كاتب الموضوع :
dali2000
المنتدى :
القصص المكتمله
________________________________________
(15)
ماذا عن القطع الصغيرة من الذكريات التي تخدش جدران القلب؟
كانت رحلته في الطائرة - و الجو ممتلأ بالغيوم – مليئة بالأفكار، و لا زالت الأفكار ذاتها تستوطن رأسه و هو يسير في طرقات لندن. كان الجو رمادياً، كما يقولون، لندن هي مدينة الضباب و قد لا تكون أفضل المدن الأروربية على الاطلاق، لكنها تحمل في ذاكرته بعض الصور السعيدة عندما زارها مع والديّه و خالته و عبير الصغيرة بهدف رؤية عقار العم خالد. يداه تستريحان في جيوب معطفه، و اللفافة الصوفية الخفيفة تطوق عنقه بحنان، جلس على كرسي قديم يطالع الوجوه التي تمر و كفاه متلاصقتان تبحثان عن الدفئ.
طلال ...
لم أصفه كرجل، لأنني أريد أن أترفع فيه عن قصص الحب في الرجال المتألمين، و أحاول الغوص في القصص الانسانية لرجل موجود في كل بيت و كل حياة. رجل ربما تريد صفحات قصص الحب التهامه، لكنه أنقى من ذلك، نعم أريده أنقى من ذلك بكثير و ليتكم ترونه أنقى من ذلك. رجلٍ يتنفس هواءً غير ملوث بإثم الحب، و لا سوء النوايا، رجل فقط يعرف أنه ابن، أخ، مسئول. رجلٌ يجاهد على الحفاظ بكرامته و إن انزلقت بهشاشة عاطفة مرةٍ أو اثنتين. رجل غير كامل الأوصاف، له سيئاته و له حسناته. رجلٍ على رغم سنينه التسعة و العشرين، لا يزال يحتاج إلى حضن أمه، ذراع أبيه، عطف خالته، شقاوة أخته. من يحدد أن الرجل عندما يكبر يفقد حاجاته الطفولية، هل أصحبت أحقية الاحتفاظ بالطفولة للنساء و حسب؟! بعض الذكريات تلوح أمام عيونه عندما أعادت إليه مدينة الضباب، صور أمه و أبيه و خالته و عبير التي لا تنفك عن تناول الحلويات.
أمه ... التي لم أكتبها كثيراً من خوف غرس الألم في قلبي ربما، خسارة الأم كبيرة، و قد لا يحتملها قلبي، و لم أرد منها حزناً في قلوبكم، لكن اليوم .. لا بأس ببعض الذكريات عن الخالة فاطمة.. أليس كذلك؟
تلك الحنونة التي تطبخ و تكنس و تغسل و تسهر.. تلك التي كتب عنها المؤلفون الكثير من القصائد و التي درسها طلال في الصفوف الابتدائية .. عندما كانت ينشد ((ماما ماما .. يا أنغاما .. تملأ قلبي .. بندى الحُب)) بالقرب منها و هي تغسل الثياب و تعلقها بابتسامة على ولدها الذي لا ينفك عن سحب طرف ردائها .. كثيراً .. كثيراً .. يتساءل طلال عما فعله لأمه .. و ما لم يستطع أن يفعله عندما خطفها الموت؟ عندما لامس الوتر المنقطع في قلبه عند العيد الخامس عشر، كانت مرحلة التمرد، و الخروج من المنزل إلى نشاطات متفرعة بين كرة قدم، و زيارة المطاعم الصغيرة و سهر مع أصحاب الـ(فريج). كان تأخره الكثير يسبب القلق لوالدته التي لا تنفك عن شغل كرسي الصالة – و الذي يواجه نافذة الحديقة و باب المنزل الخارجي بالتحديد- قلقاً و خوفاً. و عندما يعود يجدها جالسة بعتب على تأخره، يحتدم الصراخ...
- أنا كبير الآن! لماذا لا أفعل مثل باقي رفاقي؟؟!!!
يتركها في منتصف الدهشة، كبر صغيرها، كبر كثيراً و بدأ يفكر باستقلالية قد تضيع مستقبله. دمعة على وجنة أمه لم يعرف ثمنها إلا اليوم. كم يشتاق إلى تلصصها من شق الباب عليه و هو نائم، صوت قدمها على عتبة الدرجة العشرون بالتحديد، و التي تصدر صوتاً مميزاً يعرف أنه قدم أمه. لو عادت الأيام، قطعاً قبّل قدميها التي طالما قادتها إلى غرفته لتسمع صوت تنفسه المميز و الممتزج مع قرقعة صوت المكيف. أبداً لا تعرف مقدار ما لديك، إلا عندما تخسره للأبد! فقدتكِ أماه .. المراهق الطائش و الرجل الـ(ناهز الثلاثين) يحتاجكِ اليوم. ليرحمكِ الله .. و يرحمنا أجمعين برحمته ... رمش بعينيه بسرعة كي لا تسقط الدمعة المتكاسلة، و لم تسقط.
