعد عنها الملل والتكرار والفقر.
لكن ينبغي أن نلاحظ أن هذه المفردات تكثر في شعره أيضا، الأمر الذي يفرض على دارس مسرحه ضرورة ربطه بشعره خاصة شعره الدرامي ا.
كذلك يكشف البعد المكاني في الصورة الشعرية لديه عن توجه بصري حسي، ينحو نحو التجسيد والتشكيل المرئي، وعلى هذا النحو، تفسر معالجة الزمن عنده معالجة المكان أي تحويل الزمان إلى صورة مكانية محسوسة بالرؤية البصرية.
الهوامش:
ا- بشلار، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، كتاب الأقلام رقم (1)، وزارة الثقافة والأعلام، بغداد، 1980، ص 46.
2 -Wolfgang Clemen, The Development of Shakespeare's Imagery - London, Methuen. 1966, p. 102
3- عز الدين إسماعيل، "الصورة الشعرية"، المجلة، عدد 34، 1969.
4- نعتمد هنا طبعة دار العودة، بيروت، للأعمال الكاملة لشعر ومسرح صلاح عبد الصبور، وسوف نشير إلى رقم المجلد يتبعه رقم الصفحة داخل المقال في نهاية الشواهد.
5- بشلار، جماليات المكان، ص 54.
6- عبد الله العروي، مفهوم الحرية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 25، 1983، ص 24.
7- هورست ولديكر، الانعكاس والفعل، ترجمة فؤاد مرعى، دار الجماهير، دمشق، دار ا الفارابي، بيروت، 977 1، ص 29.
وانظر في هذا السياق:
- جابر عصفور، (أقنعة الشعر العربي المعاصر)، فصول، المجلد ا، العدد 4، يوليو/ 43 سبتمبر 1981.
- رياض عصمت، (أربعة أقنعة مسرحية لصلاح عبد الصبور ) مجلة "المعرفة" السورية، العدد 132 ، 1973.
وانظر لجابر عصفور أيضا:
(معنى الحداثة في الشعر المعاصر)، فصول، المجلد 4، العدد 4، يوليو / سبتمبر 1984
8- السابق، ص 26، وانظر أيضا مواضع صفحات 19، 29، 31.
|
|
|