لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > المنتدى العام للقصص والروايات > القصص المكتمله
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

القصص المكتمله خاص بالقصص المنقوله المكتمله


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 28-03-09, 02:21 PM   المشاركة رقم: 16
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Feb 2009
العضوية: 126160
المشاركات: 3,393
الجنس أنثى
معدل التقييم: الجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جدا
نقاط التقييم: 586

االدولة
البلدPalestine
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
الجنية السمراء غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : الجنية السمراء المنتدى : القصص المكتمله
Ciao

 


ما الذي كنت تريدينه ذلك المساء؟ عندما جاء هاتفك فجأة ليخرجني من دوامة أفكاري وأحاسيسي المتناقضة؟
حين مدّ حسان نحوي الهاتف وقال: "هناك امرأة تريد أن تتحدث إليك.." توقّعت كل شيء إلا أن تكوني أنتِ.
سألتكِ بدهشة:
- ألم تسافري بعد؟
قلتِ:
- سنسافر بعد ساعة.. أردت أن أشكرك على اللوحة.. لقد وهبتني سعادة لم أتوقّعها..
قلت لكِ:
- أنا لم أهبك شيئاً.. لقد أعدت لكِ لوحة كانت جاهزة لكِ منذ خمس وعشرين سنة.. إنها هدية قدرنا الذي تقاطع يوماً. وأما أنا فلي هدية أخرى أتوقع أن تعجبك، سأقدمها لك ذات يوم فيما بعد..
قلتِ بصوت خافت وكأنك تخافين أن يسترق أحد السمع إليك أو يسرق منكِ تلك الهدية:
- ماذا ستهديني؟
قلت:
- إنها مفاجأة.. لنفترض أنني سأهبك غزالة.
قلتِ مدهوشة:
- إنه عنوان كتاب!
قلت:
- أدري.. لأنني سأهبك كتاباً. عندما نحب فتاة نهبها اسمنا. عندما نحب امرأة نهبها طفلاً. وعندما نحب كاتبة.. نهبها كتاباً. سأكتب من أجلك رواية.
أحسست في صوتك بشيء من الفرح والارتباك.. شيء من الدهشة والحزن الغامض. ثم قلتِ فجأة بنبرة عشقية لم أعهدها منك:
- خالد.. أحبك.. أتدري هذا؟
وانقطع صوتك فجأة، ليتوحد بصمتي وحزني، ونبقى هكذا لحظات دون كلام. قبل أن تضيفي بشيء من الرجاء:
- خالد.. قل شيئاً.. لماذا لا تجيب؟
قلت لك بشي من السخرية المرة:
- لأن رصيف الأزهار لم يعد يجيب..
- هل تعني أنك لم تعد تحبني؟
أجبتك بصوت غائب:
- أنا لا أعني شيئاً بالتحديد.. إنه عنوان لرواية أخرى للكاتب نفسه!
ماذا قلت لك بعدها، لا أذكر. من الأرجح أن يكون هذا آخر ما قلته لك قبل أن أضع السمّاعة، ونفترق لعدة سنوات.
***
"لا تطرقي الباب كل هذا الطرق.. فم أعد هنا".
لا تحاولي أن تعودي إليّ من الأبواب الخلفية، ومن ثقوب الذاكرة، وثنايا الأحلام المطويّة، ومن الشبابيك التي أشرعتها العواصف.
لا تحاولي..
فأنا غادرت ذاكرتي. يوم وقعت على اكتشاف مذهل: لم تكن تلك الذاكرة لي، وإنما كانت ذاكرة مشتركة أتقاسمها معك. ذاكرة يحمل كل منا نسخة منها حتى قبل أن نلتقي.
لا تطرقي الباب كل هذا الطرق سيدتي.. فلم يعد لي باب.
لقد تخلّت عني الجدران يوم تخلّيت عنك، وانهار السقف عليّ وأنا أحاول أن أهرّب أشيائي المبعثرة بعدك.
فلا تدوري هكذا حول بيت كان بيتي.
لا تبحثي عن نافذة تدخلين منها كسارقة. لقد سرقت كلّ شيء منّي، ولم يعد هناك من شيء يستحقّ المغامرة.
لا تطرقي الباب كلّ هذا الطرق الموجع..
هاتفك يدقّ في كهوف الذاكرة الفارغة دونك، ويأتي الصدى موجعاً ومخيفاً.
ألا تدرين أنني أسكن هذا الوادي بعدك، كما يسكن الحصى جوف "وادي الرمال"؟
تمهّلي سيدتي إذن..
تمهّلي وأنت تمرّين على جسور قسنطينة. فأية زلة قدم سترميني بسيلٍ من الحجارة. وأي سهو منك سيرميك هنا عندي لتتحطمي معي.
يا امرأة متنكّرة في ثياب أمي.. في عطر أمي وفي خوف أمي عليّ..
متعب أنا.. كجسور قسنطينة. معلّق أنا مثلها بين صخرتين وبين رصيفين.
فلماذا كل هذا الألم..؟ ولماذا.. أكذب الأمهات أنت، وأحمق العشاق أنا؟
لا تطرقي أبواب قسنطينة الواحد بعد الآخر.. أنا لا أسكن هذه المدينة.. إنها هي التي تسكنني.
لا تبحثي عني فوق جسورها، هي لم تحملني مرة.. وحدي أنا حملتها.
لا تسألي أغانيها عنّي، وتأتني لاهثة بخبرٍ قديم _جديد، وأغنية كانت تغنّى للحزن فصارت تغنّى للأفراح..
"قالوا العرب قالوا *** ما نعطيوْ صالح ولا مالُو
قالوا العرب هيهات *** ما نعطيوْ صالح باي البايات.."
أعرف عن ظهر قلب ما قاله العرب، وما لم يجرؤوا اليوم على قوله.
وأدري.. كان "صالح" ثوب حدادك الأول حتى قبل أن تولدي. كان آخر بايات قسنطينة.. وكنت أنا وصيّته الأخيرة: "يا حمودة.. آخ يا وليدي تها الله لي في الدار.. آه.. آه..".
أي دار يا صالح.. أي دار توصيني بها؟
لقد زرت (سوق العصر) وشاهدت دارك فارغة من ذاكرتها. سرقوا حتى أحجارها، وشبابيكها الحديدية. خرّبوا ممراتها وعبثوا بنقوشها.. وظلّت واقفة، هيكلاً مصفرّاً يبول الصعاليك والسكارى على جدرانه.
