كاتب الموضوع :
الجنية السمراء
المنتدى :
القصص المكتمله
أنقذني دفتر زياد من اليأس دون أن أدري..
منحني مشاريع لأيام كانت فارغة من أي مشروع. فقد حدث في تلك الأيام أن قضيت ساعات بأكملها وأنا أنسخ قصيدة، أو أبحث عن عنوان لأخرى، وأحاول ترتيب فوضى تلك الخواطر والمقاطع المبعثرة، لوضعها في سياق صالحٍ للنشر.
كنت أشعر بلذّة ومرارة معاً..
لذّة الانحياز للفراشات، وبعث الحياة في كلماتٍ وحدي أملك حق وأدها في مفكرة، أو منحها الخلود في كتاب.
ومرارة أخرى..
مرارة التنقيب في أوراق شاعر مات، والتجول في دورته الدموية، في نبضه وحزنه ونشوته، ودخول عالمه المغلق السري دون تصريح ولا رخصة منه، والتصرف نيابة عنه في الاختيار وفي الإضافة والحذف.
أحقاً كنت أملك صلاحية كهذه..؟ ومن يمكن أن يدّعي أنه لسبب أو لآخر موكّل بمهمة كهذه؟
ولكن من يجرؤ أيضاً على الحكم بالموت على كلمات الآخرين، ويقرر الاستحواذ عليها وحده؟
كنت أدري في أعماقي، أنه إذا كان لموت الشعراء والكتّاب نكهة حزن إضافية، تميزهم عن موت الآخرين، فربما تُعزى لكونهم وحدهم عندما يموتون يتركون على طاولتهم ككل المبدعين، رؤوس أقلام.. رؤوس أحلام، ومسودات أشياء لم تكتمل.
ولذا فإن موتهم يحرجنا.. بقدر ما يحزننا.
أما الناس العاديون، فهم يحملون أحلامهم وهمومهم ومشاعرهم فوقهم. إنهم يلبسونها كل يوم مع ابتسامتهم، وكآبتهم، وضحكتهم، وأحاديثهم، فتموت أسرارهم معهم.
في البدء، كان سر زياد يحرجني، قبل أن يستدرجني إلى البوح، وإذا بكتاباته تخلق عندي رغبة لا تقاوم للكتابة.
رغبة كانت تزداد في تلك المرات التي كنت أشعر أن كلماته لا تطال أعماقي، وأنها أقصر من جرحي. ربما لأنه كان يجهل النصف الآخر للقصة، تلك التي كنت أعرفها وحدي.
متى ولدت فكرة هذا الكتاب؟
ترى في تلك الفترة التي قضيتها محاصراً بإرث زياد الشعريّ، في ذلك اللقاء غير المتوقع لي مع الأدب والمخطوطات التي انفصلت عنها منذ انفصالي عن وظيفتي.. منذ عدة سنوات في الجزائر؟
أم في لقائي غير المتوقع الآخر، مع مدينة حجز لي القدر نفسه موعداً متأخراً معها؟
أكان يمكن لي أن أجد نفسي وجهاً لوجه مع قسنطينة، دون سابق إنذار، دون أن تنفجر داخلي الدهشة، شلالات شوق وجنون وخيبة..
فتجرفني الكلمات.. إلى حيث أنا!
الفصل الخامس
مازلت
أذكر ذلك السبت العجيب.. عندما رن الهاتف ذلك المساء بتوقيت نشرة الأخبار.
كان سي الشريف على الخط بحرارة وشوق أسعداني في البداية، وأخرجاني من رتابة صمتي الليلي ووحدته.
كان صوته عندي عيداً بحد ذاته والصلة الوحيدة التي ظلت تربطني بك، بعدما سدّت كل الطرق الموصلة إليك.
وكنت أستبشر خيراً به. إنه يحمل دائماً احتمال لقاءٍ بك بطريقة أو بأخرى.
ولكنه هذه المرة كان يحمل لي أكثر من هذا..
راح سي الشريف يعتذر أولاً عن انقطاعه عني منذ سهرتنا الأخيرة، بسبب مشاغله الكثيرة، وزيارات المسؤولين التي لا تتوقف إلى باريس.. قبل أن يضيف:
"إنني لم أنسك طوال هذه الفترة.. لقد علّقت لوحتك في الصالون وأصبحت أتقاسم معك البيت.. أتدري، لقد تركت التفاتتك تلك أثراً كبيراً في نفسي، وخلقت لي أكثر من حاسد.. وكل مرة لا بد أن أشرح للآخرين صداقتنا وعلاقتنا التي تعود إلى أيام الشباب".
كنت أستمع له وكان القلب قد ذهب بحماقة على عجل إليك..
كان يكفي أن أعرف أن تلك المكالمة تأتي من بيتٍ أنتِ فيه، لأعود عاشقاً مبتدئاً بكل انفعالات العشّاق وحماقاتهم.
ولكن صوته أعادني إلى الواقع عندما سألني:
- أتدري لماذا طلبتك الليلة؟ إنني قررت أن أصحبك معي إلى قسنطينة.. لقد أهديتني لوحة عن قسنطينة وأنا سأهديك سفرة إليها..
صحت متعجّباً:
- قسنطينة.. لماذا قسنطينة؟
قال وكأنه يزفّ لي بشرى:
- لحضور عرس ابنة أخي الطاهر..
ثم أضاف بعد شيء من التفكير.
- .. ربما تذكرها. لقد حضرت افتتاح معرضك منذ شهور مع ابنتي ناديا..
شعرت فجأة أن صوتي انفصل عن جسدي، وأنني عاجز عن أن أجيب بكلمة واحدة.
أيمكن للكلمات أن تنزل صاعقة على شخص بهذه الطريقة؟
أيمكن للجسد أن يصبح إثر كلمة، عاجزاً عن الإمساك بسماعة؟
يحدث في لحظات كهذه، أن أتذكر فجأة أنني أملك يداً واحدة..
سحبت بقدمي كرسياً مجاوراً وحلست عليه.
