8 – التحول
مر اليومان التاليان بطيئين , فقدت جين شهيتها للأكل فأرجعت ذلك الى حرارة الجو
والألم الذي تحسه في كاحلها .
اقترب موعد حفلة الزفاف , وفي امسية يوم الأربعاء كانت تجلس مع ابيها في طرف الحديقة ,
على مرأى من البحر بعدما صبّ نسيم منعش رطب الجو ,
كانا ينتظران ميغان وكولن على العشاء ,
قررت جين أن تكون بالغة الرقة مع كولن , فهي تجده لطيفاً كما انها تعرف انه متعلق بها ,
هذا الشعور كان كافيا لاسعادها لو ان عاطفتها لم تتبدل .
اما الآن و لسبب لا تعرفه تماما فهي تتمنى لو لم يكن متعلقاً بها .
لم يكن في وسعها أن تفهم مشاعرها أو تحللها .
تسائلت لماذا لم يأتِ غافن لرؤية والدها منذ الأحد الماضي .
هي ل تبالي بالامر , لكن كان عليه ان يحضر ليرى ماذا جرى لكاحلها غير انه لم يحضر و قد لّ هذا الخاطر عالقاً بذهنها .
بادرت أباها قائلة :
" هل سنذهب الى حفلة زفاف شيرلي يا أبي "؟.
" نعم ,الآن وانتِ معي , أعتقد اني سأذهب ,
سنسأل ميغان اذا كان ممكناً ان نذهب معها , أعتقد انها وصلت مع كولن .
أقبلت ميغان ومعها كولن وتبادل الجميع تحية ودية .
جلس كولن القرفصاء قرب مقعد جين وبادرها قائلاً :
" كيف حال كاحلك . هل تحسن الآن "؟.
" تحسنت كثيراً , كنا نتحدث الآن عن حفلة زفاف شيرلي ".
" هل ستذهبان ؟".
تدخلّ والدها قائلاً :
" نحن نأمل أن نذهب , كما نأمل ايضاً أن يتطوع أصدقاء طيبون بنقلنا الى هناك ".
ردت ميغان بسرور :
" سنكون سعيدين بذلك . ماذا سترتدين يا جين ؟".
" لم أفكر بعد ".
قاطعها أبوها :
" هذه ليست مشكلة , يمكنكِ ان تشتري ثوباً ".
بادرته جين قائلة :
" لكني لا استطيع ".
قاطعتها ميغان :
" اعرف ذلك , لنعدّ لكِ ثوباً بالشرائط الحريرية المعروفة في سارامنكا ".
احتجت جين قائلة :
" لا يمكنكِ ذلك , فهذا يستغرق وقتاً طويلاً ".
" اليوم الاربعاء . سنشتري غداً كل ما يلزمنا وسيكون الثوب جاهزاً يوم الجمعه ".
نظر اليها والد جين بودٍ قائلاً :
" إن حياكة ميغان معروفة للجميع , أنا أضمن ذلك ".
" هذا كرم منكِ يا ميغان لكن هل انتِ واثفة ؟".
" كل الثقة . صباح غد سأصحبكِ لنشتري كل ما يلزمنا من محل غافن ".
" من يتحدث عني ؟".
التفت الجميع ليجدوا غافن ومعه كلبه .
فجأة شعرت جين بانها تريد الفرار الى مكان ما , الى اي مكان بعيد عنه .
بدأت ميغان تعيد سرد ما كانوا يتحدثون عنه .
وأحسّت جين بانسحاب كولن الصامت من جوارها بينما ارتمى كارلو باسترخاء مكانه دافعاً أنفها الرطب في يد جين .
ربتت على رأسه بينما كانت تصغي الى غافن :
" جئت اطلب خدمة من جين . ولكني لا استطيع ان اطلب ذلك الآن ..."
" ماذا تريد ؟".
جاء صوتها عادياً , أو هكذا بدا , في حين كانت ترتعد من الداخل .
" إن آن تعمل بمفردها غداً في المدرسة
و هي تسأل ما اذا كنتِ قادرة على مساعدتها ".
إذاً هذا هو سبب مجيئه , كان يجب ان تعرف ,
نظرت الى ميغان في حيرة فبادرتها الأخرى قائلة وهي تضحك :
" الأمر متروك لكِ يا عزيزتي , يمكنني ان اشتري أنا كل ما نحتاج اليه اذا رغبتِ في ذلك ".
