مخيفة هي الكتابة دائماً. لأنها تأخذ لنا موعداً مع كل الأشياء التي نخاف أن نواجهها أو نتعمق في فهمها.
يوم بدأت هذا الدفتر ما كانت نيتي أن أفلسف الأمور حولي. ولذا أكتشف اليوم, أن موت هذا الرجل أكبر مني, يتجاوز حدود فهمي, يتجاوز منطقي, لأنه حدث خارج دفتري. أو بالأحرى على هامش صفحتي. في ذلك الخط الأحمر الدقيق الذي يفصل بين الحياة والكلمات.
العجيب والمؤلم في موته, أنه مات بسبب بطل وهميّ وكائن حبري, ولم يحدث للموت أن كان في متناول الكلمات, في متناول الوهم إلى هذا الحد!
ذلك الرجل الذي يكره الجسور, ويكره الأسئلة. أوصلني حبه إلى أسئلة لا جواب لها.
لماذا مات ذلك الرجل؟ لماذا اليوم؟ لماذا الآن؟ لماذا هناك بالتحديد؟ لماذا هو بالذات؟
كنت أستدرجه ليختار عنوانا لقدري, فأختار أنا عنوانا لقدره.
قلت له خذني إلى المكان الذي تحبه الأكثر في هذه المدينة, فسرق الموت سؤالي, وأوصله إلى جوابه الأخير.
من منّا المتهم الأول الآن في جريمة كهذه؟
القدر الذي سلمته مقود السيارة وأبرمت معه معاهدة ثقة.. فخانني؟
أم أنا التي رحت أطارد رجلاً وهميّاً, خارج حدود الورق, وإذا بي أحول لعبة الكتابة إلى لعبة موت؟
أم ذلك الرجل الوهمي, الذي أقنعني بأن أثق بالقدر, ثم تخلى عنّي, كي يلقنني درساً في كتابة القصص؟
كل الأسئلة أصبحت تختصر عندي في سؤال واحد:
موت هذا الرجل جريمة قدر..؟ أم جريمة أدب؟ وبالتالي إلى أية درجة أنا مسؤولة عن موته؟
ولكن الأمور بالنسبة إلى زوجي, الذي عاد على عجل في صباح اليوم التالي, لا يمكن أن تكون مبسطة إلى هذا الحد. ليس فقط لأنه يجهل القصة التي أكتبها وأعيشها, والتي أوصلتني إلى ذلك الجسر. ولكن لأنه قبل كلّ شيء رجل عسكري. والأسئلة التي تعنيه أسئلة محض بوليسية, لا مكان فيها للقدر, ولا للأدب. وها هي تنهال عليّ مشابهة لتلك التي سبق أن أجبت عنها البارحة. ولكن بنبرة عصبية مختلفة, وبإضافات جديدة هذه المرة.
- لماذا ذهبت إلى هناك؟ أجننت لتوقفي سيارة رسمية وسط الطريق وتنزلي لتتفرجي على جسر.. وتتبادلي الحديث مع السائق على مرأى من الناس؟
- أردت أن أرى الجسر عن قرب لا أكثر.. لأنني أراه دائما على تلك اللوحة المعلقة في الصالون.. تلك التي أهداها إلينا الرسام خالد بن طوبال يوم زواجنا. وصادف أن مررت من هناك, فقلت لا بأس أن أنزل وأتفرج على الجسر, ما دمت أتجول وما دام أمامي بعض الوقت.
- تتجولين؟ أهذه مدينة للفسحة؟ أو هذا زمن للتجوال؟ البلد يعيش حالة حصار معلنة على كل التراب الوطني, وأنت تتجولين؟ ألا تقرأين الجرائد؟ ألا تتحدثين إلى الناس؟ كل يوم يقودون رجال الشرطة, يذبحونهم كالنعاج ويلقون بهم من الجسور..
- ولكن لا أفهم ما ذنب عمي أحمد في كل هذا؟
- إنه يقود سيارة عسكرية.. أي أنه عسكري!
- ولكنه لم يكن يرتدي زياً عسكرياً..
- لا يهم.. كان في خدمة الدولة.. وهذه تهمة كافية. إلا إذا توقعوا أنه أنا. وفي هذه الحالة كان لهم أكثر من سبب لقتله.
يصمت قليلاً ثم يطرح سؤاله الأهمّ:
-أين كنت تجلسين؟
أُتََمَتِمُ:
-جواره كما أفعل أحياناً.. [في الواقع كما أفعل دائماً].
نغرق معا في صمت فاضح. تذهب أفكارنا معا إلى الشيء نفسه.
في البدء, كان زوجي يحتجّ على جلوسي جوار السائق. ولكنني كنت, مع عمّي أحمد بالذات, عاجزة عن الجلوس خلفه. فقد كان يعيش معنا معظم الوقت كفرد من العائلة. وكان في حضوره شيء من الوفاء والطيبة التي تجعلني أخجل من إعادته خارج البيت, إلى مرتبة سائق وخادم يحمل أشيائي لا أكثر, هو الذي كان يوماً يحمل سلاحاً.
كنت أحترم ذاكرته الوطنية. أحترم يديه, وشعيرات رأسه الرمادية. ولم يكن يعنيني أن تكون قامته الفارعة توحي بأنه أصغر من عمره, حتى يبدو أحياناً قريباً في مظهره من زوجي. كما لم تعنني يوماً نظرات التعجب التي كانت تقابلني بها زوجات الضبّاط, عندما يفاجئنني جالسة إلى جواره.
في النهاية, خلافي مع زوجي قد يتلخص في هذا المقعد. فقد كان طموحه الجلوس خلف سائق في سيارة رسمية, وطموحي كان الجلوس جوار رجل في سيارة.
كان بين أحلامنا مسافة مقعد, لا أكثر. ولكن كانت المسافة أكثر شساعة مّما توقّعت. فأنا لم أكن أعرف قبل اليوم أن اختيارنا الجلوس في مقعد بالذات دون غيره قد يفضح اقتناعاتنا وطموحاتنا إلى هذا الحد, ولا أنه قد يتسبب في قتل رجل بريء, لأنه دون أن يغيّر مكانه, غيّر صفته ورتبته.
وها أنا إذن, أمام شرح آخر لموته, شرح لا يبرئني أيضاً من دمه, ما دمت بجلوسي جواره, حولته في نظر الآخرين من سائق إلى ضابط, وجعلته بالتالي هدفاً مفضلاً لرصاصهم.
أفكّر فجأة في غرابة القدر الذي أبدع هذه المرة في كتابة نهاية لحياة هذا الرجل, الذي عاش جندياً بسيطاً.. خمسين سنة. ثم مات برتبة ضابط كبير.
لقد بلغ أحلامه في اللحظة الأخيرة من عمره. ومات بتهمة أحلامه. وربما سعيداً بها. ألم يمت ضابطاً في المكان الذي يحبه الأكثر في قسنطينة؟ الجسور!
المكان نفسه الذي من الأرجح, أن يكون قد حارب فيه منذ ثلاثين سنة, وجازف فيه بحياته أكثر من مرة. ولكن الموت لم يأخذه يومها, لأنه لم يرده جندياً متنكراً في برنس المجاهدين, أو شهيداً في عملية فدائية. تلك ميتة عادية.
أرداه بعد ثلاثين سنة, جندياً يجلس في مقعد ضابط جزائريّ.. ليموت برصاص جزائريّ.
إن ميتة كهذه, وحدها ميتة استثنائية!