أيّ وطن هذا الذي يبول على ذكرته يا صالح؟
أي وطن هذا؟
ها هي ذي مدينة تلبس حداد رجل لم تعد تذكر اسمه. وها أنت ذي طفلة لا أحد يعرف قرابتها بهذه الجسور..
فانزعي "ملايتك" بعد اليوم.. وارفعي عن وجهك الخمار، ولا تطرقي الباب كل هذا الطرق..
فلم يعد صالح هنا.. ولا أنا.
افترقنا إذن..
الذين قالوا الحب وحده لا يموت، أخطأوا..
والذين كتبوا لنا قصص حب بنهايات جميلة، ليوهمونا أن مجنون ليلى محض استثناء عاطفي.. لا يفهمون شيئاً في قوانين القلب.
إنهم لم يكتبوا حباً، كتبوا لنا أدباً فقط
العشق لا يولد إلا في وسط حقول الألغام، وفي المناطق المحظورة. ولذا ليس انتصاره دائماً في النهايات الرصينة الجميلة..
إنه يموت كما يولد.. في الخراب الجميل فقط!
افترقنا إذن..
فيا خرابي الجميل سلاماً. يا وردة البراكين، ويا ياسمينة نبتت على حرائقي سلاماً.
يا ابنة الزلازل والشروخ الأرضية! لقد كان خرابك الأجمل سيدتي، لقد كان خرابك الأفظع..
قتلت وطناً بأكمله داخلي، تسللت حتى دهاليز ذاكرتي، نسفت كل شيء بعود ثقاب واحد فقط..
من علّمكِ اللعب بشظايا الذاكرة؟ أجيبي!
من أين أتيت هذه المرة _أيضاً_ بكل هذه الأمواج المحرقة من النار. من أين أتيت بكل ما تلا ذلك اليوم من دمار؟
افترقنا إذن..
لم تكوني كاذبة معي.. ولا كنتِ صادقة حقاً. لا كنتِ عاشقة.. ولا كنتِ خائنة حقاً. لا كنتِ ابنتي.. ولا كنتِ أمي حقاً.
كنت فقط كهذا الوطن.. يحمل مع كل شيء ضده.
أتذكرين؟
في ذلك الزمن البعيد، في ذلك الزمن الأول، يوم كنت تحبينني وتبحثين فيّ عن نسخة أخرى لأبيك.
قلت مرة:
- انتظرتك طويلاً.. انتظرتك كثيراً، كما ننتظر الأولياء الصالحين.. كما ننتظر الأنبياء.. لا تكن نبياً مزيفاً يا خالد.. أنا في حاجة إليك!
لاحظت وقتها أنكِ لم تقولي أنا أحبك. قلتِ فقط "أنا في حاجة إليك"..
نحن لا نحب بالضرورة الأنبياء. نحن في حاجة إليهم فقط.. في كل الأزمنة.
أجبتك:
- أنا لم أختر أن أكون نبياً..
قلت مازحة:
- الأنبياء لا يختارون رسالتهم، إنهم يؤدّونها فقط!
أجبتكِ:
- ولا يختارون رعيّتهم أيضاً. ولذا لو حدث واكتشفتِ أنني نبيّ مزيّف.. قد يكون ذلك لأنني بعثت لرعية تحترف الردّة!
ضحكت.. وبعناد أنثى يغريها التحدّي قلت:
- أنت تبحث عن مخرج لفشلك المحتمل معي، أليس كذلك؟..
لن أمنحك مبرراً كهذا. هات وصاياك العشر وأنا أطبقها.
نظرت إليك طويلاً يومها. كنت أجمل من أن تطبّقي وصايا نبي، أضعف من أن تحملي ثقل التعاليم السماوية. ولكن كان فيك نور داخلي لم أشهده في امرأة قبلك.. بذرة نقاء لم أكن أريد أن أتجاهلها..
أليس دور الأنبياء البحث عن بذور الخير فينا؟
قلت:
- دعي الوصايا العشر جانباً واسمعيني.. لقد جئتك بالوصية الحادية عشرة فقط..
ضحكت وقلت بشيء من الصدق:
- هات ما عندك أيها النبي المفلس.. أقسم أنني سأتبعك!
لحظتها شعرت برغبة في أن أستغلّ قسمك. وأقول لك: "كوني لي فقط.." ولكن لم يكن ذلك كلام نبي. وكنت دون أن أدري قد بدأت أمثّل أمامك الدور الذي اخترته لي.. فرحت أبحث في ذهني عن شيء يمكن أن يقوله نبي يباشر وظيفته لأول مرة.. قلت:
- احملي هذا الاسم بكبرياء أكبر.. ليس بالضرورة بغرور، ولكن بوعي عميق أنك أكثر من امرأة. أنت وطن بأكمله.. هل تعين هذا؟ ليس من حق الرموز أن تتهشّم.. هذا زمن حقير، إذا لم ننحز فيه إلى القيم سنجد أنفسنا في خانة القاذورات والمزابل. لا تنحازي لشيء سوى المبادئ.. لا تجاملي أحداً سوى ضميرك.. لأنك في النهاية لا تعيشين مع سواه!
قلت:
- أهذه وصيتك لي.. فقط؟!
قلت:
- لا تستهيني بها.. إن تطبيقها ليس سهلاً كما تتوهّمين.. ستكتشفين ذلك بنفسك ذات يوم..
كان لا بد ألا تسخري يومها من وصية ذلك النبي المفلس.. وتستسهليها إلى هذا الحد..!
مرّت ستّ سنوات على ذلك السفر. على ذلك اللقاء، ذلك الوداع.
حاولت خلالها أن ألملم جرحي وأنسى. حاولت منذ عودتي، أن أضع شيئاً من الترتيب في قلبي. أن أعيد الأشياء على مكانها الأول، دون ضجيج ولا تذمّر، دون أن أكسر مزهرية، دون أن أغيّر مكان لوحة، ولا مكان القيم القديمة التي تكدّس الغبار عليها داخلي منذ زمن.
حاولت أن أعيد الزمان إلى الوراء، دون حقد ولا غفران أيضاً.
لا.. نحن لا نغفر بهذه السهولة لمن يجعلنا بسعادة عابرة، نكتشف كم كنا تعساء قبله. ونغفر أقل، لمن يقتل أحلامنا أمامنا دون أدنى شعور بالجريمة.
ولذا لم أغفر لك.. ولا لهم.
حاولت فقط أن أتعامل معك ومع الوطن بعشق أقل. واخترت اللامبالاة عاطفة واحدة نحوكما.
كان يحدث لأخبارك أن تصلني عن طريق المصادفة، وأنا أستمع إلى من يتحدث عن زوجك، عن صعوده المستمر.. وعن صفقاته وشؤونه السرية والعلنية التي تشغل أحاديث المجالس.
