كاتب الموضوع :
kais1975
المنتدى :
كتب الأدب واللغة والفكر
ملاحظات على كتاب "حيرة مسلمة" لألفة يوسف (1)
الكاتب: ياسين بن علي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
السؤال – كما قال الراغب الأصفهاني في المفردات – هو "استدعاء معرفة أو ما يؤدي إلى المعرفة". فكل معرفة – كما قال بشلار – هي جواب عن سؤال. وعليه، يجوز لنا أن نقسم المعرفة إلى قسمين: سؤال وجواب.
وقد جاء في الأثر: حسن السؤال (أو المسألة) نصف العلم؛ لأن في السؤال الحسن تأطير مسألة وتحقيق مناط وتحديد بحث وحصر موضوع، وهذه العناصر هي نصف المعرفة؛ لأنّ الجواب مبني عليها. ولهذا فإنّ العالم الحقّ هو من يحسن السؤال، أو بعبارة شتراوس: ليس العالم من يجيب أجوبة صحيحة إنما العالم من يسأل أسئلة صحيحة.
وقد انطلقت الدكتورة ألفة يوسف من هذا المنطلق، فألفت كتاب "حيرة مسلمة"، وبيّنت قصدها من تألفيه قائلة: "إننا في هذا الكتاب أبعد ما يكون عن الأصولية في وجهيها الديني والحداثي، ذلك أننا لا نريد تقديم أجوبة جاهزة نهائية وننتمي إلى السؤال قبل الجواب والحيرة قبل الاطمئنان..."(1).
وأنا لست ضدّ السؤال، ولذلك ألتمس للدكتورة ألفة عذر السؤال، ولكنني ضدّ الحيرة والتشكيك؛ ذلك أن الأسئلة التي سألتها الدكتورة معبّرة عن حيرتها قد تجاوزت الشأن الفردي لتتحوّل بعد النشر إلى شأن جماعي. وبعبارة أخرى، فإن الدكتورة بنشرها لكتابها قد بثّت الحيرة في نفوس الناس من خلال أسئلة تشكيكية تتعلّق بأحكام شرعية وآيات قرآنية زعمت الدكتورة نفسها بأنّ جلّ المسلمين يعتبرها "محكمة واضحة لا تطرح أيّ إشكال ولا تستدعي أيّ تفكير"(2).
وعليه، فقد رأيت من واجبي القيام بنقض هذا الكتاب والردّ على صاحبته. {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}.
1. ملاحظات عامة:
أردت قبل الخوض في بعض المسائل التي تناولها الكتاب عرض جملة من الملاحظات العامة التي تكشف لنا عن قواعد لم تأخذها الدكتورة ألفة بعين الاعتبار. وأحسب، أن قسما لا بأس به من المغالطات الواردة في الكتاب قد نشأ عن إهمال لهذه القواعد؛ لذلك أردت بيانها مع بيان بعض المغالطات الناتجة عن إهمالها. كما أردت من خلال هذه الملاحظات بيان أسلوب الكاتبة وكيفية تناولها للمسائل التشريعية، وبيان موقفها من الصحابة والعلماء.
ملاحظة أولى: الطعن في الصحابة والعلماء
تقول الدكتورة ألفة: "ولكن ما لم أتوقعه البتّة هو أن تتحول قراءة الكتاب ومجادلته الفكرية لدى البعض إلى سيل من الشتم والقدح على صفحات الجرائد ولا سيما على الانترنت. ولعلّ هذا السيل من الشتائم أثار في الكاتبة المسلمة حيرة أخرى تتصل بالعلاقة بين الديني والأخلاقي بمعنى الإطيقا... فلا بدّ من التصدي لهم بقوة الفكر والحجة وبأخلاق المسلم لا بالثلب والسب والشتم والتكفير ممن يدّعون أنهم مسلمون وممن ينسون أن الرسول بعث ليتمّم مكارم الأخلاق"(3).