تدخل غافن قائلاً :
" استطيع ان اصحب جين الى المحل في الثامنة صباحاً لتختار ما تريده .
هذا إذا كنتِ ستذهبين الى المدرسة يا جين ".
" انا مستعدة للمساعده ".
فكرت جين وهي في فراشها بان غافن يصل دائماً الى اغراضه . حدث الامر بشكل طبيبعي لكنها ادركت كيف انه يحقق اهدافه بسهولة . فالجميع يوافقون بحماسة على مخططاته .
اخذت تتقلب في فراشها بقلق وقد سيطرت عليها فكرة واحده وهي انه سيصحبها الى محله ثم الى المدرسة .
وقد وافقت على ذلك صاغرة , كيف حدث هذا وهي التي قررت ان تجنبه .
وقبل ان تستسلم للنوم , كان وجه غافن آخر رؤية تفرض نفسها عليها .
وجه غافن بالصورة التي بدا عليها عندما كان منحنياً على وشك التقاط ميلاني بين ذراعيه ,
فقد بدا مختلفاً تماماً .
في الصباح , عندما كانت ترتدي ثيابها وتمشط شعرها أدركت ان مقامها في سارامنكا لم يدم اكثر من اسبوع ,
لقد بدا ذلك مستحيلاً , فهي تحس انها عاشت هنا منذ زمن بعيد
وكأن الجزيرة باتت جزءاً لا يتجزأ منها .
قريباً سيكون عليها أن تختار , وهي ليست واثقة بعد , ماذا سيكون اختيارها .
فهي تود البقاء مع والدها , لكنها لا تزال مترددة ,
فهناك احساس غريزي دفين بحب البقاء يؤكد لها ضرورة الرحيل ,قبل ان يفوت الاوان ,
لكن اوان ماذا ؟
انها لا تدري ولا يمكنها ان تتكهن به ؟
استيقظ والدها مبكرا وقد بدا وجهه مسترخياً مليئاً بحيوية لم تشهدها من قبل .
حيّاها ثم بادرها قائلاً :
" اعتقد اني ساخرج لأتريض قليلاً اليوم , فأنا اشعر بتحسن ملموس ".
" هل أذهب للترض معك ؟".
" كلا , فهم يحتاجون اليكِ في المدرسة _ أنا سعيد لأنكِ ستذهبين ".
لم تعرف جين ماذا تقول ,
كلماته الصادقة الهادئة تجعلها عاجزة عن الرد . حبها يتعاظم يوماً بعد يوم لوالدها ,
إنها تشعر بالندم على السنين التي قضتها بعيدة عنه .
ربما كان القدر هو الذي أخّر اجتماع الشمل , ربما كان الآن هو الوقت المناسب لذلك ,
قالت :
"أرى انكَ تبدو احسن حالاً الآن , إني سعيدة بذلك ".
" هذا بفضل تأثيرك يا جين ,
فأنا الآن أعيش من أجله , لدىّ من اقول انه ملكي .
وانتِ كما تمنيت ان تكوني تماماً ".
" شكراً "
لم تزذ على ذلك بعد ان خنقتها مشاعرها ثم قالت :
" علىّ أن أستعد , فغافن آتٍ بعد قليل ".
ذهبت الى غرفتها محاولة بلا جدوى لجم دموعها , لا تريد ان يراها غافن على تلك الصورة .
وبالفعل عندما سمعت صراخاً على الباب كانت قد تمكنت من تمالك نفسها .
كانا يسيران الآن صوب بورت باتريك . نظر اليها نظرة فضولية وقال :
" هل تشعرين بتحسن في قدمك ؟".
" نعم , شكراً ".
تبدد الآن ذلك الشعور الغريب الذي أحسته نحوه يوم الاثنين الماضي ,
وعاودها التوتر , ويبدو انه احس بذلك ايضاً ,
فبدأ الحديث عن المدرسة بنبرة موضوعيه وكأنه يتحدث مع شخصِ غريب ,
كان يبدو جذاباً وقد ارتدى قميصاً من الحرير عقده بشرائط حريرية مطرزة بدلاً من الازرار ,
تذكرت جين كلمات آن , أنّ نصف فتيات الجزيرة يسعين ورائه ,
أحسّت بالسعادة لاها لم تكن واحدة منهن .