وربما لاحظ سي الشريف صمتي وحدوث شيء ما.. فقطع ذهولي قائلاً:
- يا خويا.. ما الذي يخيفك في سفرٍ كهذا؟ لقد جاء ذكرك منذ أيام في جلسة مع بعض الأصدقاء في الأمن، وأكدوا لي أنه لا توجد أية تعليمات في شأنك، وأن بإمكانك أن تزور الجزائر متى شئت. لقد تغيرت الأمور كثيراً منذ مجيئك، ولا بد أن تعود إلى الجزائر ولو في زيارة خاطفة.. إنني أتحمل مسؤولية عودتك.. ستسافر معي وعلى حسابي.. فما الذي يقلقك إلى هذا الحد؟
أجبته وأنا أبحث عن مخرج لتوتري:
- الحقيقة أنني لست مستعداً نفسياً بعد لزيارة كهذه.. وأفضّل أن تكون في ظروف أخرى..
قال:
- أنت لن تجد ظروفاً أحسن من هذه للعودة.. أنا واثق من أنني إذا لم أجرّك هكذا من يدك هذه المرة، فقد تمضي عدة سنوات أخرى قبل أن تعود إليها. هل ستقضي عمرك في رسم قسنطينة؟ ثم ألا يسعدك حضور زواج ابنة سي الطاهر؟ إنها ابنتك أيضاً، لقد عرفتها طفلة ويجب أن تحضر عرسها للبركة.. افعل هذا لوجه أبيها، يجب أن تقف معي في ذلك اليوم مكان سي الطاهر..
كان سي الشريف يعرف نقطة ضعفي، ويدري مكانة سي الطاهر عندي. فراح يحرّك ما تبقّى داخلي من وفاء لماضينا وذاكرتنا المشتركة.
كان في ذلك الموقف شيء من السريالية واللامعقول.
كنت أقف على الحد الفاصل بين العقل والجنون، بين الضحك والبكاء..
"لقد عرفتها طفلة.." لا يا صديقي! عرفتها أنثى أيضاً وهذه هي المشكلة. "إنها ابنتك أيضاً.." لا لم تكن ابنتي، كان يمكن فقط أن تكون زوجتي.. كان يمكن أن تكون لي.
سألته:
- لمن ستكون؟
قال:
- أعطيتها لـ (سي....) لقد سهرت معه المرة الماضية.. لا أدري ما رأيك فيه، ولكنني أعتقد أنه رجل طيب برغم ما يُقال عنه.
كان في جملته الأخيرة جواب مسبق على ردٍ كان يتوقعه.
(سي....) إذن ولا أحد غيره!
"رجل طيب.." هل الطيبة هي حقاً صفته المميزة الأولى؟ أعرف أنا أكثر من رجل طيب كان يمكن إذن أن يصبح زوجها.
ولكن (سي....) كان أكثر من ذلك. كان رجل الصفقات السرية والواجهات الأمامية. كان رجل العملة الصعبة والمهمات الصعبة. كان رجل العسكر.. ورجل المستقبل. فهل مهم بعد هذا أن يكون طيباً أو لا يكون؟
تجمعت في الحلق أكثر من غصة، منعتني من أن أبدي رأيي فعلاً في ذلك الشخص، وأسأل سي الشريف سؤالاً واحداً فقط: تراه يعتقد حقاً أن بإمكان رجل لا أخلاق له.. أن يكون طيباً؟
أم تراني صمتّ لأنني كنت بدأت لا أفرق كثيرا بينه وبين "صهره" وأنا أسأل نفسي سؤالاً آخر.. هل يمكن لشخص يتصاهر مع رجل قذر.. أن يكون نظيفاً حقاً؟
فقدت فجأة شهية الكلام. أخرستني الصدمات المتتالية في مكالمة واحدة. فاختصرت كل الكلام في جملة واحدة قابلة لأكثر من تفسير:
- كل شيء مبروك..
رد سي الشريف حسب التقاليد:
- الله يهنيك.. ويبارك فيك..
ثم أضاف بسعادة من نجح في امتحان:
-إذن سنراك..راني نعوّل عليك.. سنسافر بعد عشرة أيام تقريباً فالزواج سيكون في 15 يوليو.. أطلبني هاتفياً كي نتّفق على تفاصيل سفرك.
انتهت المكالمة، وبدأت مرحلة جديدة من حياتي.
بدأ عمري الآخر الذي أعلنت يومها رسمياً خروجك منه. ولكن.. هل خرجت حقاً؟
أحسست أن رقعة الشطرنج أصبحت فارغة إلا مني. كانت كل المربعات بلون واحد لا غير.. وكل القطع أصبحت قطعة واحدة أمسكها وحدي.. بيدٍ واحدة!
فهل كنت الرابح أم الخاسر الوحيد.. كيف لي أن أعرف ذلك؟ لقد تقلصت الرقعة، ومعها مساحة الأمل والترقب، حسمها طرف آخر، كنا نلعب جميعاً منذ البدء نيابة عنه: إنه القدر!
كنت أحقد على ذلك القدر أحياناً، ولكن كنت كثيراً ما أستسلم له دون مقاومة. بلذّة غامضة وبفضول رجل يريد أن يعرف كلّ مرة، إلى أي حد يمكن لها القدر أن يكون أحمق، ولهذه الحياة أن تكون غير عادلة، وأن تكون ***** لا تهب نفسها سوى لذوي الثروات السريعة، ولأصحاب السلوك المشبوه الذين يغتصبونها على عجل..
وعندها كنت أجد سعادتي النادرة في مقارنة نفسي بتفاهة الآخرين. وأجد في هزائمي الذاتية، دليلاً على انتصارات أخرى ليست في متناول الجميع.
تراني في لحظة جنون كهذه قبلت أن أحضر عرسك، وأن أكون شاهداً على مأتمي، وعلى الحقارة التي يمكن أن يصلها البعض دون خجل؟
أم تراني ككل المبدعين، كنت مازوشيّاً بتفوق، وأصرّ في غياب السعادة المطلقة، أن أعيش حزني المطلق، وأن أذهب معك إلى أبعد نقطة في تعذيب النفس، فأمارس كيّ هذا القلب بنفسي ليشفى منك؟
كرهتك ذلك اليوم بشراسة لم أكن عرفتها من قبل.
