كاتب الموضوع :
mostafaageg
المنتدى :
رجل المستحيل
5- الذئاب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ "سينتحل هيئة رسمية.."..
قال رئيس (راءول) العبارة فى اهتمام متوتر ، بدا واضحاً على صورته ، التى تملأ شاشة الاتصال الكبيرة ، فى الحجرة الخاصة بالسفارة الإسرائيلية فى (واشنطن) ، فمال (راءول) نحو الشاشة ، متسائلاً :
- أهذا ما حدَّده (فرتيواليتى)؟!
أجابه رئيسه :
- نعم.. لقد غذيناه بكل المعلومات الجديدة التى أرسلتها ، فقال إن الوسيلة الوحيدة ، التى تتيح لـ(أدهم صبرى) دخول (واشنطن) ، فى مثل هذه الظروف ، هى أن يتنكَّر فى هيئة رسمية.. رجل أمن أو شرطى.
سأله (راءول) فى لهفة :
- و ماذا عن (سونيا)؟!
أجابه رئيسه ، فى توتر ملحوظ :
- (فرتيواليتى) وضع سيناريوهين مختلفين للأمر.. فى الأوَّل افترض تمرُّدها على دونا (كارولينا)، و سعيها وحدها لاستعادة سلاحها ، باعتبار أنه وسيلتها المثلى للسيطرة على العالم ، كما تحلم دوماً ، و سيبدأ هذا بمحاولتها الحصول على المعادلة الناقصة ، لتشغيل هذا السلاح ، تماماً مثلما نسعى نحن للحصول عليها.
سأله (راءول) بنفاد صبر :
- و ماذا عن السيناريو الآخر؟!
صمت رئيسه لحظة ، ثم قال :
- أن تتحالف مع دونا (كارولينا) ، حتى تبلغ هدفها.
تراجع (راءول) فى مقعده ، مغمغماً :
- ستكون كارثة!!
انطلق عقله بسرعة يرسم صورة لما يمكن أن يسفر عنه هذا..
أن تتحالف (سونيا) و دونا..
أخطر امرأتين فى العالم ، تدخلان السباق كيد واحدة...
(سونيا) بدهائها و خبرتها و قسوتها ، و دونا بقوتها و انتشارها ، و أموالها الطائلة و نفوذها اللامحدود..
و لو وضعنا كل هذا فى بوتقة واحدة ، لاستعادة ذلك السلاح الجبار ، قبل أن يحصل عليه الآخرون..
ربما تحكمان العالم عندئذ..
إلى الأبد..
حاول أن يركِّز ذهنه على هذه المشكلة الجديدة ، و اعتصر عقله فى قوة ، و لكن تفكيره قاده دون وعى إلى (أدهم)..
لقد فعل بالضبط كل ما توقَّعه (فرتيواليتى) ، حتى هذه اللحظة..
(كارولينا) أفسدت التحالف ، و دفعته للدخول فى مواجهة مباشرة ، حقَّق خلالها ما اعتاده ، و هزم الجميع على نحو باهر ، و تجاوز كل العقبات ، حتى وصل إلى (واشنطن) ، و جذب انتباه كل القوى إليه..
و هذا هو الهدف الرئيسى من كل هذا..
إقحام الجميع فى معركة ضد (أدهم) ، و سعيهم للقضاء عليه ، و مقاومته الرهيبة لهم ، و تجاوزه عقباتهم ، و كل ما سيشعله هذا فى نفوسهم من غضب و ثورة ، يدفعانهم لمزيد من القتال معه ، مما يجعلهم ينشغلون جميعاً به ، فيخلو الجو للإسرائيليين ، ليسعوا خلف سلاح (سونيا) الرهيب ، فى غفلة منهم ، بحيث لا يستفيقون جميعاً ، إلا بعد أن يصبح الإسرائيليون ملوك العالم..
و بلا منازع..
و وفقاً لتوقعات (فرتيواليتى) ، و لحظته أو برنامجه الاحتياطى الثانى ، فـ(أدهم) الآن فى قلب (واشنطن) ، ينتحل هيئة رسمية ، تتيح له التحرُّك داخلها ، بعد أن تجاوزت عقارب الساعة منتصف الليل بساعة و نصف الساعة على الأقل ، على الرغم من بحث الجميع عنهم..
فما من رجل أمن ، يبحث عن هارب ، يمكن أن يستوقف شرطى آخر ، تحت ظروف طوارئ قصوى..