خطر لها خاطر مفاجئ , ترى لماذا طلب منها والدها الذهاب الى المدرسة ,
ربما هو يأمل ان ....... تصلّبت جين في مقعدها بعد أن داهمتها فكرة مخيفة ,
فهي لا تنخدع بالرجال , خاصة المجربون امثال غافن .
كانت الخالة دورثي تشعر بمتعة دائمة في تحذيرها من ان جميعهم سواسية ,
يسعون وراء ما يريدون ان يحصلوا عليه .
وغافن لا يختلف عن باقي الرجال , بل قد يكون أسوأ منهم .
فقد اعتاد طوال حياته أن يأخذ ما يريد . وهو يعلم انه جذاب .
وهو يكرهني و رغم ذلك ينظر اليّ أحياناً بطريقة ما ,
كما أنّ لمسة يده على ذراعي , ,,,,,,,
اندفعت الى ذاكرتها الآن كل الأشياء الصغيرة التي لم تكن تعني لها شيئاً .
- " هل هناك ما يزعجكِ "؟.
التفتت نحوه قائلةً :
" لا ......لا .".
لم تقوَ عيناها على مواجهة عينيه خوفاً من أن يقرأ أفكارها .
كم كانت حمقاء . تململت في مقعدها وتمنت لو لم تحضر معه .
كان عليها ان ترفض .
" صرتِ هادئةً جداً "
" كنت أفكر ".
هدأت الآن خفقات قلبها السريعه , يجب ان تتمالك نفسها وإلا فماذا يبقى لها ؟
بعد لحظات وصلا الى المحل . كان كل شئ هادئاً وكأن المحل مهجور .
تمكنت اخيراً من أن تتسائل بنبرة عادية وهما في المصعد :
" في أي ساعة يفتح المحل أبوابه ".
" يفتح أبوابه اليوم الساعه التاسعه والنصف , في وسعكِ أن تلقي نظرة حولكِ ".
احسّت بالراحة عندما توقف المصعد وقادها عبر قسم ثياب السيدات الذي كان يسوده هدوء شامل وقد تمت تغطية الأزياء الخشبية المنتصبة كالأشباح سجينة تنتظر الحرية .
اخترق غافن الصمت قائلاً :
" سأحضر أولاً الشرائط المطرزة الحريرية ".
أخذت جين تتجول وسط الرفوف المليئة بالبضائع ثم قالت :
" من الصعب اختيار المطلوب وسط هذه المجموعه الكبيرة ".
" دعيني اساعدك . فانا اعرف ما تريدين تماما ".
قدّم لها بعض الشرائط المطرزة الحريرية قائلاً :
" والآن ماذا تريدين تحتها ؟ الون الوردي ام الازرق ام الاصفر ؟".
" ارني هذا اللون الاصفر . هل يمكنني ان اراه جنباً الى جنب م عالشرائط ,
كانت الشرائط رقيقى , شفافة , تكاد تكون عاجية اللون وقد اكتمل منظرها عندما وضع تحتها الاصفر اللامع . تنفست جين الصداء وقالت :
" نعم , اعتقد ان هذا هو ما اريد ".
" جربيه عليكِ امام المرآة ".
كانت جين تراقبه وهو يلتقط ثنايا القماش الحريري والاشرطة .
جذب القماش الحريري قائلاً :
" امسكي هذا وضعيه على جسمكِ ".
كانت جين تشعر باحساس غريب وقد شعرت بانها تكاد تترنح .
امتثلت لكلماته دون ان تنبس ببنت شفة .
احست وكان طوقاً محكماً يشدد عليها الخناق .
انحنى والتقط الشرائط الرقيقة :
" احترسي يجب الاّ ......."
" انا اعرف ماذا افعل".
جا ء صوته هادئاً . كانت خفقات قلب جين عاليه .
كانت تشعر بقلبها وهو يخفق مرتطماً بضلوعها عندما استقام غافن ورفع الشرائط المطرزة بعناية فائقة ووضعها عليها .
كانت يداه الآن تمسان عنقها وخصوصاً وهو يحاول ان يريح الشرائط الحريرية حول جسدها .