أقول: وأين هذا "الأخلاقي بمعنى الإطيقا" في كتاب الدكتورة؟ وهل من قوة الفكر والحجة، ومن أخلاق المسلم، ومن مكارم الأخلاق، أن تطعن الدكتورة في نزاهة الصحابة والعلماء، وتصوّر لنا عملية تفسير النص القرآني وكأنها عملية تزوير واحتيال وتحريف قام بها شرذمة من الرجال يدفعهم لاوعيهم الذكوري لمخالفة صريح القرآن وغمط حقوق المرأة.
تقول الدكتورة: "فها أنّ المفسرين والفقهاء يعمدون أحيانا إلى مجرّد النظر العقلي ليقرّوا أحكاما إلهية وها أنهم يجوّزون ذلك متى شاؤوا ويمنعونه متى شاؤوا" (4).
ومعنى هذا الكلام، أنّ المفسّرين والفقهاء يقولون بالتحريم والتحليل حسب هواهم ورغباتهم. فهل الطعن في موضوعية المفسرين والفقهاء من قبيل البحث الفكري الرصين أم من قبيل التجريح والقدح؟ وهل معنى هذا الكلام، أنه لا يجوز لنا بعد الآن قراءة كتب التفاسير والفقه لأنها مبنية على الهوى، وأن علينا أن نكتفي بما كتبته الدكتورة؛ لأنها هي وحدها من تمتلك النزاهة والموضوعية؟
وتقول الدكتورة: "... فالرازي يستند إلى إجماع المفسّرين وابن عاشور يعتمد قول الجمهور، ولكن ألا يكفي ظاهر النص اللغوي الصريح لتفنيد موقف هؤلاء فكلام الله تعالى لا يخصّص الإخوة بأنهم للأب أو للأم أو لكليهما اللهم إلا إذا كان المصحف الذي بين أيدينا منقوصا أو مختلفا في شأنه. وكأنّ بعض المفسرين لا يجد حرجا في أن يضمّن ذلك... إنّ من الطريف أن المفسرين في نشدانهم تفسيرا للنص يلائم المجتمع الأبوي فيرفع من نصيب الإخوة من الأب وينقص من نصيب الإخوة من الأم وفي سعيهم إلى المحافظة على تفسير للنص يلائم الإجماع وقول الجمهور لا يتحرّجون من إضمار وجود تحريف طرأ على القرآن أس الرسالة المحمدية"(5). وتقول: "فإنّ الفقهاء والمفسّرين لم يدّخروا في مقابل ذلك أيّ جهد في اعتماد الإجماع البشري أو (بالأحرى الذكوري) واعتماد أخبار الآحاد والقراءات الشاذة حتى يغمطوا المرأة حقّها... بل إنهم قد خالفوا صريح النص أو أضمروا إمكان تحريف القرآن في أحيانا أخرى حفاظا على مصالحهم..."(6).
ومعنى هذا الكلام، أنّ مفسرا وعالما كالشيخ الطاهر ابن عاشور (رحمه الله) الذي "يعتمد قول الجمهور" يضمر – كما صرّحت الدكتورة – إمكان تحريف القرآن حفاظا على مصالحه الذكورية. أليس هذا طعنا في نزاهة الشيخ الطاهر ابن عاشور؟ وهل تقبل الدكتورة أن يطعن أحد في نزاهتها وموضوعيتها العلمية، وهل ستعدّ ذلك من باب النقاش العلمي أم من باب الثلب والسب والشتم والتجريح؟ ثمّ لنسأل الدكتورة: ما حكم من أضمر تحريف القرآن ونقصانه؟ هل هو مؤمن أم كافر؟؟؟
وتقول الدكتورة: "كما أنه يجب أن لا ننسى أن بعض المسلمين انزعجوا أيما انزعاج من إسناد الله تعالى نصيبا من الميراث للنساء، فهؤلاء – وهم المسلمون الأوائل الذين يقدّمهم لنا البعض اليوم في صورة مثالية يطيعون دون تلكإ وينفذون دون نقاش- لم يقبلوا أوامر الله تعالى بتوريث النساء إلا على مضض...ولعلّ هؤلاء الذين ترجّوا السماء لتغير حكمها ثم قبلوا الواجب عن مضض أقلّ استنكارا لكلام الله من مسلمين سواهم ودّوا لو نسي الرسول قوله أو غيّره... فإذا تلدّد هؤلاء المثاليون صحابة الرسول ومعاصروه عن توريث البنات فلن نستغرب أن يتواصل إلى اليوم..."(7).