الكل سينشغل بالبحث عن الهارب..
و الهارب فقط..
و لكن أين يمكن أن يكون (أدهم) فى هذه اللحظة؟!..
أين؟!
طرح السؤال على رئيسه ، عبر شاشة الاتصال الكبيرة ، فأجابه هذا الأخير فى اهتمام :
- سيسعى للحصول على أكثر ما يهم رجل المخابرات ، فى أى قتال.. المعلومات.. سيحاول معرفة ماذا يحدث ، و من دفع الجميع خلفه ، و لماذا؟!
سأله (راءول) فى اهتمام :
- و من أين يمكنه الحصول على مثل هذه المعلومات؟!
قبل أن يجيبه رئيسه ، انقطع التيار الكهربى عن شاشة الاتصال فجأة ، فى نفس اللحظة التى ارتفع فيها صوت من خلف (راءول) ، يقول فى حزم هادئ :
- هنا.
التفت (راءول) إلى مصدر الصوت فى سرعة فزعة ، و اتسعت عيناه عن آخرهما ، و كل ذهول الدنيا يتفجَّر فى أعماقه..
فأمامه مباشرة ، و داخل حجرة الاتصالات المؤقتة ، فى قلب السفارة الإسرائيلية فى (واشنطن) ، كان يقف آخر شخص يتخيل هو أو كمبيوتره الفائق (فرتيواليتى) رؤيته..
(أدهم)..
(أدهم صبرى)..
* * *
بمنتهى القوة ، هزَّت دونا (كارولينا) رأسها ، و هى تطفئ سيجارتها الملوَّنة ، فى منفضة من الكريستال النقى ، قائلة :
- مستحيل!.. لا يمكننى تصديق ما تعرضينه علىَّ يا (سونيا).
هزَّت (سونيا) كتفيها ، و هى تقول فى هدوء :
- ألأننى أعرض عليك مشاركتى حكم العالم؟!
أجابتها دونا ، فى شيء من الحدة :
- بل لأنك تتحدَّثين كما لو كنا مشهداً من فيلم سينمائى قديم و سخيف... فكرة السيطرة على العالم هذه من أكثر أفكار الأرض حماقة.. (جنكيز خان)، و (الإسكندر الأكبر)، و (نابليون) ، و (هتلر)، و حتى (أمريكا) نفسها ، كلهم حاولوا و فشلوا.. الإمبراطورية الرومانية تصوَّرت هذا أيضاً ، و زحفت من أقصى الأرض إلى أقصاها ، و كان هذا الأتساع هو السبب المباشر لتفككها و انهيارها و فى عصرنا هذا ، يصبح من الجنون أن يحلم المرء مجرد حلم ، بتحقيق ما أثبت التاريخ استحالة تحقيقه.
أشعلت (سونيا) سيجارة أخرى ، من سجائرها الطويلة ، و هى تقول فى هدوء شديد الاستفزاز :
- حتى لو امتلكت السلاح المناسب.
هتفت بها دونا :
- حتى و لو امتلكت أسلحة الدنيا كلها.. هذا ما أثبته التاريخ.
عقدت (سونيا) حاجبيها ، و نفثت دخان سيجارتها فى قوة ، و هى تقول فى صرامة :
- كنت أتصوَّر أننى أتحدَّث إلى زعيمة (المافيا) ، لا إلى معلِّمة تاريخ نمطية.
عقدت دونا حاجبيها ، و هى تقول:
- لن أقع فيما وقع فيه مَن قبلى مِن أخطاء.
رفعت (سونيا) أحد حاجبيها ، و هى تقول فى خبث :
- ألن تشعرى بالندم إذن؟!
بدت دونا عصبية على نحو ملحوظ ، و هى تتطلَّع إليها لحظات ، قبل أن تشيح بوجهها ، قائلة :
- لن أتورَّط علانية فى هذا.
أدركت (سونيا) أنها قد أصابت هدفها ، فمالت نحوها ، تقول فى لهفة :
- و أنا لا أحبذ هذا أيضاً.. ستواصلين تحالفك مع أجهزة المخابرات الأربعة ، و تستمرين فى اللعبة نفسها.. تحاربين (أدهم) معهم علانية ، و تساعدينه على النجاة منهم سراً.. المهم أن ينشغل الجميع ببعضهم البعض ، فى حين تمنحيننى أنت المال و الرجال ، و تؤمنين لى الرحيل سراً إلى (سيبيريا) ؛ لأستعيد السيطرة على الموقف هناك.
