-أعقد أنك لم تتكيفي بعد يا ميراندا, ربما استغرق هذا يوما أو يومين بسبب الاختلاف في الوقت.
في تلك اللحظة تناهى إليهما صوت طومس غالنت وهو في طريقه إلى حجرته حيث كانت زوجته في انتظاره.
-كيف لي أن أعرف المكان الذي ذهبت إليه؟ التفت لأقول شيئا, فإذا بك اختفيت, وهكذا ظننت أنك رحت معه إلى مكان ما طوال الليل. حسنا أنا مخطئ.
انغلق الباب بعنف, وتحول صوت طومس من داخل حجرته إلى زمجرة مخنوقة.
قال تشك يخاطب ميراندا:
-إنه ليس دائما كذلك, إنه يشعر بعدم الثقة حين يتعلق الأمر بزوجته دون. إنها تصغره سنا وجذابة جدا, و في استطاعة روجر, إذا ما أراد, أن يصير طريفا في أكثر من معنى, وإن كنت لا تعرفين معاني هذه الكلمة, اقترح عليك نبشها في القاموس قبل أن تستسلمي إلى سحره القاتل. طاب مساؤك, يا ميراندا. أرجو أن نسبح معا غدا.
نامت ميراندا الليل كله من دون أحلام, حتى أفاقت على ضربات آلات الديزل الرتيبة. بقيت مستلقية تنظر إلى الضوء المعكوس على سقف الحجرة الأبيض محاولة أن تتذكر أين هي وما حدث.
تذكرت أحداث اليوم السابق, وتلاحق في خيالها شريط الأوجه والمشاهد, فنهضت من فراشها بسرعة مما أفقدها توازنها. كان اليخت مبحرا, حركته خفيفة إلى درجة لا تسبب دوارا.
ومن خلال الكوة رأت زرقة البحر العميقة بتموجاته الخفيفة وقد ذهبتها الشمس, وفوقها تقوست السماء الصافية ذات الزرقة الشاحبة.
تحمست بسرعة, يجب ألا تضيع لحظة من هذه المغامرة, لبست ثيابها بلمح البصر وكانت الساعة السابعة. كان السيد انغرام قال لها أنه لن يحتاج إليها صباحا, أحست أنها حرة بضع ساعات لتفعل ما تشاء. وقررت أن تصعد إلى أعلى مكان على سطح اليخت لتكتشف ما في وسعها رؤيته.
ومع أن رائحة الفطور كانت تعبق في الهواء فلم يكن من أحد على السطح. دخلت ميراندا بابا, ومنه إلى السطح. هبت نسمة الصباح رافعة تنورتها إلى أعلى, مما جعلها تتمنى لو ارتدت بنطلونا. وحتى لا تضيع
الوقت ضمتها إلى خصرها وصعدت الدرج إلى أعلى السطح.
اقتربت من حافة المركب قدر المستطاع واتكأت على الدرابزين وبانت لها الجزر في المسافة الزرقاء. إلا أنها لم تستطع التحديق طويلا لانعكاس وهج الشمس في عينيها. ولأنها نسيت نظارتها اضطرت إلى أن تظلل عينيها بيديها, وللحال رفع الهواء تنورتها الخفيفة.
-يبدو أن لديك مشاكل هذا الصباح.
قال صوت يتخلله المزاح.
وحين التفتت إلى الخلف رأت روجر متكئا إلى جانبها على الدرابزين. وكما كان ممكنا أن تتكهن كان يرتدي ما يناسب الطقس... بنطلونا أبيض مشدود الخصر, قميصا قطنيا أزرق مفتوح العنق وحذاء رياضيا خفيفا. كان شعره المسرح نحاسي البريق وعلى عينيه نظارتان شمسيتان.
-لم أتصور أن يكون الهواء نشطا بهذا الشكل. أو مشرقا إلى هذه الدرجة والصبح في لحظاته الأولى. يجب أن تلبسي قبعة, ميراندا.
قالت له متلعثمة:
-آه نسيت ذلك. لم أحضر معي واحدة.
-إذن سأشتري لك واحدة في سانت طومس. ( أجابها مبتسما) سوف لن ندع شمسنا القوية تؤذي هذه التقاطيع الانكليزية. هل صفحت عن الذي حدث البارحة؟
-آه, نعم.