تذهب بي الأفكار بعيداً. بين السخرية والألم, أتوقف في محطات للنّدم.
لقد قتلت ذلك الرجل, لا بجنوني فقط, وإنما بطبيعتي أيضاً. وتواضعي المبالغ فيه الذي يجعلني أصر على الجلوس جواره, لأهدي إليه وهم التساوي بي.
في الواقع, التواضع كلمة لا تناسبني تماماً. أن تتواضع يعني أن تعتقد أنك مهم لسبب أو لآخر, ثم تقوم بجهد التنازل والتساوي لبعض الوقت بالآخرين, دون أن تنسى تماما أنك أهم منهم.
هذا الشعور لم أعرفه يوماً. لقد كنت دائما امرأة لفرط بساطتها, يعتقد كل البسطاء, وكل الفاشلين حولها أنها منهم.
ولم يكن من أمل في تغيري: لقد ولدت اقتناعاتي معي. أنا أحب هؤلاء الناس, أتعلم منهم أكثر مما أتعلم من غيرهم, أرتاح لهم أكثر مما أرتاح لغيرهم, لأن العلاقات معهم بسيطة, وأكاد أقول جميلة. بينما العلاقات مع الناس المهمين – أو الذين يبدون كذلك – هي علاقات متعبة ومعقدة.. أي علاقات فاشلة!
ولذا كانت لي مع ذلك الرجل علاقة, أكتشف الآن جمالية تلقائيتها.
* * *
موت عمي أحمد قلب حياتنا رأساً على عقب.
فأمام اقتناع زوجي بأنه هو الذي كان معنياً بذلك الاغتيال, قرر أن يأخذ تدابير أمنية جديدة. أولها الاستغناء عن سيارته الرسمية. والتنقل من الآن فصاعدا في سيارة عادية يغيّرها بين الحين والآخر.
ثانياً إحضار سائق جديد.. لن يرافقني إلا للمشاوير الضرورية, على أن أجلس خلفه هذه المرة, ولا أفتح معه أي حديث.
أما تنقلاتي فستقتصر هذا الأسبوع على زيارة بيت عمي أحمد, لتقديم التعازي لأهله. بينما تكفّل زوجي بإرسال خروف. وأتوقع أن يكون زراهم هذا الصباح.
أما مشواري الثاني, فسيكون لزيارة أمي وتوديعها, قبل ذهابها إلى الحج, للمرة الثالثة.. أو الرابعة.. لا أدري بالتحديد. فلا أحد يدري هنا عدد حجات الآخر. مذ شاعت ظاهرة المزايدة في كلّ ما له علاقة بمظاهر التقوى.
فهل من عجب أن أصاب هذا الأسبوع بإحباط, شبيه بالانهيار العصبيّ, وأنا أتنقل من بيت بائس يعلو منه صوت القران, وعويل نسوة مرتديات السواد, مات فيه المعيل الوحيد لسبعة أشخاص, إلى بيتٍ تتنقل فيه أمي بثوبها وشالها الأبيض, وحولها نسوة من كل الأعمار, لبسن كلّ ما في خزانتهن من صيغة وأثواب أنيقة, وجئن يودّعنها للمرة العاشرة. أو بالأحرى جئن ليقنعنها للمرة العاشرة بأنهن لا يقللن عنها ثراء, وبإمكانهن الذهاب إلى الحج أكثر من مرة لو شئن.
وطبعاً سيكون بينهن بعض نساء الضباط اللائي جئن مجاملة لي. واللائي سيطاردنني بالأسئلة عن "الحادث" تحسباً لما قد ينتظر أزواجهن من مفاجآت.
ولكنني كنت منذ عدّة أيام, قد فقدت رغبتي في الكلام, وكان حضورهن الباذخ استفزازاً لحزني
كن نساء الضجر, والبيوت الفائقة الترتيب, والأطباق الفائقة التعقيد, والكلمات الكاذبة التهذيب, وغرف النوم الفاخرة البرودة, والأجساد التي تخفي تحت أثواب باهضة الثمن.. كل ما لم يشعله رجل.
وكنت أنثى القلق, أنثى الورق الأبيض, والأسرة غير المرتبة, والأحلام التي تنضج على نار خافتة, وفوضى الحواس لحظة الخلق.
أنثى عباءتها كلمات ضيقة, تلتصق بالجسد, وجمل قصيرة, لا تغطي سوى ركبتي الأسئلة.
منذ الصغر كنت فتاة نحيلة بأسئلة كبيرة. وكانت النساء حولي ممتلئات بأجوبة فضفاضة.
ومازلن دجاجات, ينمن باكراً. يقُقْنَ كثيرًا, ويقتتن بفتات الرجولة, وبقايا وجبات الحب التي تقدم إليهن كيفما اتفق. ومازلت أنثى الصمت, وأنثى الأرق.
فمن أين آتي بالكلمات, كي أتحدث إليهن عن حزني؟
يومها, لم ينقذني سوى مرور ناصر مصادفة بالبيت. فتحججت به. لأترك مجلس النساء وأخلو به.
هوذا ناصر أخيراً..
لا أذكر كم مر من الزمن على آخر لقاء لنا. فلم يحدث خلال سنوات زواجي الخمس أن زارني أكثر من مرة في العام.
أما بقية لقاءاتنا, فكانت تتم هنا في بيتنا, خلال الأعياد أو المناسبات العائلية.. أو مصادفة مثل اليوم. وكأننا لا نسكن المدينة نفسها.
لقاؤنا الأخير, كان في عيد الفطر الماضي. بدا لي يومها على غير عادته قلقاً وصامتاً. عادة, يقبلني بشوق. نتبادل بعض أخبارنا. ونضحك أحيانا ونحن نستعيد بعض ذكرياتنا المشتركة. ولكنني احترمت وقتها صمته, ومضيت.
ناصر يصغرني بثلاث سنوات. ولكنه كان دائما توأم حزني وفرحي, وتوأم رفضي أيضاً.
ثم انكسر شيء بيننا فجأة, منذ زواجي. حل محله شيء من العتاب الصامت, الذي فسرته في البدء بالغيرة. فقد كان ناصر متعلقاً بي. كنت كل عائلته, كل اقتناعاته, كل مفخرته. هو الذي فشل في الدراسة وتحول تاجراً في عمر ما زال فيه الآخرون يواصلون دراستهم. وكان يرفض أن يأتي رجل غريب ويسرق منه كل شيء كان ينفرد بامتلاكه. حتى إنه قلما لفظ اسم زوجي أمامي. وكأنه لا يعترف بوجوده.
أذكر منذ سنتين, حاولت أن أناقشه في هذا الموضوع. قلت له "لقد مرّ على زواجي ثلاث سنوات.. وحان لك أن تتقبل هذا الأمر.. إنه مكتوب".
ولكنه فاجأني متذمراً:
-مكتوب؟ أن ينهبوا البلاد.. أن يفرغوا أرصدتنا.. ويسطوا على أحلامنا.. ويستعرضوا ثرواتهم على مرأى من بؤسنا. ربما كان هذا مكتوباً.. أما أن يتزوج هؤلاء السفلة بناتنا.. ويمرغوا أسماء شهدائنا في المزابل.. فليس هذا مكتوباً.. أنت التي كتبته وحدك!
ناصر عمره سبع وعشرون سنة. يصغرني بثلاث سنوات, ويكبرني بقضية.
