6-اليخت رحل هذا الصباح. تركوها وحدها على الجزيرة مع هذا الرجل الذي يكون طيبا أحيانا,أو مأخوذا في عزلة مع ذاته. وهنا معاناتها...في أن تكون قريبة منه جدا وبعيدة في نفس الوقت!
منتديات ليلاس
استفاقت ميراندا في اليوم التالي, وراحت تجول ببصرها من دون هدف, ومضى عليها بعض الوقت قبل أن تتذكر كل شيء. وعندما عادت إلى رشدها رأت مارني إلى جانبها. سمعتها تقول:
-أخيرا استفقت أيتها العزيزة, لا بد أنك جائعة, لا شيء كالنوم, إنه يشفي الأعصاب.
-هل نمت طويلا بعد الحادث الذي أدى إلى فقدان بصرك؟
-نمت وقتا طويلا.
-وكيف حدث ذلك؟
-ذات مرة أزعجت امرأة, وكنا معا في المختبر الذي يخصني, فرمتني بالأسيد.
-لماذا؟ ماذا فعلت لها؟
تنهدت مارني ثم وضعت يدا فوق يد, واتكأت على الكرسي:
-من عشر سنين كنت بسيطة, وكنت متمسكة بالأخلاق و مستقيمة, لم أتردد في القول لأي كان أنه على خطأ.
-ومن كان في اعتقادك على خطأ؟
-امرأة اسمها جوزفين. كان ابن عمي طومس في حاجة إلى من يهتم بمنزله بعد أن هجرته زوجته مع الأولاد. فاختار جوزفين لهذا الغرض, كانت جميلة, وفي الحقيقة كانت له أكثر من مدبرة منزل. اعترف لك بهذا, يا ميراندا, لأني أشعر أنك مثلي بريئة. ذات صيف قضى روجر عطلته في البيت. كان آنذاك في الواحدة والعشرين من العمر, شابا, ولكن بالنسبة إلي كان أخا عاشقا للموسيقى وقادرا على الأذية في نفس الوقت. أمضى عطلته, كما تعود, في السباحة, في الغطس, في التزلج على المياه, وأحيانا مع رفاقه القدامى. ثم لاحظت أنه كان يتردد على غالنت فولي عند طومس, ورحت استغرب بادئ الأمر, خصوصا أنهما لم يكونا رفيقين. وصدفة عرفت أنه كان يلتقي جوزفين, فانزعجت. ما كان علي أن أنزعج, خفت أن يعرف طومس, وخفت مما قد تسببه لروجر, خصوصا أنه أصغر منها سنا, وبريء مثلي. وارتكبت الخطأ, فبدلا من مفاتحة روجر بالأمر طلبت من جوزفين موافاتي إلى المختبر في البيت.
-وماذا قلت لها؟
-طلبت منها أن تترك أخي, و أنذرتها أني سأخبر طومس بما تقوم به خفية ففقدت صوابها وتناولت أقرب شيء طاولته يدها. كان أنبوبا يحوي مادة حارقة, ورمتني به, وبينما كنت أصارع الألم, هربت ولم تظهر ثانية إلى الآن.
-وهل كنت على حق؟
-كلا. عرفت أخيرا أن في استطاعة أخي الاهتمام بشؤونه. كان يحاول في أوقات فراغه تعذيب طومس. وعلى كل, فقد أجريت أكثر من عملية جراحية, لكن من دون جدوى, فرجعت إلى فورتوغا لتنميتها غير أن روجر كان قد رحل, رحل في طريقه وحديدا حتى كتب تلك الأغنية التي أوصلته إلى الشهرة.
قالت ميراندا:
-دائما يشعر أنه مسئول عما حدث لك.
-وهل قال لك ذلك؟
-ليس مباشرة, لكني سمعته يخبر خوانيتا وتشك أنه لن يبيع غالنت فانسي لأنها بيتك, وأنك إذا عشت في مكان آخر ستذبلين و تموتين, وذلك سيضاعف من وخز ضميره.
-هذا صحيح, لا أقدر العيش في مكان آخر, إن هذا المكان مهم بالنسبة إلي إلى درجة أني أنسى انه يخص روجر بالوراثة. إنه يبدو أبدا مأخوذا , متى انكب على عزف الموسيقى. إنه يؤلف الآن, أتسمعين البيانو؟
-اسمعه.