كان هناك قدر من الحذر في لمسته , وبرغم ذلك احست وكانها في حاجه الى الفرار , أخذت تتحرك في قلق فبادرها قائلا :
" إهدئي , لماذا كل هذ التوتر ؟".
رأت صورتها المنعكسة في المرآة . كان غافن واقفاً زرائها وقد وضع يديه على كتفيها بينما تدلى القماش الحريري والشرائط فوق جسدها في رشاقة وجمال .
اكتشفت انها لم تنظر الى صورتها في المرآة ,
بل الى صورته هو .
كان قريبً منها الى حد انها احست بحرارته وتنشقت العطر الخفيف الخاص بالرجال المنبعث من كريم ما بعد الحلاقة ,
فتقلص حلقها حتى جاء صوتها اجش وهي تقول :
" هذا رائع الجمال . اعتقد انني ......"
" نعم , انه رائع الجمال ".
كان هناك شئ في صوته جعلها ترتعش وتمنت ان يبتعد عنها .
استدارت نصف استدارة فتراجع للخلف وانزلقت الشرائط قليلاً ..
أمسك بها قائلاً :
" سأحجزها لكِ واسلمها لميغان ".
" شكراً ".
لم تقو جين على النظر اليه , كانت تشعر وكأن راسها سينفجر من التوتر الذي عاد يسيطر على المكان .
" هل انتِ مستعدة للذهاب ؟".
" نعم ".
كان هناك قدر من الغرابة في سلوكه أثار قلقها , كان يبدو وكأنه غاضب . ماذا فعلت ؟.
في طريقها الى المدرسة احست جين بألم في رأسها و لم يكن هناك ما تستطيع عمله , يبدو ان غافن سارح في عالمه الخاص . كان يقود السيارة بسرعه . و لم ينظر اليها ولو نظرة عابرة .
قبضت بأصابعها على حقيبتها في تعاسة ,
كان يجب ألا توافق ان تحضر معه . رفعت يدها الى جبهتها المشتعلة محاولة وقف ذلك الألم النابض .
نظر اليها وقال بلا مبالاة :
" ماذا هناك ؟".
" عندي صداع قاتل . لكن لا تدع الامر يشغلك ".
" هناك اقراص مسكنة في المدرسة ذكريني ان اطلبها لكِ ".
" انزلني اما م المدرسة وانا اطلبها ".
" كنت اود ان ادخل معكِ , اكن لديّ كثيراً من العمل اليوم , سأمر بالطبع لآخذكِ في الساعة الرابعة ".
" ماك يمكنه ان يمر عليّ ".
" كلا , فلديه حالة ولادة في وسط المدينة ".
زمتّ جين شفتيها . انه يبدو وكأنه نادم على احضارها :
"آسفة لانني لا اعرف ان اقود السيارة , انك تضطر لتغيير برامجك بسببي ".
" انا سعيد بمساعدتك لنا , واؤكد لك ان نقلكِ بالسيارة لا يمثل اية مشكلة بالنسبة إليّ ".
" أحقاً ؟".
أشاحت بوجهها بعيداً ونظرت الىالمروج الخضراء , كانت تحسّ بوخزة ألم في صدرها .
دفعت باب السيارة قبل أن يتوقف تماماً أمام المدرسة ثم هبطت وقالت دون ان تنظر ورائها :
" الى اللقاء ".
سمعت صوت المحرك و قد انبعثت فيه الحياة من جديد كما سمعت صوت نفير السيارة .
لكنها لم تقو على النظر الى الوراء , تلاشى الصوت متباعداً فتوقفت جين لتلتقط انفاسها .
لم تكن تعرف لماذا ينتابها هذا الشعور الآن , لكن لسبب ما كانت تحس برغبة في البكاء ,
اخذت نفساً عميقاً وعاودت السير من جديد لتسمع اصوات الاطفال .
هنا العودة الى الطبيعه ... هنا يمكنها ان تجد نفسها على سجيتها . فهي متأكدة من شئ واحد .. ...
انها لا تستطيع البقاء مع غافن .
مرّ الوقت سريعاً وجلست آن وجين أثناء فترة الراحة تتحدثان عن حفلة الزفاف .
قالت آن أنّ شيرلي ستتزوج مواطناً استرالياً وستعيش في بيرث . وقالت :
" أنا واثقة من أنكما ستنسجمان معاً يا جين , للأسف انها سترحل يوم السبت , ليتكِ حضرتِ قبل الآن .