انقلبت عواطفي مرة واحدة إلى عاطفة جديدة، فيها مزيج من المرارة والغيرة والحقد.. وربما الاحتقار أيضاً.
ما الذي أوصلك هنا؟
وهل النساء حقاً مثل الشعوب، يشعرن دائماً بإغراء.. وبضعف ما تجاه البدلات العسكرية.. حتى الباهتة منه؟!
ما زلت حتى اليوم أتساءل.. كيف قبلت يومها أن أذهب إلى قسنطينة لحضور عرسك؟
كنت أعرف مسبقاً أن دعوتي لم تكن مجرد نية حسنة، والتفاتة ود وصداقة لرجل تجمعني به أكثر من قرابة.
ولكن كانت قبل كلّ شيء، استغلالاً للذاكرة واستعمالاً سيئاً لاسم من الأسماء القليلة التي ظلّت نظيفة في زمن انتشر فيه وباء القذارة.
كان سي الشريف يدري أنه يسقوم بصفقة قذرة، وأنه يبيع بزواجه اسم أخيه، وأحد كبار شهدائنا مقابل منصب وصفقات أخرى..
وأنه يتصرف باسمه، بطريقة لم يكن ليقبلها لو كان حياً.
وكان يلزمه أنا.. ولا أحد غيري لأبارك اغتصابك، أنا صديق سي الطاهر الوحيد ورفيق سلاحه.
أنا الهيكل المفتت الأطراف الأخير، الذي بقي من ذلك الزمن الغابر.
كانت تلزمه مباركتي، ليُسكت بحضوري ضميره ويعتقد أن سي الطاهر سيغفر له، هو الذي عاش من اسمه طويلاً.
فلماذا قبلت الدخول في تلك اللعبة؟ لماذا قبلت دون نقاش أن أسلمك لأظافرهم؟
ألأنني أدري أن مباركتي قضية شكلية، لن تقدم ولن تؤخر في شيء، وأنه لو لم يزوّجك من (سي....) لكنت من نصيب (سي....) آخر من السادة الجدد.
فماذا يهم في النهاية، أي اسم من أسماء الأربعين لصاً ستحملين!
لماذا قبلت السفر.. ألكل هذا أم لأنني استسلمت لإغراء قسنطينة، ولندائها السرّي الذي كان يلاحقني ويطاردني من الأزل، كما يطارد نداء الحوريات في الجزر المسحورة أولئك البحارة الذين نزلت على بواخرهم لعنة الآلهة..
أم تراني كنت عاجزاً عن أن أخلف موعداً معك، حتى ولو كان ذلك مناسبة زواجك؟
هنالك قرارات وليدة ضدها، فكيف يمكن لي اليوم أن أفسّر قراراً أخذته خارج المنطق؟
كنت كعالم فيزيائي مجنون، يريد أن يجمع بين صيغتين متفجّرتين في الوقت نفسه: أنت.. وقسنطينة، صيغتين صنعتهما بنفسي في نوبة شوق وعشق وجنون، قست قدرتهما التدميرية كلا على انفراد، وأردت أن أجربهما معاً كما تجرّب قنبلة ذرية في صحراء.
أردت أن أعيشهما معاً في انفجار داخلي واحد.. يهزّني وحدي.. يدمرني وحدي.. وأخرج بعده من وسط الحرائق والدمار، إما رجلاً آخر.. وأشلاء رجل.
ألم تقولي مرة إن هناك رغبة سرية تسكننا جميعاً اسمها "شهوة اللهب"؟
اكتشفت بعدها بنفسي التطابق بينك وبين تلك المدينة.
كان فيكما معاً، شيء من اللهيب الذي لم ينطفئ.. وقدرة خارقة على إشعال الحرائق..
ولكنكما معاً، كنتما تتظاهران بإعلان الحرب على المجوس. إنه زيف المدن العريقة المحترمة.. ونفاق بنات العائلات.. أليس كذلك؟
***
جاء صوتك يوم الاثنين هكذا دون مقدمات. دون أية نبرة حزن أو فرح مميزة.. دون ارتباك ولا أي خجل واضح.
ورحت تتحدّثين إليّ، وكأنك تواصلين حديثاً بدأناه البارحة، كأن صوتك لم يعبر هذا الخط الهاتفي منذ أكثر من ستّة أشهر.
ما أغرب علاقتك بالزمن.. وما أغرب ذاكرتك!
- أهلاً خالد.. هل أيقظتك؟
كان يمكن أن أقول لا، وكان من الأصح أن أقول نعم. ولكنني قلت بصوت من يخرج من غيبوبة عشق:
- أنتِ..؟!
ضحكت.. تلك الضحكة الطفولية التي أسرتني يوماً وقلت:
- أعتقد أنني أنا.. هل نسيت صورتي؟!
ثم أضفت أمام صمتي:
- كيف أنت؟
- أحاول أن أصمد..
- تصمد في وجه من.؟
- في وجه الأيام..
قلت بعد شيء من الصمت.. وكأنك شعرت بذنبٍ ما:
- كلنا نحاول ذلك..
ثم أضفتِ:
- هل أخباري هي التي أزعجتك؟
عجيب سؤالك. عجيب كذاكرتك. كعلاقتك بمن تحبّين!
قلت:
- أخبارك ليست سوى جزء من تقلّبات الأيام.
أجبت ببراءة كاذبة:
- كنت أتوقع أن تستقبل خبر زواجي بطريقة أخرى. لقد سمعت عمي يتحدث إليك أمس على الهاتف، وتعجبت أن تكون قبلت المجيء إلى قسنطينة دون مناقشة أو تردد. لقد أسعدني ذلك كثيراً، وقررت أن أطلبك.. استنجت أنك لم تعد عاتباً عليّ.. فأنا أريد أن تحضر إلى هذا العرس.. من الضروري أن تحضر..