نهض من على الكرسي و بدأ بالمشي، و رأسه للأسفل ينظر إلى خطواته الكبيرة و حذائه المتسخ قليلاً ليعود منظر والده إليه و هو يحمل ملابسه كل صباح إلى الغسيل. رفع رأسه، و تباطأت خطواته ليقف مستنداً على محل مغلق.
أبوه .. سيطر الألم على قلبه و هو يتذكر منظر والده عندما بدأ الوداع و ذراعه السليمة تسبح في الهواء لتمتد إليه بآخر احتضان يبلل القماش على الأكتاف بأنبل الدموع، دموع والده التي ذُرفت كثيراً في الآونة الأخيرة، فيصبح منظر عجزه عاطفياً هكذا كمسمار يدق نفسه في الصدر بألم. إلا دموعهـ .. إلا دموعهـ ! كان منظراً مؤثراً لحد جلب دموع الجميع، بما فيهم الممرضة التي لا تفهم العربية، و التي وظفها طلال قبل رحيله لتراعي والده في غياب عبير و جواهر. التجعيدة الحزينة عند طرف عينه كانت تبتسم بشوق و فخر، الابن الكبير، الذي أضاع الكثير من وقته، يذهب في أولى خطواته لدراسة أكبر .. و إن كانت مجرد دورة يحضرها، كان قراره بأن يستمر بالدراسة شيئاً لا يوصف في قلب العم عبدالله... ذلك الاحساس الذي لا يعرفه إلا الأب.. الذي حمل طفلاً شقياً من مشاجرات عرضية إلى رجل مسئول يصنع مستقبلاً أفضل... لا شئ أغلى عند العم عبدالله من أن يرى أبناءه أصحاء .. أقوياء .. متعلمين .. سعيدين ... هانئين ... و من الهناء .. تأتي ضحكات عبيرية
أخته ... لم تجبره ضحكات أحد على الضحك .. سوى ضحكة واحدة .. من فتاة سمينة لذيذة الطفولة في الملامح... دوماًَ هادئة .. دوماً صامتة .. دوماً خجولة .. دوماً حاضرة .. دوماً معاونة .. دوماً لا تخبر من حولها ما يعتمر قلبها من مشاكل .. دوماً كانت المصلحة .. حتى في أيام جواهر الصغيرة عندما كانت تنعت عبير بالسخافة في لعب الباربي من وراء ظهر عبير و أمام العم عبدالله و الخالة فاطمة، لتبقى عبير محبةً لها على اختلاف الظروف.. كانت تغيظه جواهر لأنه لا يحتمل أن يجرح أخته أحد .. و لكنها كانت دوماً تطفأ الغضب قبل أن يصل إلى قمة الاشتعال، كانت دوماً تدافع عن جواهر لأنها يتيمة الأم، و والدها منشغل بأعماله و سهره و هي تريد أن تلعب دور الأخت الكبيرة الحنونة.
جواهر ... منها تعلم أن الأشياء المستحيلة قد تتغير في يوم... النحلة كما كان يسميها عندما تبدأ المغايضة الطفولية ...
- أنتِ كما النحلة الصفراء التي تلسع و تؤذي!
لتقف حائرة بفم وردي مفتوح مدهوش فيما قاله بعربية تتفوق كثيراً على عربيتها المتكسرة لتقول بطفولة تجرح من يسمعها:
- أنت غبية (في الكلمات الصغيرة التي لم تعرفها لا ذكراً و لا أنثى، كان طلال يبدأ معاركه معها)
- نحلة صفراء تلسع و تؤذي و لا تعرف أن تتحدث مثلنا! (لتبدأ نوبة بكائها التي أسقمته أنذاك)
رأسها الأشقر كان يسلط الأفكار السيئة في رأسه سابقاً ، لكن عندما تجلس عند ركبة والده تدخل الطعام في فمه و تمسح ما ينساب منه مستمتعة بالجلوس أرضاً عند قدميه كعبير تماماً كانت مختلفة عن الرأس الأشقر الشقي، ربما لأنه رأس أشقر تحت قطعة من الحجاب. تتألم من ركبتيها المتيبستان من قسوة الأرض و هي تتوجه إلى المطبخ لغسل الصحون ببسالة قبل قدوم عبير من المدرسة ... حباً في اراحة كاهل عبير من أعباء يوم عملٍ شاق، و إشقاءً للصحون المسكينة و المطبخ الباكي! نعم الأشخاص يتغيرون في لحظات حرجة .. قوية .. أكبر من تفاهة الانتقام و الحقد ..