وكان يحدث لأخبار الوطن أن تأتيني أيضاً تارة في جريدة، وتارة في مجالس أخرى. وتارة عندما زارني حسان بعد ذلك لآخر مرة ليشتري تلك السيارة التي وعدته بها..
وكل مرة، كنت أواجه كل ما أسمعه باللامبالاة نفسها التي لا يمكن أن يولّدها سوى اليأس الأخير.
بدأت أتعلّق بحسان فقط، وكأنني اكتشفت فجأة وجوده. أصبح أمره وحده يهمني بعدما وعيت أنه كل ما تبقّى لي في هذا العالم، وبعدما اكتشفت تلك الحياة البائسة التي كان يعيشها، والتي كنت أجهل كل شيء عنها قبل زيارتي إلى قسنطينة.
أصبحت أطلبه هاتفياً بانتظام. أسأله عن أخباره وعن الأولاد، وعن البيت الذي كان ينوي أن يقوم فيه ببعض الإصلاحات، والذي وعدته أن أتكفّل بمصاريف ترميمه وتجديده.
كانت معنوياته تنخفض وترتفع من هاتف إلى آخر. كان يحدثني تارة عن بعض مشاريعه، وعن بعض الاتصالات التي يقوم بها ليتم نقله إلى العاصمة.. ثم يعود ويفقد فجأة حماسه.
كنت أعرف ذلك عندما يسألني في آخر مكالمته:
- متى ستأتي يا خالد؟
أشعر عندئذٍ أنه باخرة تغرق، وتبعث إشارة ضوئية تطلب النجدة مني.
وبرغم ذلك، كنت أسايره فقط، وأعده كل مرة أنني قد أزوره في الصيف القادم. وكنت أعرف في أعماقي أنني أكذب، وأنني قطعت الجسور مع الوطن حتى إشعار آخر.
في الواقع، أصبحت عندي قناعة بانعدام الأمل. كان القطار يسير في الاتجاه المعاكس، وبسرعة لم يكن ممكناً معها أن نفعل شيئاً.. أي شيء، غير الذهول وانتظار كارثة الاصطدام.
وكنت أحزم حقائب القلب.. وأمضي دون أن أدري في اتجاهٍ آخر أيضاً، في الاتجاه المعاكس للوطن.
رحت أؤثث غربتي بالنسيان. أصنع من المنفى وطناً آخر لي، وطناً ربما أبدياً، عليّ أن أتعود العيش فيه.
بدأت أتصالح مع الأشياء. أقمت علاقات طبيعية مع نهر السين.. مع جسر ميرابو.. مع كل المعالم التي كانت تقابلني من تلك النافذة، والتي كنت أعيش في معاداة لها دون سبب.
اخترت لي أكثر من عشيقة عابرة. أثثت سريري بالملذّات الجنونية.. بنساء كنت أدهشهن كل مرة أكثر، وأقتلك بهن كل مرة أكثر، حتى لم يبق شيء منكِ في النهاية.
نسي هذا الجسد شوقه لك، نسي تطرّفه وحماقاته وإضرابه عن كل لذة ما عدا لذّتك الوهمية.
تعمدت أن أفرغ النساء من رموزهن الأولى.
من قال إن هناك امرأة منفى، وامرأة وطناً، فقد كذب..
لا مساحة للنساء خارج الجسد. والذاكرة ليست الطريق الذي يؤدي إليهن. في الواقع هنالك طريق واحد لا أكثر.. يمكنني أن أجزم اليوم بهذا!
اكتشفت شيئاًً لا بد أن أقوله لك اليوم..
الرغبة محض قضية ذهنية. ممارسة خيالية لا أكثر. وهم نخلقه لحظة جنون نقع فيها عبيداً لشخص واحد، ونحكم عليه بالروعة المطلقة لسبب غامض لا علاقة له بالمنطق.
رغبة تولد هكذا من شيء مجهول، قد يعيدنا إلى ذكرى أخرى.. لعطر رائحة أخرى.. لكلمة، لوجه آخر..
رغبة جنونية تولد في مكان آخر خارج الجسد، من الذاكرة أو ربما من اللاشعور، من أشياء غامضة تسللت إليها أنتِ ذات يوم، وإذا بك الأروع، وإذا بك الأشهى، وإذا كل النساء أنتِ.
أفهمت لماذا قتلتك تلقائياً يوم قتلت قسنطينة في داخلي؟
ولم أعجب يومها وأنا أرى جثتك ممدة في سريري.
لم تكونا في النهاية سوى امرأة واحدة.
ستقولين: لماذا كتبت لي هذا الكتاب إذن؟ وسأجيبك أنني أستعير طقوسك في القتل فقط، وأنني قررت أن أدفنك في كتاب لا غير.
فهناك جثث يجب ألا نحتفظ بها في قلبنا. فللحب بعد الموت، رائحة كريهة أيضاً، خاصة عندما يأخذ بُعْد الجريمة.
لاحظي أنني لم أذكر اسمك مرة واحدة في هذا الكتاب. قررت هكذا أن أتركك بلا اسم. هنالك أسماء لا تستحق الذكر.
لنفترض أنك امرأة كان اسمها "حياة"، وربما كان لها اسم آخر.. فهل مهم اسمك حقاً؟
وحدها أسماء الشهداء غير قابلة للتزوير، لأن من حقهم علينا أن نذكرهم بأسمائهم كاملة. كما من حق هذا الوطن علينا أن نفضح من خانوه، وبنوا مجدهم على دماره، وثروتهم على بؤسه، مادام لا يوجد هناك من يحاسبهم.
وأدري.. ستقول إشاعة ما إن هذا الكتاب لك. أؤكد لك سيدتي تلك الإشاعة.
سيقول نقّاد يمارسون النقد تعويضاً عن أشياء أخرى، إن هذا الكتاب ليس رواية، وإنما هذيان رجل لا علم له بمقاييس الأدب.
أؤكد لهم مسبقاً جهلي، واحتقاري لمقاييسهم. فلا مقياس عندي سوى مقياس الألم، ولا طموح لي سوى أن أدهشك أنتِ، وأن أبكيك أنت، لحظة تنتهين من قراءة هذا الكتاب..
فهناك أشياء لم أقلها لك بعد.
اقرئي هذا الكتاب.. وأحرقي ما في خزانتك من كتبٍ لأنصاف الكتاب، وأنصاف الرجال، وأنصاف العشاق.
من الجرح وحده يولد الأدب. فليذهب إلى الجحيم كل الذين أحبوك بتعقّل، دون أن ينزفوا.. دون أن يفقدوا وزنهم ولا اتزانهم..
تصفّحيني بشيء من الخجل.. كما تتصفّحين ألبوم صور مصفرّة، لطفلة كانت أنتِ.
كما تطالعين قاموساً لمفردات قديمة معرّضة للانقراض والموت.
كما تقرأين منشوراً سرياً، عثرت عليه يوماً في صندوق بريدك.