لا أدري لماذا أعادتني كلماتك إلى مكالمتي السابقة مع سي الشريف، وإلى ذلك الموقف العجيب، عندما كان يقنعني أنك ابنتي.
شعرت مرة أخرى أنني أقف على الحد الفاصل بين العقل واللاعقل، بين البكاء والضحك..
سألتك بشيء من المرارة الساخرة:
- أتمنى أن أفهم سر إصراركم جميعاً على حضوري..
قلتِ:
- سبب إصرار عمي على حضورك لا يهمني إطلاقاً. ولكنني أدري أنني سأكون تعيسة لو تغيّبت عن المجيء..
أجبتك بتهكم:
- هل السادية .. آخر هواياتك؟
قلتِ بنبرة فاجأتني:
- لقد أحببت هذه المدينة من أجلك.
أجبتك بتلك الطريقة نفسها التي أجبتني بها يوماً، وأنا أعترف لك "لقد أحببتك يوم قرأتك" فقلتِ "كان ينبغي ألا تقرأني..".
قلتُ:
- كان ينبغي ألا تحبّيها إذن..
وإذا بجوابك يدهشني.. يوقظني.. ويبثّ شحنة كهربائية في جسدي..
- ... ولكنني أحببتك!
ها هي الكلمة التي انتظرتها عاماً دون جدوى. فهل أشكرك أم أبكي. أم أسألك لماذا اليوم.. لماذا الآن.. ولماذا كلّ هذا العذاب إذن؟
سألتك فقط:
- وهو؟
أجبتني وكأنك تتحدّثين عن شيء لا يعنيك تماماً:
- إنه قدر جاهز.
قاطعتك:
- لكل شخص القدر الذي يستحقّه. كنت أتوقع قدراً غير هذا.. كيف قبلت أن ترتبطي به؟
قلتِ:
- أنا لا أرتبط به.. أنا أهرب إليه فقط من ذاكرة لم تعد تصلح للسكن، بعدما أثثتها بالأحلام المستحيلة والخيبات المتتالية..
- ولكن لماذا هو.. كيف يمكن أن تمرّغي اسم والدك في مزبلة كهذه.. أنت لست امرأة فقط، أنت وطن، أفلا يهمّك ما سيكتبه التاريخ يوماً؟
أجبتِ بشيء من السخرية المرة:
- وحدك تعتقد أن التاريخ جالس مثل ملائكة الشر والخير على جانبينا، ليسجّل انتصاراتنا الصغيرة المجهولة.. أو كبواتنا وسقوطنا المفاجئ نحو الأسفل. التاريخ لم يعد يكتب شيئاً. إنه يمحو فقط!
لم أسألك ما الذي تريدين محوه بالضبط. ولم أناقشك في نظرتك الخاطئة للقيم..
سألتك:
- ما الذي تريدينه مني على التحديد؟
قلتِ كأنك طفلة يسألونها عن أيّ حلوى تريد:
- أريدك..
خطر بذهني لحظتها أنك ربما كنت امرأة عاجزة عن حب رجل واحد، وأنه يلزمك دائماً رجلان. كانا في الماضي زياد وأنا. وأصبحا اليوم أنا.. والآخر.
عاد صوتك يقول:
- خالد.. أتدري أنني أحببتك.. إنه حدث أن أردتك واشتهيتك حدّ الجنون.. شيء فيك جرّدني من عقلي يوماً.. ولكنني قررت أن أشفى منك.. كانت علاقة حبّنا علاقة مرضيّة، أنت نفسك قلت هذا..
سألتكِ:
- لماذا عدت اليوم إذن؟
قلتِ:
- عدت لأقنعك بالمجيء إلى قسنطينة. أريد أن تباركنا تلك المدينة ولو مرة واحدة.. تباركنا ولو كذباً، لقد تواطأت معنا وأوصلتنا إلى جنوننا هذا.. أدري أننا لن نلتقي فيها.. قد لا نتحدث.. وقد لا نتصافح. ولكن سأكون لك ما دمنا فيها. سنتحداهم على مرأى منها.. ووحدها ستعرف أنني أمنحك ليلتي الأولى.. أيسعدك هذا؟
كم من ليلة أولى كنت تملكين؟ كم من ليلة وهمية أولى كنت قادرة على أن تهبي على بياض، كما وهبتِ روايتك الأولى.. نسختين مزوّرتين لي ولزياد.. موقّعتين على بياض.
لمن ستكونين بعد كل ليلة وهمية؟ ومع من بدأت كذبتك الأولى؟ لمن أهديت هديّتك الملغومة الأولى؟
عندما أذكر كلامك اليوم، أضحك وأنا أشبّه نفسي آنذاك بأثيوبي جائع يسردون عليه قائمة من الأطباق الشهية التي لن يذوقها، ويسألونه بعدها كيف وجدها.. وإذا كان ذلك يسعده..
ولكن وقتها لم أضحك، بل ربما بكيت وأنا أجيبك بحماقة عاشق.. "يسعدني..".
لم أنتبه إلى أنك كنت تمنحينني ليلةً وهمية، عليّ أن أتنازل عنها مباشرة لرجل آخر، سيستفيد منها فعلياً!
ولكن هل يهم ذلك.. مادمت أتنازل عن شيء ليس في جميع الحالات لي؟
هكذا التاريخ دائماً عزيزتي وهكذا الماضي.. ندعوه في المناسبات ليتكفّل بفتات الموائد.
نتحايل على الذاكرة، نرمي لها عظمة تتلهى بها، بينما تُنصب الموائد للآخرين.
وهكذا الشعوب أيضاً، نهبها كثيراً من الأوهام.. كثيراً من الأحلام المعلّبة، من السعادة المؤجلة، فتغضّ النظر عن الولائم التي لن تدعى إليها..
ولكن لم أعِ كل هذا إلا بعد فوات الأوان. بعدما رفعت الموائد، وانسحب الجميع لأبقى وحدي.. أمام فتات الذاكرة.