قالت دونا دون أن تنظر إليها :
- بينى و (كولوف) اتفاق غير مكتوب بعدم التدخُّل و الاعتداء.. هو ابتعد تماماً عن الغرب ، و أنا تركت له ساحة (أوروبا) الشرقية ليسيطر عليها كما يشاء، و بهذه اللعبة ، سينهار الاتفاق تماماً.
قالت (سونيا) فى استهتار :
- الاتفاقيات وُضِعَتْ لتمزق فحسب.
انعقد حاجبا دونا ، و هى تقول :
- (كولوف) ليس بالشخص الهين.
ابتسمت (سونيا) فى سخرية واثقة ، و هى تقول :
- اتركى لى أمره.. لقد أبدل اسمه ، و استبدل معه طبيعته ، و اعتاد الحياة المرفهة ، و نسى قتال الشوارع ، و أصبح (كوربوف) الثرى ، الذى يمتلك عدة قصور فاخرة ، فى أفخم مناطق (روسيا) و نسى (كولوف) ، رجل العصابات الشرس ، الذى لا يتردَّد فى قتل طفل فى العاشرة ، من أجل عدة روبلات ، و أمثاله ، ممن يتغيرون مع امتلاء جيوبهم بالمال ، هم فريستى المفضلة.
ثم اتسعت ابتسامتها ، و تألَّقت عيناها ببريق جذل ، و هى تضيف :
- اطمئنى.. إننى أتناول خمسة من أمثاله عند الإفطار.
غمغمت دونا :
- هذا لو سمح لك أن تستيقظى.
قالت (سونيا) فى استهتار :
- سأكون آخر من يغلق عينيه.. و سترين.
رمقتها دونا بنظرة لا تحمل تعبيراً محدوداً ، و هى تقول :
- سنرى.
ابتسمت (سونيا) ابتسامة غامضة ، و هى تقول :
- باعتبارك تهوين التاريخ.. هل قرأت شيئاً عن الأمازونيات؟!
أجابتها دونا فى حذر ، و هى لا تدرى سر السؤال :
- إنهن قبيلة كانت تحكمها النساء فيما مضى ، و لست أعرف عنهن أكثر من هذا!
قالت (سونيا) بنفس الابتسامة المحيِّرة :
- هذا يكفى.. هن حكمن قبيلتهن ، و نحن سنحكم العالم معاً ، ففى هذا الزمن ، لابد و أن تحكم المرأة.
أضافت دونا فى حزم :
- وتسود.
و اتسعت ابتسامة (سونيا) ، و مدَّت يدها نحو دونا ، التى تردَّدت لحظة ، ثم استقبلت يدها لتشد عليها..
الآن بدأ العد التنازلى لسباق السيطرة..
السيطرة على العالم..
أجمع..
* * *
لثوان و على الرغم مما يراه أمامه ، لم يستطع (راءول) تصديق نفسه أبداً ، و هو يحدِّق فى (أدهم) ، الذى يرتدى زى واحد من رجال أمن السفارة ، و لا يخفى ملامحه بأية وسيلة تنكُّر ، و لو محدودة..
مستحيل!!..
حتى (فرتيواليتى) نفسه ، لم يستطع التنبؤ بهذا!
إنه حتى لم يضعه ضمن السيناريوهات المحتملة ، التى يمكن أن يلجأ إليها (أدهم)..
ربما لأن ما يراه (راءول) أمامه يدخل فى خانة المستحيل!..
المستحيل التام!..
"و لكن كيف؟!.."..
هتف بها (راءول) فى دهشة مذعورة ، على الرغم منه ، و لكن (أدهم) بدا شديد الهدوء و الثقة، و هو يستند بكتفه إلى حاجز الباب ، و يعقد ساعديه أمام صدره ، قائلاً :
- هل أدهشك وجودى يا عزيزى (راءول)؟!
هتف به (راءول) :
- كيف وصلت إلى هنا؟!.. هذا المبنى مؤمَّن جيداً ، و نظم الأمن كلها إليكترونية رقمية ، و كل حارس أمن هنا يحمل (ريد آى) ، و لا يمكنك خداعه ، حتى لو تنكَّرت فى هيئة بعوضة.