افتحي قلبك.. واقرأيني.
كنت يوماً أريد أن أحدثك عن سي الطاهر وعن زياد وعن آخرين.. عن كل ما كنت تجهلين.
ولكن مات حسان.. ولم يعد اليوم وقت للحديث عن الشهداء.. أصبح كل واحد منا مشروع شهيد.
يحزنني ألا أهبك غزالة. "الغزلان لا تكون غزلاناً إلا عندما تكون حيّة". ولم يبق لي ما يمكن أن أهديكِ اليوم.
لقد أخذت مني كل من أحببت، الواحد بعد الآخر، بطريقة أو بأخرى. وتحول القلب إلى مقبرة جماعية ينام فيها دون ترتيب كل من أحببت. وكأن قبر (أمّا) قد اتسع ليضمهم جميعاً.
ولم أعد أنا سوى شاهد قبر لسي الطاهر.. لزياد ولحسان. شاهد قبر للذاكرة.
كنت أدري الكثير عن حماقة القدر، الكثير عن ظلمه وعن عناده، عندما يصرّ على ملاحقة أحد.
ولكن أكان يمكن لي أن أتوقع أن شيئاً كذلك يمكن أن يحدث؟
كنت اعتقد أنني دفعت لهذا القدر الأحمق ما فيه الكفاية، وأنه حان لي بعد هذا العمر، وتلك السنوات التي تلت فجيعة زياد، وفجيعة زواجك، أن أرتاح أخيراً.
فكيف عاد القدر اليوم ليأخذ مني أخي، أخي الذي لم يكن لموته من منطق. لا كان في جبهة، ولا كان في ساحة قتال ليموت ميتة سي الطاهر، وميتة زياد، رمياً بالرصاص.. أيضاً.
***
ذات يوم من أكتوبر 88، جاء خبر موته هكذا صاعقة يحملها خط هاتفي مشوش، وصوت عتيقة الذي تخفيه الدموع.
ظلت تجهش بالبكاء وتردد اسمي، وأنا أسألها مفجوعاً:
- "واش صار..؟"
كنت على علم بتلك الأحداث التي هزّت البلاد، والتي كانت الجرائد ونشرات الأخبار الفرنسية تتسابق بنقلها مصور، مفصلة، مطوّلة، باهتمام لا يخلو من الشماتة.
كنت أعرف تفاصيلها، وأدري أنها مازالت وهي في يومها الثاني مقتصرة على العاصمة. فمن أين لي أن أتوقّع الذي حدث؟
كان صوت عتيقة يردد مقطّعاً:
- قتلوه.. آ خالد.. يا وخيدتي قتلوه..
وصوتي يردد مذهولاً:
- كيفاش.. كيفاش قتلوه؟
كيف مات حسان؟
هل مهم السؤال، وموته كان أحمق كحياته، ساذجاً كأحلامه.
أقرأ كل الجرائد لأفهم كيف مات أخي، بين الحلم والحلم.. بين الوهم والوهم.
ما الذي ذهب به إلى العاصمة ليقابل "جماعة" هناك، هو الذي لم يزر العاصمة إلا نادراً.
ذهب هكذا في نهاية أسبوع.. ليبحث عن نهايته.
ضاقت به قسنطينة، ولم توصله جسورها الكثيرة إلى شيء.
قالوا له: "في العاصمة ستكون لك "خيوط". ستوصلك الطرق القصيرة هناك.. ولن توصلك الجسور هنا!".
صدّق حسان، وذهب إلى العاصمة ليقابل "فلاناً" من قبل "فلان" آخر..
وكان مقرراً أن تحل قضيته أخيراً هذه المرة، بعد عدة سنوات من الوساطات والتدخلات، ويغادر نهائياً سلك التعليم، لينتقل إلى العاصمة ويعيّن موظفاً في مؤسسة إعلامية.
ولكن القدر هو الذي حسم "ملفه" هذه المرة.
بين "فلان" و "فلان" مات حسان، خطأ برصاصة خاطئة، على رصيف الحلم.
فالحلم ليس في متناول الجميع أخي.. كان عليك ألا تحلم!
أحقاً "إن الشقاء يعرف كيف يختار صفاته" ولهذا اختارني أنا، واختار لي كل هذه الفجائع المذهلة، لأنفرد بها وحدي.
أنا الذي لم أكن أحلم سوى بأن أهبك غزالة..
كيف لي أن أفعل ذلك.. وأنت تهبينني كل هذا الدمار.. كل هذا الخراب؟
***
ويعود فجأة، حديث قديم بيننا إلى البال.
حديث مرّت عليه اليوم ست سنوات. في ذلك الزمن الذي كنت تجدين فيه شبهاً بيني وبين "زوربا". الرجل الذي أحببته الأكثر حسب تعبيرك، والذي كنتِ تحلمين بكتابة رواية كروايته، أو حب رجل مثله.
ترى لأنك كنت عاجزة عن كتابة رواية كتلك، اكتفيت بتحويلي إلى نسخة منه، وجعلتني مثله أتعلم أن أشفى من الأشياء التي أحبها بأكلها حتى التقيؤ..
جعلتني أعشق الخراب الجميل، وأتعلم كطائر يذبح أن أرقص من ألمي..
ها هوذا الخراب الجميل، الذي حدّثتني عنه يوماً بحماسٍ مدهش لم يثر شكوكي، يوم قلتِ:
"مدهش أن يصل الإنسان بفجائعه حد الرقص. إنه تميز في الخيبات والهزائم أيضاً. فليست كل الهزائم في متناول الجميع. لا بد أن تكون لك أحلام فوق العادة، وأفراح وطموحات فوق العادة، لتصل بعواطفك تلك إلى ضدها بهذه الطريقة..".
آه سيدتي لو تدرين!
كم كانت أحلامي كبيرة. وما أفظع هذا الخراب الذي تتسابق قنوات التلفزيون على نقله اليوم!
ما أفظع هذا الدمار، وما أحزن جثة أخي الملقاة على رصيف، يخترقها رصاص طائش!
ما أحزن جثته، وهي تنتظرني الآن في ثلاجة الموتى لأتعرف عليه، وأرافقه جثماناً إلى قسنطينة.
ها هي ذي قسنطينة مرة أخرى..
تلك الأم الطاغية التي تتربص بأولادها، والتي أقسمت أن تعيدنا إليها ولو جثة.
ها هي قد هزمتنا، وأعادتنا إليها معاً. في تلك اللحظة التي اعتقدنا فيها أننا شفينا منها، وقطعنا معها صلة الرحم.
لا حسان سيغادرها إلى العاصمة.. ولا أنا سأقدر على الهرب منها بعد اليوم..
ها نحن نعود إليها معاً..
أحدنا في تابوت.. والآخر أشلاء رجل.
وقع حكمك عليّ أيتها الصخرة.. أيتها الأم الصخرة..