روت جين أسباب مجيئها متأخرة بينما جلست آن تصغي في صمت و قد علا وجهها تعبير غاضب ثم صاحت :
" ياللهول !
إنه لأمر رائع أن تكتشفي وجود والدك بهذه الطريقة ,
إن اباكِ أصبح شخصاً مختلفاً منذ مجيئك ".
مرة أخرى وجدت جين نفسها تفكر في ابيها .
ادركت مع كل يوم يمر انها تنتمي اليه ,,
اما بالنسبة الى الخالة دورثي فهي ستبحث عن وسيلة لتعوضها ما بذلت حتى لو كان ذلك يعني البحث عن عمل ,
فهذا الامر يجب ان تتحمله وحدها دون مساعدة من ابيها .
حينئذ فقط تتخلص من ذلك الشعور بالذنب الذي ينتابها من حين الى آخر لتركها خالتها وحيدة .
- سألت آن عن امكان العثور على فرصة للعمل في الجزيرة
و شرحت لها الاسباب و اصرارها على عدم اللجوء الى مساعدة والدها ,
فبادرتها آن قائلة وهي تربت على ذراعها :
" أنا أحترم حبك للاعتماد على النفس ,و لكن ألم يكن في نيتك الالتحاق بكلية المعلمات ".
" نعم ,
لكن تخرجي سيستغرق ثلاث سنوات , انا ارغب في العمل في أحد المكاتب او في اي مكان ".
" في وسعك ان تعملي هنا في المدرسة . فلماذا لا تسألين غافن اذا كان ذلك ممكناً ؟".
" لا اعلم ,
سأفكر في الأمر ".
قرب يوم الزفاف , نهضت جين مبكرة و ذهبت الى منزل ميغان لوضع اللمسات الاخيرة لثوبها .
منزل ميغان يشبه كثيراً منزل جون .
كان فسيحاً وأبيض وأثاثه هادئ وقد تناثرت السجاجيد على ارضيته والأزهار في كل غرفة .
كل ما في المنزل يدل على ان ساكنته امرأة ,
قادتها ميغان الى غرفة الحياكة , فشهقت جين لرؤية الثوب ثم صاحت قائلة :
" انه رااائع يا ميغان !".
" تعالي جربيه , وبعدئذ سأريكِ ما لديّ من قبعات ".
" كيف يمكنني ان اردّ لكِ هذا الجميل ؟".
إعتبريني فقط أمكِ الروحية !".
تضاحكت الاثنتان ثم بدأتا التجربة الأخيرة للثوب .
لم تكن جين قد رأت كنيسة الجزيرة , لكنها تخيلتها ذات طابع انجليزي بحت .
لذلك كانت مفاجأة لها عندما رأت ذلك المبنى الابيض البسيط وسقفه القرميدي الاخضر يلمع تحت اشعة الشمس و ينبعث منه رنين الاجراس القوي .
غمر جين احساس بالخجل لحظة وصولها هي ووالدها و ميغان وكولن ..
فشتان بين أن تنظر الى نفسك في المرآة وتشعر بأنك في مظهر لائق
و بين مواجهة عشرات الاشخاص الغرباء ,
جميعهم يتسمون بالاناقة و الثقة بالنفس .
أحسّت فجأة وكأن ادراكها متيقظ لكل شئ وكأن حواسها قد شحذت بلا استيعاب كل ما يدور حولها ,
اخذت تتحدث و تبتسم بخجل لأصدقاء أسرة موراي .
ثم انسحبت ميغان الى ركن هادئ و سألتها جين بفضول :
" من تكون الفتاة هناك ؟".
أشارت جين الى فتاة ذات شعر داكن رائعة الجمال .
" هذه هي كاي والاس , انها على علاقة متينة مع غافن .
إذاً هذه هي الفتاة الت تحدثت عنها آن !!
أحسّت جين بألم حاد ولكنها لم تدرك سببه .
تفرق الحشد اذ بدأ الجميع يدخلون الكنيسة ,
خفتت حدة الثرثرة لينبعث صوت الأرغن الرخيم .