قلتُ:
- أريد أن أراكِ..
صحتِ:
- لا.. لم يعد لقاؤنا ممكناً الآن.. وربما كان هذا أفضل. يجب أن نبحث عن نهاية أقل وجعاً لقصّتنا. لتكن قسنطينة لقاءنا وفراقنا معاً.. فلا داعي لمزيد من العذاب.
هكذا إذن.. قررت قتلي حسب الأصول، بجرّة سكّين واحدة، ذهاباً وإياباً.. في لقاءٍ وفراقٍ واحد. فما أرأفك بي.. وما أغباني!
أكثر من سؤال ظلّ معلّقاً في الحلق، لم أطرحه عليك يومها.
أكثر من لوم.. أكثر من عتاب.. أكثر من رغبة..
ولكن هاتفك انتهى كما جاء خارج الزمان، وأنا بين الصحوة واليقظة ممدد بذهول في فراشي.
حتى أنني تساءلت بعدها: هل طلبتني حقاً في ذلك الصباح أم أنني حلمت.. فقط؟
ها نحن مثل أطفال إذن..
نمحو كل مرة آثار الطباشير على الأرض لنرسم قوانين لعبة جديدة.
نتحايل على كل شيء لنربح كل شيء. فتتّسخ ثيابنا ونصاب بخدوش ونحن نقفز على رِجْل واحدة من مربع مستحيل إلى آخر.
كل مربع فخّ نصب لنا، وفي كل مربع وقفنا وتركنا أرضاً شيئاً من الأحلام.
كان لا بد أن نعترف أننا تجاوزنا عمر النط على رِجْل واحدة، والقفز على الحبال، والإقامة في مربعات الطباشير الوهيمة.
أخطأنا حبيبتي..
الوطن لا يرسم بالطباشير، والحب لا يكتب بطلاء الأظافر.
أخطأنا.. التاريخ لا يكتب على سبورة، بيد تمسك طباشير وأخرى تمسك ممحاة..
والعشق ليس أرجوحة يتجاذبها الممكن والمستحيل.
دعينا نتوقف لحظة عن اللعب. لحظة عن الجري في كل الاتجاهات. نسينا في هذه اللعبة مَنْ مِنّا القط، ومَن الفأر.. ومن منا سيلتهم مَنْ.
نسينا أنهم سيلتهموننا معاً.
لم يعد أمامنا متّسع للكذب. لا شيء أمامنا سوى هذا المنعطف الأخير. لا شيء تحتنا غير هاوية الدمار.
فلنعترف أننا تحطّمنا معاً.
لستِ حبيبتي..
أنتِ مشروع حبي للزمن القادم. أنت مشروع قصّتي القادمة وفرحي القادم.. أنتِ مشروع عمري الآخر.
في انتظار ذلك.. أحبّي من شئتِ من الرجال، واكتبي ما شئتِ من القصص..
وحدي أعرف قصّتك التي لن تصدر يوماً في كتاب. وحدي أعرف أبطالك المنسيين وآخرين صنعتهم من ورق.
وحدي أعرف طريقتك الشاذة في الحب، طريقتك الفريدة في قتل من تحبين.. لتؤثثي كتبك فقط.
أنا الذي قتلتني لعدة أسباب غامضة، وأحببتك لأسباب غامضة أخرى.
أنا الرجل الذي حوّلك من امرأة إلى مدينة، وحولته من حجارة كريمة إلى حصى.
لا تتطاولي على حطامي كثيراً.
لم ينته زمن الزلازل، وما زال في عمق هذا الوطن حجارة لم تقذفها البراكين بعد.
دعينا نتوقف لحظة عن اللعب. كفاك كل ما قلته من كذب..
أعرف اليوم أنك لن تكوني لي.
دعيني إذن، أنحشر معك يوم الحشر حيث تكونين، لأكون نصفك الآخر.
دعيني أحجز مسبقاً مكاناً لي إلى جوارك، ما دامت كل الأماكن محجوزة حولك هنا، وما دامت مفكّرتك ملأى بالمواعيد حتى آخر أيامك..
يا امرأة على شاكلة وطن..
أيهمّ بعد اليوم أن نبقى معاً؟
حقيبة صغيرة فقط لملاقاة الوطن.
ولا شي سوى بدلة سوداء لحضور حفل زفافك. زجاجتيْ وسكي.. قمصان.. وشفرات حلاقة.
هنالك أوطان تنتج كل مبرّرات الموت، وتنسى أن تنتج شفرات حلاقة!
على أصابع الجرح أعود إلى الوطن.
دون أمتعة شخصية، دون زيادة في الوزن ولا زيادة في حساب.
وحدها الذاكرة أصبحت أثقل حملاً، ولكن من سيحاسبنا على ذاكرة نحملها بمفردنا؟
مشياً على جرحي الأخير أعود إليه على عجل.
عشر سنوات من الغياب، وها هوذا الرجوع المفاجئ. كنت أتوقع لقاءً غير هذا..
كنت سأحجز لي مكاناً في الدرجة الأولى مثلاً. فيحدث للذاكرة في مثل هذه المناسبات، أن ترفض الجلوس في الكراسي الخلفية.
ولكن، لا يهم سيدتي.. كانت كل الكراسي الأمامية محجوزة مسبقاً، لأولئك الذين حجزوا كراسي الوطن أيضاً بأمر..
فلأعد إليه كما جئت منه إذن، على كرسي جانبي للحزن.
نغادر الوطن، محمّلين بحقائب نحشر فيها ما في خزائننا من عمر. ما في أدراجنا من أوراق.
نحشر أبوم صورنا، كتباً أحببناها، وهدايا لها ذكرى..
نحشر وجوه من أحببنا.. عيون من أحبّونا.. رسائل كتبت لنا.. وأخرى كنّا كتبناها.
آخر نظرة لجارة عجوز قد لا نراها، قبلة على خد صغير سيكبر بعدنا، دمعة على وطن قد لا نعود إليه.
