اصطحبت ميراندا إلى الغداء. عبرتا بيوتا خشبية ذات شرفات, أمامها نسوة يتبادلن الأحاديث. وفي الطرقات بنات مدارس عائدات, وعلى ملعب قريب من معمل كان فريقان يلعبان الكريكت.
عند وصولهما إلى البيت تركهما الفتى على أن يعود في وقت لاحق. وفي البيت تناولتا الغداء وتجاذبتا أطراف الحديث. وحين سمعت لورا من ميراندا عن رحلتها بين الجزر, قالت لها:
-رحلتك خيالية. أنا مهتمة بأخبار عائلة غالنت, لا أظن أن هذه العائلة على استعداد لبيع عقارها.
-وهل تعرفين أحدا منهم؟
-سمعت بهم. كل واحد هنا يسمع عن روجر غالنت بسبب أغنيته. كذلك أخته مارني تعرف تماما كيف تستغل إمكانات عقارها في هذه الجزيرة.
-ولكن, كيف يمكنها ذلك؟ أليست عمياء؟
-إنها كذلك, لكن عندها إحساسا بالأرض. غرست كل أنواع أشجار الفواكه, ومدير أعمالها أوبري يقوم بالعمل وهي تقدم إليه الأفكار. يقال أنهما متحابان, غير أن أوبري لن يتقدم بطلب الزواج منها.
-لماذا؟
-لا أدري. قد تعرفين متى وصلت إلى هناك. أما في خصوص روجر فقد قام بزيارة أخته مرة هنا, ومع أنه يبدو قريبا في الظاهر, فإنه صعب, عنده تحفظ عميق كأنه لا يريد أن يعرفه الآخرون.
وافقتها ميراندا, ثم انتقلتا إلى مواضيع أخرى وهما تتناولان الغداء على الشرفة المطلة على البحر. مضى الوقت بسرعة. وبعد ساعتين تابعت سياحتها مع الفتى الذي كان يقود سيارته بطريقه جنونية مستخدما الزمور عند المنعطفات كي يتأكد من عدم وجود صغار على الطريق.
وبانت الحقول المزروعة بعد مساحات الموز, ثم انعطفا نحو طريق جديد بين صفوف شجر النخيل الطويلة.
وعادت إلى الفندق بعد أن دفعت للفتى أجرته شاكرة إياه.
وحين وصلت إلى مكان الاستقبال عرفت من امرأة هناك أين هي السيدة انغرام.
كم أنا سعيدة لرؤيتك, يا ميراندا(قالت السيدة انغرام بصوت هادئ) نحن في حالة رهيبة, ليتك لم تذهبي لزيارة صديقتك, روجر ودون اختفيا من جديد, و دوغ يتفاوض مع شخص عنده جزيرة مستعد لبيعها إلى الترانسمارين. خوانيتا و رامون عادا إلى سان خوان, مع الأسف. إذ أن خوانيتا لم تكن في حالة جيدة, فرأى رامون أنه من الأفضل أن يعيدها إلى المنزل لتكون قريبة من الطبيب.
سألتها ميراندا متطلعة حواليها:
-وأين تشك؟
-ذهب إلى الشاطئ. ابحثي عنه, فأنا خائفة من أن يختفي كذلك, ونبقى مع طومس الذي لا يطاق.
كان الشاطئ من أجمل ما رأت ميراندا, كان ممتدا أميالا و أميالا. وجدت تشك تحت نخلة يساوم جماعة من البائعات.
رآها تقترب, وحياها بابتسامة عريضة, قال:
-إني أحاول أن أساومهن على ثمن هذا القميص قدر المستطاع.
كان الكثير من الضحك و المزاح في أثناء المساومة, وحين انتقلت البائعات إلى مكان آخر من الشاطئ قال تشك مازحا:
-آمل أن يعجب الرفاق في واشنطن بقميصي. وأنت, هل فكرت بما ستفعلين في لندن بهذه التنورة التي اشتريت؟
-سألبسها في المنزل, وحين أفعل, سأذكر أنك ترتدي هذا القميص في واشنطن.
-صحيح؟ خبر مفرح, انك طيبة, ما علاقتك بقراصنة أمثالنا؟ إني سعيد انك جئت إلى الشاطئ لو كان في حوزتي من المال ما يكفيني لعدت إلى بلادي حالا. تعبت ن نزهة انغرام البحرية. إنها لم توصلنا مع روجر إلى أية نتيجة, لماذا لا يعترف انغرام بالهزيمة؟
لم تجبه ميراندا, وخوفا من أن يصير عاطفيا عرضت عليه السباحة, فقبل. وبعد السباحة عادا إلى الفندق, ومنه إلى اليخت لأن السيد انغرام كان يريد السفر حالا إلى فورتوغا.
تأخر السفر قليلا بسبب عدم وصول دون وروجر, وأخيرا بان روجر مع امرأة سمراء غير دون.