لم تكن جين قد رأت غافن بعد ,
بدأت تنظر حولها ,
كانت الجدران ذات لون اصفر شاحب والسقف ذا عوارض خشبية داكنة ,
في المقدمة جلس رجلان , احدهما كان شخصاً غريباً ,
أما الثاني فكان ظهره مألوفاً بشكل محير .
حدّثت جين نفسها قائلةً :
بالقطع كان يجب ان اعرف – غافن هو شاهد العريس .
استدار قليلاً ليتحدث الى زميله وقد تباين بحدّة الشكل الجانبي لقسمات وجهه مع الحائط الاصفر الشاحب .
كان وسيماً للغاية ,
فأحست جين وكأن قلبها يترنح ,
فأشاحت ببصرها بعيداً خشية ان يراها أحد تحملّق فيه , خاصةً كولن الذي كان يجلس يجوارها .
في اللحظة التالية بدأ الارغن لحن مجئ العروس المعروف ,
تحولت الانظار صوب العروس .
إنّ هناك شيئاً مثيراً للعواطف في طقوس الزواج تلك ..
حدّثت جين نفسها لكنها وجدت عينيها مثبتتين لا على العروس والعريس ,
بل على غافن ,
لم ينظر وراءه ولا مرة واحدة , لم يرها ,
لكن جين ادركت تماما انه يعي انها تنظراليه .
وبعد مضي دقائق , جائت تلك اللحظة المصيرية .
حدث ذلك مع انتهاء طقوس الزواج , فقد استدار غافن للحظات ,
والتقت عيناه عيني جين .
كانت عيناه داكنتين , لاحت فيهما ظلال المسافة الفاصلة بينهما ,
لكن نظرات الاثنين في تلك اللحظة كانت وكأنهما كانا وحدهما في الكنيسة ,
منتديات ليلاس
أشاحت جين بوجهها بعيداً مرتعشة , بل انها احست بالدوار وغير قادرة على تحمل المزيد .
عرفت الآن انها تحب غافن غرانت .
توجه المدعوون الى الحفلة التي اقامتها أسرة موراي في منزلها ,
أخذت جين تثرثر مع كولن وميغان ووالدها , آملةً الا تفضحها حركاتها ,
تقدّم غافن نحوهم محدّثاً ومعه كاي فشعرت جين بالألم بينما كانت كاي تتأبط ذراع غافن ,
مجرد لمسة خفيفة كلمسة الفراشة , وهي تبتسم لجين معربة لها عن اعجابها بثوبها ,
استجمعت جين شجاعتها من مكان دفين فبادلتها الابتسام وتحدّثت بطريقة طبيعية ,
بينما كان كولن يحيطها بذراعه في خفه , لم تقوَ جين على مبادلة غافن النظر ,
وبدلاً من ذلك أخذت تراقب باعجاب جمال وجه كاي الهادئ بتعبيره الصافي وعينيها ذا ت الاهداب الكثيفة وهما ترمقانها بطريقة صادقة ودودة .
لم يكن فيها ما ينم عن الخداع مثل سارة ,
كانت هناك ثقة كاملة بالذات جعلت جين تحس وكأنها صبية في طور الدراسة الثانوية .
غير أن جين لم تكن تدرك كم كانت بدورها تبدو نضرة فاتنة في ثوبها وكم اضفى عليها الحياء مسحة من البراءة .
كانت تجيب في هدوء على اسئلة كاي حول انطباعاتها عن الجزيرة ,
وعندما تدّخل غافن في الحديث وذكر لها خدماتها للمدرسة , تبادلا النظرات .
ليتها تستطيعا ان تتصرف تصرفاً طبيعياً ,
بادرها قائلاً :
" أريد أن أتحدث معكِ في شأن المدرسة , قد لا يكون هنا المكان المناسب , تحدّثت طويلاً مع آن موراي ".
فقدت دقات قلب جين انتظامها , ترى ماذا قالت له آن ؟
يا لي من حمقاء ! كان يجب ان انبهها الاّ تقول شيئاً .
ابتسمت أخيراً قائلةً :
" في وقتٍ أخر , اسمحوا لي الآن , يجب أن اذهب لأرى ما اذا كان ابي يريد شيئاً ".
توارت جين ومعها كولن الذي أمسك بذراها هامساً بحدّة :
" قولي لي , ماذا بينكِ و بين غافن "؟.