نحمل الوطن أثاثاً لغربتنا، ننسى عندما يضعنا الوطن عند بابه، عندما يغلق قلبه في وجهنا، دون أن يلقي نظرة على حقائبنا، دون أن يستوقفه دمعنا.. ننسى أن نسأله من سيؤثثه بعدنا.
وعندما نعود إليه.. نعود بحقائب الحنين.. وحفنة أحلام فقط.
نعود بأحلام وردية.. لا "بأكياس وردية"، فالحلم لا يستودر من محلات "تاتي" الرخيصة الثمن.
عارٌ أن نشتري الوطن ونبيعه حلماً في السوق السوداء. هنالك إهانات أصعب على الشهداء من ألف عملة صعبة!
ها أنذا.. بحقيبة يدٍ صغيرة، هنا في اللامكان.
في هذه النقطة المعلقة بين الأرض والسماء. والهاربة بي من ذاكرة إلى أخرى. أجلس على مقعد في الدرجة الثانية للنسيان.
أحلّق على تضاريس حبّك. على ارتفاع تصعب معه الرؤية، ويصعب معه النسيان. وأتساءل رغم فوات الأوان: تراني أرتكب آخر حماقات عمري، وأهرب منك إلى الوطن؟ أحاول أن أشفى منك به. أنا الذي لم أشف بك منه؟
ها هي اللوحة التي أحضرتها هدية لعرسك تشغل مكانك الفارغ إلى جواري.
ها نحن نسافر _ أخيراً معاً _ أنا وأنت..
نأخذ طائرة واحدة لأول مرة. ولكن ليس للرحلة نفسها.. ولا للاتجاه نفسه.
ها هي قسنطينة..
ساعتان فقط ليعود القلب عمراً إلى الوراء.
تشرع مضيفةٌ باب الطائرة، ولا تتنبّه إلى أنها تشرع معه القلب على مصراعيه. فمن يوقف نزيف الذاكرة الآن؟
من سيقدر على إغلاق شبّاك الحنين، من سيقف في وجه الرياح المضادة، ليرفع الخمار عن وجه هذه المدينة.. وينظر إلى عينها دون بكاء.
ها هي قسنطينة إذن..
وها أنذا أحمل بيدي الوحيدة حقيبة يد، ولوحة تسافر معي سفرها الأخير، بعد خمس وعشرين سنة من الحياة المشتركة.
ها هي "حنين"، النسخة الناقصة عن قسنطينة، في لقاء ليليّ مع اللوحة الأصل..
تكاد مثلي تقع من على سلّم الطائرة تعباً.. ودهشة.. وارتباكاً.
تتقاذفنا النظرات الباردة المغلقة، تتقاذفنا العبارات التي تنهى وتأمر. وكل هذه الوجوه المغلقة، وكل هذه الجدران الرمادية الباهتة..
فهل هذا هو الوطن؟
قسنطينة..
كيف أنتِ يا اميمة.. واشك؟
أشرعي بابك واحضنيني.. موجعة تلك الغربة.. موجعة هذه العودة..
باردٌ مطارك الذي لم أعد أذكره. باردٌ ليلك الجبلي الذي لم يعد يذكرني.
دثّريني يا سيدة الدفء والبرد معاً.
أجلي بردك قليلاً.. أجّلي خيبتي قليلاً.
قادمٌ إليك أنا من سنوات الصقيع والخيبة، من مدن الثلج والوحدة.
فلا تتركيني واقفاًً في مهب الجرح.
كانت الإشارات المكتوبة بالعربية، وبعض الصور الرسمية، وكل تلك الوجوه المتشابهة السمراء، تؤكد لي أنني أخيراً أقف وجهاً لوجه مع الوطن. وتشعرني بغربة من نوع آخر تنفرد بها المطارات العربية.
وحده وجه حسّان ملأني دفئاً مفاجئاً عندما أطلّ، وأذاب جليد اللقاء الأول.. مع ذلك المطار.
وعندما احتضنني، وأخذ عني حمولة يدي، وقال بلهجة جزائرية مازحة وهو يحمل عني تلك اللوحة:
"واش.. مازلت تنقّل في الطابلوهات..؟" ثم أضاف "آ سيدي.. هذا نهار مبروك من هو اللي قال نشوفك هنا..!".
شعرت أن قسنطينة أخذت فجأة ملامحه، وأنها أخيرا جات ترحّب بي.
وهل كان حسان غير تلك المدينة نفسها. غير حجارتها.. قرميدها.. وجسورها ومدارسها.. وأزقّتها وذاكرتها؟
هنا ولد، وهنا تربّى ودرس، وهنا أصبح مدرّسا. لم يغادرها إلا نادراً في زيارات قصيرة إلى تونس أو إلى باريس.
كان يحضر لزيارتي من سنة إلى أخرى، لكي يطمئنّ عليّ وليشتري بالمناسبة بعض لوازم عائلته التي ما فتئت تكبر وتتضاعف. وكأن حسان قرر أن يتحمل بمفرده مسؤولية عدم اندثار اسم العائلة، بعدما يئس من تزويجي وأدرك بعد محاولات إغراء فاشلة، أنه لن يكون لي بنات و لا بنون.. ما عدا تلك اللوحات التي تنفرد بحمل اسمي.
أكتشف اليوم، أن هذا الرجل الفارع القامة، المهذّب المظهر، والذي يتحدث دائماً بحماسة الأساتذة وعنادهم وتكرارهم، وكأنه يواصل حديثه لتلاميذه وليس للآخرين، هو أخي.. لا غير.
أكنت أجهل هذا؟ لا!
ولكن في هذا اليوم الاستثنائي الألم والخيبة.. والفرحة! أشعر أن قرابته بي تصبح الأرض الصلبة الوحيدة التي يمكن أن أقف عليها وسط زلازلي الداخلية، والصدر الوحيد الذي كنت لولا الكبرياء، بكيت عليه في تلك اللحظة.
عشر سنوات.. حدث خلالها في بعض المرّات أن انتظرته أنا في مطار (أورلي الدولي).