فأشرعي مقابرك، وانتظريني. سآتيك بأخي.. افسحي له مكاناً صغيراً جوار أوليائك الصالحين، وشهدائك، وباياتك.. كان حسان كل هذا على طريقته.
كان غزالاً..
في انتظار ذلك.. تعالي سيدتي وتفرّجي على كل هذا الخراب الجميل!
فبعد قليل سيحضر زوربا ليمسك بكتفي ولنبدأ الرقص معاً.
تعالي..
لا بد ألا تخلفي هذا المشهد، سترين كيف يرقص الأنبياء عندما يفلسون حقاً.
تعالي.. سأرقص اليوم كما لم أرقص يوماً، كما اشتهيت أن أرقص في عرسك ولم أفعل..
سأقفز وكأن جناحينْ قد التصقا بقدمي فجأة، وكأن ذراعي المفقودة قد نبتت من جديد لتصبح ذراعي.
تعالي.. وليعذرني أبي الذي لم أشاركه يوماً في طقوس "عيساوة".
في حفل جذبه ورقصه الجنوني، وغرسه ذلك السفود في جسده من طرف إلى آخر.. بنشوة الألم الذي يجاور اللذة.
للحزن أكثر من طقس، وليس للألم وطن على التحديد. فليعذرني الأنبياء والأولياء الصالحون!
ليعذروني جميعا. لا أدري ماذا يفعل الأنبياء بالتحديد عندما يحزنون، ماذا يفعلون في زمن الردّة؟
هل يبكون أم يصلون؟
أنا قررت أن أرقص. الرقص تواصل أيضاً. الرقص عبادة أيضاً..
فانظر أيها الأعظم.. بذراع واحدة سأرقص لك.
ما أصعب الرقص بذراعٍ واحدة يا ربي! ما أبشع الرقص بذراعٍ واحدة يا ربي! ولكن..
ستعذرني أنت الذي أخذت ذراعي الأخرى.
ستعذرني.. أنت الذي أخذتهم جميعاً.
ستعذرني.. لأنك ستأخذني أيضاً!
هل المؤمن مصاب حقاً؟.. أن ترى تلك مقولة خلقت لتعلمنا الصبر فقط، لتبيعنا بدل مصائبنا فرح امتلاك شهادة بالتقوى؟
فليكن..
شكراً لك أيها الأعظم، أنت الذي لا يُحمد على مكروه سواه.
أنت الذي لا تخصّ بمصابك سوى المؤمنين من عبادك.. والأتقياء منهم.
اعترف أنني لم أكن احلم بشهادة حسن سلوك كهذه!
أفرغ منك سيدتي وأمتلئ لحناً يونانياً.
تتقدم موسيقى "زوربا" نحوي، دعوة للجنون المتطرف.
تأتي على شريط تعودت الاستماع إليه بمتعة غامضة. وإذا بذلك اللحن القادم اليوم وسط الخراب والجثث، يأخذ فجأة بُعده الأول الحقيقي.
فأنتفض فجأة من أريكتي وهو يفاجئني، وأصرخ كما في تلك القصة "هيا زوربا.. دربني على الرقص..".
ها هوذا "الخراب الجميل" الذي جعلتنا نشتهيه. لم أكن أعتقد أن يكون بشعاً إلى هذا الحد.. موجعاً إلى هذا الجد!
تزحف موسيقى تيودراكيس نحوي. وتخترقني نغمة.. نغمة. جرحاً.. جرحاً.
بطيئة.. ثم سريعة كنوبة بكاء.
خجولة.. ثم جريئة كلحظة رجاء.
حزينة.. ثم نشوى كتقلبات شاعر أمام كأس.
مترددة.. ثم واثقة كأقدام عسكر.
فأستسلم لها. أرقص كمجنون في غرفة شاسعة، تؤثثها اللوحات والجسور.
وأقف أنا وسطها وكأنني أقف على تلك الصخرة الشاهقة، لرقص وسط الخراب، بينما جسور قسنطينة الخمسة تتحطم وتتدحرج أمامي حجارة نحو الوديان.
إيه زوربا!
تزوجت تلك المرأة التي كنت أحبها، وكانت تحبك أنت. وكنت أريد أن أجعلها نسخة مني، فجعلتني نسخة منك.
ومات زياد.. ذلك الصديق الذي اشترى هذا الشريط لأنه ربما كان يحبك أيضا من اجلها، وربما لأنه كان يتوقع لي يوماً كهذا، ويعد لي على طريقته كل تفاصيل حزني القادم.
وربما يكون تلقّاه هدية منها.. وورثته أنا في جملة ما أورثني من أحزان.
ومات حسان.. أخي الذي لم يكن يهتم كثيراً بالإغريق، وبالآلهة اليونانية.
كان له إله واحد فقط، وبعض الأسطورات القديمة.
مات ولا حب له سوى الفرقاني.. وأم كلثوم.. وصوت عبد الباسط عبد الصمد.
ولا حلم له سوى الحصول على جواز سفر للحج.. وثلاجة.
لقد تحققت نصف أحلامه أخيراً. لقد أهداه الوطن ثلاجة ينتظرني فيها بهدوء كعادته، لأشيعه هذه المرة إلى مثواه الأخير.
لو عرفك، ربما لم يكن ليموت تلك الميتة الحمقاء.
لو قرأك بتمعّن، لما نظر إلى قاتليه بكل الانبهار، لما حلم بمنصب في العاصمة، بسيارة وبيت أجمل..
لبصق في وجه قاتليه مسبقاً.. لشتمهم كما لم يشتم أحداً، لرفض أن يصافحهم في ذلك العرس، لقال:
- "أيها القوّادون.. السراقون.. القتلة. لن تسرقوا دمنا أيضاً. املأوا جيوبكم بما شئتم. أثثوا بيوتكم بما شئتم.. وحساباتكم بأية عملة شئتم.. سيبقى لنا الدم والذاكرة. بهما سنحاسبكم.. بهما سنطاردكم.. بهما سنعمّر هذا الوطن.. من جديد".
آه زوربا.. مات زياد وها هوذا حسان يموت غدراً أيضاً.
آه لو تدري يا صديقي، لم يكن أحدهما ليستحق الموت.
كان حسان نقياً كزئبق، وطيباً حد السذاجة. كان يخاف حتى أن يحلم، وعندما بدأ يحلم قتلوه.
وكان زياد.. آه كان يشبهك بعض الشيء. لو رأيت ضحكته، لو سمعته يتحدث.. يكفر.. يلعن.. يبكي.. يسكر.. لو عرفتهما، لرقصت.. حزناً عليهما الليلة كما لم ترقص من قبل.
ولكن لا يهم.. أدري بأنك أنت أيضاً لن تحضر الليلة. ربما لأنك متّ، كما في تلك الرواية، بعد أن لعنت الكاهن الذي جاء ليناولك القربان المقدس قبل الموت..
