المنتدى :
خواطر بقلم الاعضاء
ليلة عزاء العمدة
ليلة عزاء العمدة
بالفعل كانت ليلة رهيبة ، عاشتها قرية الناصر ، كنت تستطيع أن تسمع بوضوح ، ولو كنت هناك على مشارف حدودها ، أصوات الرجال ، وهى تصهل فى ليلها ، و كأنهم بين وهج نار ، بين أنياب وحوش ضارية ، الغوث يطلبون ، بينما بين الفينة و الأخرى تعلو أصوات ضربات ، و طرقات عصى ، تشج الحجر الصوان ، وربما صراخ نسوة ، وفى الخلاء ركضهن ، يبدو واضحا ، مسرعات طالبات النجدة !
لن تنسى القرية ليلة بالتأكيد ، نكص رؤوسهم فيها الرجال ، و بشكل مفاجىء ، ومبكٍ لأبعد حد ، أمام نسائهن ؛ فقد كانت ليلة ، ودعوا فيها ابن العمدة الصغير ، و بكامل عددهم احتشدوا لعزاء كبيرهم ، و أحد منهم لم يتخلف ، مخافة ورهبة ، وربما إتباعا لحديث رسولنا الكريم !
اندفع الرجال ، كل من طريق ، و كأنهم بالفعل يعرفون ما انتابهم ، كان ذلك قبيل أذان الفجر بساعتين على الأكثر ، كل وضع فى عينيه صورة و قامة ، وكفا أطبقت على كفه ، كف كان لها قوة السحر ، و اتجاها يسير فيه ، و بأسرع ما يمكن ؛ لدرء خطر داهم ، بعد أن طاشت رجولتهم ، و هراء أمست ، و عجزا ناقعا ، ربما حمل واحد منهم شرشرة أو فأسا أو بلطة ؛ دفاعا كانت عن كينونتهم ووجودهم ، فلا يصح بأية حال ، ومهما كان ، أن يصبحوا أمام النساء بلا جدوى ، ليكون التخبط ، وقلة القيمة ، و البحث عن بدائل هم فى غنى عنها .. !!
عطوان .. كانت البلطة معلقة في جيب سرواله ، و قد لف جلبابه حول وسطه ، و بين المزارع اتخذ طريقا ، و قطيع من كلاب يطارده ، فما كان منه سوى التقاط كمية هائلة من الطوب و الحصى ، و صكها في رؤوسها، أو كيفما اتفق ، حتى و صل بعد مكابدة إلى عزبة السبع ، التي ترقد فيها بغيته .
بجانب مصرف كانت مشاية ، أى جسر لعبور، ونقيق يدوى ، ولا ينقطع صرير ، و عفاريت تترقص ، و ترمى بنفسها على تراب السكة ، تتراقص به ، وتنهكه ، هو لا يهدأ ، وإن نال منه الخوف ، إلا أنه مستمر ، و بالحصوات ، و بعض آيات قرآنية ، يطارد شياطين و عفاريت ، تراوغه وتكاد تبكيه ، حتى وصل أخيرا ، و قد طقطق شعر رأسه تماما !!
طرق بابا مغلقا بالبلطة. أفزع من كان خلفه ، و لكن سرا في الأمر ، الباب فتح ، و قابله وجه الشيخ بركات ، عبوسا في أول الأمر ، وحين تأكدت حاجة القادم ، ابتسم وهو يتابع شيئا خلفه ، وأخيرا فتح له ؛ ليعبر إلى الداخل :" أنا مش جى أتضايف .. اخلص ".
بافتعال تصنع الغضب :" قال يا قاعدين يكفيكم شر الجايين .. مالك ".
و فجأة رفع البلطة :" قلت لك اخلص ، و بلاش لف و دوران .. يللا ، لأحش رقبتك !! ".
هنا تراجع بركات قليلا ، و على دكة خلفه استرخى:" طيب ماشى .. أمرك .. بس أعرف ..مش نتفق الأول على الحلاوة ؟!".
قليلا هدأ عطوان ، وعن غضبه لم يتنازل:" اللى تقول عليه يا كافر .. بس خلصني ".