قالت ميراندا بعفوية. فهي دائما كانت غفورة, أما هو فقد بدا طيبا ذلك الصباح الباكر إلى درجة أنها نسيت تعليمات السيد انغرام وتحذير تشك. ردت بطيبتها المعهودة:
-وشكرا لشرحك القضية للسيد انغرام, لو أنك غادرت قبل عودته من الشاطئ ذلك اليوم لكنت فقدت وظيفتي.
أجابها بتأمل:
-لا أريد أن أكون سبب ذلك.
-أخشى أن يكون السيد انغرام قد خدعك. إني آسفة لذلك.
قالت هذا بتردد, أما هو فالتفت إليها بحدة. ثم ابتسم ابتسامة أظهرت غمازتين في خديه الناحلين بينما الريح ترفع شعره الكستنائي عن جبينه وهو يتكئ على الدرابزين يواجهها.
-هذا لطف منك يا ميراندا, هل لي أن أفهم من هذه الملاحظة أن أساليب دعوته لي إلى القدوم إلى اليخت لمقابلة أبناء عمي لم تلاق استحسانك؟
-طبعا, لأن أحدا لم يستشرني في ذلك. ( أجابته برزانة عمقت ابتسامته). ولكن حين عرفت أنه خدعك صرت منزعجة. إذ لا خبرة لي في صفقات كبيرة كهذه. إنها المرة الأولى التي اشتغل فيها سكرتيرة. لدي الكثير لأتعلم.
-دعيني أساعدك. كل شيء مسموح في الحب والحرب, و أنت يجب أن تعتبري أعمال الشركات, كشركتكم مثلا, نوعا من الصراع. صراع من أجل القوة.
توقف قليلا, وأضاف متنهدا:
-وماذا تعرفين عن الحب؟ أم أن علي شرحه لك؟
-قليلا. ( أجابته ميراندا) إلا أني لا أتفق معك على أنه كالحروب.
-بالنسبة إلينا هو كذلك.
قالها متمتها, وللحال تذكرت ألأمسية السابقة حين غادر النادي الليلي مصطحبا زوجة ابن عمه. وقال معلقا بصراحة تبعث على الدهشة:
-أنت لا تبدين عاشقة أو أنك عشقت في حياتك, ميراندا.
-طبعا, أعرف الحب, وحال رجوعي إلى انكلترا سأتزوج.
-من شاب تعرفت إليه من سنين, ذي أخلاق, يحافظ عليك ويحميك بقية العمر.( قالها بجفاء) إنه يستحق التهنئة لاختياره إياك.
ابتعد قليلا عن الدرابزين وراح يتطلع إلى البحر. أحست تغيرا في نبرته, ورمقته بنظرة قلقة. كان هناك ظل من المرارة عند طرفي فمه. بدا مستغرقا وأفكاره مأخوذة إلى مدارك لم تدركها نفسها يوما, وبدا وهو في هذه الحال غير سعيد.
سألته بعصبية عساها تخترق الحاجز الذي أقامه حوله:
-هل البحر دائما بهذه الزرقة؟
أجابها بغموض:
-تقريبا.
وساد الصمت, الصمت الذي صار أكثر بروزا بسبب صوت محرك اليخت الذي كان يقترب من جزيرة. لم تعد الزرقة ظاهرة, بل سلسلة من تلال منحنية غطتها خضرة كثيفة.
سألته ميراندا وأعصابها لا تزال مشدودة:
-هل تلك سانت طومس؟
حاول رفيقها قدر المستطاع إزالة الجو الجدي, فالتفت إليها ثانية.
-إنها كذلك. وهي كانت مقصد المكتشفين أمثال بلاكبيرد وهنري موغان. في الحقيقة, إحدى هذه التلال كانت تدعى تله بلاكبيرد لأنه بنى عليها برج مراقبة. ويقال أن السيد فرانسيس دريك جاء إلى هنا, كذلك يقال أنه هو الذي أعطى الجزر العذراء أسماءها تيمنا بإليزابيث الأولى التي كانت عذراء. وثمة رواية ثانية تقول أن كولومبس هو الذي اكتشفها و أعطاها هذا الاسم. وأخيرا احتل الدانمركيون بعض هذه الجزر, ولهذا السبب تعثرين على أسماء دانمركية و أسبانية و انكليزية و فرنسية. هل تناولت الفطور؟
-كلا.
-دعينا نفطر معا إذن, فأحدثك بإسهاب عن قراصنة الانكليز الأشرار, وأنت بدورك يمكنك أن تخبريني...
وهنا توقف وبخبث أضاف:
-تخبرينني ما تعرفين عن مشاريع الترانسمارين.