أو ربما لأنك لم توجد يوماً أبداً على هذه الأرض. لأنك بطل خرافي لزمن كان الناس يبحثون فيه عن خرافة كهذه. عن آلهة إغريقية جديدة، تعلّمهم الجنون والتحدي.. وعبثية الحياة.
فهل مهم أن تتغيب الليلة، كما تغيبوا جميعاً؟
لن أعتب عليك يا صديقي. أنت لست مسؤولاً في النهاية عن كل ما يمكن أن يرتكب من حماقات بسبب رواية!
ولكن أجبني فقط.. أنت الذي قتلت من الأتراك، وقتلوا من رفاقك الكثيرين. هل هناك من فرق بين القتلة؟
على يد الفرنسيين مات سي الطاهر.. وعلى يد الإسرائيليين مات زياد.. وها هو حسان يموت على يد الجزائريين اليوم.
فهل هناك درجات في الاستشهاد؟ وماذا لو كان الوطن هو القاتل والشهيد معاً؟
فكم من مدينة عربية دخلت التاريخ بمذابحها الجماعية، ومازالت مغلقة على مقابرها السرية!
كم من مدينة عربية أصبح سكانها شهداء.. قبل أن يصبحوا مواطنين!
فأين تضع كل هؤلاء.. في خانة ضحايا التاريخ، أم في خانة الشهداء؟
وما اسم الموت عندما يكون بخنجر عربي!
***
ما كادت كاترين تراني في ذلك الصباح حتى صاحت:
- إن لك وجه رجل يستيقظ من ليلة سكر!
ثم أضافت بشيء من السخرية والتلميح الواضح:
- ماذا فعلت أمس أيها الشقي، لتكون في هذه الحالة؟
قلت:
- لا شيء.. ربما لم أنم فقط!
قالت وهي تلقي نظرة على الصالون، وتبحث بفضول امرأة عن آثار تدلها على نوعية من قضيت معهم السهرة:
- هل استقبلت أصدقاء أمس؟
ابتسمت لسؤالها، شعرت برغبة في أن أجيبها: نعم.
يحدث للحزن عندما يجاور الجنون، أن يبدأ هكذا في السخرية من نفسه..
واصلَتْْ:
- وهل قضوا الليلة هنا؟
قلت:
- لا.. رحلوا..
أضفتُ بعد شيء من الصمت:
- أصدقائي يرحلون دائماً!
وربما لم يقنعها كلامي، أو زاد في فضولها فقط. فراحت تواصل بعينيها البحث وسط فوضى الغرفة، والحقيبتين المفتوحتين في الصالون عن شيء ما.
النساء هكذا دائما: لا يرين أبعد من أجسادهن، ولذا لم يكن في إمكان كاترين أن تكتشف آثار زياد وحسان وزوربا.. في ذلك البيت.
في الحقيقة.. لقد كانت كاترين دائماً تعيش على هامش حزني.
ولا ربما اقتنعت دون كثير من الكلام أنني أستيقظ من ليلة حب.
سألتني وكأنها لا تجد فجأة مبرراً لوجودها عندي في تلك اللحظة:
- لماذا طلبتني على عجل؟
قلت:
- لأسباب كثيرة..
ثم أضفت فجأة:
- كاترين.. هل تحبين الجسور؟
قالت بنبرة لا تخلو من التعجب:
- لا تقل لي إنك أحضرتني في هذا الصباح لتطرح علي هذا السؤال!
قلت:
- لا.. ولكن أود لو أجبتني عليه.
قالت:
- لا أدري.. أنا لم أسأل نفسي سؤالاً كهذا قبل اليوم. لقد عشت دائماً في مدن لا جسور فيها. ما عدا باريس ربما..
قلت:
- لا يهم.. فأنا أفضّل في النهاية ألا تحبيها. يكفي أن تحبي رسمي..
أجابت:
- طبعاً أحب ما ترسمه.. لقد راهنت دائماً على انك رسام استثنائي..
قلت:
- فليكن إذن.. كل هذه اللوحات لك.
صاحت:
- أأنت مجنون؟ كيف تهبني كل هذه اللوحات؟ إنها مدينتك.. قد تحنّ إليها يوماً.
قلت:
- لم يعد هناك من ضرورة للحنين بعد اليوم، أنا عائد إليها. أهبها لك، لأنني أدري أنك تقدّرين الفن، وأنها معك لن تضيع..
قالت كاترين وصوتها يأخذ نبرة جديدة لحزن وفرح غامض:
- سأحتفظ بها جميعاً.. فلم يحدث لرجل أن أهداني يوماً شيئاً كهذا..
قلت وأنا ألقي نظرة أخيرة على جسدها المختبئ داماً تحت الأثواب الخفيفة الفضفاضة:
- ولم يحدث لامرأة قبلك أن منحتني غربة أشهى..
قالت:
- أخاف أن تندم يوماً وتشتاق إلى إحدى هذه اللوحات.. اعلم أنك ستجدها دائماً عندي.
قلت:
- ربما سيحدث ذلك.. فنحن في جميع الحالات نندم على شيء ما..
تقاطعني وكأنها اكتشفت جدية الموقف:
- Mais ce n'est pas possible .. لا يمكن أن نفترق هكذا!
- أوُ كاترين.. دعينا نفترق على جوع. لقد حكم علينا التاريخ ألا نشبع من بعض تماماً.. ولا نحب بعضنا تماما.. لأكثر من سبب. إنك تملكين اليوم أكثر من نسخة مني.. علّقي على جدرانك ذاكرتي، حتى ولو كانت ذاكرة مضادة.. لقد كنت أيضاً طرفاً فيها!
لا تفهم كاترين لماذا كل هذه الرموز اليوم.
ولماذا هذا الحديث الغامض الذي لم أعوّدها عليه؟
وربما فهمت، ولكن جسدها كان يرفض أن يفهم. جسدها يخرج عن الموضوع دائماً. جسدها موظف فرنسي يحتج دائما. يطالب دائماً بالمزيد.. يفرط في حرية التعبير، في حرية الإضراب.
ولكن..
من أين سآتي بالكلمات التي ستشرح لها حزني؟
من أين سآتي بالصمت الذي سيقول لها دون أن أقول شيئاً، إن حسان هناك في مدينة أخرى، ينتظرني في ثلاجة، وأن أولاده الستة لم يعد لهم غيري.
كيف أشرح لها سر قدميّ الباردتين، والصقيع الذي يزحف نحوي كلما تقدمت بي الساعات، وكلما راحت يداها تفتحان أزرار قميصي دون انتباه.. بحكم العادة.
- كاترين.. ليس لي شهية للحب، اعذريني..
- وماذا تريد إذن؟
- أريد أن تضحكي كالعادة.
- لماذا أضحك؟
- لأنك عاجزة عن الحزن.
- وأنت؟
- وأنا سأنتظر أن تذهبي لأحزن. حزني مؤجل فقط كالعادة..