كانت لعبة ، لعبها عبد الجبار بمهارة ، بعد كساد الحال ، و عجزه تماما ، عن تدبير مال لازم لسفر ولده ، إلى دولة خليجية ، فراح يلف على كل معارفه ، من شيوخ المندل و الكوتشينة ، و الربط و الأعمال ، و غيرهم من الدجالين المهمين والمعروفين بسوء فعالهم ، ممن وضعهم الناس ، فى بؤرة أهل الإيذاء والسحر و تناسوهم حتى بالسلام .
دبر معهم الأمر ، على أن ينال نسبة من حصاد عملهم ، ووافقوه تماما ، كانت مناسبة عزاء العمدة فى ولده كافية ، تماما كافية وعز الطلب ؛ لملء جيوبهم ، بل أكثر ، امتلاك مالم يستطيعوا خلال سنين من أغنام و ماعز !
في طابور المعزين على منافذ المقابر اندسوا ، متباعدين وقفوا ، كل أهل القرية مروا عليهم ، رجالها و شبابها ، و برغم اكتراث الجميع ، و محاولة تجاهلهم ، إلا أنهم ، و بلا استثناء وقعوا في الشرك ، و سلموا عليهم ، لتكون هواجس و قلق و استرابة ، تلازمهم بشكل بشع ، بل مرضى ، حتى فراشهم ، و لم يستطع سوى قلة التغلب على هذه الحالة ، لأن رؤوسهم كانت قادرة ، على الفتك بأي هاجس قد يحاول النيل منها ، وهؤلاء يطلق عليهم الدجالون :" دمهم زفر كالشياطين !!".
طائرا عاد عطوان ، يركل الأرض ، و الشياطين يضاحك ، وعفاريت المصرف ، بل و يكاد ينازلهم ، و من بعيد تنتظر أوبته الكلاب ، و مر من بينها ، و بكل بساطة ، و حين ابتعد قليلا ، كانت تركض خلفه ، وهو يطير مفعما ، يلوح بالبلطة ، كان يلمح على مدد الرؤية الكثير من الهياكل ، تسعى فى ظلام البلدة ، بين مغادر و عائد ، حتى وصل داره ، فرمى بالبلطة جانبا ، وفى لمح البصر تخلص من جلبابه ، و كافة ثيابه ، وطار ، وحط في أحضان زوجته ، أكثر فحولة وبأسا !
:" أنت واد غلبان .. كفاية عليك ورقة بخمسة .. قلت إيه ؟!!".
:" يعنى جيت فى جمل .. يللا بس أنت .. الله لا يسيئك ".
قدم له الورقة ، وهو يتأمل فيها عرقه ، و بيد مترددة ، فلقفها منه بركات ، وفورا وضعها في جيبه ، و أمسك به ، وعزم عليه ، ببعض كلمات يتمتم، وسهم الله كأنه حط بقلب عطوان ، لا ينطق ، ولا يأتي ببنت شفة ، يفغر فاهه كأنه يعبئه بأشكال التمتمات ، و رائحتها ، أو هو يتذوقها .
:" خلاص ياعم .. يللا .. بقيت صاغ سليم .. اتكل على الله ".
:" جد .. أما لو بتضحك عليه ؛ و الله لأجيب خبرك ، أفلقك اتنين ".
:" يللا يارجل ، بلاش جعجعة زى عدمها .. لا .. تعالى من هنا ، ما يصحش حد يشوفك ياوله .. يللا ، الباب التانى وراك أهووه ".
عاد الهدوء للقرية مع حلول الفجر، حين خمدت أوتار النشوة ، و نامت رؤوس النار ؛ بينما كانت دار عبد الجبار تلفها ألسنة دخان معبأ بالكيف ، و ضحكات ساخرة تعلو فيها ، و ربما مساومة أحد الرجال على حصة أكبر ، و لكنه بالتأكيد كان يفكر في حيلولة فعل ذلك مرة أخرى ، فى الوقت الحالي على الأقل ؛ حتى ينسى أهل القرية والعزب المجاورة ، ليلة عزاء العمدة في ولده الأصغر !!
|