لقد جاء العالم هكذا حاملا قضية معه, كما نحمل أسماءً لا نختارها, إذا بنا نشبهها في النهاية. ربما لأن أبي الذي كان مأخوذا بشخصية عبد الناصر, أثناء حرب التحرير, أراد أن يعطيه اسما مطابقا لأحلامه القومية. إذا به دون أن يدري يعطيه اسمين: اسمه كواحد من كبار شهداء الجزائر, ولقباً لأكبر زعيم عربيّ.
ناصر تقاسم كل شيء مع الوطن, يتمه.. واسمه الذي لم يعد اسمه. ناصر عبد المولى, كان الطفل المدلل لذاكرة الوطن. ولكن ليس بالضرورة طفل الوطن المدلل. ولد باسم أكبر منه, وضع على كتفيه برنساً للوجاهة.
وكانت تلك مصيبته.
ليس سهلاً أن تكون ابن رمز وطني. دون أن تشعر بالبرد تحت ذلك المعطف الفاخر السميك.
فماذا تراه كان يلبس, تحت ذلك المعطف. ليتدفأ في زمن الخيبات؟
ماذا تراه كان يخبئ تحت برنس الصمت؟
أقبله بشوق. أبادره كعادتي بلهجة قسنطينية, مسروقة كلماتها من قاموس الأمومة:
-واش راك.. يا اميمة توحشتك..؟
يجيب:
- مليح.. يعيّشك.
ويجلس في جبته البيضاء مقابلا لي. استنتج أنه عائد من الصلاة, أو ذاهب إليها. فلم يحدث أن التقيت به, إلا وكان بين صلاتين.. أو بين قضيّتين.
كما الآن, عندما أقول له, وكأنني أبحث عن موضوع أبادره به:
- لقد جئت لأودع "ما".. يبدو أنه لن تشبع من الحج..
فيجيبني:
-لقد قلت لها إن أجرها سيكون أعظم لو تصدقت بثمن حجتها إلى فقراء العراق ولكنها لم تصدقني...
فأصمت ولا أدري كيف أواصل معه الحديث.
ناصر لم يشف بعد من حرب الخليج. عند بدء الاجتياح العراقيّ كان يعيش مشتتاً.. مضطرباً. ينام وهو من أنصار صدام حسين, ويستيقظ وهو يدافع عن الكويت.
ثم ما كادت الأحداث تأخذ منحى المواجهة العسكرية والتحالف العالمي ضد العراق, حتى انحاز نهائيا إلى العراق مأخوذا ب"أم المعارك".
كان مثل الجميع يراهن على المستحيل, ويحلم بمعركة كبرى.. نحررّ بها فلسطين!
ولكنه عند سقوط أول صواريخ عراقية على إسرائيل ووقوعها على أراض قاحلة, طلبني ليلاً ليقول لي "أهذا هو السكود الذي كان يهدد به صدام العالم.. إنه ليس أكثر من "تحميلة" وضعتها إسرائيل في مؤخرتها..!".
ضحكت.. ولم أتوقع أن يكون لهذه الحرب كلّ ذلك التأثير في ناصر.
كانت تلك الفترة هي الوحيدة التي كان خلالها ناصر يتردد عليّ, ربما ليجد أحداً ينقل إليه تذمره وسخطه لا أكثر. فقد كان يدري, أن بإمكانه أن ينقل إلي أية عدوى من هذا القبيل.
كذلك اليوم الذي زارني فيه وفاجأني جالسة أمام أوراقي. وكنّا في عزّ تلك الفجائع, وما تلاها من إهانات. فراح يؤنبني وكأنني ارتكبت ذنباً في حق أحد. مردداً:
- لا أفهم من أين لك القدرة على مواصلة الكتابة وكأن شيئاً لم يحدث. لا هذه الأرض التي تتحرك تحت قدميك.. ولا هذا لدمار الذي ينتظر أمة بكاملها منعاك من الكتابة.. توقفي.. تأملي الخراب حولك. لا جدوى ممّا تكتبين..
قلت كمن يعتذر:
- ولكنني كاتبة..
صاح بي:
- ولأنك كاتبة عليك أن تصمتي.. أو تنتحري. لقد تحولنا في بضعة أسابيع إلى من أمة كانت تملك ترسانة نووية.. إلى أمة لم يتركوا لها سوى السكاكين.. وأنت تكتبين. وتحولنا من أمة تملك أكبر احتياطي مالي في العاغلم, إلى قبائل متسولة في المحافل الدولية.. وأنت تكتبين. هؤلاء الذين تكتبين من أجلهم.. إنهم ينتظرون أن يتصدق عليهم الناس بالرغيف وبالأدوية.. ولا يملكون ثمن كتاب. أما الآخرون فماتوا. حتى الأحياء منهم ماتوا.. فاصمتي حزناً عليهم..!
لا أظن أن ناصر كان يتوقع, أنه بهذه الكلمات التي ربما غيّر رأيه فيها بعد ذلك, قد غير مساري في الكتابة, وأرغمني على الصمت سنتين.
... سنتين كاملتين, تعلمت فيهما أن أحتقر كلّ أولئك الكتاب, الذين في الجرائد والمجلات واصلوا الحياة دون خجل, أمام جثمان العروبة.
كنت أرى القنوات الأمريكية, تتسابق لنقل مشاهد "حية" عن موت جيش عربي يمشي رجاله جياعا في الصحارى. يسقطون على مدى عشرات الكيلومترات كالذباب في خنادق الذل, مرشوشين بقنابل الموت العبثيّ, دون أن يدروا لماذا يحدث لهم هذا.
وأرى قوافل البائسين. هاربة بالشاحنات من بلد عربي إلى آخر. تاركة كلّ شيء خلفها, بعد عمر من الشقاء.. دون أن تفهم لماذا.
وأرى الكويتييّن يرقصون في الشوارع حاملين الأعلام الأمريكية. مقبّلين صور بوش, مهدين الجنرال شوارزكوف حفنة من تراب الكويت. ولا أفهم كيف وصلنا إلى كلّ هذا.
وحده رجل غير مكترث بنا, لم يفقد قريباً في أي حرب من الحروب التي ارتجلها, ولا فقد في زمن المجاعة, ولو شيئاً من وزنه, كان يظهر على الشاشات, يمارس السباحة على مرأى من غرقنا.
واعداً إيانا بمزيد من الانتصارات.
خلال تلك الفترة.. لم تفارقني فكرة الانتحار. ولم يمنعني من تحقيقها سوى فجيعة أمّي بموتي.
في الواقع كنت أبحث لي عن موت "استعراضيّ" كبير لا يشبه في شيء بندقية الصيد المتواضعة التي أطلق بها خليل حاوي, رصاصة على جبينه في 7 حزيران 1982 احتجاجا على اجتياح إسرائيل للبنان, على مرأى من كل الأخوان والجيران العرب, بعد أن قال لأصدقائه "أين هذه الأمة؟ من العار أن أقول أنا عربي أمام هذا التفرج المخزي".
كنت أريد لي انتحارا على قدر فجيعتي, شبيها بانتحار الكاتب الياباني مشيما, الذي بعد أن سلم الجزء الرابع والأخير من روايته الرباعية, إلى المطبعة. توجه ذات صباح أحد, لتنفيذ الفصل الأخير من حياته كما خطط له إعلاميا, بعد أن قرر الانتحار, احتجاجا على خروج اليابان مذلولة من الحرب العالمية أمام أمريكا, وضياع شخصيتها القومية أمام الغزو الغربي.
الجميل أنه استعد لموته, بأخذ دروس خاصة بالمصارعة والفروسية, والكمال الجسماني. ما مكنه من أخذ قائد القوات اليابانية كرهينة, والتوجه بخطاب حماسي إلى ألف جندي ياباني, كانوا مجتمعين لمناسبة وطنية.
وعندما لم يترك خطابه أثرا في ذلك الجيش المهزوم, عاد ميشيما إلى غرفة قائد القوات. وارتدى اللباس التقليدي الياباني. عاقدا أربطته وأزراره برباطة جأش ملحوظة. ثم دعا المصورين ليأخذوا له صورا, رفقة جيشه الصغير, المكون من مائة شاب, أعدهم للموت دفاعا عن عظمة اليابان. ووقف ممسكا بسيفه السامورائي المحظور, لينتحر مباشرة أما عدسات المصورين, هو ومساعده, وفقا لطريقة الهاراكيري الرهيبة في الانتحار, الواحد تلو الاخر.
سلاما ميشيما.
أينما كنت أيها الصديق, أقبل جبين رأسك المفصول عن جسدك. والملقى منذ نوفمبر 1970 عند أقدام الوطن, رفضا أبديا لذل الانحناء لأمريكا.
ما زلت اتساءل: أكنا وقتها متفائلين أم سذجا كي ننحاز إلى أمة متمادية في هزيمتها وعنادها, كي تنجز بتفوق كل ذلك الاخفاق!
في تلك الفترة أصبح ناصر ضرورة يومية, لبقائي على قيد العروبة, مزايدا علي في كل شيء, رافضا أن أشتم أمامه نظاما عربيا بالتحديد. فإما أن أشتمها واحدا.. واحدا.. [لأسباب يسردها علي مطولة مفصلة.. ومقنعة] أو أصمت. ففي شتم نظام عربي دون آخر بالنسبة إليه, ما يفوق جريمة السكوت عنه.
أذكر كان يمر بي أحيانا؛ يقضي برفقتي بعض الوقت, ثم يمضي قائلا "كان الله في عون هذه الأمة, نصف حكامها عملاء, والنصف الآخر مجانين!".
ثم فجأة تغير ناصر.
لم يعد يحدثني عن الستة والعشرين مليارا التي تبخرت من خزينة الدولة الجزائرية, ولا عن أصدقائه, الذين انضموا إلى لوائح آلاف الطلبة والشباب القسنطينيين, الجاهزين للدفاع عن العراق, والاستشهاد تحت علمها, الذي اضيف إليه للمناسبة "الله أكبر", وهو ما جعل بعض الساخرين يقترح أن يضاف إلى العلم الجزائري شعار "الله غالب" أي لا نستطيع شيئا من أجلكم... ولا عن تلك الإشاعات التي كان يصدقها الجميع, والتي كانت تقول إن إسرائيل حصلت على صاروخ يطول الجزائر, وهي تستعد لضرب قسنطينة.
وهو ما جعل الناس يعيشون لمدة شهر, على أهبة حرب, كأنهم يتمنون حدوثها لمتعة الجهاد.. أو لولعٍ بالاستشهاد.
لا أدري.. أهو الذي فقد شهيته للكلام, أم أنا التي فقدت حماسي لكلّ القضايا, ودخلت في حالة ذهول من أمري.
بين خيباته الوطنية, وإفلاس أحلامه القومية, غسل يديه من العروبة, أو على الأصح, توضأ ليجد قضيته الجديدة في الأصولية.
وأنا التي عشت دائما متأخرة عنه بقضية, لم أفهم ما الذي كان يحدث له بالتحديد. ولماذا هو بين لقاء وآخر, يصبح بعيدا, يصبح غريبا عني إلى هذا الحد.
حتى إنني لم أعد أجرؤ على أن أتبادل معه ضحكة أو نكتة كعادتي. لم أعد أجرؤ حتى على مخالفة رأيه, خشية أن يجادلني ويناقشني بمنطق ليس لي من جواب عليه.
أحاول استدراجه للحديث أقول:
- لقد أنقذتني بقدومك.. فأنا لا صبر لي على هذا الرهط من النساء.
يجيب:
- لقد اخترت أن تدخلي هذا العالم.. وعليك الآن أن تتقبليه.
أشعر أنني على وشك أن أنفجر في وجهه. ولكنني أهدئ نفسي, فأقول بصوت مؤثر, وكأنني أستجدي منه لطفا:
-ناصر.. أنت تدري تماما أن هذا الجو ليس جوي. ولن نعود إلى الحديث في هذا الموضوع. أنا متعبة, ومرهقة. لقد مات عمي أحمد منذ ثلاثة أيام على مقربة مني. ما حدث له أمر مريع.. شيء لا يصدق!
أتوقع منه كلمة مواساة, أو كلمة يترحم بها على روحه. ولكنه يصمت. ولا أدري أمن تأثره, أم لأن الأمر لا يعنيه, أم..؟
تذهب أفكاري بعيدا. وفي لحظة أتصور الاحتمالات الأكثر جنونا. وصوت ذلك الضابط يعود فجأة ليسألني "هل أخوك على علم بتنقلاتك؟" فأجيبه "لا.. إنه لا يسكن معي" فيرد "أنا أعرف ذلك".
...لولا أن صوت ناصر يأتي بعد صمت طويل لينقذني من سكتة قلبية وهو يقول:
- رحمه الله.. كان رجلا طيبا.
أكاد أشكره. أرتمي فجأة عليه. أقبله وأجهش بالبكاء. فلا يملك إلا أن يحتضنني.
دموعي تسيل لتبلل لحيته التي تلتصق بخدي, وتعطيني إحساسا غريبا. أشعر كأنه أبي.. هو الذي كان دائما ابني.
يسألني وهو يضمني إليه.
- واش بيك حياة..؟
لا أجيب. أتمتع بضمته لي, بحنانه المفاجئ. أشعر فجأة؛ بأنني كنت في حاجة إلى حنان دون أن أدري, وأنه منذ سنوات لم يحدث لأحد أن ضمني بحنان, فقط بحنان, دون شهوة ولا رغبة.
أقول له وسط دموعي:
- ناصر.. عاملني بحنان.. هل يجوز الحنان في شريعتك؟ أنت كل ما أملك في هذه الدنيا. إذا شئت لا تكن معي. ولكن لا تكن ضدي. هذا يؤلمني كثيرا. أنت الذي تضع جثمان أبي دائما بيننا.. وتزايد على الجميع في رفع اسم الشهداء.. لم يكن أبي يريد لنا قدرا كهذا.. لا أريد أن يأتي يوم نصبح فيه أعداء, فقط لأننا لا نفكر بالطريقة نفسها.
من منا كان يبكي لحظتها؟ لا أدري.
أدري فقط أن بعض الضحكات كانت تأتيني من الغرفة الأخرى, حيث تتسامر نساء ينتظرهن عند الباب سائق لم يمت بعد, وأنني قررت أن أغادر البيت دون أن أودعهن.
لم أعد أذكر أي حدث بالتحديد كان سببا لانهياري, بعد ذلك, وأوصلني حدّ فقدان شهية الحياة.
لا شيء كان يغريني, ولا أحد كانت تعنيه حياتي.
أمي كانت مشغولة عني بحجتها. زوجي مشغول عني بمسؤولياته. وأخي بقضيته, والبلد بمواجهاته. وعندما أردت أن أجد لنفسي رجلا وهميا, أطلقوا الرصاص على أوهامي.