- ولماذا تقول لي هذا اليوم.؟
- لأنني متعب.. ولأنني سأرحل بعد ساعات..
- ولكن لا يمكنك أن تسافر. لقد ألغوا كل الرحلات إلى الجزار..
- سأذهب، وأنتظر في المطار أول طائرة تقلع. لا بد أن أسافر اليوم أو غدا. هناك من ينتظرني..
كان يمكن أن أقول لها: "لقد مات أخي.. أخي الوحي يا كاترين.." وأجهش بالبكاء. فقد كنت في حاجة إلى أن أبكي أمام أحد يومها.
ولكن لم أكن قادراً على ذلك معها. لعلها عقدة قديمة.. فالحزن قضية شخصية، قضية أحياناً وطنية..
ولذا احتفظت بجرحي داخلي. وقررت أن أواصل حديثي كالعادة. لعلني في يوم آخر سأخبرها بذلك. ولكن ليس اليوم. الصمت اليوم أكبر.
شعرت فجأة أنني أسأت للفراشات.
قلت:
- كاترين.. لقد كانت قصتنا جميلة، أليس كذلك؟ كانت معقدة بعض الشيء.. ولكنها جميلة برغم ذلك. لقد كنت المرأة التي كانت دائماً، على وشك أن تكون حبيبتي. وربما سينجح الفراق في تحقيق ما عجزت كل سنوات القرب هذه من تحقيقه..
- هل ستحبني عندما نفترق؟
- لا أدري.. من المؤكد أنني سأفتقدك كثيراً. إنه منطق الأشياء. لقد كان لي معك أكثر من عادة. ولا بد لي بعد اليوم أن أغيّر عاداتي..
- وهل ستعود؟
- ليس قبل مدة طويلة.. لا بد أن أتعلم الآن الوجه الآخر للنسيان. الغربة أمّ أيضاً ليس سهلاً أن نجتاز الجسر الذي سيفصلنا عنها..
- خالد.. لماذا تحيط نفسك بكل هذه الجسور؟
- أنا لا أحيط نفسي بها.. أنا أحملها داخلي. هناك أناس ولدوا هكذا على جسر معلّق. جاؤوا إلى العالم بين وصيفينْ وطريقينْ وقارّتينْ. وُلِدوا وسط مجرى الرياح المضادة، وكبروا وهم يحاولون أن يصالحوا بين الأضداد داخلهم. ربما كنت من هؤلاء.. في الحقيقة دعيني أبوح لك بسرّ. اكتشفت أنني لا أحب الجسور. وأكرهها كراهيتي لكل شيء له طرفان، ووجهتان، واحتمالان، وضدان. ولهذا تركت لك كل هذه اللوحات.
كنت أود إحراقها، راودتني هذه الفكرة. ولكن لست في شجاعة طارق بن زياد. ربما لأن إحراق بحّار لباخرته في معركة حربية، يظلّ أسهل من إحراق رسام للوحاته في لحظة جنون..
وبرغم ذلك، أريد أن أحرقها حتى أقطع على قلبي طريق العودة إلى الخلف.
لا أريد أن أقضي حياتي، وأنا أسلك هذا الجسر في الاتجاهين.
أريد أن أختار لقلبي مسقطه الأخير..
أريد أن أعود إلى تلك المدينة الجالسة فوق صخرة، وكأنني أفتحها من جديد. كما فتح طارق بن زياد ذلك الجيل، ومنحه اسمه..
.. منذ غادرتها أضعت بوصلتي. قطعت علاقتي بالتاريخ وبالجغرافية. ووقفت سنوات على نقطة استفهام، خارج خطوط الطول والعرض.
أين يقع البحر وأين يقف العدوّ؟ أيهما أمامي وأيهما ورائي؟
ولا شيء وراء البحر سوى الوطن.. ولا شيء أمامي سوى زورق الغربة.. ولا شي بينهما سواي..
على من أعلن الحرب ولا شيء حولي سوى الحدود الإقليمية للذاكرة؟
نظرت إليّ كاترين، ولم تفهم شيئاً..
لقد كانت علاقتنا دائماًً ضحية سوء فهم وقصر نظر. فافترقنا كما التقينا منذ أكثر من قرن، دون أن نعرف بعضنا حقاً.. دون أن نحب بعضنا تماماً.. ولكن دائماً بتلك الجاذبية الغامضة نفسها.
***
وقلتِ:
"الحب هو ما حدث بيننا.. والأدب هو كل ما لم يحدث".
نعم ولكن..
بين ما حدث وما لم يحدث، حدثت أشياء أخرى، لا علاقة لها بالحب ولا بالأدب.
فنحن في النتيجة، لا نصنع في الحالتين سوى الكلمات. ووحده الوطن يصنع الأحداث. ويكتبنا كيفما شاء.. مادمنا حبره.
غادرت الوطن في زمن لحظر التنفس.. وها أنا أعود إليه مذهولاً في زمن آخر لحظر التجول.
أتذكر وأنا أواجه وحدي هذه المرة مطار تلك المدينة الملتحفة بالحداد كلاماً قاله حسان منذ ست سنوات واستوقفتني كلماته دون سبب واضح.
قال: "إن قسنطينة فرغت من أهلها الأصليين. لقد أصبحوا لا يأتونها سوى في الأعراس و في المآتم".
يذهلني اكتشافي.. ها أنا أصبحت إذن الابن الشرعي لهذه المدينة التي جاءت بي مكرهاً مرتين.
مرة لأحضر عرسك.. ومرة لأدفن أخي. فما الفرق بين الاثنين؟ لقد مات أخي في الواقع مثلما متّ أنا منذ ذلك العرس.
قتلتنا أحلامنا..
هو لأنه أصيب بعدوى الأحلام الفارغة الكبيرة.
وأنا لأنني غادرت وهمي.. ولبست نهائياً حداد أحلامي.
يسألني جمركيّ عصبي في عمر الاستقلال لم يستوقفه حزني ولا استوقفته ذراعي.. فراح يصرخ في وجهي، بلهجة من أقنعوه أننا نغترب فقط لنغنى، وأننا نهرّب دائماً شيئاً ما في حقائب غربتنا..
- بماذا تصرّح أنت؟
كان جسدي ينتصب ذاكرة أمامه.. ولكن لم يقرأني.
يحدث للوطن أن يصبح أميّاً.
كان آخرون لحظتها يدخلون من الأبواب الشرفيّة بحقائب أنيقة دبلوماسية.
وكانت يداه تنبشان في حقيبة زياد المتواضعة، وتقعان على حزمة من الأوراق.. فتكاد دمعة مكابرة بعيني تجيبه لحظتها:
- أصرّح بالذاكرة.. يا ابني..
ولكنني أصمت.. وأجمع مسودّات هذا الكتاب المبعثرة في حقيبة، رؤوس أقلام.. ورؤوس أحلام.
- تمت - باريس _ تموز 1988