كانت الأدوار معكوسة. كان هو القادم.. وأنا المنتظر. وكنت أشعر آنذاك أنني أقوم بواجب عائلي لستُ ملزماُ به، ولكن كنت أحرص عليه. فقد كانت تلك إحدى فرصي القليلة لألعب دور "الأخ الكبير" بكل مسؤولياته وواجباته. ذلك الدور الذي لم أوفّق دائماً في أدائه. فقد عشت في الواقع دائماً بعيداً عن حسّان، حسان الذي كنت أدرك جوعه للحنان ويتمه المبكّر.. وتعلقه العاطفي بي.
تُراه لهذا أيضاً تزوّج باكرا على عجل، وراح يكثر من الأولاد ليحيط نفسه أخيراً بتلك العائلة التي حرم منها دائماً في طفولته، والتي كنت عاجزاً عن أن أعوضها له بحضوري العابر.. وغيابي المتنقّل من منفى إلى آخر.
فلماذا يقلب لقائي بحسان اليوم كل مقاييسي السابقة، ويشعرني برغم فارق العمر، وبرغم أولاده الستة، أنني الأخ الأصغر وأنه في هذه اللحظة يكبرني بسبع سنوات، وربما بأكثر..
ترى لأنه هو الذي يحمل حقيبتي ويمشي أمامي، ويسألني عن تفاصيل سفري.. أم أن هذا المطار الذي يستفزّ رجولتي وكبريائي يجرّدني من وقار عمري. فأترك حسان يتصرف فيه نيابة عني، وكأن تجربته مع هذه المدينة ومعايشته لطباعها المتقلّبة، جعلته اليوم يبدو أكبر..
أم تراها قسنطينة.. تلك الأم المتطرفة العواطف، حباً وكراهية.. حنانا وقسوة، هي التي حوّلتني بوطأة قدم واحدة على ترابها، إلى ذلك الشاب المرتبك الخجول الذي كنته قبل ثلاثين سنة؟
نظرت إليها من زجاج سيارة كانت تنقلني من المطار إلى البيت، وتساءلت: أتراها تعرفني؟
هذه المدينة الوطن، التي تُدخل المخبرين وأصحاب الأكتاف العريضة والأيدي القذرة من أبوابها الشرفيّة.. وتدخلني مع طوابير الغرباء وتجّار الشنطة.. والبؤساء.
أتعرفني.. هي التي تتأمل جوازي بإمعان.. وتنسى أن تتأملني؟
سُئلت أعرابية يوماً: "من أحبّ أولادك إليك؟" قالت: "غائبهم حتى يعود.. ومريضهم حتى يشفى.. وصغيرهم حتى يكبر".
وكنت أنا غائبها الذي لم يعد.. ومريضها الذي لم يشف وصغيرها الذي لم يكبر..
ولكن قسنطينة لم تكن قد سمعت بقول تلك الأعرابية. فلم أعتب عليها. عتبت على ما قرأت من كتب التراث العربي!
لم أنم تلك الليلة..
أكان ذلك العشاء الذي أعدته عتيقة زوجة حسان، وكأنها تعدّ وليمة، والذي استسلمت له بشهية أكاد أقول تاريخية، هو الذي كان سبب قلقي، بعدما تناولت الكثير من أطباقه التي لم أذق معظمها من سنين؟
أم أن السبب هو صدمة لقائي العاطفي الآخر مع ذلك البيت، الذي ولدت فيه وتربّيت، والذي على جدرانه وأدراجه ونوافذه وغرفه وممراته، كثير من ذاكرتي، من أفراح ومآتم وأعياد.. وأيام عادية أخرى، تراكمت ذكراها في أعماقي لتطفو الآن فجأة.. كذكريات فوق العادة تلغي كل شيء عداها؟
ها أنا أسكن ذاكرتي وأنا أسكن هذا البيت، فكيف ينام من يتوسّد ذاكرته؟
مازال طيف الذين غادروه يعبر هذه الغرف أمامي. أكاد أرى ذيل كندورة (أمّا) العنابي يمر هنا، ويروح ويجيء بذلك الحضور السري للأمومة. وصوت أبي يطالب بالماء للوضوء، أو يصيح من أسفل الدرج "الطريق.. الطريق" لينبّه النساء في البيت أنه قادم صحبة رجل غريب، وأن عليهن أن يفسحن الطريق ويذهبن للاختباء في الغرف البعيدة.
أكاد أرى خلف الجدران الجديدة البياض آثار المسمار الذي علق عليه أبي يوماً شهادتي الابتدائية منذ أربعين سنة. ثم جوارها بعد سنوات شهادة أخرى..
وبعدها لا شيء..
توقّف اهتمامه بي ليبدأ اهتمامه بأشياء أخرى، ومشاريع أخرى، انتهت بموت (أما) وزواجه الذي كان جاهزاً للاستهلاك، ومعداً في ذهنه منذ مدة.
أكاد أرى جثمان (أما) يخرج مرة أخرى من ها الباب الضيق يليه حشد من قراء القرآن.. ونساء يحترفن البكاء في المآتم.
أكاد أرى موكباً آخر يعود بعد أسابيع، بعروس صغيرة هذه المرة.. ونساء يحترفن الزغاريد والمواويل.
ثم تلك الليلة التي قبّلت فيها حسان وودعته قبل أن ألتحق بالجبهة.
لم يسألني ليلتها إلى أين كنت ذاهباً. كان حسان وهو في عامه الخامس عشر، قد سبق عمره بسنوات.
كان مثلي جعله اليتم يكبر على عجل.. وعلّمه ذلّه أن يصمت ويحتفظ لنفسه بالأسئلة.
سألني:
- .. وأنا؟
وأجبته بالذهول نفسه:
- مازلت صغيراً يا حسان.. انتظرني..
فقال وكأنه يتقمّص فجأة صوت (أما) وخوفها المرضيّ عليّ:
- عندك على روحك.. آ خالد..
وأجهش بالبكاء.
ها هو الوطن الذي استبدلته بأمي يوماً.