هذه مدينة, لا تكتفي بقتلك يوما بعد آخر, بل تقتل أيضا أحلامك, وتبعث بك إلى مخفر, لتدلي بشهادتك في جريمة أوصلتك إليها الكتابة.
زوجي الذي لم يكن له من وقت, ليحاول فهمي, ولا كان يدري ماذا يجب أن يفعل بي, هو يراني أنغلق على نفسي كمحار, قرر أن يبعث بي إلى العاصمة لأرتاح بعض الوقت على شاطئ البحر, حتى مرور تلك الزوبعة.
وكانت تلك أجمل فكرة خطرت في ذهنه منذ زمن بعيد. وهدية القدر التي.. لم أتوقعها.
* * *
طبعًا
قلما تأتي تلك الأفراح التي ننتظرها في محطة.
وقلما يجيء، أولئك الذين يضربون لنا موعدًا.فيتأخر بنا أو بهم القدر.
ولذا، أصبحت أعيش دون رزنامة مواعيد، كي أوفر على نفسي كثيرًا من الفرح المؤجل.
مذ قررت أنه ليس هناك من حبيب يستحق الانتظار، أصبح الحب مرابطًا عند بابي، بل أصبح بابًا ينفتح تلقائيًا حال اقترابي منه .
وهكذا تعودت أن أتسلّى بهذا المنطق المعاكس للحب.
وكنت جئت إلى هذه المدينة دون مشاريع، ودون حقائب تقريبًا.
وضعت في حقيبة يدي ثيابًا قليلة،اخترتها دون اهتمام خاص لأقنع نفسي أن لا شيء كان ينتظرني هناك...عدا البحر.
البحر الذي يملك حقّ النّظر إليّ في ثياب خفيفة، دون أن يناقشه أحد في ذلك .ولذا جئته بأخف ما أملك،وبتواطؤ صامت ،فانا لا أدري إن كنت جئت حقًا من أجله.
عندما نسافر، نهرب دائمًا من شيء نعرفه. ولكن نحن لاندري بالضرورة ،ماالّذي جئنا نبحث عنه.
أترك حقيبتي ملقاة على سرير شاسع، لن يشغله سواي. وأذهب لاكتشاف البيت الذي سأقضي فيه أسبوعًا أو اسبوعين.
في الواقع، اذهب لاكتشاف مزاج الأمكنه، وماتبثّه روحها من ذبذبات، أستشعرها منذ اللّحظة الأولى.
أحببت هذا البيت : هندسته المعماريّة تعجبني، وحديقته الخلفيّة ، حيث تتناثر بعض أشجار البرتقال واللّيمون, تغريني بالجلوس على مقعد حجري, تظللّه ياسمينة مثقلة. فأجلس، وأستسلم للحظة حلم.
البيوت أيضًا كالناس.هنالك ماتحبه من اللّحظة الأولى. وهنالك مالاتحبه. ولو عاشرته وسكنته سنوات.
ثمّة بيوت تفتح لك قلبها.. وهي تفتح لك الباب. وأخرى معتمة، مغلقة على أسرارها، ستبقى غريبًا عنها، وإن كنت صاحبها.
هذا البيت يشبهني . نوافذه لاتطلّ على أحد. أثاثه ليس مختارًا بنيّة أن يبهر أحدًا. وليس له من سرٍ يخفيه على أحد.
كلّ شيء فيه أبيض وشاسع .لاتحده سوى خضرة الأشجار أوزرقة البحر و السماء .
بيت لايغري سوى بالحب والكسل، وربما بالكتابة.
أتساءل وأنا أتأمله، من ترى سكن هذا البيت. ومن مرّ به قبلي، ليؤثثه ويعتني بحديقته إلى هذا الحدّ..خلال أكثر من ربع قرن؟ فمن الواضح أنّه بيت يعود إلى أيّام الاحتلال الفرنسي، يوم كان كبار الاقطاعيّين الفرنسيّين، يعمرون فيلّيات فخمة على الشواطئ الجزائريًة، غالبًا ماتكون غير بعيدة عن السهول والأراضي الزراعيّة، الّتي كانوا يمتلكونها، وحيث ياتون للاصطياف.
بعد الاستقلال، حجزت الدولة الأملاك الشاغرة التي تركها المعمرون الفرنسيون لتكون مقرّاً صيفيّاً لكبار الضباط والمسؤولين الذين أصبح لهم وجود شرعيّ ودائم على موريتي وسيدي فرج ونادي الصنوبر.
ومن الأرجح أن تكون هذه الفيلا هي إحدى هذه الأملاك التي يتناوب عليها الضبّاط كل صيف، قبل أن يأتي من يحجزها نهائيّاً، مستندًا إلى نجومه الكثيرة ، أو إلى أكتافه العريضة. وسيشتريها حسب قانون جديد، بدينار مزيّ مثير للعجب.
متى حصل زوجي على هذه الفيلاّ .. وكيف؟ أسئلة لا يعنيني الجواب عنها ، ولكنّها تقودني إلى التفكير فيه.
فأتذكر أنني لم أطلبه هاتفيًا لأطمئن إلى سلامتنا، كما طلب مني أن أفعل حال وصولنا .
في الواقع، كان اسهل وأكثر راحة لنا أن نسافر، أنا وفريدة، بالطّائرة. ولكن زوجي أصرّ ان يرافقنا السائق بالسيّارة لخدمتنا. وحراسة هذا البيت الكبير، الذي لايمكن أن نبقى فيه بمفردنا، وذلك بانتظار أن يلحق بنا بعض الأهل ..
في انتظار ذلك أمامي عدّة أيام للّراحة، لا أدري تمامًا كيف أنفقها، والتي أبدأها بأخذ حمام دافئ، واللّجوء إلى النوم احتفالاً بحريّتي.
رحت أستعجل النوم. أحاول أن أنام دون أن اقع في فح الأحلام. ثمّة غرف جميلة إلى حد الحزن، تعاقبك أسرّتها بالحلم!
وبرغم ذلك، في الصّباح، لم أنج من جسدي. كنت أستيقظ وتستيقظ رغبة داخلي . تلفّني رائحة شهوتي فأبقى للحظات، مبعثرة تحت شرشف النوم النسائي الكسول.
يستبقيني إحساس بمتعة مباغته، لم أسع إليها . جاءني بها البحر على سيريري..ليتحرش بي.
على غير عادتي.. أستيقظ باكرًا هذا الصباح. وكأنّني أريد أن استفيد من كل لحظة حريّة قد تسرق مني فجأة، لأيّ سببٍ كان.
يفاجئني جوع صباحيّ لايقاوم، وكأنّ شهيتي للحياة قد تضاعفت هنا، فابعث بالسّائق لإحضار لوازم الفطور، وأبقى لأتفرج على البحر.
رائحته بعد ليلة كاملة من المدّ والجزر تزحف نحوي متوحّشة تستفزّ حواسّي بشهيّة غامضة للحب.
أتجاهل اعترافه الفاضح بليلة حب قضاها على مقربة مني، منشغلاً بترويض الأمواج، بينما كنت أنا منشغلة عنه بترويض حواسّي والهروب بنفسي من تلك الهواجس التي كانت تطاردني وتعكر مزاج نومي.
البارحة نمت نومًا عميقًا، كما لم أنم منذ أيام . شعرت بمعنى السكينة، وكأنني تركت كل شيء خلفي، وجئت لألقي بنفسي هنا، على سرير شاسع، لاذاكرة له.