سأله زوجها طومس:
-أين دون؟
-لا أعرف. قالت أنها قد تعود إلى اليخت, هل بحثت عنها في الحجرة؟
وهنا تدخل السيد انغرام قائلا بلهجة مثيرة:
-أريد الوصول إلى فورتوغا بأقصى سرعة.
أجابه روجر ببرودة:
-ولماذا لا تصدر أوامرك بالرحيل؟
وهكذا كان. عندها هبطت ميراندا إلى حجرتها واستحمت. فكرت في أن تبوح لروجر بالضغط الذي ستتعرض له أخته, غير أنه أحجمت عن ذلك. ألم يقل لها تلك الليلة في حديقة الفندق أنهما سيفترقان؟ عاصفة من الأحاسيس كانت تجتاحها, كانت تتحرق شوقا إلى روجر وإلى السير معه تحت النجوم. دقة على الباب أجفلتها, نظرت إلى المرآة جامدة, خداها قرمزيان, وعيناها تبرقان بغرابة.
-أنت هنا, يا ميراندا؟ أنا زلدا, أتسمحين لي بالدخول؟ (دخلت الحجرة وجلست على الفراش تقول) اختفت السيدة غالنت, إنها ليس في حجرتها.
-أين اختفت؟
-هنا المشكلة, لم تذكر أي شيء في البطاقة التي تركتها لزوجها طومس. فقد كتبت أنها لن تعود معنا إلى فورتوغا. طومس يكاد ينفجر. إنه يتهم روجر بمعرفة تحركاتها.
-وماذا كان جواب روجر؟
-إنه يعرف, لكنه لن يفضي بالسر قبل بلوغ فورتوغا.
-وماذا حدث؟
-مشهد رهيب, جن جنون طومس. رمى روجر بنعوت بذيئة. كنت أفضل لو رد روجر عليه, غير أنه جلس يراقب طومس و كأنه ظاهرة غريبة. عندئذ تدخل تشك واقترح على والده أن يجلس مع روجر للاطلاع منه على حقيقة الأمر. آمل في بقائهم معا حتى نصل إلى فورتوغا. في الحقيقة, سئمت كل هذه العملية, دوغ و أنا نحاول تسلية أناس غريبي الأطوار, ما من أحد أصعب من طومس غالنت أو أكثر غموضا من روجر غالنت. على كل, أرجو ألا تذكري أي كلمة قلتها لك. إن دوغ يعلق آمالا كبيرة على الآنسة غالنت,أما إذا كانت مثل أخيها فإننا سنفقد كل شيء.
وصل اليخت إلى فورتوغا حيث رسا في المرفأ. وهنا تقدم أحدهم من روجر الذي خرج من حجرته بينما اليخت يقترب من المرسى. قدم نفسه إلى أفراد عائلة انغرام على أنه سام ويليامز, شقيق كيت المغني, ومن ثم أعلن أنه وأبناء عمه سيقضون الليل على شاطئ غالنت فانسي, وأنه سيرسل في الصباح التالي سيارة تقل عائلة انغرام و ميراندا إلى منزل في الطرف الآخر من الجزيرة.
مر الليل هادئا, وفي صباح اليوم التالي تأخرت ميراندا في النوم. في الحقيقة, لم تكد ترتدي ثيابها حتى جاءتها السيدة انغرام تقول أن السيارة جاهزة لتقلهما إلى حيث مارني غالنت.
كان بيت مارني مدهشا, قرميده انكليزي أحمر, كلاسيكي في بنائه, متناسق و قائم على أعمدة بيضاء. وعمد المدخل ثلاثة أشخاص كانوا في انتظار الضيوف.
بين هؤلاء الثلاثة كانت مارني التي بدت شبيهة بأخيها من حيث قسمات الوجه, شعرها فاتح يخالطه الشيب, وعيناها تحت نظارتين شمسيتين, وهذا ما جعلها تبدو أصغر من عمرها الحقيقي. كان روجر يقف خلفها, وإلى جانبه رجل ممتلئ, أسود الشعر. إنه أوبري فينسنت, مدير العقارات.
حين تقدمت ميراندا بحياء لتسلم على مارني, بادرتها هذه بالقول:
-إذن, أنت ميراندا, ميراندا الكاملة التي لا مثيل لها. آمل ألا يكون لديك مانع إذا ما لامست وجهك, إذ في مقدوري معرفة الكثير عن الشخص من خلال تقاطيع وجهه. إنها ميزة ورثتها عن أمي التي كانت صغيرة وجميلة, أما روجر فإنه أشبه بالقرصان, مع أنه يحاول أن يبدو غير ذلك.
ولاحقت بيديها تقاطيع وجه ميراندا.
-شعرك جميل يا ميراندا, إنه حريري وناعم, لكن شفتيك حساستان, ويظهر انك تأذيت حديثا, عسى ألا يكون السبب أخبارا سيئة من الأهل.