في الأيام التي تلت, وحتى بعد مضي سنوات, لم تنس ميراندا ذاك الصباح في البحر الكاريبي حين فطرت مع روجر على سطح اليخت المندفع في المياه الزرقاء المتلألئة.
جلسا إلى مائدة صغيرة تحت مظلة خارج الصالون الرئيسي حيث كان في خدمتهما بيلي الذي بدا في غاية الجاذبية ببشرته السمراء تحت قميص بيضاء حاكت بياض أسنانه. وفي أثناء الطعام لم يتحدثا عن القراصنة أو الترانسمارين, بل واحدهما عن الآخر. هو عرف كل شيء عن العمة كلارا و دوروتي وقيلا عن جو. وهي بدورها عرفت كل شيء عن جدته التي رحلت من اسكتلندا إلى ترينيداد كي تدرس الموسيقى لفئة من البنات, حيث التقت روبرت غالنت وتزوجته. كانت تلك فيونا, وهي التي اكتشفت في حفيدها موهبة الفن وأهدته بيانو, وعليه, كما يذكر, بدأت أولى مؤلفاته الموسيقية.
وحين انتهيا من الطعام كان اليخت يدخل خليجا مغلقا تقريبا. ولأول مرة وقعت عينا ميراندا على مدينة شارلوت أمالي المدينة الرئيسية في سانت طومس تيمنا بملكة دانمركية.
ربط اليخت إلى الرصيف المواجه للبلدة من جهة المرفأ الشمالية. كانت هناك يخوت أخرى. تركت ميراندا اليخت بصحبة روجر, وخلال دقائق معدودة كانا في ممر جميل بين بنايتين يؤدي إلى الشارع التجاري. كان الممر تحت ظلال النخيل وأشجار أخرى استوائية وعلى الجانبين كانت الدكاكين ببضاعتها المتنوعة, من القطع الفنية المصنوعة من قبل فنانين محليين إلى الأعمال اليدوية المستوردة.
بدت بلدة ناشطة كأية بلدة فيها مرفأ, مليئة بالبضاعة من بلدان العالم. تاريخها ظاهر في هندستها, بيوتها ذات النموذج الدانمركي ويميزها طابع أسباني. هنا وهناك كانت إشارة إلى نموذج من الاستعمار الفرنسي. أما البنايات الجديدة فقد كانت أمريكية الهندسة.
وكما وعدها روجر, فقد اصطحبها إلى محل تجاري كبير يحمل اسما دانمركيا عرضت فيه أنواع فاخرة من الثياب بطريقة مغرية. اختار لها قبعة ودفع ثمنها. كانت قبعة قش مفتوحة بيضاء إطارها عريض. وحين سألته عن ثمنها بدا كأنه لم يسمعها. ثم اصطحبها إلى ممر أخر وارف الظلال وجلسا في مقهى هناك.
بعد فترة زارا متاجر كثيرة واشترت حاجيات
السباحة, ثم تجولا في الشارع الرئيسي المليء بسياح يبحثون عن تذكارات يشترونها للعودة بها إلى بلادهم.
توقفت ميراندا عند زاوية تتأمل مجموعة من الأصداف الكبيرة تعرضها بائعة في الشارع. كانت تلك صبية شعرها الطويل الأشقر يعكس سمرة وجهها الذي لوحته الشمس. وأوضحت لميراندا أنها غطست مع أخيها وراء الأصداف الجميلة فأكلا لحمها. ثم نظفا داخلها وعقماها للبيع ودهشت ميراندا حين بادر روجر إلى شراء صدفة وقدمها إليها.
وهنا قالت ميراندا بخجل بينما عيناها على الصدفة الزهرية التي بين يديها:
-يجب ألا تمنحني الهدايا. أرجو أن تدعني أدفع ثمن هذه و ثمن القبعة.
-جرحت شعوري, لماذا لا يجوز أن أهديك ما تحبين؟ إنها ليست رشاوى, فأنا لا أريد شيئا في المقابل.
وقفا على طرف رصيف وجها لوجه والتوتر باد في محياهما رغم الشمس الساطعة, والألوان اللامعة وجمهرة السياح المرحة. عادت الذاكرة بميراندا إلى النادي الليلي في سان خوان حيث كان يبتسم لها بإغراء. إنه الآن لا يبتسم, فمه عابس, وتمنت لو ترى عينيه:
-لم يكن لائقا قول ذلك.
قالت له في هدوء, كان صوتها يرتجف قليلا, وعيناها في ظل قبعتها البيضاء العريضة واسعتين تتألمان.