والآن لارغبة لي سوى في تناول فطوري، والخروج صحبة فريدة على الأقدام، لا كتشاف هذه المنطقة.
حتّى قبل ان يغريني شاطئ(سيدي فرج) بمنشآته السياحيّة ومركباته التجاريّة. اذهلني مصادفة وجودي دائمًا في الأماكن التي يطوقها التاريخ، والتي تشهر ذاكرتها في وجهك عند كل منعطف.
"سيدي فرج" ليس في النهاية اسمًا لوليّ صالح، مازال النّاس يترددون على ضريحه، طالبين بركاته، إنما اسم المرفا الذي دخلت فرنسا منه على الجزائر.
فهنا رست سفنها الحربية ، ذات 5 يوليو من صيف 1830، بعدما تم تحطيم الوسائل الدّفاعية المتواضعة الموضوعة في مسجد " سيدي فرج" وتحويله مركزًا لقيادة أركان المستعمرين.
وشاءت الأقدار، او بالأحرى شاء المفاوضون الجزائريون، ان يجعلوا فرنسا تغادر الجزائر بعد قرن وثلاثين سنة، في هذا التاريخنفسه، ليصبح 5 يوليو أيضًا تاريخ استقلالنا.
نعم.. في زمن سابق، كان الجزائريون يصرّون على كتابة التاريخ بغرورهم!
"حادثة المروحة "الشهيرة نفسها، والتي صفع بها الدّاي وجه القنصل الفرنسي، والتي تذرعت بها فرنسا آنذاك لدخول الجزائر، بحجة رفع الإهانة، ليست إلا دليلاً على كبريائنا أو عصبيتنا ..وجنونا المتوارث.
وربما كغمزةٍ للتاريخ، تفنن الجزائريون غداة الاستقلال في هندسة هذا المرفق، وبنوه على شكل قلعة عصرية، جاعلين برج (سيدي فرج) ومنارته ، ذوي علوّ شاهق أو هكذا يبدوان وكأن هناك من يتوقع قدوم عدو من البحر..
ولكن العدو منذ ذلك الحين. لم يعد يأتي من البحر.. ولا بالضرورة من الخارج!
سعدت ذلك اليوم بمشواري الصباحي . أذكر أنني مشيت يومها دون هدف محدد. بانبهار الا كتشاف الأول
وعدت إلى البيت مع فريدة محملتين بمشتريات ..وأحلام مختلفة.
كنت أشعر أنني حققت حلماً صغيراً، لم يكن على بساطته في متناول يدي . اكتشفت أن أمنيتي لم تكن تتجاوز المشي باطمئنان في شارع .
في البيت كانت الحياة هادئةكما لم أعهدها من قبل . وكنا بدأنا نعيش أنا وفريدة على إيقاع جديد يتناسب مع حياة المصيف.
فبرغم خلافاتنا السابقة، وبرغم اختلاف عمرينا ، وثقافتينا، وذوقينا ، كنا سعيدتين بوجودنا معاً، بعدما أصبح بيننا تواطؤ الحرية المؤقتة، التي نزلت علينا معاً، والتي لم تكن تعني ، في ظروفنا تلك، المفهوم نفسه لكلتينا.
فبالنسبة إلى فريدة التي قضت عمرها عبدة في بيت الزوجية، ولم تغادره سوى لتعود إلى بيت أخيها مطلقة، لم تكن الحرية سوى إمكانية النظر إلى الآخرين من شرفة بحرية وهم يعيشون ..ويسبحون ويتحمصون تحت الشمس نيابة عنها .
الحرية لم تكن أكثر من حقها في الحلم .
أما حريتي فقد جاءت معاكسة لمنطق حريتها . لقد أصبحت أنا امرأة حرة، فقط لأنني قررت أن أكف عن الحلم!
اكتشفت ذلك البارحة . عندما فتحت دفتري الأسود الذي أهملته بعض الشئ منذ قدومي، كي أسجل عليه أول فكرة توصلت إليها أخيراً:"الحرية أن لا تنتظر شيئا ".
وكان يمكن أن أكتب هذا في صيغة أخرى كأن أقول :"الترقب حالة عبودية ". فلقد توصلت إلى الأولى من خلال الثانية.
ولكن ما كدت أتحرر من عبودية الإنتظار، حتى وقعت في عبودية الكتابة. وهو ما جعل فريدة تجد في بقائي بالبيت، وعكوفي الدائم على الكتابة، علامات مثيرة للقلق.
وكانت تشعر تجاهي بمسؤولية مزدوجة . نظراً إلى سنها، وإلى كونها مكلفة من طرف أخيها بالسهر على صحتي . فراحت تغريني بمشاهدة التلفزيون، وتحثني على الخروج.
وهكذا قررت ذات عصر أن أخرج، هربًا من النوم والكتابة ، اللّذين يتناوبان عليّ في هذا الوقت بالذّات..
في الواقع، حيث كنت، حالةً من الضّجر الجسدي تنتابني كل ّيوم في توقيت القيلولة. وكيفما كان الطّقس، يطاردني هذا الإحساس حتى مجيء الغروب . ويضعني كل عصر أمام الأسئلة نفسها: ماذا يفعل الناس هذا الوقت بوقتهم.. وأجسادهم؟ وكيف ينفقون هذه الساعات؟ ولماذا؟ في العصر دون أيّ وقت آخر، ذبذبات عالية من الشّهوة تسيطر على تلك الغرف النسائية ، التي تنتقل فيها النساء بثياب البيت.. متكاسلات.. ضجرات؟
ولم يكن الوقت مناسبًا لأعثر على أجوبة لكلّ هذه الأسئلة. فاكتفيت بأن أرتدي أول فستان صادفني،
أذكر أنني اجتزت شارعنا بخطًى كسلى. رحت أتفرّج على تلك البيوت ذات النّوافذ الزرقاء..أو الخضراء، والّتي تعيش قيلولتها بسكينة لم أعهدها.
لاشيء كان يشبه هنا شوارع قسنطينة، المكتظة بالسّيارات والمارّة، وضجيج الحياة. كل شيء هنا جميل ونظيف، ومهندَس بذوق، وكأنه ينتمي إلى مدينة أخرى. أوكأنه وجد خطأً هنا.
ولولا وجود بعض السيارات على جانب رصيفه، ومرور أحدهم وهو عائد من مخبز، أو من ملعب "تينِس" ، لتوقّع المارّ من هنا أنّ لا أحد يسكن هذا الشارع.
فهذا الشارع، يستيقظ وينام بهدوء، وبحضارة لا علاقة لهما بصراخ الباعة والأطفال، ونداء المآذن التي تستيقظ عليها شوارع قسنطينة.
أمام مخبزة فاجئتني رائحة الخبز الطازّج. فدخلت مستسلمة لجوع مفاجىء. اخترت تشكيلة من قطع الحلوى، ورغيفين.
ثمّ تذكرت أنّ مشواري لم ينته . فطلبت من البائع أن يحتفظ لي بها. وواصلت جولتي بحثًا عن بائع الجرائد. حيث رحت أقلّبها بفضول من لم يطالعها منذ أسبوع.
كلّ شيء أصبح فجأة يغريني بالقراءة. وكأنني أستيقض هذا الصّباح لأكتشف العالم.