هزَّ (أدهم) كتفيه فى بساطة ، قائلاً :
- و لهذا لم أحاول أن أتنكَّر فى أية هيئة.
هتف به منزعجاً :
- و لكن كيف عبرت؟!
عاد (أدهم) يهز كتفيه ، قائلاً :
- لست أظنك تطالبنى بكشف أساليبى ، فهذا لا يمكن أن يصدر عن رجل مخابرات محترف ، و لكن يكفى أن أخبرك أننى لم أبتكر شيئاً ، فالرسم الهندسى الكامل لسفارتكم هنا موجود لدينا ، مع كل ما أجريتم عليه من تعديلات و تغييرات ، و نظام أمنكم ، الذى تتصوَّرونه شديد المناعة ، يحفظه كل رجل مخابرات فى بلدى عن ظهر قلب ، و كل ما فعلته ، هو أن استغليت ثغراته ، التى درستها طويلاً ، مع ثقتى فى أن من يدير اللعبة كلها سيكون حتماً فى حجرة الاتصالات المؤمَّنة ، يتابع الموقف مع رياسته مباشرة.
قال (راءول) فى ارتباك ، و يده تتسلَّل إلى مسدسه خفية :
- أية لعبة تلك ، التى تتصوَّر أننى أديرها؟!
ابتسم (أدهم) فى سخرية ، قائلاً :
- لعبة (فرتيواليتى).. لا تنزعج يا عزيزى ، فلقد قبعت هنا لبعض الوقت ، قبل أن أفصح عن وجودى ، لأكتسب بعض المعلومات ، قبل أن أبدأ لعب دورى.
سحب (راءول) مسدسه بسرعة خرافية ، تليق برجل مخابرات محترف ، و لكن قبل أن ترتفع فوهته ، لتواجه (أدهم) ، كان هذا الأخير قد وثب عبر الحجرة وثبة مدهشة ، و قبض على معصم الإسرائيلى بأصابع من فولاذ ، و هو يقول فى سخرية :
- كنت أتمنى أن تفعلها.
ضغط (راءول) زناد مسدسه بالفعل ، فانطلقت من فوهته رصاصة ، بدوى شديد ، مرقت على مسافة سنتيمتر واحد من عنق (أدهم)، الذى لوى معصمه فى عنف، فأجبره على إفلات مسدسه، الذى سقط أرضاً ، و الإسرائيلى يصرخ فى حدة :
- دوى الرصاصة سيجذب كل رجل أمن هنا.
أجابه (أدهم) فى حزم :
- خطأ.. هذه الحجرة مجهَّزة لعزل الأصوات تماماً ؛ لتأمين كافة السرية للاتصالات ، و ليست بها أية وسائل رصد أو مراقبة ، و لن يعرف مخلوق واحد ما يحدث هنا.
ثم هوى على فك (راءول) بلكمة كالقنبلة ، مستطرداً فى صرامة :
- حتى أنت.
ارتجَّ رأس (راءول) فى عنف ، مع قوة الضربة ، و زاغت عيناه فى محجريهما لحظة ، ثم تهاوى رأسه فاقد الوعى ، فأزاحه (أدهم) بسرعة عن مقعد الاتصال ، و هو يقول :
- و الآن ، ابق هادئاً هنا ، حتى أستوعب ماذا يدور بالضبط.
قالها ، و جلس على مقعد الاتصال ، و ضغط زر تشغيل الصوت دون الصورة بعد أن أعاد التيار الكهربى ، و لم يكد يفعل ، حتى سمع رئيس (راءول) يهتف :
- أين أنت يا (راءول)؟!.. ماذا حدث عندك؟!.. لماذا انقطع الاتصال فجأة ، و لماذا لا أراك؟!
أجابه (أدهم) ، بصوت يُحاكى صوت (راءول) ، على نحو مدهش :
- عطل فنى يا سيدى.. الشاشة لم تعد تعمل.. و لكننا نستطيع مواصلة حديثنا.. كنا نتحدَّث عن (أدهم) ، و وجوده فى (واشنطن) ، و لكى يمكننى التفكير جيداً ، دعنا نلخص الأمر كله منذ البداية.
سأله رئيسه ، فى شيء من الحذر :
- أترى هذا ضرورياً.
أجابه فى خبث ، يماثل خبث (راءول) :
- إنها الحرب.