-كلا, ليس الأمر كذلك ولكنك تعتبرين الهدايا هذه بمثابة رشوة, أليس كذلك؟ نسيت أن البريطانيات لا يقبلن هدايا من الرجال.
وفجأة أظهر شيئا من الشك فعض شفته السفلى بأسنانه البيضاء. غير أن هذا الشك لم يطل, إذ ابتسم لها برقة.
-أرجوك ميراندا أن تقبلي هذه الصدفة, لأن وجودي معك هذا الصباح أسعدني. رأيت هذه البلدة خلال عينيك, فإذا بها مكان ساحر جميل بدلا من كونها سوقا تجاريا كما أعرفها!
ناولها الصدفة ثانية فتوهجت بنور معكوس, مما جعل جمالها الطبيعي مصدر فرح أبدي. وقد عرفت ميراندا أنها كلما تطلعت إلى هذه الصدفة في المستقبل ستذكر الصباح الذي أمضته مع روجر في بلدة شارلوت أمالي.
-شكرا, انك لطيف جدا.
قالت له هذا والتلون في خديها ينافس تلون الصدفة.
-لا, لست لطيفا, لا تنسي هذا. ( قال بخشونة) اعتقد أنه من الأحسن العودة إلى اليخت. أظن أن هناك نية في الخروج بعد الظهيرة إلى الفندق الجديد الذي تبنيه الترانسمارين على الجانب الآخر من الجزيرة. سوف نتنزه في اليخت ونرسو في الخليج. سوف نبحر بمحاذاة الشاطئ لمشاهدة البناء وفخامة الهندسة والتسهيلات الفائقة في المنتجع الذي تقدمه الترانسمارين إلى العالم كله.
كان التهكم في صوته يحرجها, كان يتهجم على ما تعتبره صحيحا في الشركة التي تعمل بها, ولسبب ما كان يكره المؤسسات الكبيرة, ولو تبع شعوره لكان سافر البارحة بعد الظهر حين اكتشف السبب الحقيقي وراء الرحلة البحرية, غير أنه فضل البقاء. لماذا؟ كانت متواضعة لدرجة أنها لم تفكر أنه بقي لمساعدتها في الخروج من وضع صعب. فهل بقي لأنه التقى زوجة عمه ورغب في إحياء علاقة ماضية؟ أو هل كان لديه سبب أعمق؟
وحين وصلا كان اليخت جاهزا للإبحار. صعد كل من روجر و ميراندا إلى السطح المشمس حيث وجدا دون وتشك يتمتعان برشف شرابهما قبيل الغداء.
سألهما تشك متقدما صوب ميراندا ومتطلعا إليها بشوق, ومن ثم إلى روجر بغضب:
-أين كنتما؟
-كان عليك النهوض أبكر. ( قال له روجر متهكما) لكنت عندئذ صحبتها إلى السوق.
مر بهما إلى المقصف حيث كانت دون مسترخية على كرسي تشرب من كوب عصير مثلج. كانت ترتدي معطفا بحريا طويلا من دون أكمام نسج من خيوط مجدولة, ومن خلال فتحاته كانت بشرتها الناعمة النحاسية تلمع بتحد.
سألها روجر, وهو يقف خلف المقصف:
-ماذا تريدين أن تشربي, ميراندا؟
أجابته وهي على إحدى الكراسي المريحة:
-شراب يطفئ العطش.
كانت سعيدة لعودتها إلى اليخت المبرد لأن حرارة النهار أتعبتها.
تدخلت دون:
-جربي هذا. إنه عصير الموز مخلوطا بالأناناس.
قال روجر بعصبية:
-ليست هذه الطريقة الفضلى للشرب. أين طوم؟ نائم منذ البارحة؟
بدا روجر في تلك اللحظة شخصا آخر سطحيا, صوته عنيف, عيناه ضيقتان حادتان, فمه قاس. كانت ميراندا تحدق فيه مدهوشة للتبدل المفاجئ في سلوك فارسها اللائق صباحا.
-هل كان مجنونا الليل الفائت؟( تنهدت دون) كان علي عدم الذهاب معك يا روجر.
رد عليها وهو مشغول بزجاجات عصير الفواكه:
-تأسفين الآن؟
-لا, لكن اندهشت لاعتراضه على ذهابي معك. عادة هو لا يهتم حين أروح مع آخر.
