الأستاذ محمد جلال ذكر نقطة هامة .. نقطة جوهرية.. إن الكتابة الأدبية- والتأليف عموماً- لا ينبغي لها أن تكون مهنة ( حرفة) مثلما ينبغي ألا يمتهن رجل الدين الإرتزاق من دينه! هل يعقل أن يحترف الشيخ دينه فيتكسب منه؟؟
الكتابة والتأليف يجب أن تكون رسالة سامية فوق اعتبارات الربح والخسارة المادية! لأن غاية الكتابة الأساسية هي التأثير في وعي الناس ووجدانهم وإدراكهم.. مثل تأثير الدين تماماً.. وليست غاية الكتابة ولا الدين استغلال الناس وإفراغ جيوبهم مقابل الأفكار!
أما مسألة تأمين معيشة الكاتب فتقع على عاتق مخططي التنمية الإجتماعية بالدرجة الأولى .. فمثلاً لو أن الميزانية التي انصرفت على رفع الأرصفة وتهديمها وإعادة تبليطها وتحسين مجرى النهر عدة مرات متتالية!! ( خلال السنتين المنصرمتين وحدهما) لو أنها صرفت على الأدباء لعاش جميعهم في بحبوحة..
كما أنه لو استغنت الحكومات عن جيش البطالة المقنعة- البطالة المستترة- الذي يرتزق عناصرها من وظائفهم الحكومية الخلابية بدون أن يداوموا سوى ساعة واحدة في اليوم ولا يؤدون أي عمل على الإطلاق.. لو استغنت الحكومة عنهم واستعاضت بالمؤلفين والمبدعين وأحلت المؤلفين محل أولئك المتبطلين.. عندها كانت مشكلة الكاتب قد انحلت إلى الأبد..
ولو استطاعت الحكومة ضبط اللصوص (الذين ينهبون البلد يومياً) وكفت أيديهم عن خزينة الدولة ثم صرفت ما يعادل تلك المسروقات على المبدعين لكانت الحال غير ما هي عليه الآن ( حسب جريدة تشرين الحكومية فإن الرقابة المالية تكتشف اختلاسات حكومية بمقدار مليون ليرة يومياً = يعني ما تكتشفه الرقابة هو 366 مليون ليرة تذهب سرقات مختلسة !! والمخفي أعظم طبعاً)..
مشكلة المفكر أو الأديب العربي (تحديداً) أنه أمام معضلة حقيقية متشعبة بالفعل..
فبالإضافة إلى سوء التخطيط التنموي هناك مشكلة جفاف المطالعة في عقول المواطنين العرب.. لو كان الناس في العالم العربي يقرأون بمقدار ما يقرأ الناس مثلاً في أي دولة أوربية (اليونان بمفردها) لصار حال مؤلفي الكتب في دنيا مختلفة تماماً ..
ولو كان هناك تنظيم صارم لصناعة الكتاب العربي والفكر العربي لما آلت الأمور إلى هذا الحد المزري..
في كل دول العالم ينتفع الأديب من كتابة المقالات والدراسات والترجمات ونشرها في العديد من الصحف والمجلات الدورية.. التي تعتمد بتمويلها أصلاً على الإعلانات التجارية.. وفي كل بلد من بلدان العالم عشرات الصحف والمجلات المحلية تتفنن في اتجاهاتها واهتماماتها..ويستفيد المؤلفين من التعامل معها.. إما بنشر أعمالهم الأدبية ( أو حتى العلمية) على أجزاء متسلسلة قبل جمعها في كتاب.. أو بالتحليل النقدي أو الفكري في زاوية يومية أو أسبوعية..
لكننا في العالم العربي بالكاد نرى صحفاً تتجاوز عدد أصابع الكف الواحدة في دولة كاملة.. وطبعاً لا يخفاكم ما هي اتجاهاتها واهتماماتها.
ولو كان العرب يعاملون المؤلفين بمقدار نصف معاملتهم للمطربين والمترقوصين لكان لنا كلام آخر.. فالمطرب والراقصة ينال كل منهما على الساعة عشرات الآلاف مقابل حفلة طرب تافهة.. بينما يرفض الناس دخول قاعة فيها محاضرة فكرية - أو أدبية - قيمة جداً .. مع أنها مجانية!
ولو أن سفهاء الكرماء الذين يسبغون على الراقصات الملايين وينفقونها بسخاء تحت أقدامهن لو أنهم جعلوا جوائز مالية للمؤلفين ( الأدباء والمفكرين) بمقدار ربع ما ينفقونه على تفاهات الطرب والمجون لما صار الوضع مقرفاً بهذا الشكل: أتفه مطربة أو راقصة تمتلك العديد من السيارات والمنازل بينما مئات المبدعين يضطر الواحد منهم لركوب سيارات الأجرة ويسكن بالأجرة ويعرض نفسه للأجرة!