وهنا تذكرت ميراندا الرسالة التي وصلتها أخيرا من العمة كلارا, وفيها أخبار مذهلة, لكن كيف تمكنت مارني العمياء من معرفة هذا كله؟
-آسفة يا ميراندا, ستتوطد معرفتنا أكثر عندما يحين الوقت, ربما تخبرينني عندئذ عن سبب ألمك. ما لون عينيك؟ فاللون شيء لا استطيع تحسسه.
-لونهما أزرق كأكثر الانكليزيات. ما أنا إلا فتاة عادية.
-غير صحيح, فأنت لست عادية, أنت لطيفة تحتفظين بأفكارك وأحاسيسك لنفسك. فالمرأة التي يبعث ذكرها الخوف في رجل لئيم مثل روجر لا يمكن أن تكون عادية. على كل, أنا أهمل واجباتي كمضيفة, هاتي يدك ودعينا ننتقل إلى الغداء.
بعد الغداء ذهب السيد انغرام وزوجته مع مارني, وبعد دقائق تبعهم أوبري, فوجدت ميراندا نفسها وحيدة مع روجر. وحين لم تعرف ما تقول له حاولت اللحاق بالآخرين, فإذا به يقف في طريقها, ويقول:
-سنقضي بعد الظهر في العمل. اقترح عليك البقاء هنا في الخارج, في استطاعتك التنزه في الحديقة. إني متأسف لأني لا أستطيع أن أدبر لك جليسا يؤنسك, ذلك أن تشك ليس هنا.
-أين هو, وأين والده؟
-أمورهما ليست من اختصاصك. حاولي نسيانهما.
-ولكن ربما احتاج إلي السيد انغرام, فأحيانا يطلب مني تسجيل الملاحظات.
-أعرف ذلك. إنه يحتاج إليك حين لا تكون هناك مسجلة, ولكن ليس هذه المرة, يا ميراندا, هذه المرة أنا أعطي الأوامر, لن يتسجل أي شيء يقال.
والتحق روجر بالآخرين, بينما راحت ميراندا إلى البحر للسباحة. ولكن قبل بلوغها الشاطئ, تذكرت رسالة عمتها, فجلست تحت شجرة وراحت تقرأها. علمت من الرسالة أن أختها دوروتي هربت مع جو وتزوجته. "فعلت هذا من دون ندامة, لأنها أحبت جو من زمن, وكانت تعرف أنه يفضلها عليك رغم أنه كان مترددا بادئ الأمر في الإقدام على هذه الخطوة".
توقفت ميراندا عن القراءة, وقعت الرسالة من أصابعها, وراحت تتأمل زرقة البحر الكاريبي تحت الشمس. لقد تزوج أختها دوروتي, لن يكون في استقبالها لدى عودتها في المطار فاتحا ذراعيه قائلا لها كم افتقدها. إن الزواج الرومانسي كان لأختها, وليس لها.
من الغريب أن ميراندا لم تتألم لخداع أختها لها بل أنصب كل لومها على نفسها بالذات لأنها كانت تتخيل أن جو يحبها, وأنها تحبه. هنا, عند هذا البحر الأزرق, وعلى آلاف الأميال عن بلادها, رأت أن جو كان أكثر واقعية عندما قال لها مباشرة قبل سفرها, أن الغياب سيمنحهما فرصة لاكتشاف مدى حبهما لبعضهما. إنه لم يسايرها قط, بل هي التي كانت بسيطة ومملوءة بأحلام رومانسية.
فجأة شعرت أنها حرة. وقفت على قدميها على قدميها وركضت فوق الرمل الناعم غاطسة في المياه. وكالعادة, كانت المياه تلامسها برقة, كانت الأمواج تغريها بالسباحة و بالغوص, وأخيرا عرفت سبب تعلق روجر بأرضه.
سبحت إلى حيث صارت المياه عميقة, إلى حيث الخطر, إلى المكان المليء بالتيارات, فسقطت في تيار بين صخرتين. وعبثا حاولت الخروج, تعبت, جمدت أعصابها. و شارفت على الغرق. وفي هذه اللحظة سمعت صوتا يقول:
-لن أتركك تغرقين, ليس الآن بما انك في غالنت فانسي, ميراندا...
كان هذا صوت روجر غالنت الذي حملها إلى الشاطئ ولفها بغطاء.
سألت بصوت متعب:
-ماذا جرى؟
-سبحت بعيدا و سقطت في التيار. انك شديدة التعب, ستكونين بعد لحظات في فراشك في البيت.
-ولكن علي بالذهاب إلى اليخت.
-ليس الآن, أيتها الصغيرة, مارني ستهتم بك.
وحملها إلى البيت. تمكنت من سماع مارني تقول:
-لا تقلقي, استريحي الآن. روزي تقوم بإسعافك. إنها أفضل ممرضة على هذه الجزيرة.
كانت روزي لطيفة صارمة, وكانت ميراندا مرهقة حتى النهاية. وقبل أن تنتهي روزي من تجهيز الفراش كانت ميراندا مستغرقة في نومها. نامت نوما عميقا, وكان آخر ما رأته رسم كيوبيد, رمز الحب, مرسوما في السقف.