" ماذا تقصد ؟"
"انا لا اعرف ! انه مجرد شعور , عندما تجتمعان كأن هناك شرارات خفية تتطاير في كل اتجاه , لا اعني اليوم فقط , فقد لاحظت ذلك من قبل ".
" خيالك خصب "
ردت عليه جين بسرعه وهي تلوح من بعد الى ابيها الذي كان يجلس مع ميغان وماك تحت جرة ظليلة في الحديقة . يجب ان تكون اكثر حرصاً ولا تدع مشاعرها تنكشف وإلا كانت النتيجة مروعة , لا يمكن تكهنها .
وفي محاولة يائسة تمكنت من ان تقول :
" في الواقع ان هناك نوعاً من عدم الاستلطاف بيننا , هذا هو كل ما في الأمر .
ان هذا يحدث احياناً . مجرد تعارض في الشخصيات ".
" ليس الامر بهذه الاهمية "
تأبط ذراعها وانضما الى المدعويين .
بدأ الرقص فوق المروج الخضراء .
عقدت جين مقارنة بين هذه الامسية و حفلة سارة , فالجو كان مختلفاً تماماً .
كانت سارة هذه الليلة في الحفلة و قد نجح غافن في تقسيم وقته ببراعة بين سارة و كاي .
انه يملك كل شئ ,
المظهر الحسن و الثراء و فتاتين جذابتين ,
انه بارع حقاً – وهي بكل غبائها وقعت في شراكه .
أحست بالم حاد كالسكين لرؤيته يرقص مع كاي , وحاولت في ياس ان تسترخي بين ذراعي كولن ,
يا ليتها كانت تحس ولو بذرة عاطفة تجاه كولن , يا ليتها كانت , ولكن ما من فائدة .
رقصت جين مع ماك الذي قال :
"وافق ابوكِ على السفر الى سيلان لعرض نفسه على طبيب اختصاصي .
كل هذا كان بتأثيرك . فقد اقنعتهِ بأن يفعل ذلك من أجلك ".
- " ماك , أنا سعيدة للغاية , متى سيذهب ؟".
" يوم الثلاثاء وسأذهب معه ".
" هل أذهب معكما ايضاً ؟".
خفّت الموسيقى وقد وقفا في رقعة ظليلة بعيداً عن الفوانيس التي علّقت عبر الحديقة .
حكّ ذقنه مفكراً ثم قال :
" لا أعرف يا جين , فغافن هو الذي سيأخذنا بطائرته ".
وقبل أن ينهي جملته , رأت الرجل الذي ليس في وسعها ان تتحاشاه قادماً وحده نحوهما فبادره ماك :
" هل يمكن ان تأتي جين معنا إلى سيلان ؟".
نظر اليها غافن في صمت وأحسّت إنها ترتعش كمن ارتكب خطأ .
ثم قال :
" سبقكم شخص آخر وطلب مني الطلب نفسه ".
تردد قليلاً ثم قال :
" ماك , هل يمكنني أن أتحدث مع جين على انفراد ؟".
" بالتأكيد , إلى اللقاء " .
تأبط غافن ذراع جين وقادها الى رقعة داكنه من ظلال الأشجار وقال في رقة :
" أريد فقط أن أتحدث معكِ , دعينا نجلس هنا ".
أشار الى مقعد تحت شجرة اتجهت اليه جين و هي سعيدة بفرصة الجلوس قبل ان تخونها قدماها .
" ابلغتني آن بأنكِ تريدين عملاً ".
رفع يده طالباً منها الهدوء أمام شهقتها ,
ثن قال :
" أنا آسف , دعيني استخدم عبارة اخرى ,
هل تقبلين بالعمل في المدرسة بشكل منتظم في مقابل راتب مناسب ؟
أنتِ تنوين البقاء هنا أليس كذلك "؟.
ثبتت جين نظرها على يديها و قد شبكتهما في توتر , كيف يمكنها ان تفعل ذلك الآن ؟
كانت لديها مخاوف من العمل في مدرسة غافن ,
والآن زادت تلك المخاوف بعدما أدركت انها تحبه :
" لا أعرف ".
" لا تعرفين ماذا ؟
لا تعرفين ما اذا كنتِ ستبقين في سارامنكا
أم لا تعرفين ما اذا كنتش تودين العمل في المدرسة "؟.