الحقد .. الحقد و فاطمة؟ ليس اليوم يا طلال .. انتهت فصول فاطمة من حياتكِ و إن أحببتها بصدق .. تبقى مساحات الشك في داخلها لا تنتهي... هل سيحدث ظرفٌ ما يغير فاطمة يا ترى؟ قُلنا ليس اليوم يا طلال ... أتركها للأيام و راوية .. أتركها للأيام ... أتركها...
رن هاتفه ... و ابتسم
- أهلاً عبير
- ... أنـ...
- أهلاً جواهر، و كأنكِ عرفتِ أنكِ على بالي
- أنا؟
- (تدارك سوء الفهم) تذكرت فشلكِ الذريع في غسيل الصحون ليس إلا (و ابتسم بخبث)
- أنا فاشلة في غسيل الصحون؟ حسنا!!! تمتع في غسل صحونك! لن أخبرك بالمستحضر الذي يداوي التشققات و لن أخبرك أيضاً بنوع الصابون الذي ... (قاطعها)
- كفى كفى كفى ... انتهى ... أخبريني .. كيف حال الجميع؟
- لسانك السليط يفقدني التركيز! الجميع بخير
- هل بكم شي؟
- لا لا .. الكل بخير ... اتصلت لأسألك عن بعض الاشياء عن الجامعة التي تقصدها.. RCA
- لماذا؟
- (و هي تمط شفتيها بملل) من غير رمزي ليعذبني في الأرض؟
- ههههه! ما هذا الكلام؟ صدقيني لم تعرفي كيف تكسبين هذا الاستاذ .. إنه رجلٌ رائع. كيف تسير مسرحيته المشتركة مع مدْرسة عبير
- بخير على ما أظن، لا أزور المسرح كثيراً
- لماذا؟
(لأنها هناك، صديقتي الباردة و البعيدة، و التي أهملت عهد تسجيل المواد الدراسية معي على الدوام، لأنها تحضر المسرحية و تجلس و تناقش و تتفوق، و أنا لا أستطيع أن أتواجد معها في ذات المكان لألقي التحيات الباردة. لأن صديقتي التي شاطرتها أسراري هناك ، و أنا لا أستطيع أن أكون قربها بدون أن أشعر بالألم مرة، و بالغثيان مرةً أخرى. اقتنت لها مجموعة جديدة من الصديقات و ابتعدت عني بلا مبرر، و كأن الوقت الذي أمضيناه لا شئ... ربما كان لها لا شئ... و أنا تعلمت الدرس. لن أقترب من أحد، لا أحد بعد اليوم، الصداقات الحقيقية ليست لأمثالي، الذين ينتمون بنصفهم إلى مجتمع شرقي، و بالآخر إلى تحرر غربي. لن أعود للوم والدي، فهو ميت اليوم، و لن أعود إلى شتم أمي، فهي أيضاً ميتة اليوم. أملك في هذه الدنيا الآن، عمي و عبير و ...)
- جواهر؟ أين أنت؟؟
- آسفة لم أركز .. حسناً .. أخبرني عن الجامعة ...
- حسناً، ماذا تريدين أن تعرفي..
- أخبرني عن هذا المعرض الصيفي الذي تزوره ..
- حسناً .. المعرض الصيفي ...........
****
- عبير، لحظة أريد الحديث معكِ!
في لهجته اليوم شئ غريب، ربما لأنها تحاشته طوال الوقت من بعد آخر مسرحية درامية مع الآنسة العتيدة جولي الكوبرا!!
- لدي درس غسان
- ليس لديك درس!
صمتت، كذبتها غبية، لأنه وقت فراغها الذي كانت تعمل فيه مع الطلاب في المسرحية!
- أفهم من كلامك هذا أنكِ لا تريدين الحديث معي؟
- ليس هكذا
- إذاً؟
- لا أريد الحديث في ..
- بالذات هذا الموضوع يحتاج إلى نقاش.. كيف ترمين كل الجهد عرض الحائط لكلام جولي
- و لماذا أقبل بوضع شاذ بالأساس؟
- وضع شاذ؟ وضحي
- قلت لا أريد الحديث في هذا الموضوع غسان، عن إذنك
اعترض طريقها بأدب
- كلا عبير، لابد من توضيح الأمور
- رجاءً غسان، لست بمزاج للحديث عن المسرحية و ..