لم يكن للعبارة معنى واضح ، و لكن لسبب ما ، اكتفى بها رئيسه ، و راح يلخص الموقف كله ، فى أذنى (أدهم)..
بمنتهى الدقة..
* * *
على الرغم من كل ما تلقاه من تدريبات ، شعر (هشام) بتوتر ملحوظ ، و هو يدور حول مبنى السفارة الإسرائيلية مترجلاً ، فى ثياب شرطى أميركى ؛ فقد كان يعلم أن سيره منفرداً سيثير الشبهات و الاهتمام حتماً ، و خصوصاً فى هذه الساعة المتأخرة من الليل ، بعد أن تجاوزت عقارب الساعة الثانية صباحاً..
كانت دوريات الشرطة تجوب العاصمة الأمريكية طوال الوقت ، بحثاً عن الهاربين ، و كان عليه أن يتجنبها و يتحاشاها طوال الوقت ، و هو يتساءل : لماذا تأخَّر (أدهم) كل هذا الوقت؟!..
و هل نجح بالفعل فى دخول السفارة الإسرائيلية؟!..
و كيف؟!..
جده أخبره الكثير عن (أدهم) منذ طفولته ، و لقد انبهر به كثيراً فى صباه ، و اعتبره بطله و مثله الأعلى فى شبابه..
و لكن العمل إلى جواره أمر يختلف..
يختلف تمام الاختلاف..
إنه أشبه بمتابعة أسطورة حية..
بل إن ما واجهه معه ، يكاد يتفوَّق على الأساطير نفسها..
لقد واجها رجال العصابات..
و جيش من (المارينز)..
و مرا بأكثر من موقف ، كان الموت يبدو فى كل منها قاب قوسين أو أدنى..
أو أنهما كانا فى قلب الموت نفسه..
و لكنه تجاوز كل هذا ، و دون خدش واحد..
و هذا ، من وجهة نظر أى شخص طبيعى أمر خارق..
بل مستحيل!..
مستحيل تماماً..
الآن فقط أدرك لماذا يطلقون عليه هذا اللقب ، الذى طالما ردَّده جده على مسامعه..
لقب (رجل المستحيل)..
"معذرة أيها الشرطى.."..
استوقفه هذا النداء ، الذى انطلق فجأة ، بلكنة بريطانية واضحة ، فارتبك لحظة ، قبل أن يتمالك نفسه ، و يلتفت إلى صاحبه ، قائلاً ، و محاولاً تقمص دور شرطى أمريكى :
- بم يمكننى أن أخدمك؟!
كانا رجلين ، أحدهما شاب فى منتصف الثلاثينيات ، و الثانى كهل أشيب الشعر ، و لكنه يبدو متين البنيان ، قوى الشكيمة ، على الرغم من وجهه شبه المتغضن ، و ملامحه التى تشف عن تجاوزه الستين ، و لقد اقترب منه الشاب ، قائلاً :
- لقد ضللنا الطريق هنا ، و نبحث عمن يرشدنا إلى هدفنا.
دار الشاب حوله ، فدار بجسده معه ، و هو يغمغم فى حذر :
- فى هذه الساعة؟!
هزَّ الشاب كتفيه ، قائلاً :
- إننا سائحان.
تماسك (هشام) ، و شدَّ قامته ، و هو يسأله :
- و ما هدفكما بالضبط؟!
شعر فجأة بفوهة مسدس باردة تلتصق بمؤخرة رأسه ، و سمع صوت سير (ويليام) من خلفه ، يقول فى صرامة :
- (أدهم).. (أدهم صبرى).
و أدرك (هشام) أن اللعبة قد انتهت..
أو شارفت هذا..
بكل تأكيد..
* * *
"رجال مكتبنا فى (واشنطن) يشعرون بالقلق.."..
نطق نائب مدير المخابرات المصرية بالعبارة ، فى قلق واضح يتفق معها ، و الساعة تشير إلى التاسعة و خمس دقائق صباحاً ، بتوقيت (القاهرة)، فرفع إليه المدير عينيه ، متسائلاً :
- ألم يتم اتصالهم بـ(ن-1) بعد؟!