أقول:
أولا: الصحابة رضوان الله عليهم كلّهم عدول، ولا معنى للطعن فيهم إلا الطعن في المصدر الذي نقل إلينا القرآن دون تحريف. فما معنى قول الدكتورة: "المسلمون الأوائل... لم يقبلوا أوامر الله تعالى بتوريث النساء إلا على مضض"؟ وهل يجوز قول ذلك في الصحابة مع علمنا بقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}؟ فهل تريد الدكتورة نفي الإيمان عن المسلمين الأوائل بإثبات انزعاجهم من حكم رباني؟
ثانيا: اتهمت الدكتورة العلماء في مواضع كثيرة من كتابها بمخالفة صريح القرآن، ولكن أليست هي من خالف صريح القرآن بطعنها في الصحابة؟ قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }، وقال سبحانه: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبا}، وقال سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
ثالثا: انتقدت الدكتورة في كتابها منهج المفسرين الذين يعتمدون أخبار الآحاد مع مخالفتها لصريح القرآن، وقاعدتها في ذلك أن "عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد"(9)، ولكن الدكتورة لم تلتزم بمنهجها هذا فطعنت في الصحابة - الذين ثبتت عدالتهم بصريح القرآن- معتمدة في ذلك على أخبار آحاد مروية في تفسير الطبري.
رابعا: تقول الدكتورة: "ومن هذا المنظور يجوز أن نتساءل: بأي حقّ يسمح ابن عاشور لنفسه بأن يقرّ إقرار المتيّقن"(10). وأقتبس من كلامها هذا فأقول: ومن هذا المنظور يجوز أن نتساءل: بأي حقّ تسمح ألفة يوسف لنفسها بأن تقرّ إقرار المتيّقن "أن بعض المسلمين انزعجوا أيما انزعاج من إسناد الله تعالى نصيبا من الميراث للنساء، فهؤلاء... لم يقبلوا أوامر الله تعالى بتوريث النساء إلا على مضض"، وأن بعضهم "ودّوا لو نسي الرسول قوله أو غيّره"؟ فهل لها من حجة قاطعة لتطعن في صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
خامسا: لننظر الآن في الروايات التي اعتمدتها الدكتورة لتطعن في الصحابة:
قالت الدكتورة: "ففي رواية يوردها الطبري قال الناس بعد نزول آيات المواريث: تعطى المرأة الربع والثمن وتعطى الابنة النصف ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة. اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه أو نقول له فيغيره"(11).
أقول: سند هذه الرواية كما ذكرها الطبري في تفسيره هو: "حدثنا محمد بن سعد قال: ثني أبي [أي سعد بن محمد بن الحسن بن عطية بن سعد العوفي] قال: ثني عمي [أي الحسين بن الحسن بن عطية العوفي] قال: ثني أبي [أي الحسن بن عطية بن سعد بن جنادة العوفي]، عن أبيه [أي عطية بن سعد بن جنادة العوفي الجدلي القيسي أبو الحسن الكوفي]، عن ابن عباس ...". وهذا سند جلّ رجاله من الضعاف الذين لا يحتج بهم. ويكفي أن نذكر منهم:
- الحسن بن عطية بن سعد بن جنادة العوفي: قال فيه ابن حجر في التهذيب: "الحسن بن عطية بن سعد بن جنادة العوفي روى عن أبيه وجده وعنه أخواه عبد الله وعمرو وابناه محمد والحسين وسفيان الثوري وابن إسحاق وغيرهم. قال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وقال ابن حبان في الثقات: أحاديثه ليست بنقية. له عند أبي داود حديث واحد في لعن النائحة والمستمعة. قلت: وقال البخاري: ليس بذاك. وقال ابن قانع مات سنة 181 وكذا أرخه ابن حبان في الضعفاء وزاد منكر الحديث، فلا أدري البلية منه أو من ابنه أو منهما معا"(12).