- ليس هؤلاء من أريد أن أناقشهم في الموضوع
- ههه! (و تخيلت أن غسان لا يريد بجولي سوءً)
- لماذا ضحكت هكذا؟
- هكذا كيف؟
- هكذا كأنني قلت نكتة؟ تسخرين مني يا عبير؟
- ماذا؟ أنا؟
- لقد تغيرتِ عبير
- .................!!!!!!!
- فعلاً.. قبلاً لم تهمك لا جولي و لا مايكل و لا أحد
- صمتي لم يعني أنني لم أكن أهتم.. ثم ألا تفهم يا غسان.. لا أحب أن يتدخل أحد في أموري
- أعلم أنكِ تقصدينني.. لكن لم تكوني أنتِ سبب رحيل مايكل
- ماذا تعني؟
- عبير.. هل أستطيع أن أئتمنكِ على سر؟
- بالطبع (ابتلعت ريقها و هي تحس بخوف شديد)
- لنذهب لغرفة القهوة، لا أريد أن يسمع ما سأخبركِ به أحد
- حسناً
تبكي كل يوم في الساعة السادسة صباحاً، قبل موعد ذهابها إلى المدرسة. توقف منبه ساعتها عن الصياح المزعج منذ فترة و تحولت الأشياء من حولها مخيفة كأنما هي تريد أن تبتلع كل لحظة كانت لها في المدرسة ... غرفة لا ترى النور بالمسرح الصامت إلا من بكاء خافت خائف . ... ربما لم تملك وسيلة للدفاع عن نفسها، بإعاقتها التي تعرقل مشيها و بتخدر أُدخل في جسدها بخبث و خلسة ؟؟! ماذا بعد الاغتصاب يا (راحيل)؟
________________________________________
(16) المشهد الأول
- و لكن دكتور ...
- من غير لكن! هذا ليس بحثكِ يا جواهر! فقط نسخ و لصق!
- و كيف لك أن تعرف أنه نسخ و لصق! لقد أخذت كل المعلومات من ابن عمي!
- و إن يكن .. بحثك لا يستحق أكثر من هذه الدرجة
- و بهذه الدرجة لن أستطيع أن أضمن درجة النجاح في هذه المادة
- إذاًَ عليك الاجتهاد
- ماذا؟؟؟؟؟؟؟ بحثي هذا اجتهاد.. و أنت ترمي به عرض الحائط
- جواهر.. لا تنسي أنني أستاذك .. و إن كنت قد طولت بالي مثلما تقولون .. يفترض بك أن تحمدي ربك على درجتك
- و لكنني عملت بجهد ... كيف تريدني ...
- و لا كلمة أخرى .. أخرجي من مكتبي الآن!
عيناها مفتوحان، خرجت من مكتبه لتتقابل وجهاً بوجه سمية. تغضنت جبهتها بتجعيدة عتب، و سمية تتحاشى نظراتها لتدخل إلى مكتب الدكتور رمزي و بيدها ورقة تبدو أنها ورقة البحث الأخير. استمعت إلى هتافات الدكتور رمزي المادحة أسلوبها الشيق في البحث و الذي أشاد به جداً. تحركت شوكة صغيرة في قلبها، أتقصده لمزيد من الدرجات بعد هذا المدح؟! تألمت جداً و هي تنظر إلى ورقة بحثها و التي تناثرت عليها الخطوط الحمراء الكبيرة و الصغيرة بخط الدكتور رمزي,, تألمت جداً لفكرة أن سمية أصبحت من أولئك الذين يريدون المزيد من الدرجات و المزيد و المزيد! كلمات سمية خافتة بينما الدكتور يشجعها للمزيد و المزيد من الاجتهاد و التحصيل و يضيف إليها درجةً قد نسي أن يجمعها ,, هكذا إذاً يا سمية .. هكذا إذاً .. خرجت سمية بابتسامة سرعان ما تيبست لمنظر جواهر الحانق.
- كم تغيرتِ يا سمية (همستها بألم)
لم تنبس سمية بأي كلمة، و سارت بطريقها و كأن جواهر لا شئ، تألمت جواهر أكثر لهذه الحركة التي تعتبرها من الـ لا أشياء، فذهبت خلفها و قلبها يدق بغضب و عتب و شئ لا تفهمه، كانت غاضبةً جداً منها، غاضبة جداً و لا تعرف كيف تريح هذا الذي يمزق أوصال قلبها و ينهش روحها و يفقدها صوابها، هذه الالتفافات الصغيرة، و هذه الحركات .. مؤلمة ..
- منافقة!!!
تحولت نظرات سمية إلى جواهر، و الجميع في ذلك الممر ينظرون إلى جواهر الممتلئة بالغضب و الدموع تزيد من زرقة عيونها.
- وصولية و كاذبة!
فغرت سمية فمها بدهشة لكل الغضب المنطلق من جواهر، و تألمت لأنها عانت بما فيه الكفاية من الضرب و الاهانات من أجلها على يد والدها و والدتها، لتأتي الآن جواهر بذاتها و تهينها أمام طلبة الجامعة.
- كيف تقولين هذا يا جواهر .. لي أنا !
- لكِ أنتِ بالذات! أمثالك يستغلون الصداقة! أخبريني.. هل كانت صداقتي لاكسابك لغة ً مثلاً (تدحرجت دمعة على وجنة سمية) أم كانت لممارسة دور الطيبة و الحنونة و المنقذة أمام صديقاتك العتيدات الجُدد؟ (سمية تهز رأسها بالنفي و الدموع) ماذا .. تبكين؟؟ عطف من تستجدين؟ أخبريني .. أهي لمياء (و تشير إلى أحدى صديقاتها الجُدد) أم صفاء (صديقة جديدة أخرى) .. هلـ... (قاطعتها صفاء)
- صوني لسانكِ .. أفهمت؟!
- نطق محامي الدفاع!
- ايتها الحقودة! اسكتي !!
سمية لا تنفك على البكاء و الجميع يشاهد المشادة بين صفاء و جواهر، حتى تشابكت أيديهن بدفعات بسيطة تحولت إلى دفعات أقوى ألقت بجواهر على الأرض، و أوقف الشجار قبل أن يبدأ بالدكتور رمزي.
- هذه جامعة و ليست حلبة ملاكمة.. أنتِ و هي على مكتب الأمن!
****
- إذاً لم يرحلوا؟؟؟
- كلا
- و .. و (تتنفس بصعوبة)
- المدرسة تتستر على الأمر، لكنني أعمد إلى أن أكتشف لماذا رحلت بعد البروفة الأخيرة
- يا إلهي .. يا إلهي !! (تدحرجت دمعة مجنونة على وجنتها)
- عبير إهدئي ..
- و جولي .. كيف .. هل أخبــ... (قاطعها)
- لا أدري كيف علمت ،، و لم أرد منها أن تقول المزيد أمام الطلبة
- آه راحيل!
- عبير ،، اهدئي ،، سأعرف ماذا حدث و إن كان على حساب فصلي من المدرسة!
- الحقير !! الدنئ!!
- عبير....
- نعم نعم ،، أحاول ،، لكنني لا أستطيع! كيف سولت له نفسه أن .. أن .. (أكلت شفاها بغصة ألم) طفلة هي يا غسان ،، طفلة أتفهم ! و وضعها يزيد الأمر سوءً !! لا أستطيع إلا أن أتخيل ماذا حدث .. و هي بلا قوة .. و بلا حول !
- أعدك عبير ،، سأعرف المزيد .. من بعد أن تيقنت أن أهلها لم يسافروا كما أخبرتنا المدرسة .. لا أدري لماذا يلزمون الصمت إذا حدث ما حدث
- فعلاً .. فعلاً .. لماذا لم يتقدم أهلها بشكوى ضد المدرسة؟
- هذا ما يحيرني ،، اكتفوا بترحيل الخسيس بحجة أن عقده مع المدرسة سينتهي و أنه لم يؤدي واجبه كما يجب
- ليته أمامي! لقطعته ! قتلتهَ!!!!!!!!
- عبيــر ،، اهدئي
- لا أستطيع غسان (تتنفس بقوة) لا أستطيع سوى التفكير بوجهها و .. (شهقت) و .. كيف .. (نظرت إليه بعيون تملئوها الدموع) كيف .. كيف يفعل ذلك بطفلة معاقة !! كيف يوجد أناس بهذه القذارة ؟
- يصعب على من بطهارة روحك أن يفهم ،، لكنها الحقيقة ،، رأيتها بعيني طفلاً و شاباً ،، (خفت صوته بالتدريج ليعود إلى بقعة سوداء في الماضي) الكلاب تأكل أولادها حتى ،، و الدود يأبى أن يأكل أمثالهم للنتانة .. (توقف قليلاً و أفكاره أبعد ما تكون عن المدرسة.. كان قد عاد إلى أيام الحروب و الانتهاكات التي لا حد منها ... !
***
يجادلها بالعربية و هي تحاول أن تلتقط من بين كلمة و أخرى ما قال..
- كو برنغ ماي سبحة ..
- What ؟
و يحرك أصابعه الثلاثة بيده السليمة دلالة على سبحته الزرقاء التي لازمت كفه طوال أيام الشلل، يضحك تارة على الممرضة، و يفقد أعصابه مرة أخرى ،، إلى أن وصل الاعصار الأزرق بالأمطار متوجهاً إلى مكانٍ ما في الأعلى ،، برودة الرخام تلامس قدميها و تطفأ خطواتها و هي تنحني إلى الأمام بألم
- جــ....ـــواهر
صوته يناديها ،، ليس الآن يا عمي ،، ليس الآن ،، ماذا أقول لك؟ فصلت من الجامعة و بحثي يشارف على درجة رسوب؟ ماذا أقول لك؟ صديقتي لم تدافع عني و لزمت الصمت و دموعاً كاذبة على حالها من الاحراج ،، ماذا أقول لك؟ على الرغم من الساعات الطويلة من ارشاد طلال،، لم يمنحني الأحمق رمزي درجتي التي أستحق كونه يظن أنني لم أعد البحث بنفسي؟!! ماذا أقول يا عمي ...
على الاستراحة الصغيرة بالدرج و البعيدة عن مرأى العم عبدالله ،، جلست و أصابعها تحكم اغلاق صوت النحيب المرتعش ،، إلى أن رن هاتفها بمكالمة خارجية ... اصمتت صوت الرنين و الشاشة لا زالت تضئ باتصاله ,,, ليس الآن يا طلال ،، لا لم أحصل على الدرجة العالية و لا على التقدير من الأحمق رمزي كما قلت ! فعلت كل شئ .. كل شئ يا طلال و لم افلح .. و الآن أنا مفصولة ،، و لا أدري كيف أستطيع أن أدرس من غير محاضرات المراجعة المهمة ،، توقف رنين الهاتف ،، ليحل نص في صندوق الوارد ،، فتحته
Wsss up cousin?
Let me know what ramzi said
I know u did a good job
I can smell it.. LOL
Send my regards to dad and 3beer
Call me or text me
I need some good news.. JEWEL : P
الوجه الأخير باللسان المشاغب و اسم Jewel الذي أصبح فن اغاضة طفولية ، فجرا صمام الأمان،، أشتاق إليك طلال ،، كثيراً ،، كثيراً ،، و احتضنت وجهها الباكي بصمت ،،
<<< يتبع
(16) المشهد الثاني
- أريد أن أحدثها
- هي نائمة ،، اتصلي فيما بعد
و أغلقت الهاتف بعنف في وجه كاميل التي أصابها الخوف لاختفاء راحيل لأكثر من أسبوعين ،، على الطرف الآخر ،، توجهت إلى غرفتها و نظرت من خلال فتحة الباب إليها و هي متكورة حول نفسها بهدوء.. كانت راحيل تملك قدرة غريبة في البقاء هادئة من الخارج على الرغم من كل الأشياء التي تمزقها من الداخل ..
- صغيرتي
رفعت رأسها إلى أمها و هي تحدق فيها بهدوء أخاف الأم التي تركها زوجها من بعد ولادة راحيل
- هيّا نأكل
ابتسمت راحيل بخفة و نزعت غطاء السرير لتجلس أمها بقربها و على حضنها صينية الطعام التي حوت القليل من دموع الأم المتناثرة بلا قوة منها ،، بصوت أقرب إلى صوت عصفورة وليدة
- لا تبكي ماما
- لا أبكي حبيبتي (تُكذب وجهها بابتسامة وسط الدموع)
- أنا بخير ماما ،، لا تقلقي
هزت الأم رأسها ،، قد تكون بخير ،، و لكن ليس تماماً ،، فهي لا تتكلم عن الموضوع ،، و لا تريد أن تبحث في الموضوع مع أحد ،، و لا تريد أن تستعين بوالدها الذي نسيها من بعد ولادتها ،، لا تريد إلا أن تكون هي و أمها ،، معاً إلى الأبد ،، فتحت فمها و هي تبتسم ابتسامة صفراء
- هيّا ،، دلليني