وأقتنيت مجلّة نسائيّة..وأخرى سياسية. وجرائد بالعربية وأخرى بالفرنسية. ولم أسأل نفسي إن كنت سأطالعها حقّاً. لذّتي كانت في اقتنائها. أنا التي كانت الجرائد تأتيني حتى الآن، مدفوعة ومنتقاة، حسب ذوق زوجي وإهتماماته!
أذكر أنني كنت أطالع إحداها، عندما جاءني من الخلف صوت يقول"دعي الجرائد..لا شيء يستحقّ القراءة هذه الأيام !".
انتفضت ..والتفتُّ خلفي . وكان هو.
تسمّرت مكاني دهشة. تأمّلته غير مصدّقة. فاجأني صمت الارتباك الجميل فبقينا للحظات يتأمّل أحدنا الآخر بوقع المصادفة . أتوقع أنّ حمرةً قد علت وجنتيّ اللتين نسيت أن أضع عليهما حمرة، وأنني تلقائيّاً مددت يدي إلى شعري لأرفع خصلا ته، وأنه تماديًافي إرباكي، لم يخلع نظّاراته. وكأوّل مرة رّاح يتأمّلني.
قال فجأة:
_أعترف بأنني لم أتوقّع وجودك هنا..
قلت وكأنني أعتذر عن هيأتي:
_ولا أنا توقعت شيئًا كهذا..
واصل مبتسماً:
_أما قلت لك تعلّمي أن تثقي بالقدر؟
أجبت وقد استعدت صوتي:
_أذكر ذلك .. ولكن لنقل إنني أعاني أزمة ثقة..
بدا على صاحب المحلّ اهتمام خاص بحوارنا، نظراً إلى عدم وجود زبائن غيرنا. وتفاديًا لمزيد من فضوله، طلبت من محدثي أن يشتري جريدته ونغادر المكان.
ولكنّه ابتسم وقال:
أنا لم آت لأشتري جرائد.
سألته ونحن ننسحب:
_وماذا جئت تفعل إذن؟
قال:
_الآن بإمكاني أن أقول إنني جئت لأراك.. ولكنني جئت لأشتري سجائر لاغير.
ثم أضاف وهو يفتح علبة السجائر:
_أنا أيضًا..لم أعد أثق بشيء.
وأشعل سيجارته الأولى.
مشينا خطوات معًا، دون وجهة محددة، معرضين جنوننا للأنظار ثم توقفنا فجأة مثقلين بحمل الأسئلة.
أمسك فجأة بذراعي، وكأنه يريد أن يوقظني من حلم، كما يوقظ أحدهمىأولئك الذين يمشون أثناء نومهم.
وقال:
_أريد أن أراك..
تكهرب جسدي للمسته..
قلت:
_ولكن..
_ليس لهذه الكلمة من مكان بيننا. يكفي أنها تحيط بنا من كل جانب.
قلت:
لا أدري كيف يمكن أن يتم ذلك..
أخذ مني جريدة كنت أحملها. أخرج من جيبه العلوي قلم رصاص. وخطّ على طرفها رقم هاتف وقال:
_أطلبيني على ها الرقم، سنتفق على التفاصيل..
أخذت الجريدة منه ، وأنا لا أصدق ما يحدث لي. سألته بتلقائية مقصودة:
_ هذا الرقم.. رقم ماذا؟ أقصد هل هو رقم مكتب ام منزل؟
أجاب:
_إنه رقمي
قلت وأنا أستدرجه لمزيد من البوح:
_ولو حدث وردّ أحد على الهاتف.. أطلب منه التحدّث إلى من؟
قال متجاهلاً قصدي:
_لا أحد غيري يرد على الهاتف..
أغلق أمامي في جملة واحدة أي مجال لسؤال آخر ، وخاصة للسّؤال الأهم؛ فهذه المرة أيضًا لن أعرف اسمه..
افترقنا.
أنا بالارتباك نفسه، وهو بذلك الحضور الواثق نفسه. لم يلح لأتصل به في أقر ب وقت. وكأنه كان واثقاً من أن ذلك سيحدث. لم يسألني ما لذي جاء بي إلى هنا.. وإلى متى سأبقى؟ وكأن تلك التفاصيل لا تعنيه تماما, أو كأنه يعرف برنامجي كاملاً!
قال فقط:
- شهية أنت اليوم..
ثم أضاف ونظراته تتدحرج على ثوبي الأسود نفسه.
- أحبك في هذا الثوب..
ثم واصل بعد شيء من الصمت:
- وأحسده!
افترقنا دون وداع كما التقينا دون سلام. فهكذا تحدث الأشياء معه دائما.
لم يحاول أحدنا أن يستبقي الآخر, بكلمة إضافية, أو بنظرة. كان لنا إحساس مشترك بأننا على موعد أجمل.
وأعترف بأنني كنت أتمنى لو انه بقي أكثر, لو أنه قال لي أشياء اكثر. ولكنني تقبلت ذلك اللقاء, كما جاء. مدهشاً.. مباغتًا.. موجزًا.
لقاء في عمر سيجارة, أشعلها ونحن نلتقي, وأطفأها, وهو يسحقها أرضًا بحركة من قدمه قائلاً "أحسده!" ومضى.
هذا الرجل الذي يحسد فستاني الأبسط, ويباغتني بكلمة لم أتوقعها, تراه يعني ما يقول؟ أم أن مصادفة ارتدائي هذا الثوب نفسه, تثير فيه كل هذه الرغبة متوقعا أنني ارتديته لأستدرج القدر.
طبعًا, ليس هذا صحيحًا. ولو كان كذلك لتحضرت لهذا اللقاء بطريقة أفضل.
مدهش الحبّ. يأتي دائماً بغتة, في المكان واللحظة اللذين نتوقعهما الاقل, حتى إننا قلّما نستقبله في هيأة تليق به.
وأصدق تمامًا مصممة الأزياء "شانيل" التي كانت تنصح المرأة بأن تغادر كلّ يوم بيتها وهي في كل أناقتها, وكأنها ستلتقي ذلك اليوم بالرجل الذي سيغير حياتها, لأن ذلك سيحدث حتما في يوم تكون قد أهملت فيه هيأتها!
أهو الحب؟ كلمة منه فقط, وإذا بي امرأة لا تشبه الأخرى. تلك التي غادرت البيت بثوب عاديّ.. بأظافر غير مطلية.. وملامح مرهقة.
أعود إلى البيت أجمل, وإذا بالحياة أيضًا جميلة وشهية.
والأجمل أنها مدهشة دائمًا. في كلّ منعطف لشارع يمكن لحياتك أن تتغير. يمكن أن يقع لك حادث، ويمكن أيضًا أن تلتقي برجل يحدث فيك زلزالاً جميلاً!
في البيت وجدت فريدة جالسة أمام التلفزيون, وكأنها لم تقض حياتها امامه, لتشاهد المسلسلات الساذجة نفسها, أو كأنه لا ينتظرها في قسنطينة.
أشفقت عليها من غبائها.
كيف أشرح لها أن الإنسان، لا بد أن يعيش بملء رئتيه، بملء حواسه إحساسه, كلّ الأشياء التي يصادفها والتي لن تتكرر.
كيف أقنعها بأن تحب الأشياء التي لن تراها سوى مرة واحدة, لا تلك التي تراها على جهاز التلفزيون كلّ يوم.
كنت أشعر برغبة في أن أنقل إليها عدوى سعادتي, وشهيتي للحياة. ولكنها كانت امرأة محدودة الاحلام, محدودة الذكاء. فوجدت في سذاجتها نعمتي. فهي على الأقل لن تنتبه لما يحلّ بي.