هزَّ نائبه رأسه نفياً ، و هو يجيب :
- لا توجد وسيلة واحدة لهذا ؛ فإما أن يجرى هو اتصاله بهم ، أو لا أمل ؛ فلم يمكنهم تحديد موقعه أبداً ، و نظراً لخبرته و مهاراته ، يستحيل العثور عليه ، ما لم يجر هو اتصاله بهم أوَّلاً ، و لكن رجالنا يؤكِّدون أنه ، و على الرغم من توقيت (واشنطن) الآن ، فهناك تحركات عديدة تجرى فيها ، على نحو مقلق... رجال (المارينز) يحاصرونها بقواتهم تماماً ، و يفحصون كل من يغادرها أو يدخلها بمنتهى الدقة ، باستخدام كاشف تنكر حديث و بالغ الدقة ، و رجال الشرطة هناك يجوبون الطرقات ، بحثاً عن كل من يشتبه فى أمره ، و هم بوسيلة غير مباشرة ، يحاصرون السفارة المصرية ، حتى لا يلجأ إليها العميد (أدهم) ، و يحصل منها على جواز سفر دبلوماسى ، يمنعهم من إلقاء القبض عليه ، وفقاً للقانون الدولى ، و هذا كله متوقَّع إلى حد كبير، و لكن ما يثير الدهشة حقاً ، هو موقف الإسرائيليين و البريطانيين هناك.
رفع المدير حاجبيه و خفضهما ، و هو يتساءل فى صرامة :
- البريطانيون أيضاً.
أومأ النائب برأسه إيجاباً ، و قال :
- مكتبنا فى (واشنطن) أكَّد أن سير (ويليام) قد وصل من (أوروبا) ، مع مساعده (جون) ، و تم الاتصال بينه و بين قوات (المارينز) ، فى حين وصل رجل (الموساد) (راءول) إلى السفارة الأمريكية ، بعد ساعة كاملة من منتصف الليل ، و هو أمر غير طبيعى ، لم يحدث حتى خلال حرب السادس من أكتوبر.
عقد المدير حاجبيه ، و هو يقول فى اهتمام قلق :
- و هل تعتقد أن كل هذا بشأن (ن-1)؟!
وضع أمامه نائبه تقريراً مطبوعاً ، و هو يقول :
- هذا التقرير وصل من (أوسلو) ، منذ أسبوعين تقريباً ، و لكن أحداً لم يربطه بما يواجهه العميد (أدهم) الآن ، إلا بعد المعلومات الأخيرة ، عن البريطانيين و الإسرائيليين.
سحب المدير التقرير ، و قرأه فى اهتمام ، قبل أن يغمغم ، و كأنه يحدِّث نفسه :
- الروس و البريطانيون و الأمريكيون و الإسرائيليون اجتمعوا معاً؟!
أضاف نائبه ، بلهجة ذات مغزى :
- و انضمت إليهم دونا (كارولينا).. زعيمة (المافيا) الإيطالية.
تراجع المدير فى مقعده ، و هو يحك ذقنه بيده فى تفكير قلق..
ترى هل اجتمعوا كلهم من أجله؟!..
من أجل (ن-1)؟!..
إنه أكثر من يدرك خطورته و قدراته ، و ربما أكثر مما يدركون هم ، و لكنه لم يتصوَّر أبداً أن يتحالفوا جميعاً للقضاء على رجل واحد!!..
حتى و لو كان (ن-1) نفسه!!..
هذا يتجاوز كل المنطق و العقل..
و كل القواعد..
إلا إذا..
"هناك هدف أكبر حتماً.."..
نطقها فى تفكير عميق ، فقال نائبه فى سرعة :
- لا أحد يعلم ماذا دار فى اجتماعهم بالضبط.
اعتدل المدير ، قائلاً فى حزم :
- و لكن من الضرورى أن نعلم..
و اتخذ مجلساً صارماً ، و هو يكمل بلهجة آمرة :
- أطلب من كل رجل لدينا أن يسعى لمعرفة سر هذا الاجتماع ، و ما أسفر عنه ، و مر رجالنا فى (واشنطن) ، مع فريق المساعدة ، الذى يقوده السيد (حسن) أن يكونوا على أهبة الاستعداد ، فبين لحظة و أخرى ، من المحتمل جداً أن نعلنها.
سأله نائبه فى حذر ، و إن توقَّع الجواب :
- نعلن ماذا؟!
رفع المدير إليه عينين صارمتين حازمتين ، و هو يقول :
- الحرب..
و كان ينطقها بكل حزم و حسم الدنيا..
و بكل معنى الكلمة..
* * *
|