- وعطية بن سعد بن جنادة العوفي الجدلي القيسي أبو الحسن الكوفي: قال فيه ابن حجر في التهذيب: "قال أحمد وذكر عطية العوفي فقال هو ضعيف الحديث ثم قال بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي ويسأله عن التفسير وكان يكنيه بأبي سعيد فيقول قال أبو سعيد وكان هشيم يضعف حديث عطية... وقال الدوري عن ابن معين صالح وقال أبو زرعة لين وقال أبو حاتم ضعيف يكتب حديثه وأبو نضرة أحب إلي منه وقال الجوزجاني مائل وقال النسائي ضعيف وقال بن عدي قد روى عن جماعة من الثقات ولعطية عن أبي سعيد أحاديث عدة وعن غير أبي سعيد وهو مع ضعفه يكتب حديثه وكان يعد مع شيعة أهل الكوفة... وقال ابن حبان في الضعفاء بعد أن حكى قصته مع الكلبي بلفظ مستغرب فقال سمع من أبي سعيد أحاديث فلما مات جعل يجالس الكلبي يحضر بصفته فإذا قال الكلبي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا فيحفظه وكناه أبا سعيد ويروي عنه فإذا قيل له من حدثك بهذا فيقول حدثني أبو سعيد فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري وإنما أراد الكلبي قال: لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب... وقال ابن سعد: ... وكان ثقة إن شاء الله وله أحاديث صالحة ومن الناس من لا يحتج به. وقال أبو داود ليس بالذي يعتمد عليه. قال أبو بكر البزار كان يعده في التشيع روى عنه جلة الناس وقال الساجي ليس بحجة وكان يقدم عليا على الكل"(13).
وكما ترى فهذه رواية ضعيفة، إلا أن الدكتورة لم تكلف نفسها عناء البحث فيها لأنها تخدم غرضها.
وأما من ناحية المتن: فهل يعقل أن يتصوّر الصحابة رضوان الله عليهم إمكان نسيان النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن وقد قال الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى}؟ وهل يعقل أن يتمنى الصحابة رضوان الله عليهم تغيير القرآن أو هل يعقل أن يتصور الصحابة رضوان الله عليهم إمكان تغيير النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}؟
فإذا كان الصحابة قد انزعجوا من آية المواريث، واستنكروا كلام الله، وودوا لو نسي النبي أو غيّر، فمن هم إذن من وصفهم الله تعالى بالصدق ورضي عنهم، ومن هم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم..." (رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود)؟
وقالت الدكتورة: " كما أنه يجب أن لا ننسى أن بعض المسلمين انزعجوا أيما انزعاج من إسناد الله تعالى نصيبا من الميراث للنساء، فهؤلاء – وهم المسلمون الأوائل الذين يقدّمهم لنا البعض اليوم في صورة مثالية يطيعون دون تلكإ وينفذون دون نقاش- لم يقبلوا أوامر الله تعالى بتوريث النساء إلا على مضض. يثبت ذلك الخبر التالي عن الطبري: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ, لا يرث الرجل الصغير ولا المرأة. فلما نزلت آية المواريث في سورة النساء شقّ ذلك على الناس وقالوا: يرث الصغير الذي لا يعمل في المال ولا يقوم فيه والمرأة التي هي كذلك، فيرثان كما يرث الرجل الذي يعمل في المال. فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء. فانتظروا. فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا: لئن تمّ هذا إنه لواجب ما منه بدّ"(14).