وهنا توقفت مارني تقول:
-يكفي ما حكيت عن مشاكلي اليوم. سأقول لروزي أن تجهز لك الطعام, و لروجر انك استفقت. هل تمانعين مجيئه لرؤيتك؟
كانت تتمنى رؤيته لشكره على إنقاذه إياها.
-أحب رؤيته.
قالت هذا ببساطة, فابتسمت مارني منحنية قبل أن تخرج.
تنهدت ميراندا, إنها تعرف أن ما أخبرتها به مارني كان بمثابة إنذار لها كي لا تأخذ روجر في صورة جدية. و بينما هي غارقة في تصوراتها, سمعت صوتا مازحا يقول:
-فوضى حلوة في اللباس تثير المشاعر.
كان هذا روجر.
-لم أعرف أنك هنا.
أجابته بخجل وهي تحاول شد الغطاء حتى كاد يخفي وجهها, مما أضحكه.
-أعرف ذلك, كنت مشغولة بتأمل رسم كيوبيد, صرت تعرفين كل ثنية فيه.
-من رسمه؟
-زوجة روجر غالنت التي بنت الجزء الأمامي من المنزل عندما احترق جزء من البيت الأسباني القديم.
أجابته بحياء:
-إنها غرفة حلوة.
اقترب منها حاملا حقيبتها البحرية الصغيرة, وهنا تذكرت ميراندا الرسالة التي كانت تقرأها على الشاطئ.
-جئتك بهذه. (و ألقى الحقيبة الصغيرة على الفراش) لقد كانت على الشاطئ.
جلس على طرف فراشها, وراح يتفحصها بنظراته, فتمنت لو أنها رفضت لقاءه.
-إذا اتكأت على الوسادة ستشعرين براحة. (قالها بلطف, مبديا اهتمامه بوضعيتها) هكذا أحسن. كيف تشعرين؟
-ضائعة قليلا.
كانت في الحقيقة تائهة, إلا أنها لم تتأكد مما إذا كان ذلك الإحساس الغريب الذي تعانيه, مرده حاجتها إلى القوت, أو هو نتيجة غرقها الذي كاد أن يودي بها إلى التهلكة, أو أن الأمر كله يعود إلى وجود روجر قريبا منها.
-أنا شاكرة لك إنقاذك إياي من الغرق.
-وما الذي يجعلك تعتقدين أني المنقذ؟
-أظن أني سمعتك تكلمني. قلت...
-خيالك واسع, يا ميراندا. لم أقل شيئا. كنت مشغولا بالإبقاء عليك عائمة, بينما أنت مصممة على الغرق, لماذا؟
-لم أرد الغرق. فقط سبحت عميقا.
-على رغم تحذيري لك؟
-لم أعرف كم سبحت في العمق, حتى شعرت بالتيار يجذبني. حاولت الرجوع, لكني كنت تعبة, فأنا لم أقصد إغراق نفسي, ولن أقوم بعمل كهذا. أنا آسفة للإزعاج الذي سببته لك. حالما أشفى سأعود إلى اليخت.
-مستحيل, فاليخت رحل هذا الصباح.
-آه! ماذا أفعل؟ متى يعود السيد انغرام؟ لماذا رحلوا من دوني؟
سألته, وفي صوتها هلع. وأحست أنها تركت وحيدة بلا معين, تحت رحمة هذا الرجل الذي بوجوده قربها, كان يشيع في أحاسيسها شتى المخاوف.
-لأنه فشل في شراء أراضي غالنت, أسرع انغرام إلى جزيرة قصب السكر لإتمام صفقة. كان عليه أن يفعل ذلك لتبرير نفقات الرحلة البحرية. على كل, ما من أحد يلومه لذلك. إنسان مثله معتاد على النجاح لا يستسلم للهزيمة بسهولة.
-وكيف هزمته في اعتقادك؟
-حين أخبرته أن الأراضي بيعت لمؤسسة ثانية.
-أية مؤسسة؟
-مؤسسة مارني و أوبري. أنهما شريكان في مشروع جديد لإنماء فورتوغا وجعلها سياحية.