و أدخلت الأم أول اللقم في فم راحيل، الذي تذكرت مشهداً من مسرحية الأستاذ غسان ،، للأسف لن تكون هناك ،، و لن تشارك الأستاذة عبير فرحة التخرج هذه السنة ،، و كاميل ،، و .. و ,, توقفت اللقمة في حلقها بلا ادراك لتغص بها ،، و تسعفها أمها بالماء و التربيت على الظهر ،، كانت الأم الوحيدة هذه لا تملك من الحياة إلا راحيل ،، بعمل متواضع جداً تؤمن لراحيل دراسة جيدة و علاجاً لقدمها العليلة و لا تستطيع توكيل محامي ليدافع عن الضرر النفسي الذي ألم بابنتها،، راحيل نور عيونها ،، بلسم روحها ،، شفائها من كل هم ألم بها من بعد رحيل والدها المريب لزواج يضمن له أبناء أصحاء ،، تركهما في الخلف ،، و بقيت الآمال تلوح للأم في ابنتها الجميلة روحاً و قلباً ،، كلا ليس كل أب أب،، و ليست كل أم أم ،، ربما تعويض المدرسة و تسريح مايكل و عدم رغبة راحيل في خوض محاكمات ،، جعلا الأم تتراجع عن غضبها // حلت الرحمة بهذه الأم عندما وجدوا ابنتها في الوقت المناسب قبل أن يكمل ما أراد الحقير فعله ،، نعم عاشتها اللحظة ،، لكنه لم يتمكن منها في آخر لحظة عندما انكشف أمام أحدهم ,,,, كلا ،، لستُ بتلك القسوة يا راحيل لأحرمك من أغلى ما تملكين على يد حقير مثل مايكل،، الحيوان الذي لا يفرق بين طفلة أو امرأة ،، ربما دس بعض الأشياء في طعامك ،، خدركِ و سحبكِ إلى الغرفة المنزوية في المسرح بعد رحيل الجميع ،، جردكِ من شريطة شعرك البيضاء ..... لكنني أوقفته ... أوقفته على يد أحدهم ،،، و أبعدته ... أبعد ما يكون ... ربما المدرسة تسترت على ما حدث حفاظاً على سمعتها المقيتة ،، لكن شريطتكِ البيضاء ما تزال بيضاء ،، بيضاء يا راحيل ،، لن أكرر مشاهد راحيل الميتة .. كلا لن أكررها ...
***
- لا أفهم
- ......
- كيف تفعل ذلك
- كفي يا فاطمة ... !!! أشعر بوجع ما بعده وجع! لقد قتلت أشياءً جميلة في صدري .. لا أريد أن أتحدث بالموضوع
- حسناً عزيزتي
كلتاهما على السرير ... سمية تريح رأسها على حضن فاطمة التي تلوم طلال على كل ما يحدث ،، لو أنه كان مخلصاً فقط ،، ما حصل ما يحصل لأختها و صديقتها ،، لكانت الأمور أفضل ،، لكــ.... ،،، انقطع حبل الأفكار مع دخول والدهما الثور الهائج ليشد فاطمة من شعرها فتسقط من على السرير لأول مرة ثم ينتشلها للمرة الثانية بقبضة الحديد
- هل أدخلتكِ الجامعة لتتعلمي أم لتمرغي وجهي في التراب
تصرخ بكل ما لديها من قوة ،، من الألم المعنوي و الجسدي ،، اليوم يوم الخدوش و البقع المزرقة، سمية تحاول فض الاشتباك ،، و تتلقى دفعة محترمة من والدها لتطيحها على الأرض بعيداً أمام قدم والدتها ،، نظرت إليها بلؤم ،، و بحقد ،، و الأم لا تعرف كيف تفض النزاع ،، تسببت بذلك يا أمي !! بدل أن تناقشيني أنا و فاطمة لجأت إلى والدي ليُرهبنا بعقاله و حزامه و كل ما يقع في يده ،، و كأنها الهدية التي انتظرناها من بعد غيابه الطويل ،، عودة إلى الصراع خلف سمية
- كيف تقولين لا!!! رآك أحد الجيران تحادثينه في السوبرماركت! ألم أنبهك ألا تخرجي من المنزل إلا بإذني
- لم تكن هنا أبي و أمي أرسلتـــ .... (شدها بقوة أكبر حتى سمعت بصيلات شعرها تنتزع من مكانها) آآآآآآآآآآآآآآآآه
- كُنت هنا أو لم أكن!!! إنتِ ذهبت إلى هناك كي تلقينه أيتها الـ..... !!! أنتِ كما أمكِ الـ.... !!
لم تحرك الأم ساكناً ،، خوفاً من لكماته الموجعة و التي ذاقتها مراراً ،، اشمئزازاً من كلماته الوقحة المتكررة ،، صوت العقال يمزق الهواء على جسد فاطمة التي اتهمت مراراً و تكراراً بمقابلة طلال عن سبق اصرار و ترصد في السوبر ماركت ،، دخلت سمية في الاشتباك ،، لتلقى هي الأخرى ضربات موجعة ،، بينما فاطمة تبعدها و الأيدي تتشابك حتى وقع العقال على وجه سمية ليغمى عليها ....!!! و تتحرك الأم أخيراً عندما سال الدم من أنف ابنتها ...!