أقول: هذه الرواية الثانية التي استدلت بها الدكتورة لتطعن في عدالة الصحابة. ومع أنّ سند هذه الرواية يحتاج إلى نظر إلا أننا ستناولها من حيث المتن، فنقول: من أين فهمت الدكتورة انزعاج الصحابة أيما انزعاج واستنكارهم لكلام الله؟
إنّ معنى "شقّ ذلك على الناس"، لا يفيد انزعاجهم من القرآن أيما انزعاج واستنكارهم له، بل يفيد استشعارهم لمشقة التكليف. قال في تاج العروس: "وشق عليه الأمر يشق شقاً ومشقة إذا صعب عليه وثقل وشق عليه إذا أوقعه في المشقة والاسم الشق بالكسر قال الأزهري ومنه الحديث لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة المعنى لولا أن أثقل على أمتي من المشقة وهي الشدة...". وإذا وجد المرء صعوبة ما في تكليف ما فلا يعني ذلك انزعاجه منه أيما انزعاج أو إنكاره. ولو اعتبرنا كل استشعار لمشقة من تكليف ما عبارة عن انزعاج واستنكار للتكليف لحكمنا بعدم إيمان الصحابة لتكرر الأمر معهم. وإليك أمثلة:
روى البخاري: عن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "واصل، فواصل الناس، فشق عليهم...".
وروى: "نزل رمضان فشق عليهم".
وروى: عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم، يقول: لبيك ربنا وسعديك ، فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار، قال : يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف - أراه قال - تسع مائة وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد. فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم...".
وروى: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة ؟ " فشق ذلك عليهم...".
وروى أبو داود: عن ابن عباس قال: "نزلت إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين فشق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم أن لا يفر واحد من عشرة...".
وروى النسائي في الصغرى: عن ابن عباس قال: "لما نزلت هذه الآية ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن و إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، قال: " اجتنب الناس مال اليتيم وطعامه، فشق ذلك على المسلمين...".
وروى أحمد: عن أنس قال: قال: - كأنه يعني النبي صلى الله عليه وسلم قال - " الإزار إلى نصف الساق، فشق عليهم...".
وروى ابن خزيمة: عن أنس بن مالك يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر ومعه أصحابه, فشق عليهم الصوم...".
إذا، ما هي النتيجة لو عملنا بفهم الدكتورة الذي يحمل معنى "فشّق عليهم" على الانزعاج أيما انزعاج من التشريع وإنكاره؟
ستكون النتيجة تكفير الصحابة – والعياذ بالله -؛ لأنهم وفق فهم الدكتورة ينزعجون من كل حكم أيما انزعاج ويستنكرون كل آية!
إنّ الصحابة رضوان الله عليهم بشر يعتريهم ما يعتري البشر، فيجدون أحيانا مشقة في بعض التكاليف كما نجد. وحينما نزلت آية المواريث وجدوا فيها مشقة باعتبار ما ألفوه وتعوّدوا عليه، ولكنهم لم يستنكروا حكم الله بل رجوا منه سبحانه وهو العالم بحالهم أن يخفف عنهم، فلما علموا أن لا نسخ ولا تبديل في الحكم سلّموا تسليما وقالوا: سمعنا وأطعنا. فليست المسألة: هل شقّ الأمر على الصحابة في البداية أم لا، فليس التكليف إلا مشقة(15)، إنما المسألة: هل عمل الصحابة بالحكم أم لا؟
والجواب هو: نعم، عمل الصحابة كلّهم بالحكم، ولا نجد أحدا منهم قسّم ميراثه وفق القسمة الجاهلية.
يتبع إن شاء الله تعالى...
02 شعبان 1431هـ
__________________
(1) حيرة مسلمة، ص11، دار سحر للنشر، ط3
(2) ص9
(3) ص8
(4) ص24
(5) ص55-56
(6) ص57-58
(7) ص33-34
(8) ص99
(9) ينظر: ص57-58
(10) ص31
(11) ص 33-34
(12) تهذيب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، ج1 ص559، دار المعرفة ط1 سنة1996م
(13) ج4 ص138-139
(14) حيرة مسلمة، ص33
(15) قال ابن النجار في شرح الكوكب (ج1 ص483): "التكليف لغة: إلزام ما فيه مشقة... قال في القاموس: والتكليف: الأمر بما يشقّ. وتكلّفه: تجشّمه...".
|