-وكيف أقنعت طومس ببيع مارني و أوبري حصته؟
-خطفت دون وأبقيتها رهينة.
-انك قرصان!
-ربما. الحالات اليائسة تدعو إلى تصرفات يائسة.
-لكن لماذا قررت استخدام دون؟
-عند زواجها من طومس وعدته بالإقلاع عن الغناء. وما فعلت هو أني منحتها فرصة للغناء, وصار رجوعها عنه مستحيلا, فأقنعتها بالسفر إلى نيويورك كي تغني في نواديها الليلية, بهذا تمكنت من مساومة طومس. هل أنت آسفة لخسارة انغرام و الترانسمارين؟
-ليس تماما. أعرف الآن لماذا تريد الاحتفاظ بغالنت فانسي. أن مارني قد فعلت العجائب.
هنا مد روجر يده إلى جيبه وتناول رسالة وسلمها إليها قائلا:
-إنها من انغرام.
-شكرا.
وحين فضتها سقطت منها حوالة مالية من دون تعليق أو كلمة. قالت:
-أنتظر رجوعهم لاصطحابي, إنهم لن يعودوا إلى سان خوان من دوني.
-هذا ما أتوقعه. ولكن إلى أن يحين ذلك يمكنك البقاء هنا حتى الشفاء. ماذا ستفعلين في لندن؟
-سأعود إلى ممارسة وظيفتي السابقة. فأنا لا أصلح لأن أكون سكرتيرة خاصة, لأني سرعان ما أتأثر واتخذ المواقف.
-أنا سعيد انك وقفت إلى جانبي. على كل, من الأوفق أن أخرج من هنا, وإلا فإن مارني ستلومني لوجودي معك وحدي في هذه الحجرة الصغيرة. إنها محافظة و متمسكة بأخلاق صارمة.
-طبعا, أنت لا تشاركها في هذا.
-عندي قيم أخلاقية تناسب هذا العصر, إنها قيم واقعية. إن تحفظ مارني الصارم يؤدي إلى الضرر بالآخرين و بنفسها, فهي ترفض الزواج من أوبري لأنها عمياء, فما هذا الموقف المثالي؟ كذلك هو لا يتزوجها لاعتقاده أنه لا يليق بها. إنهما يمضيان العمر منفصلين بدلا من الزواج. أي شيء هذا إن لم يكن مراءاة؟
-ولماذا يعتقد أوبري أنه لا يليق بها؟
-لأن والده كان بحارا وأمه منحدرة من عائلة كان أفرادها رقا و عبيدا. هو يظن أنها ارفع مستوى لأنها من عائلة غالنت,و لأنها تعيش في منزل جميل. وهذا كله هراء. الحب الذي بينهما لا يرقى إليه حب آخر. و عليهما ألا يأخذا أي اعتبارات أو تقاليد قد تقف حاجزا في طريق سعادتهما. في أي حال, لن يعيشا في بقعة غير هذه, وهنا لا وجود لهذه التقاليد البالية.
حاولت ميراندا التخفيف عنه نتيجة شعوره أنه مسئول عن عمى مارني فقالت:
-أخبرتني مارني عن جوزفين. إنها لا تلومك إطلاقا, هي تدرك الآن أنها أخطأت في تدخلها فيما لا يعنيها.
-ربما أخبرتك القصة كي تتعظي بها.( بان الضيق على وجهه وهو يمشي في اتجاه الباب) لا وقت أكثر لدي لتبادل الحديث. يجب أن أذهب.
-سمعتك تعزف على البيانو.
-كنت أحاول أن أؤلف لحنا لرقصة باليه عنوانها:لحني إلى ميراندا.
-تعني ميراندا شكسبير؟
-ومن سواها؟ أرجو أن تعتبري هذا بيتك. لا تستعجلي السباحة. دعيني أعرف متى ستغامرين في المحيط حتى أرافقك.
أحبت ميراندا حجرتها في غالنت فانسي, كما أحبت المكتبة أو ما سمي غرفة الموسيقى حيث كان روجر يقضي معظم وقته يؤلف لحن ميراندا شكسبير. في الحقيقة كانت ميراندا سعيدة في إقامتها.