***
- جواهر؟
تطرق الباب بطرقاتها المعتادة
- ادخلي عبير
- ماذا يا شمس الأطفال...؟ لم شمس الأطفال مُحمرة؟
اندست جواهر في حضن عبير ،، تحكي لها سوء هذا اليوم ،، و لؤم هذا اليوم ،، و قسوة هذا اليوم ،، و هي لا تعلم أن صديقتها التي تحب أكثر ما بهذه الدنيا ،، تنزف الكثير في سيارة الاسعاف و في المستشفى .... من بعد هدهدات عبير الناجحة ،، خلدت إلى النوم لترى حلماً غريباً ،،
تسير في حديقة خضراء و ترى سمية تركض بعيداً ،، و هي تجري خلفها ،، ثم تختفي وسط الضباب ،، و يلوح العم عبدالله من البعيد يمشي بحرية من كرسيه المتحرك ،، و كلما ركضت نحوه لا تستطيع أن تطاله ،، تركض و تركض ،، و أطراف فستانها الأبيض تعرقلها ،، ترفع فستانها ،، و تركض ،، و تركض ،، ثم تصل للعم عبدالله ،، و لكنه ليس العم عبدالله ،، بل طـــلال !!
استفاقت من حلمها بخوف و هاتفها يمزق عتمة الظلمة باتصال خارجي ،، تغضنت ملامحها الناعسة و هي تنظر إلى الشاشة التي انطفأت لترصد 7 مكالمات لم يرد عليها ،، اتصلت ليجيب
- ايتها الكسولة؟!! لم تتلطفي على مستر طلال باتصال لتخبريه نتيجة البحث
- ......
- جواهر؟
- ......
- جواهر؟
- لم أحصل على درجة جيدة (و أكملت بصوت خافت) و فصلت من الجامعة لأسبوعين
- ماذا؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ماذا حدث؟؟؟؟؟
- أخبرك في يوم آخر طلال (تهدج صوتها) لا رغبة لي في الحديث الآن
- أخفتني جواهر .. ماذا حدث؟
- لقد شرحت الوضع لعبير قبل قليل ،، و بعدها لم تنفك الأحلام تطاردني لتحرمني النوم ،، دعها ليوم آخر طلال،، أو اتصل لعبير لتخبرك ،، لا أستطيع الحديث الآن
- حسناً
- إلى اللقاء
- إلى اللقاء
و أسرع بالاتصال على عبير ، لتخبره الأخيرة عن ما حدث لجواهر ،، تمزق قلبه و هي تعيد ما قالته جواهر
(أنا لا أنتمي قطعاً إلى أي من هاذين العالمين)
(لم أشعر بالاذلال كما شعرت به اليوم)
(صديقتي الوحيدة أعطتني ظهرها في أشد حاجتي لها)
(وجودي يجلب النحس في كل مكان)
كلمات و كلمات و كلمات ،، صوت عبير يتمزق بين جواهر و طالبتها التي لا تدري ما حل بها ،، يستمع إليها و يفكر ،، يجب أن أكون مع الجميع ،، مرت 3 أشهر ،، و بقي شهر ،، سوف أعود ،، لابد من أعود ،، الجميع يحتاجني ،، أغلق السماعة و تنهد و هو يتخيل حال الجميع ،، سقطت عيناه على قطعة زجاجية زرقاء ،، تذكر زرقة عيونها ،، و عرف تماماً كيف تبدو الآن ،، كما بدت عندما جرحها بالاهانات أول أيامها في المنزل ،، في منزل والدها بعد تنفيس الغضب ،، في المستشفى عند سقوط العم عبدالله ،، في حكاية الصرصور التي جمّلت وجهها بابتسامة حزينة ،، أمسك بالقطعة الزجاجية ،، و تذكر كل ما مر به معها ،، هل ستنتمي جواهر إلى عائلة غيرنا؟ هل ستستقر مع رجلٍ يحافظ عليها من غير أن تُلوث عقله الظنون برأسها الأشقر؟ أودع القطعة مكانها و وقف أمام زجاج نافذة شقته ...
يفكر بها ... و بحالها .. و مستقبلها الذي يبدو غامضاً ...
- طلال؟
- نعم
- تفكر فيها؟
- في منو؟
- جواهر؟
- خليني في حالي يا راوية
- طلال
- راوية .. خليني في حالي
- إن شاء الله .. بس شي واحد قبل ما أمشي ...
- نعم
- حافظ على جواهر ...
و غادرت أنا الكواليس ،، هذه المرة للأبد ،،، و أودعت طلال فكرة مجنونة ،، مجنونة بجواهر .... و أجزاء قليلة باقية لأقتل من يجب أن يُقتل!
|