لم يكن من أثر لدون, وحين سأل طومس روجر عنها أجابه الأخير أنه لا يعرف شيئا عن مكان وجودها, وعندما لاح الغضب على وجه طومس تدخل السيد انغرام بلباقة واضعا ذراعه حول كتفي طومس, ودخلا معا غرفة الطعام.
وبعد العشاء حان موعد الرقص تحت أضواء خافتة وسط موائد وكراسي صغيرة. بادئ الأمر استمعوا إلى بعض الأغنيات المحلية و شاهدوا الرقص الشعبي برفقة القيثارات و الطبول. ثم ظهرت فرقة رقص صغيرة وراحت تعزف أنغاما راقصة معروفة, بدأ الرقص كل اثنين معا. في هذا الوقت اتكأت السيدة انغرام وأخذت تتبادل الحديث مع واحد خلفها في الظل. تطلعت ميراندا في الاتجاه نفسه فرأت روجر جالسا وحده بهدوء.
تنهدت الريح خلال النخيل حاملة معها رائحة الزهور, وفي السماء المخملية خلف الأضواء الملونة كانت النجوم تشع معكوسة في البحر.
بدأت الفرقة الموسيقية تعزف نغما راقصا رومانسيا, وشاهدت الراقصين يلتحمون. لامست يد كتفها فعرفت للحال صاحبها للرعشة التي تسربت إلى أعصابها.منتديات ليلاس
سألها روجر:
-أترقصين معي؟
كانت خائفة أن ترقص معه على ذلك النغم الرومانسي, غير أنها لم ترفض لئلا تبدو غليظة, ومن دون أن تنظر إليه أحنت رأسها ونهضت ووضعت يدها على كتفه بينما أحاط ساعده بخصرها وراحا يرقصان.
أرادت أن تتراجع و تتصلب في أثناء الرقص معه, محاولة الإبقاء على مسافة بينهما, لكنها بعد ثوان وجدت نفسها تقترب منه ورأسها على كتفه. رقصا معا من دون عناء أو تصنع كأنهما خلقا ليكونا رفيقين.
سألها روجر برقة:
-ماذا فعلت اليوم؟
-ذهبنا إلى بيت جوزفين ( أجابته من دون تفكير) أعني مكان ولادة جوزفين نابليون.
-كانت امرأة قوية, شغلت نابليون أكثر من جيوش أوروبا مجتمعة. على كل, أهذا كل ما فعلت؟
-تنزهنا حول الجزيرة. الآن أفهم سبب تسميتها جزيرة الزهور.
-الفرنسيون يسمونها الجزيرة التي إليها بدأ يعود الإنسان.
-وهل زرتها من قبل؟
-هذه زيارتي الثانية.
وبسرعة أرادت ميراندا معرفة من هي جوزفين, فقالت:
-رأينا هذا الصباح امرأة فائقة الجمال في المقهى, بشرتها سمراء, شعرها أشقر. وذكرت خوانيتا إنها تشبه امرأة عرفتها, امرأة كنت تعرفها.
-خوانيتا تكثر من الكلام, إنها عادة سيئة عند النساء. لا تقعي فيها يا ميراندا, فأنا أريدك كما أنت, هادئة و متحفظة, رأيت المرأة التي تقصدين, لم تكن جوزفين.
توقفت الموسيقى, بينما ظلت الطبول تقرع. ظهر رجل في دائرة مضاءة و أعلن عن مغنية تلك الليلة دون أن يسميها.
وثانية عزفت الموسيقى, موسيقى أغنية نجوم في البحر, فأخذ روجر و ميراندا بعيدا عن المسرح إلى زاوية معتمة عند درج يؤدي إلى حديقة الفندق. أضاء المسرح, فظهرت امرأة طويلة وجذابة يلفها ثوب جميل يزيد من تألق شعرها المسرح على كتفيها وراحت تغني بصوت مؤثر... جميلة تملأها الحيوية, تغني الأغنية التي جلبت الشهرة لروجر.
إذن خوانيتا و تشك على حق في اعتقادهما أن دون و روجر يتآمران على طومس. هكذا قالت ميراندا في نفسها متطلعة إلى طومس كي ترى تعابير وجهه. غير أن روجر سحبها وراءه مسرعا إلى ظلمة الحديقة العطرة.
أحست بنشوة عارمة وهي تعدو معه في تلك الليلة الدافئة, شعرت بالمرح و الانتعاش. وعند بلوغها الشاطئ الرملي توقف روجر و التفت إليها وراح يغني قصيدة من العاصفة لشكسبير كان قد لحنها, قصيدة مطلعها:" تعالي إلى هذه الرمال الشاحبة".
وحين توقف عن الغناء جذبها إليه, فارتدت ميراندا إلى الوراء متسائلة:
-لماذا جئنا إلى هنا؟
-أولا, حتى نتجنب غضب طومس لدى رؤيته زوجته تغني.
-أيها الجبان, لقد شجعت دون على الغناء كي تعذبه.
-بل فعلت هذا تلبية لإرادتها. إن غناءها رائع, ومن المؤسف أن تظل موهبة كهذه مهملة طوال حياتها.
-ولكن سيغضب هذا ابن عمك, لأنها ستتركه في النهاية إذا استمرت في هذه المهنة.
لم يجب روجر,رأت أنه ما زال يمسك بيدها مصغيا إلى النغم البعيد. كذلك كانت ميراندا تصغي. قالت هامسة بحياء:
-أحب موسيقاك.
-شكرا (أجابها بتهذيب وغموض).
-يجب أن تفرح لنجاحها.
-ليس بالضبط. ليست الموسيقى التي أريد تأليفها, ألفتها من أجل صديقي كيت و ويليامز.
-وما الموسيقى التي تريد تأليفها؟
-ربما موسيقى أحسن من موسيقى الأفلام.
وحين توقفت الموسيقى البعيدة وعلا التصفيق, قال روجر:
-لقد نجحت.
تساءلت ميراندا بشعور مشوب بالحسد عما ميراندا بشعور مشوب بالحسد عما إذا كان يحب دون ويريد إقناعها بهجر طومس إلى الأبد. حاولت الإفلات منه, فلم تستطع.
-وعدتني أنك لن تغيظني.
-ذلك الوعد كان في النهار, أما الآن, فإنه الليل الاستوائي الناعم, ونحن ثانية على شاطئ رملي تحت النخيل, وفي وضع رومانسي رائع.
تمشيا على طول شاطئ البحر الهامس متشابكي الأيدي صامتين, فهما لم يعودا في حاجة إلى الكلام, لا شيء سوى سحر أنغام البحر وعطر الزهور وهمس النخيل.
-من كانت جوزفين؟
-هل يجب أن تعرفي؟
-وهل من اعتراض؟
-ما دمت لا تستخدمين معرفتك ضدي.
-لن أفعل ذلك.
-كانت جوزفين مدبرة منزل طومس لوقت قصير, كانت جميلة, جذابة كالمرأة التي رأيتها اليوم.
-ماذا حل بها؟
-هربت.
-لماذا؟
لم يجب روجر. وصلا الدرج المؤدي إلى مكان الرقص. أفلت يدها, فأمسكت بذراعه لشعورها أنه سيتركها للحال.
-لماذا, روجر؟
-لا أستطيع أن أخبرك. طبت مساء, هنا طريق كل منا في اتجاه مخالف.
ثم أسرع مبتعدا في الظلال, وظلت وحدها.