كانت تتوقع عودة انغرام خلال عشرة أيام, وهي لم تضيع وقتها سدى, فانطلقت تتمتع بوجودها في تلك الربوع ما استطاعت. كتبت لعمتها كلارا تخبرها بما حدث معها, كذلك أرسلت كلمة إلى أختها دوروتي وجو تتمنى لهما كل السعادة و حياة هانئة. ثم مضت توزع وقتها كل صباح إما في رفقة أوبري إلى البلدة والريف, وإما في تبادل الحديث مع مارني. كما كانت تمضي بعد ظهيرة كل يوم في رفقة روجر على الشاطئ, يسبحان.
وكانت فترات السباحة هذه مزيجا من البهجة و المعاناة بالنسبة إليها. فهو أحيانا يكون طيب المزاج فيأخذ في مشاكستها بأي وسيلة يتفتق عنها ذهنه, أو هو أحيانا يكون هادئا, مأخوذا في عزلة مع ذاته, فينتحيان مكانا على الشاطئ, و يتبادلان أطراف الحديث. وهنا كانت معاناة ميراندا... في أن تكون قريبة جدا منه, و بعيدة في نفس الوقت.
لم يحاول قط استغلال وجودهما وحيدين كما لم يستغل و براءتها. وكانت تعاودها دائما, وهي في هذه اللحظات الحالمة, حقيقة عودتها قريبا إلى حيث عاشت قبلا, لتفتقد قربه, وميلها إليه...
ذات مرة ذهبت مع أوبري لتشاهد آثار غالنت فولي وأنقاض البيت الذي هجره طومس منذ عشر سنين, حيث أراد كل من مارني و أوبري إقامة منتجعات سياحية مكانه لمن يرغب في عزلة تامة.
-في الحقيقة إنها جنة( قالت ميراندا) من المؤسف أن مارني غير قادرة على التمتع برؤيتها.
-لكنها تشم و تشعر.
-ومع هذا, فإن عماها عقبة تمنعها من السعادة الحقة.
-ما هي السعادة الحقة؟ و لماذا لا تعرفها مارني؟ ماذا تبغي من الحياة أكثر من العيش في مكان تحبه؟
-ربما تحب لو يكون لها رفيق يريحها في زمن الليالي الموحشة.
-هل تريدين القول أن مارني ترغب في أن تكون محبوبة, وإن هذا غير ممكن بسبب فقدان بصرها؟
-نعم. إنها تعتبر الارتباط بامرأة عمياء خطأ. لهذا كان على من يحبها أن يصر على تغيير هذه الفكرة فيها.
-أمتأكدة من ذلك؟
-متأكدة تماما. روجر أخبرني بالأمر.
-إني أكثر سكان هذه الجزيرة إصرارا وحبا. وسترين قريبا مقدار إصراري و حبي.
وفي اليوم التالي كانت مارني مضطربة, وبعد الغداء بقيت ميراندا معها بدلا من الذهاب للسباحة.
-إني مازلت أعجب كيف استطاع أن يحملني من الشاطئ ثم عبر الهضبات التي تفصل الشاطئ عن المنزل وأن يوصلني إلى غرفتي من دون أن يظهر عليه عناء أو تعب.
ثم استطردت:
-أوبري قوي, عيناه رماديتان, صافيتان كالبلور, ربما هما كذلك لأنه أسمر البشرة.
لم تقل مارني شيئا, وتابعت ميراندا:
-إنه شديد الحساسية, وهذه الحساسية تعيقه عن تحقيق السعادة الحقة.
-وما معنى السعادة الحقة؟
-الحياة مع من نحب( أجابتها ميراندا) إنها شركة في كل شيء.
-ولماذا لا يقدر أوبري على تحقيق ذلك؟
-لأنه يشعر أنه لا يليق بالمرأة التي يحب.
-كل امرأة يحب أن يسعدها حب أوبري. ما أحمقه. انتظري حتى المساء. سأتكلم معه.
وفي الأيام التي تلت, تطورت العلاقة بين الشريكين إلى مرحلة جديدة. وراحا يقضيان الوقت الطويل معا أكثر من السابق. ولم تعرف ميراندا إذا كان روجر قد لاحظ الفرق. كل ما أدركته هو أنه توقف عن السباحة معها لانشغاله بالموسيقى. لم تكن تعرف أن تأليف الموسيقى يتطلب عناء كهذا.