 
 

 

عرض البوم صور الجنية السمراء   رد مع اقتباس
قديم 28-03-09, 02:24 PM   المشاركة رقم: 17
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Feb 2009
العضوية: 126160
المشاركات: 3,393
الجنس أنثى
معدل التقييم: الجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جدا
نقاط التقييم: 586

االدولة
البلدPalestine
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
الجنية السمراء غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : الجنية السمراء المنتدى : القصص المكتمله
Wavey

 



تمت الرواية واتمنى للجميع قراءة ممتعة

 
 

 

عرض البوم صور الجنية السمراء   رد مع اقتباس
قديم 16-09-10, 03:23 AM   المشاركة رقم: 18
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو فخري


البيانات
التسجيل: Apr 2009
العضوية: 142868
المشاركات: 11,327
الجنس أنثى
معدل التقييم: نوف بنت نايف عضو ماسينوف بنت نايف عضو ماسينوف بنت نايف عضو ماسينوف بنت نايف عضو ماسينوف بنت نايف عضو ماسينوف بنت نايف عضو ماسينوف بنت نايف عضو ماسينوف بنت نايف عضو ماسينوف بنت نايف عضو ماسينوف بنت نايف عضو ماسينوف بنت نايف عضو ماسي
نقاط التقييم: 3549

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
نوف بنت نايف غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : الجنية السمراء المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 

في يوم ما اثنت على القصه مبدعت ليلاس انفاس قطر فقررت قراءتها في يوم ما
للرفع

 
 

 

عرض البوم صور نوف بنت نايف   رد مع اقتباس
قديم 07-06-14, 02:50 AM   المشاركة رقم: 19
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
اريج الحرف



البيانات
التسجيل: Jan 2011
العضوية: 212644
المشاركات: 2,017
الجنس أنثى
معدل التقييم: سيمفونية الحنين عضو متالقسيمفونية الحنين عضو متالقسيمفونية الحنين عضو متالقسيمفونية الحنين عضو متالقسيمفونية الحنين عضو متالقسيمفونية الحنين عضو متالقسيمفونية الحنين عضو متالقسيمفونية الحنين عضو متالقسيمفونية الحنين عضو متالقسيمفونية الحنين عضو متالقسيمفونية الحنين عضو متالق
نقاط التقييم: 3446

االدولة
البلدJordan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
سيمفونية الحنين غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : الجنية السمراء المنتدى : القصص المكتمله
Love رد: ذاكرة جسد/ أحلام مستغانمي

 

يسلموووووووووو على الرواية الجميلة

 
 

 

عرض البوم صور سيمفونية الحنين   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
للكاتبة احلام مستغانمي, ليلاس, مستغانمي, الحسد, القسم العام للقصص و الروايات, احلام, ذاكره, روايات كاملة, روياه ذاكره الجسد كاملة, قصه مكتملة
facebook




جديد مواضيع قسم القصص المكتمله
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 10:31 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية