المنتدى :
كتب الأدب واللغة والفكر
إبن هلال الصابئ , الهفوات النادرة
ِ
هلال بن المحسن الصابئ
أبو الحسن هلال بن المحسن بن أبي إسحاق إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون بن حيون، الصابئ الحراني الكاتب، هو حفيد أبي إسحاق الصابئ صاحب الرسائل المشهورة - وقد سبق ذكر جده في حرف الهمزة، سمع هلال المذكور أبا علي الفارسي النحوي - المقدم ذكره - وعلي بن عيسى الرماني - المقدم ذكره أيضاً - وابا بكر أحمد بن محمد بن الجراح الحراز وغيرهم. وذكره الخطيب في " تاريخ بغداد " وقال: كتبنا عنه وكان صدوقاً، وكان أبوه المحسن صابئياً على دين جده إبراهيم، فأسلم هلال المذكور في آخر عمره، وسمع من العلماء في حال كفره، لأنه كان يطلب الأدب. ورأيت له تصنيفاً جمع فيه حكايات مستملحة وأخباراً نادرة، وسماه كتاب " الأماثل والأعيان ومنتدى العواطف والإحسان " وهو مجلد واحد، ولا أعلم هل صنفوه سواه أم لا.
وكان ولده غرس النعمة أبو الحسن محمد بن هلال المذكور ذا فضائل جمة وتآليف نافعة، منها التاريخ الكبير المشهور، ومنها الكتاب الذي سماه: الهفوات النادرة من المغفلين الملحوظين، والسقطات الباردة من المغفلين المحظوظين " جمع فيه كثيراً من الحكايات التي تتعلق بهذا الباب، فمما نقلته منه أن عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنه - وهو عم السفاح وأبي جعفر المنصور - أنفذ إلى ابن أخيه السفاح في أول ولايتهم مشيخةً من اهل الشام يطرفه بعقولهم واعتقادهم، وأنهم حلفوا أنهم ما علموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة يرثونه غير بني أمية حتى وليتم أنتم.
ونقلت أيضاً حكاية وإن كانت سخيفة لكنها ظريفة، ولا بد في المجاميع من الأحماض، ومزج الهزل بالجد، والحكاية المذكورة هي: أن أبا سعيد ماهك بن بندار المجوسي الرازي كان من كبار كتاب الديلم المشهور تجفلهم، الشائعة فيه أخبارهم، وكان يكتب لعلي بن سامان أحد فواد الديلم، فأراد الوزير أبو محمد المهلبي أن ينفذ ماهك في بعض الخدم فقال له: وقد أراد الخروج من عنده: يا أبا سعيد، لا تبرح من الدار حتى أوقفك على شيء أريده معك، فقال: السمع والطاعة لأمر سيدنا الوزير، ونهض من بين يديه، فقال الوزير: هذا رجل مجنون، وربما طال بي الشغل وضاق صدره فانصرف، فتقدموا إلى البواب أن لا يدعه يخرج من الباب، فجلس ماهك طويلاً، وأراد دخول الخلاء، فقام يطلب ذلك فرأى الأخلية مقفلة، وكان قد تقدم الوزير بذلك، وقال: كانت دار أبي جعفر الصيمري، منتنة الرائحة لأجل خلاء كان بها لعامة الناس. فوجد ماهك الخلاء الخلاص غير مقفل، وعليه سر مسبل، فرفع الستر ليدخل، فجاء الفراش فمنعه ودفعه، فقال: يا هذا أليس هذا خلاء؟ فقال: بلى، فقال: أريد أن أعمل فيه حاجتي فلم تمنعني؟ قال: هذا خلاء خاص لا يدخله غير الوزير، قال: فبقية الأخلية مقفلة، فكيف أعمل وقد جئت أخرج فمنعني البواب فأخرى في ثيابي؟ فقال الفراش: استأذن في دخول الخلاء ليتقدم لك بذلك ويفتح لك أحد الأخلية فتقضي حاجتك، فاشتد به الأمر، فكتب إلى الوزير رقعة وقال فيها: قد احتاج عبد سيدنا الوزير ماهك إلى بعض ما يحتاج إليه الناس ولا يحسن ذكره، والفراش يقول لا تدخل، والبواب يقول لا تخرج، وقد تحير العبد في البين، والأمر في الشدة، فإن رأى سيدنا الوزير أن يفسح لعبده بان يعمل ما يحتاج إليه في خلائه فعل إن شاء الله تعالى، والسلام. ودفع الرقعة إلى بعض الحجاب، فأوصلها إلى الوزير، فلم يعلن ما أراد بالرقعة، فاستعلم ما الصورة فعرف بها، فضحك واستلقى على ظهره، ووقع على ظهر الرقعن: يخرى أبو سعيد أعزه الله بحيث يختار، إن شاء الله تعالى، فجاءه الحاجب بها فأخذه ودفعه إلى الفراش، وقال: هذا ما طلبت، وهو توقيع سيدنا الوزير، فقال الفراش: التوقيعات يقرؤها أبو العلاء ابن أبرونا كاتب ديوان الدار، وأنا لا أحسن أن أكتب ولا أقرأ، فصاح ماهك في الدار: هات من يقرأ في الدار صك الخرا!! فضحك فراش آخر وأخذ بيده، وحمله إلى بعض الحجر حتى قضى حاجته.
ونقلت من هذا الكتاب أيضاً: أن أرطأة بن سهية دخل على عبد الملك بن مروان، وكان قد أدرك الجاهلية والإسلام، فرآه عبد الملك شيخاً كبيراً، فاستنشده ما قاله في طول عمره فأنشده:
رأيت المرء تأكله اللـيالـي كأكل الأرض ساقطة الحديد
وما تبغي المنية حين تأتـي على نفس ابن آدم من مزيد
واعلم أنها ستكـر حـتـى توفي نذرها بأبي الـولـيد
فارتاع عبد الملك وظن أنه عناه لأنه يكنى أبا الوليد، وعلم أرطأة بسهوه وزلته، فقال: يا أمير المؤمنين إني أكنى بأبي الوليد، وصدقه الحاضرون، فسري عن عبد الملك قليلاً.
ونقلت منه أيضاً أن أبا المعري صاعد بن مخلد كاتب الموفق قرأ على الموفق فلم يفهم معناه، وقرأه الموفق ففهمه، فقال فيه عيسى بن القاشي:
أرى الدهر يمنع من جانبـه ويهدي الحظوظ على عائبه
وكم طالبٍ سبباً مجـلـبـاً فأعيا عناه على طـالـبـه
ومن عجيب الدهر أن الأمي ر أصبح أكتب من كاتبـه
والموفق المذكور هو ابن أحمد طلحة بن المتوكل، وهو والد المعتضد الخليفة العباسي.
ونقلت منه أيضاً أن إعرابياً شهد الموقف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال الأعرابي: فصاح به صائح من خلفه: يا خليفة رسول الله ثم قال: يا أمير المؤمنين، فقال رجل من خلفي: دعاه باسم ميت، مات والله أمير المؤمنين، فالتفت إليه فإذا هو رجل من بني لهب - بكسر اللام - وهم من بني النضر بن الأزد، وهم أزجر قوم، وقد أشار كثير عزة إلى ذلك في قوله:
سألت أخا لهبٍ ليزجـر زجـره وقد صار زجر العالمين إلى لهب
قال الأعرابي: فلما وقفنا لرمي الجمار إذا حصاة قد صكت صلعة عمر رضي الله عنه فأدمته، فقال قائل: أشعر والله أمير المؤمنين، والله لا يقف هذا الموقف بعدها، فالتفت إليه فإذا هو اللهبي بعينه، فقتل عمر رضي الله عنه قبل الحول.
وهذه الحكاية في كتاب " الكامل " أيضاً.
وقوله " دعاه باسم ميت " إنما ذلك لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يقال له " خليفة رسول الله " فلما توفي وتولى عمر رضي الله عنه قيل له: " خليفة خليفة رسول الله " فقال للصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين: هذا أمر يطول شرحه، فإن كل من يتولى يقال له خليفة من كان قبله حتى يتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أنتم المؤمنون وأنا أميركم، فقيل له: يا أمير المؤمنين، فهو أول من دعي بهذا الاسم، وكان لفظ الخليفة مختصاً بابي بكر الصديق رضي الله عنه، فلهذا قال " دعاه باسم ميت ".
وذكر عمر بن شبة - المقدم ذكره - في " أخبار البصرة " عن الشعبي أن أول من دعا لعمر رضي الله عنه على المنبر أبو موسى الأشعري بالبصرة، وهو أول من كتب " لعبد الله أمير المؤمنين " فقال عمر: إني لعبد الله، وإني لعمر، وإني لأمير المؤمنين.
وقال عوانة: أول من سماه أمير المؤمنين عدي بن حاتم الطائي وأول من سلم عليه بها المغيرة بن شعبة. وقال غيره: جلس عمر يوماً فقال: والله ما ندري كيف نقول: أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا خليفة أبي بكر، فأنا خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن جاء بعدي يقال له: خليفة خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل اسم؟ قالوا: الأمير، قال: كلكم أمير، قال المغيرة: نحن المؤمنون، وأنت أميرنا، فأنت أمير المؤمنين، قال: أنا أمير المؤمنين، والله أعلم، وخرجنا عن المقصود.
وكانت ولادة هلال المذكور في شوال سنة تسع وخمسين وثلثمائة. وتوفي ليلة الخميس سابع عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى.
الكتاب
الصفحات الثلاث الأولى من الكتاب
وإن لاقى استحسانكم أقوم برفعه
يتألف الكتاب من 213 صفحة
بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ أعنْ
قال الشيخ الأجل محمد بن هلال بن المحسن بن إبراهيم المعروف بالصابئ: الحمد لله رب العالمين، وصلواته على محمد النبي خاتم المرسلين، الذي انتخبه ربه تعالى للرسالة يؤديها، يوضحها ويبديها، صلاة يزكو لديه عرفها وطيب، ويورق في دوحته عودها الرطيب، كما صدق فيما حكى، وحقق فيما أدى، واحتمل الأذى وأغمض على القذى طاعة منه لمولاه، وصبراً على ما ابتلاه، وحرصاً على صلاح الأمة، ورضى بما لاقى في ذلك من المذلة، حتى أظهر الدين منشورة بنوده، منصورة جنوده، طالعة سعوده، ساطعة جدوده، ولم يزل معه ربه إلى أنت طبقت الأرض شرقاً وغرباً دعوته، وعمت الخلق عجماً وعرباً بركته، ضاعف الله تعالى في تلك الدار الخيرات، وأسبغ عليه السعادات، وأجول قسمه من الزلفات، وحظه من رفيع الدرجات، بمنه ومجده.
وكنت جاريتي من الهفوات الجارية على ألسن المتحفظين المتحررين، والسقطات الآتية من الغارين الغافلين وما أشبه ذلك من المقالات وطرف الاتفاقات طرفاً استطرفنا وحديثاً استغربناه، واتفق أن لحقني منه ما صدق العجب والاستطراف، ونالني فيه من الخجل والحياء ما بلغ الإفراط والإسراف، فعلمت على جمع ما ندر من ذلك وإن كان قليلاً معلوماً، وضم ما تفرق منه إن كان علماً مأموماً، وأضفت إليه قطعة من أخبار المغفلين المحظوظين والجهال المرزوقين، فإنها جارية في أسلوبه، وشبيهة بمقصوده، إحماضاً لقاريه، وتنبيهاً له على قدر نعمة، اله تعالى عنده وفيه، والله تعالى ولي التوفيق والتسديد.
فأول ما أبدأ به ما خصني منه، وهو أنني كنت جالساً وإلى جانبي أبو سعد القادسي أحد المتفقهين المتشدقين، وجرى ذكر بعض ثقلاء الزمان المتعسفين فقلت مسرعاً متبرعاً: إنه يشبه ابن القادسي فيما يتعاطاه مما يتجاوز فيه الصواب
ويتخطاه! ثم استيقظت من رقدة زلتي، وانتبهت لهفوتي، فالتفت إليه عجلاً وقلت له مسرعاً وكان له أخ بالحمق مشهور وبالهذيان معروف، وهو بذاك عالم، وله دائماً عليه لائم: اعلم أيها السيد أن أخاك يسمع من الألفاظ الأدبية، ذات المعاني الغريبة ما لا يفهمه، ويجب أن يستعمله، وعند أن ذلك ورد يرد الواردون من غير تعب، ويورده الموردون من غير أدب، فيصدر عنه الكلام المستعجم، وتصير أغراضه ومعانيه لا تفهم، فنحن نضرب به الأمثال، هذاء يورده بوجه وقاح غير حيي، وخاطر لفاح غير وني فقال لي: والله العظم إنني لألومه على فعله دائماً، وأمنعه منه دائباً، وأعلم أن الأقوال تكثر فيه، وتزري عليه، وهو على ما عمت من الجهل الذي يورده ولا يصدره، ويحسن له ما يقوله ويذكره! فحين شاهدته قد تحقق قولي ورضيه، ولم يخطر بقلبه ما يغضبه ويؤذيه، أتتني فرجة اقتحمتها، ولحقتني فرحة ما احتبستها.
وحدثني الوزير فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير قال:
حضر رسل نصير الدولة أبي نصر بن مروان الكردي أمير آمد وميافارقين وأعمالها عند معتمد الدولة أبي المنيع قراواش بن المقلد أمير بني عقيل، يستحلفونه على معاهدة بينت، ومعاقدة قررت، وفيهم المنازي الشاعر فلما حلف معتمد الدولة أنشد المنازي:
كلفوني اليميـنَ فارتعـتُ منهـا
كـي غـروا بذلـك الارتيـاعِ
ثـم أرسلتهـا كمنحـدرِ السَّـي
لِ تهادى مـن المكـانِ اليفـاعِ
قال له قرواش: يا ويلك قبحك الله وقبح ابن مروان، ما هذا الكلام! وبدا الشر في وجهه، وكاد يكون ذلك اليوم آخر أيام المنازي من عمره، فبدأ المنازي باليمين الغموس أنه أنشد ما أنشد عن سهوٍ لا عن روية، وباتفاق سوء لا عن قصد ونية، فتحقق ذلك قرواش وصدق قوله، لأنه ممات لا يقدم عليه مثله، فأغضى وعفا،
عما غلط فسه وهفا.
وحدثت عن بعض المغنين قال: حضرت عند شرف الدولة أبي المكارم مسلم بن قريش أمير بني عقيل يوماً أغنية، وجرى حديث عميد الملك أبي نصر الكندري رحمه الله وزير طغرل بك، فذكرت من محاسنه وما كان يستعمله معي ومع أمثالي من العطاء الذي مولنا، والإنعام الذي خولنا، طرفاً قوياً أسرفت فيه وزدت قصداً لتحريك مسلم لمثله، ثم انتهت نوبة الغناء إلى حيث انتهى ذكري لعميد الملك وترحمي عليه، فضربت وغنيت:
قواصد كافـورٍ تـوارك غيـره
ومن قصدَ البحرَ استقلَّ السواقيا
فقال لي مسلم: قبحك لله ما هذه المعاشرة! فاستيقظت لغفلتي وحلفت أنني لم أقل ما قلته عن نية فيه ولا عزمٍ عليه، إلا بحسب ما اتفق لي وعرض على قلبي، وخفت بادرة شره، فكفي الله تعالى وأمسك عني.
وكان عبد الله بن حسن بن حسن يساير أبا العباس السفاح يوماً بظهر مدينة الأنبار، وهو ينظر إلى مدينته التي بناها هناك، ويريه أبنيته فيها، ويعجبه بها، فأنشد عبد الله:
ألم تـر مالكـاً أضحـى يبنـي
بنـاءً نفعـهُ لبنــي بقيلــهْ
يؤمـل أن يعمَّـر عمـرَ نـوحٍ
وأمـرُ اللـه يأتـي كـلَّ ليلـهْ
فتبسم السفاح كالمغضب وقال: لو علمنا لاشترطنا حسن المسايرة، فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، بوادر الخاطر وإغفال المشايخ فقال: صدقت، خذني في غير هذا، وأنشد السفاح:
أريـدُ حياتـه ويريـد قتلــي
عذيرك من خليلك مـن مـرادِ
وذكروا المدائني أن عيسى بن موسى بيننا هو يساير أبا مسلم يوم إدخاله على المنصور ووقوع الفتك به فيه إذا أنشد عيسى ابن موسى:
للتحميل من هنا
تحياتي ..
|