أسرعت ضربات قلب جين , فقد غمرها احساس بالطمأنينة وهي قريبة منه .
ما هذا التبدل المفاجئ في نظرتها اليه ؟.
قالت :
" كانت مجرد فكرة , فأنا لا اريد أن ......".
كانت على وشك ان تقول لا اريد ان اعمل لديك ,, ولكن الكلمات توقفت .
اطلق ضحكة صغيرة وقال :
" لا تودين ان تعملي في مشروع يخصني , أليس كذلك "؟.
ابتلعت ريقها في صعوبة قائلةً :
" هذه هي الحقيقة ما دمت قلتها بنفسك ".
كانت تعرف انه غضب .. نظر اليها بعينين قاتمتين قائلاً :
" شكراً لصراحتكِ . هل لي أن أسأل لماذا ؟".
" لا أعرف ".
لم تقوَ على الاشاحة بعينيها بعيداً . فقد كانت عيناه مركزتين عليهما ,,
" نعم , تعرفين , ماذا هناك ؟
أنتِ خائفة من أن تقدمي على أي عمل يؤذيني . اليس كذلك ؟".
شئ ما في صوته فجّر كل توترها العصبي . لماذا اخضع لهذا الارهاب ؟ لماذا أصبح كالآخرين ؟ ليس لديّ ما اخسره . انه يعتبرني طفلة .... فما من شئ على الاطلاق يقدر ان يجعله ينظر اليّ كما ينظر الى سارة .
" أنا لا أود ان أعمل معك لانك تتصور إن في امكانك ان تصدر الاوامر للجميع,
لكنّي لن أسمح لك بذلك ".
" إما انكِ تمزحين وإما أنكِ جننتِ ,
أنا أصدر الاوامر للجميع .. متى حصل ذلك ؟".
أضفت نبرته الساخرة برودة على كلماته .
همّت جين بالوقوف . لكنه بحركة عنيفة أجلسها في مكانها قائلاً :
" اجلسي , انا فعلاً أحب ان اراكِ احياناً !
اللعنة على هذا التفكير .. لماذا تدخلين دائماً في صراعٍ معي ؟".
" أنا ؟؟ كيف كان ذلك ؟".
" بالطريقة الانثوية الماكرة ,. و اضافة الى ذلك ....."
" انا لن ابقى هنا لأسمع اهاناتك ".
نهضت و ضربت الارض بقدمها بشدة وقالت :
" كيف تجرؤ على ان تتحدث معي بهذا الشكل , عد الى صديقاتك ,, وانا ...."
" وانتِ تعودين الى صديقكِ كولن ".
وبعدما نهض اضاف :
" انتِ لا تقبلين الاهانه , بينما تسمحين بتوزيعها على الآخرين ,
لماذا لا تقدمين على صفعي ؟".
" لا تستفزني ".
تطلعت بعينين قلقتين نحو المنزل فبادرها قائلاً :
" لم يلاحظ أحد شيئاً , لكن استمري , فأنتِ تحققين تقدماً ".
" أنا أكرهك ! هل تسمعني ؟ أكرهك ! ".
" تكرهينني ؟ اذن دعينا نرى ما اذا كنتِ تكرهين هذا أيضاً "
جذبها بقوة نحوة وقد أحاطتها ذراعاه بقبضةٍ قوية ساحقة جعلتها لا تقوى على الحركة .
حاولت ان تقاوم لكن فشلت ,
أبعدها عنه وقال في حدة :
" لن أعتذر وحتى لو اعتذرت فان موقفي لن يكون حقيقياً ".
صاحت وهي ترتعش من هول الصدمة :
" أهكذا تحارب النساء ؟".
" نعم . اذا اردتِ هذا التفسير ".
" انت حقير كريه !".
" انا اعرف ذلك , و لذلك فلن تستغربي اذا كان سلوكي سيئاً ".
مع هذه الكلمات استدار عائداً الى المنزل بينما وقفت جين وحدها .
ثم سمعت حركة مجاورة فاستدارت لترى كولن أمامها .
كان في حالة هياج .
احست بانها على وشك البكاء ,
ومدّت يدها لتلمس ذراعه فأقصاها عنه و استدار بدوره عائداً الى المنزل .
أغلقت جين عينيها ,
اما لهذا الكابوس من نهاية ؟