ولو أن الحقير العربي الذي أوصى على صنع سيارة خاصة له مصنوعة بالكامل من الفضة من أصغر برغي فيها إلى أكبر شيء فيها!! (التي لم يطلب أحد غيره مثلها في تاريخ البشرية بحسب الشركة الصانعة) لو أنه علم أن مصيره إلى قرار جهنم جراء إسرافه القذر فاقتنع وباع تلك السيارة .. وأنفق ثمن تلك السيارة على المبدعين لعاش المبدعون في نعيم عربي يحسدون عليه..
من المذنب بوصول الناس إلى هذه الحالة؟؟ ..
المشكلة عويصة ومعقدة جداً ولا تكفي أسطر قليلة لتشريحها .. إنما يمكن القول أننا لم نتعلم منذ مئات السنين كيف نعتمد المطالعة لكي تصبح جزءً لا يتجزأ من حياتنا، ركناً أساسياً في بناء حياتنا، سلاحاً نستخدمه لحماية أنفسنا من الإستغلال..
نحن لا نزال نرضع الجهل والتجاهل والضعف والإستكانة مع حليب أمهاتنا.. فكيف سيتغير حالنا ؟؟
إلا أنّ كل ما سبق لا يبيح حق إحتكار الفكر والعلم والأدب أمام أحد.. خاصة أنه كما قال الأخ بدر ( حمدان) أن المؤلف لا ينال أصلاً سوى القليل جداً بينما تضيع باقي عائدات كتابه على الطفيليين والمستنفعين المرتزقين الذين يعيشون عالة على أكتاف جميع الناس، ويمتهنون توزيع الكتب وطباعتها ونشرها بقصد الربح المادي ليس أكثر.. ويتفننون في استغلال الكاتب وقرائه.
وكما ذكر الأخ قيس فإن دولة اقتصادها مزعزع مثل روسيا استطاعت التغلب على مشكلة تمويل المبدعين والمؤلفين وسد حاجاتهم المالية وأباحت أمام كافة الناس بسهولة ويسر نتاج البشرية الفكري كله!
فكيف أفلحت دولاً عديدة فقيرة سد تلك الثغرة ( الهوة ما بين المؤلف وبين حاجاته المالية) بينما عالمنا العربي الغني الذي تطمع بثرواته شعوب الأرض ومع ذلك يعجز عن تقليد تلك الدول الفقيرة نسبياً ؟؟!!
ليس لومي وغضبي منصباً على الكاتب ( الأديب أو المفكر).. ولكن غيظي منه أنه رضي بالدوران في حلقة الإستغلال الحقيرة النتنة .. ورغم علمه بحقارة اللعبة يواصلها مذعناً مستكيناً، ولا يتمرد عليها، ولا يحاول أن يبحث عن حلول بديلة للإستغلال المقيت.. إن ذلك الموقف السلبي يشعل غضب الناس ويدفعهم لكسر قواعد الإحتكار وقوانين الإستغلال بأي شكل وأية طريقة ..
إن سوء أوضاع المؤلفين ومشاكلهم المالية يجب ألا تكون حلولها على حساب الناس المعترين .. الذين لا يجد أغلبهم قوت يومه أصلاً .. يجب أن لا يساهم المؤلف المبدع باستغلال الناس المساكين ويجب أن يرفض محاولة جعله سيفاً مالياً مسلطاً على رقاب الناس.. لصالح جيوب التجار الجشعين..
أما الحلول البديلة فتحتاج مؤتمرات عامة ولا يمكن لمداخلة بسيطة التطرق إلى كافة احتمالاتها وطروحاتها..
ولكن أمام أنظارنا تجارب عديدة في كافة أصقاع الأرض .. نجحت .. وتغلبت على طوق الإستغلال الفكري ولو جزئياً.. فاستطاعت توفير الكتاب الورقي نفسه للناس بأسعار بسيطة: تعالوا نحسبها.. معدل سعر الكتاب الوسطي عندهم هو عشرة دولارات.. ومتوسط راتب الموظف الشهري ألف وخمسمئة دولار.. يعني لو حولناها على الليرة السورية .. يكون ثمن الكتاب خمسمئة ليرة مقابل راتب موظف يعادل خمسة وسبعين ألف ليرة!! هل تعتقدون أن ثمن الكتاب عندئذ باهظاً؟؟
ناهيك عن
برامج المساعدة الإجتماعية Welfare التي تصرف للعاطلين عن العمل راتباً لا يقل عن خمسمئة دولار شهرياً.. فماذا يصرف على المؤلفين عندنا ؟؟
رجاءً .. لا يقول لي أحد أن بلادنا هي أفقر من بلادهم .. لو كان الأمر كذلك لما استماتوا لخوض حروب طاحنة غايتها الأساسية هي السيطرة على ثروات العالم العربي..
وكل كتاب وأنتم بخير.