جلست ميراندا وإحدى قدميها ملتفة بغضاء, وهذا ما جعلها تحس في الحلم بالقيد حول رسغها. تطلعت بصعوبة في الضوء الصادر عن لمبة موضوعة على الخزانة الصغيرة. ومن ثم إلى النوافذ الضيقة ذات الستائر البيضاء والزرقاء. لا شك أن الظلام مخيم في الخارج. و أدركت أنها كانت تحلم.
-كم الساعة؟
-السابعة والنصف. آمل أن تكوني أحسن حالا بعد هذه الإغفاءة القصيرة. حسنا فعلت بنومك هذا بعد تلك الرحلة الطويلة. عسى أن تكوني قد جلبت ما ترتدينه للعشاء خارجا. هل لديك رداء طويل؟
كانت زلدا ترتدي لباسا أسود ناعما أكمامه طويلة وطوقه ضيق, مما جعلها تبدو أكثر رشاقة.
-لدي تنوره طويلة وبلوزة.
أجابت ميراندا:
-عظيم. والآن البسي بسرعة واذهبي إلى مكتب دوغ, ومعك أشرطة التسجيل وملف المراسلة. لن يبقيك طويلا, سيضعك في الصورة بالنسبة إلى المدعوين. سننعم بالوقت. تصوري راقصي الفلامنغو, ونحن لسنا أسبانا!
ولما خرجت السيدة انغرام ارتدت ميراندا التنورة الطويلة ذات الزرقة العميقة, وبلوزة بيضاء كانت قد اشترتها لمناسبات كهذه. مشطت شعرها وتبرجت, حملت الأشرطة و سجلات الرسائل التي أتت بها وتوجهت إلى حجرة دوغ انغرام التي اتخذ منها, في نفس الوقت, مكتبا له في أثناء الرحلة.
بدا طويلا وأنيقا, أكثر جمالا في سترته البيضاء وقميصه الأبيض, وربطة عنق وبنطال قاتمين. وأظهر لباسه الرسمي قامته المستقيمة وشعره الذي غزا أطرافه الشيب. والنهار الذي قضاه في الشمس لوح وجهه فبرز لون عينيه الرمادي, وجعله يبدو الخمسين من عمره.
-إني سعيد برؤيتك يا ميراندا.
حياها ببرودة:
-ضعي الأشرطة هناك. آسف أني لم أكن هنا حين وصلت مع روجر غالنت. ظننت أنه آت بطائرة قد تتأخر من نيويورك. أردت أن أكون هنا لأشرح له سبب وجود أكثر أقربائه وسبب الرحلة البحرية. في أي حال, من الحديث القصير الذي كان معه أشعر بأنك قمت بهذا الأمر قبل الذهاب إلى العشاء.
كان هناك صمت مخيف بينما كانت عيناه القاسيتان تخترقان عينيها. رطبت ميراندا شفتيها وقالت بنعومة:
-كان غاضبا.
-طبعا, ولكن يبدو أنه تقبل الأمر من فتاة جميلة مثلك أحسن مما لو كان عرفه مني. كان على ما يرام في المقصف وبدا سعيدا لرؤية السيدة دو غالنت. يجب معاملتهم بلباقة فائقة.
-آسفة, يا سيد انغرام...
وتوقفت ميراندا عن الكلام حين رفع يده مبتسما.
-لا أعذار ولا شروحات هذه المرة, يا ميراندا. أعرف أنك لم تكوني على علم بهوية مرافقك. ممكن تحويل هذا الخطأ البسيط إلى مصلحتنا.
-وكيف؟
-من الحديث القصير معه شعرت أنك حزت على إعجابه, لهذا أتمنى لو تستغلين اهتمامه بك كي نتمكن من إقناعه ببيع حصته من الأرض.
توقف السيد انغرام متأملا, وتابع يقول:
-إنه ليس بالإنسان السهل, كما اكتشفت في نيويورك. فلو أني أعلنت مسبقا كل شيء لما قرر المجيء إلى هنا. على أي حال, ممكن أن يكون أكثر طاعة للمرأة. و الآن بما أنك هنا مع بقية العائلة المهتمة ليس فقط برؤية فورتوغا ملجأ للراحة, بل بالحصول على المال أيضا, أرجو أن يترك برجه العاجي ويقبل عرضنا لشراء العقار.