سألها تشك:
-أين رحتما على كل حال؟
تمتمت دون متحدية وهي تنفث دخان سيكارتها في اتجاهه:
-هذا سر.
-رحنا إلى حانة أخرى في سان خوان القديمة, كي أتحاشى الضوء الذي كان بينتز مزمعا أن يسلطه علي. هذا شرابك يا ميراندا. إنه خاص ليطفئ العطش.
قدم لها الشراب مبتسما فشكرته. وراح يتكئ على المقصف قريبا من دون.
قالت له دون بإلحاح:
-روجر, يجب أن أكلمك على انفراد.
-ليس قبل الغداء. كما أني أرفض الحديث إطلاقا حول غالنت فانسي.
سألته دون متأففة:
-لماذا لا توافق على البيع؟
-لأنها بيت مارني على رغم أنها ملك لي بحسب القانون.
-ولكن يمكنها العيش في مكان آخر. ( قالت له بإصرار متجاهلة رغبته في عدم البحث في الموضوع) يمكنها السكن في أي مكان. إنها عمياء, ولا فرق عندها أين تعيش.
امتعضت ميراندا من حديث دون اللامبالي وتطلعت إلى روجر لترى ردة فعله. فبدا هذا غير متأثر لكلامها سوى تقطيبه خفيفة بين حاجبيه.
أجاب ببرودة:
-هناك فرق كبير. مارني تعرف الفانسي وتحبها. أهل الجزيرة يعرفونها ويحبونها. هناك فرق كبير للأعمى أن يحس أنه محاط بأشياء وأناس مألوفين. فلو عاشت في أي مكان آخر لذبلت وماتت.
صوته البارد ارتجف قليلا وأضاف بنبرة خفيضة:
-عندئذ سيكون هذا, كما عماها, حملا ثقيلا على ضميري.
صرخت دون بغضب:
-ولكن طوم في حاجة إلى المال, وأنت تعرف أنه لا يقدر على بيع الفولي دون الفانسي.
-هذا من سوء حظ طوم. ألم يخطر في باله أن هناك آخرين تجب استشارتهم قبل بيع أي شيء إلى الترانسمارين؟ كيف يعرف ما يريده أهل فورتوغا؟ ولا مرة فكر بهم كل حياته الأنانية الكسولة.
صار صوت روجر أكثر برودة, باردا كالجليد. ولو أنه صادف في تلك اللحظة دخول غريب لاعتقد أنه يكره ابن عمه.
-هل هو متأكد أنهم يريدون تنمية الجزيرة كسواها من الجزر؟ وهل يعرف أن لا علاقة لأوبري فينسنت و سام ويليامز بالموضوع؟
-من المؤكد أن أي شيء أحسن من التعفن بين أشجار الموز وقصب السكر. ( أجابته دون بانفعال) آه, كل أهالي الجزر من طينة واحدة, رومانسيون يعيشون في الماضي. وأنت بالذات لا تقل أنانية عن طوم. منذ متى تهتم بالجزيرة؟
أجابها بهدوء:
-صحيح أني لم أفعل سوى القليل, ولكن لن أدع ترانسمارين تشتريها.
-أنت لا تريد أن تبيعها فقط حتى تقهر طوم. إنك لم تفعل شيئا سوى التنعم بعائداتك منذ أن ألفت موسيقى تلك الأغنية. كذلك كيت ويليامز لم يقم بأي شيء, لهذا لا أظن أن عائلة ويليامز ستتأثر كثيرا.
-من المؤسف أن طوم لن يتزوج المرأة التي تناسب مدخوله ( قال روجر بصوت ناعم رغم اللمعان الخطر في عينيه) لماذا علي أن أبيع بيت مارني حتى تلبسي جلد النمس يا دون؟ لماذا؟
وقفت دون برهة. رمت ما تبقى من شرابها على روجر الذي عرف مسبقا ما في نيتها, فتحاشى محتوى كوبها واندلق عصير الفاكهة على الأرض من دون أن يصيبه.
صرخت في وجهه:
-أكرهك, يا روجر غالنت, أكرهك! أتسمع؟
-اسمعي, كل واحد على هذا اليخت يسمع. أما قلت لك أني لا أريد البحث في الموضوع معك؟ لما لا تنسيه في أثناء هذه النزهة, فنتمتع بها؟
تطلع إلى ميراندا منفرج الأسارير. أخذت ميراندا بهذا الانفجار, إنها غير معتادة على رؤية تصرف عنيف غير ملجوم كهذا.