كنت أعتقد أنه وحده قادر على شفائي من عقدة الطفولة، من يتمي ومن ذلّي.
اليوم.. بعد كل هذا العمر، بعد أكثر من صدمة وأكثر من جرح، أدري.. أن هناك يُتم الأوطان أيضاً. هنالك مذلّة الأوطان، ظلمها قسوتها، هنالك جبروتها وأنانيتها.
هنالك أوطان لا أمومة لها.. أوطان شبيهة بالآباء.
لم أنم ليلتها حتى ساعة متقدمة من الصباح.
كان للقائي الليلي مع تلك المدينة مذاق مسبق لمرارة ما. وما كدت أغفو حتى أيقظني من غفوتي أصغر أولاد حسان، الذي استيقظ باكراً وراح يبكي بكاء رضيع يطالب بحضن أمه، ووجبته الصباحية.
حسدت براءته وجرأته الطفولية.. وقدرته على قول ما يريد دون كلام.
في ذلك الصباح، وفي أول لقاء لي مع تلك المدينة، فقدت لغتي.
شعرت أن قسنطينة هزمتني حتى قبل أن نلتقي، وأنها جاءت بي إلى هنا، لتقنعني بذلك لا غير!
ولم أشعر برغبة في مقاومة قدري.
لقد هزمت من مرّوا قبلي، وصنعت من جنونهم بها أضرحة للعبرة.
وأنا آخر عشاقه المجانين..
أنا ذا العاهة الآخر الذي أحبها، أنا"أحدب نوتردام" الآخر، وأحمق قسنطينة الآخر.. ما الذي أوصلني إلى جنون كهذا؟ ما الذي أوقفني عند أبواب قلبها عمراً؟
وكانت تشبهك..
تحمل اسمين مثلك، وعدة تواريخ للميلاد. خارجة لتوّها من التاريخ، باسمين: واحد للتداول.. وآخر للتذكار.
كان اسمها يوماً "سيرتا". قاهرة كانت.. كمدينة أنثى.
وكانوا رجالاً.. في غرور العسكر!
من هنا مرّ صيفاكس.. ماسّينيسا.. ويوغررطة.. وقبلهم آخرون.
تركوا في كهوفها ذاكرتهم. نقشوا حبّهم وخوفهم وآلهتهم.
تركوا تماثيلهم وأدواتهم، وصكوكهم النقدية، أقواس نصرهم وجسوراً رومانية..
.. ورحلوا.
لم يصمد من الجسور سوى واحد. ولم يبق من أسمائها سوى اسم "قسنطينة" الذي منحه لها من ستة عشرة قرناً "قسطنطن".
أحسد ذلك الإمبراطور الروماني المغرور، الذي منح اسمه لمدينة لم تكن حبيبته بالدرجة الأولى.. وإنما اقترن بها لأسباب تاريخية محض.
وحدي منحتك اسما لم يكن اسمي.
وربما لذلك، يحدث أن أعاكس قانون الحماقات هذا. وأنادي تلك المدينة "سيرتا" لأعيدها إلى شرعيّتها الأولى.
تماما.. كما أناديك "حياة".
ككلّ الغزاة.. أخطأ قسطنطين.
المدن كالنساء.. نحن لا نمتلكها لمجرد أننا منحناها اسمنا.
لقد كانت "سيرتا" مدينة نذرت للحب والحروب، تمارس إغراء التاريخ، وتتربّص بكل فاتح سبق أن ابتسمت له يوماً من علوّ صخرتها.
كنسائها كانت تغري بالفتوحات الوهمية..
ولكن لم يعتبر من مقابرها أحد!
هنا أضرحة الرومان.. والوندال.. والبيزنطيين.. والفاطميين.. والحفصيين.. والعثمانيين.. وواحد وأربعين باياً تناوبوا علها قبل أن تسقط في يد الفرنسيين.
هنا وقفت جيوش فرنسا سبع سنوات بأكملها على أبواب قسنطينة.
فرنسا التي دخلت الجزائر سنة 1830، لم تفتح هذه المدينة الجالسة على صخرة، إلا سنة 1837، سالكة ممراً جبليا تركت فيه نصف جيشها، وتركت فيه قسنطينة خيرة رجالها.
منذ ذلك اليوم، ولد أكثر من جسر حول تلك المدينة، وكثرت الطرقات المؤدية إليها.
ولكن، كانت الصخرة دائماً أكبر من الجسور، لأنها تدري أن لا شيء تحت الجسور سوى الهاوية!
ها هي مدينة تتربص بكل فاتح.. تلف نفسها بملاءتها السوداء وتخفي سرّها عن كل سائح.
تحرسها الوهاد العميقة من كل جانب، تحرسها كهوفها السرية وأكثر من وليّ صالح، تبعثرت أضرحتهم على المنعرجات الخضراء تحت الجسور.
هنا القنطرة.. أقرب جسر لبيتي ولذاكرتي. أعبرها تلقائيا وكأنني أرسمها، مشياً على الأقدام، بين الدوار المبهم والتذكار وكأنني أعبر حياتي، أجتاز العمر من طرف إلى آخر.
كل شيء كان يبدو مسرعاً على هذا الجسر. السيارات والعابرون وحتى الطيور، وكأن شيئاً ما كان ينتظرهم على الطرف الآخر.
ربما كان بعضهم يجهل آنذاك أن الذي يبحث عنه، قد يكون تركه خلفه، وأنه في الحقيقة، لا فرق بين طرفي الجسر. الفرق الوحيد هو ما في فوقه.. وما تحته.
تلك الهاوية المخيفة التي يفصلك عنها حاجز حديدي لا أكثر، والتي لا يتوقف أحد لبنظر إليها، ربما لأن الإنسان بطبعه لا يحب أن يتأمل الموت.. كثيرا.
وحدي تستوقفني هذه الهاوية الموغلة في العمق.
ترى لأنني أتيتها بأفكار مسبقة وذاكرة متوارثة؟ أم سلكت هذا الطريق، لأنفرد بهذه المدينة على جسر؟
***
|