رغم أنها دهشت لفكرة إثارة اهتمام رجل بها لأجل غاية معينة هو لا يريدها, أجابت ميراندا بشيء من الشعور بالواجب:
-نعم سيد انغرام, ربما كان من المفيد لو أعرف القليل عن العقار موضوع الصفقة. لا أعرف من يملك ماذا.
-أوافقك الرأي. من الأفضل أن تطلعي على المشروع بكل تفاصيله, عندئذ تكون الأخطاء أقل.
ورغم ابتسامته الحلوة, شعرت ميراندا بالحمرة في خديها.
تابع السيد انغرام:
بالنسبة إلى طومس انغرام اللئيم فان لفورتوغا تاريخا مهما و رومانسيا. سكنها بادئ الأمر اسباني من عائلة فورتوغا ثم جاءها قرصان يدعى ريتشارد غالنت أحبها ورأى فيها واقع أحلامه تماما كما أحبتها ابنة الأسباني. فاحتاجها وذبح الأسباني وتزوج ابنته, وسمى الجزيرة غالنت فانسي.
تذكرت ميراندا حلمها الأخير فجأة, فرمقها بنظرة غريبة, وسألها:
-هل هناك من شيء؟
-كلا. كل ما في الأمر أن الاسم غريب.
-لكنه اسم وصفي. ( قال السيد انغرام) وحتى نختصر القصة, عادت الجزيرة في السنوات الأخيرة إلى اسمها الأصلي, واسم غالنت فانسي أطلق على الأرض التي يملكها ابن القرصان الأكبر, بينما أطلق اسم غالنت فولي على أرض الابن الأصغر. وبناء على اتفاق قديم, ما من قطعة يمكن بيعها من دون الأخرى. وكما هو واضح, أن السيد طومس غالنت صاحب غالنت فولي, والسيد روجر غالنت صاحب الفانسي وبيت الأخير في بقعة رائعة وهو كان مشغولا إلى فترة قريبة. من الممكن أن يكون أساسا عظيما لفندق جديد.
-اعتقد أنه لا يزال مشغولا. ( قالت ميراندا بهدوء).
-وكيف عرفت؟ ( سألها بنظرة تقدير).
-السيد روجر ذكر شيئا من هذا لابنة عمه. أشار إلى سيدة تدعى مارني, وهو يظن أنها يجب أن تشاركه في المفاوضات المتعلقة بصفقة البيع.
-اعتقد أن لك أذنا يقظة, فأنت تلتقطين كلمات عابرة تفيدنا. حاولي التعرف أكثر إلى شخصية مارني. والآن يجب ألا نترك الآخرين ينتظرون. تذكري فقط ما قلته لك واعملي ما تقدرين عليه.
-سأقوم بالمستطاع.
-أنا متأكد من هذا, ولهذا السبب بعثت في طلبك.
نشر الليل ستارا مخمليا أسود عبر السماء مرصعا بنجوم ماسية مضيئة. وفي المرفأ تلألأت مراكب النزهات بالأضواء المعكوسة في المياه القاتمة فبدت نجوما في البحر. وكان الهواء دافئا وعاطرا.
بدا الجو لميراندا ساحرا, وأحست أن معنوياتها مرتفعة بالنسبة إلى ما سيستجد وهي تمشي في شوارع بلدة سان خوان القديمة إلى المطعم حيث العشاء.
كان الشارع ضيقا تمتد على جانبيه أسوار أسبانية عالية. ومن خلال أبواب إحدى الحانات المفتوحة ذات القناطر لمحت زجاجات على الرفوف تلمع, وضوءا على وجوه الرجال, وهمهمة ناعمة تصحبها أنغام قيثارة حارة.
قطعت شارعا اصطفت على جانبيه محلات مضيئة, كان يعج بسيارات كبيرة تتحرك ببطء وكل سيارة تقل بورتوريكيين ساعين وراء المتعة. ولاحظت إلى اليسار مجمعا ضخما يشع أنوارا, وأشجارا ناعمة ترمي بظلها الرقيق على حجر أجرد, وفي الوسط شاب على مسرح خشبي يخطب في جماعة من الشبان الناضجين.