خرجت دون وهي تصب لعناتها في حين التفت روجر إلى تشك وسأله:
-لماذا طوم في ضائقة مادية؟
-حسنا, لقد أصبت الهدف بإشارتك إلى جلد النمس( أجابه تشك بانزعاج) كلفته دون مصاريف باهظة, كذلك هو يدفع للوالدة معيشتها.
-دائما كان طماعا, وها هو اليوم يدفع الثمن( علق روجر ببرودة) وماذا عنك؟ هل انتهيت من دراسة الحقوق؟
-كلا. كان لابد من تعطيل سنة لأن بوب لم يدفع القسط. آه, يجب ألا تبدو هكذا متأثرا, فأنا أشتغل, و لكني جئت مع هذه الزمرة, لأني, كوريث طوم, مهتم بأمر العقار. هل من طريقة لاجتناب هذه العملية؟
-لا أعرف, أنت محامي, لماذا لا تحاول معرفة ذلك؟
اقترح تشك بأمل:
-لو نقدر أن نبيع الفولي دون الفانسي.
أجابه روجر بتهذيب:
-يبدو أنك نسيت نقطة مهمة. فانغرام يقول أن الفولي من دون الفانسي لا تهمه. اكتشف أن بيت الفولي مبني على مستنقع, لهذا سينهار.
قال تشك بتذمر:
-ولكنك أنت الذي أخبرته.
-طبعا. ( نظر إلى ميراندا وأضاف بمرارة).
-حسنا, يا ميراندا, هناك الكثير لإعلام رئيسك, أليس كذلك؟
التقطت أنفاسها بصورة مفاجئة.
-هل تظن أني سأخبره كل شيء؟
قالت محتجة واللوم في عينيها الصافيتين الرصينتين. كانت قد أنهت شرابها جالسة والصدفة بين يديها, هادئة, خداها يعكسان كلؤلؤ الصدفة.
اختفى شيء من قسوة وجهه وحدة نظراته عندما التقت نظراتهما لحظة بدفء.
-لا أظن أنك تفعلين ذلك بإرادتك, ولكن حين يسألك عما تحدثت معي كل هذا الصباح, فلا بد من إبلاغه شيئا, أليس كذلك؟
كان على حق, طبعا, وصعب عليها أن تقول للسيد انغرام أن حديثها مع روجر ذلك الصباح تطرق إلى مواضيع مختلفة, من العمة كلارا إلى أغنيات روجر حين كان طفلا, هذه الأغنيات التي تنبض أنغامها في موسيقاه.
كلا, إنها لا تستطيع أن تخبر السيد انغرام عن صباحها مع روجر. ذلك كان سرا ستحضنه طوال حياتها. إنها ستتذكر في المستقبل, وهي وحيدة في بيتها الريفي في انكلترا, الفرح الخطر الذي عرفته في شوارع شارلوت أمالي الوارفة الظل مع شاب أهداها صدفة, وإنها ستساءل نفسها إن كان قد حدث هذا بالفعل.
وهكذا بعد الغداء, حين كانت تطبع رسائل للسيد انغرام, أخبرته بالقليل الذي تعرفه عن مارني العمياء وعن السبب الذي من أجله لا يرغب روجر في بيع غالنت فانسي. أصغى باهتمام, ورمقها بنظرة حادة, قائلا:
-حسنا, اعتقد أنه في الإمكان معالجة هذه القضية الصغيرة. لا أظن أن امرأة عمياء ستكون العائق لمدة طويلة. شكرا للمعلومات.
أثار موقفه رعدة فيها. تطلعت إليه بتمعن وأحست أن عينيه باردتان ودون شعور. لم يكن يهتم بالآخرين, إذ أن هاجسه التجارة وطموحه إقامة الصفقات الكبيرة.
-بعد الظهر أحب أن تأتي معنا إلى موقع الفندق لتأخذي بعض الملاحظات. غدا نترك سانت طومس لزيارة بعض الجزر العذراء. قررت قضاء أسبوع فيها كي أقيم جوا من الثقة المتبادلة. سيكون وقتا لذيذا, كوني لطيفة مع روجر. وفي الوقت نفسه دعي تشك مرتاحا. عنده فورة الشباب, إنه في حاجة إلى المال كي يتابع دراسته الجامعية, وربما شجع والده على البيع لسوانا إذا تأخرنا. ربما علينا إشراك السيدة غالنت في عملية الإقناع. كانت صديقة روجر سابقا, وأظن أن الوقت حان لإحياء هذه الصداقة.
منتديات ليلاس