رفعت رأسها عن الشاشة لتسألني, إن كنت فكرت في إحضار الخبز.
أجبتها بشهقة الدهشة, أنني نسيته عند الخباز.
فكّرت وأنا أنصرف نحو غرفتي لأغير ثيابي, أنني دخلت رسميّا مرحلة الحماقات الجميلة. وأنني إذا كنت قد نسيت حلويات قضيت نصف ساعة في اختيارها, فمن المتوقع أن أنسى بعد الآن أشياء أخرى، وأقيم في كوكب آخر، لا علاقة له بتفاصيل "عالمي الأرضي".
ما كدت أغير ثيابي حتى حملت جرائدي وذهبت نحو الحديقة, لا بنية مطالعتها, إنما بنية أن أخلو بنفسي لأتصفح قصتي مع هذا الرجل الذي طاردته لاهثة في شوارع قسنطينة.. وعندما يئست من أمره وسافرت, وجدته قد سبقني إلى هنا.
عجيبة هي الحياة بمنطقها المعاكس. أنت تركض خلف الأشياء لاهثاً، فتهرب الأشياء منك. وما تكاد تجلس وتقنع نفسك بأنها لا تستحق كل هذا الركض، حتى تأتيك هي لاهثة. وعندها لا تدري أيجب أن تدير لها ظهرك أم تفتح لها ذراعيك، وتتلقى هذه الهبة التي رمتها السماء إليك، والتي قد تكون فيها سعادتك، أو هلاكك؟
ذلك أنك لا يمكن ان لا تتذكر كل مرة تلك المقولة الجميلة لأوسكار وايلد "ثمة مصيبتان في الحياة: الأولى أن لا تحصل على ما تريده.. والثانية أن تحصل عليه!".
أتساءل، أي المصيبتين تراه هذا الرجل؟ وماذا لو عاد ليكون مصيبتي الثانية, بعدما كان مصيبتي الأولى؟
أتفقد الجريدة التي خطّ لي عليها رقم هاتفه، بقلم الرصاص.
أحاول أن أستشف قدري معه من تلك الأرقام. تخيفني الأصفار الكثيرة. ولكن باقي الأرقام تطمئنني فأنا أحب الأرقام الثلاثية الجذور.. أشعر أنها تشبهني. ولكن لا أمنع نفسي من التساؤل لماذا خطها بقلم الرصاص؟ ألأن الرسامين يكتبون عادة بقلم الرصاص؟
أم لأن الأشياء معه قابلة لأن تمحى في أية لحظة؟ أم لأنه زمن الرصاص لا غير, الرصاص الذي يكتب قصة ويلغي أخرى. الدليل أن رقم هاتفه جاء مكتوبا على هامش صغير للبياض، في الصفحة الأولى لجريدة تغطيها أخبار الفجائع الوطنية.. والقومية.
لماذا يأتي حبه محاذيا لمآسي الوطن، وكانه لم يبق للحب في حياتنا، سوى الماحة الصغيرة التي تكاد لا ترى على صفحة ايامنا. ألم يعد هناك من مكان لحب طبيعي وسعيد في هذا البلد؟
الفرح يسكنني. وجرائد الحزن تتربص بي ملقاة على طاولة الحديقة. قبل ان اتصفحها أندم على إحضارها. أتذكر ذلك الذي كان يقول "لم يحدث أن اشتريت جريدة عربية إلا وندمت على اقتنائي لها..".
أستعجل قلب صفحاتها. أخاف أن تغير أخبارها مزاجي. ولكن بعض عناوينها الكبرى تستوقفني وتستدرجني إلى قراءتها جميعها من باب المازوشية!
أن تشتري جريدة عربية ذات حزيران من سنة 1991 لتقرأ طالع هذه الأمة، فأنت تعرض نفسك لذبحة قلبية.
أما أن تشتري جريدة جزائرية في ذلك التاريخ نفسه, تجمع صفحتها الأولى بين خيباتك الوطنية والقومية فذلك ضرب من المجازفة بعقلك.
قبل أن تفتح الجريدة, يهجم عليك الوطن بعناوينه الكبرى، "السلطات العسكرية تعلّق حظر التجوّل إلى ما بعد عيد الأضحى" "اعتقال 469 شخصا خلال الأيام الثلاثة الماضية" "جبهة الانقاذ تعلن العصيان المدني، وبدء الإضراب والاعتصام المفتوح" "حضور عسكري مكثف حول المباني الرسمية والمساجد" "عملية للإستيلاء على الباصات التابعة للنقل الحضريّ استعدادا لمسيرة ضخمة على العاصمة".
تهرب إلى أسفل الصفحة فتنتظرك أوطان اخرى, كنت تعتقد أنها أوطانك. فهكذا أكد لك منذ طفولتك شاعر على قدر كبير من السذاجة، مات وهو ينشد "بلاد العرب أوطاني.." وهو لم يعد هنا اليوم ليقرأ معك عناوين جريدة عربية بتاريخ 15 حزيران 1991 "استمرار محاصرة مخيمي "الميه وميه" و "عين الحلوة" الفلسطينيين من طرف الجيش اللبناني" "العراق يقوم باعتقال عشرات المصريين وتعذيبهم"، "الإعدامات مستمرة في الكويت في حق الرعايا العرب"، "انفراد الشركات الأمريكية بإعادة اعمار الكويت"، "إسقاط ديون مصر".
والخبر السعيد في كلّ هذا، ليس الأخير. وإنما ستجده في صفحة داخلية بخط كبير. "إقدام الديوان الجزائري للحوم بمناسبة عيد الأضحى على استيراد 220 ألف رأس غنم من استراليا, وصلت معظمها سالمة". وسالمة تعني فقط أنها مازالت على قيد الحياة. رغم قضائها شهرا في البحر مكدسة في باخرة وأن معظمها لا ينتظر سوى رحمة الذبح صباح العيد, تماما كما ينتظر الجزائريين منذ أشهر، متزاحمين مكدسين بالعشرات امام سفارة استراليا، رحمة الحصول على تأشيرة الهروب إلى بلد، تقول إشاعة كاذبة إنه يبحث عن يد عاملة!
وتماشيا مع حدث وصول هذه الباخرة, بحمولتها المباركة من الأكباش, خصصت الجريدة صفحة كاملة, يتجادل فيها البعض ويجتهدون لحل الإشكال الديني الذي طرحته أذيال الأغنام الأسترالية المبتورة، التي لا تشبه ما تعوده الجزائريون من أغنام ذات ألية سمينة.
وهل تجوز التضحية بها؟ لينتهي بهم الأمر إلى فتوى تقول "إن بتر الذنب كله أو جزء منه، بمقدار الثلثين، يعد عيبا في الأضحية، سواء بتر الذنب كله أو بعضه، خلقة أو بعد خلقة" وليصبح السؤال بعد ذلك "ماذا نفعل إذن بالأغنام؟ وبماذا نضحي صباح العيد؟".
في الواقع، الإشكــــــال الحقيقي لم يكن في أذناب الأغنام الأسترالية، التي شغلت عامتنا وفقهائنا لأيام، وإنما في تلك الأكباش البشرية المكدسة أمام سفارة أستراليا، وفي سؤال كبير ومخيف:
كيف.. وقد كنا شعباً يصدر إلى العالم الثورة والأحلام, أصبحنا نصدّر البشر، ونستورد الأغنام؟
* * *