مدرسة الحكمة
مقالة مطوّلة
الموضوع:
جبران خليل جبران في "دمعة وإبتسامة" و"الأجنحة المتكسّرة"
أ. المقدمة
كاتب ناجت كلماته الوجدان، وحاكت تعابيره العواطف والأحاسيس، وخاطبت مخيلته العقول والقلوب، وصرخت كتاباته داخل جدار الخواطر والمشاعر الجيّاشة، وأبكت صوره الأفئدة العطشى الى بلوغ نشوة الإحساس، وأسكرت لوحاته النفوس التوّاقة الى فكّ قيود الواقع والإبحار في بحر الخيال والجمال، وعبرت إبداعاته المحيطات والبحار على متن سفينة الخلود ورست على شواطئ العالم كافة كما أنّها حلّقت في كل الأجواء بأجنحة السلام والمحبة، وأيقظت معانيه ضمائر الأثرياء والحكّام حيث أقامتهم من قبورهم المدفونة تحت ظلام الليل الحالك وظلم الشرّ الماكر، وسامرت روحه الإنسان من كل جنس ولون ومكانة إجتماعية ودين وطائفة. هذا هو جبران خليل جبران، أديب ورسّام وفيلسوف لبناني، من أعظم الكتّاب المعاصرين. شهد له العالم ووقفت له الشعوب تقديراً لنبع عطائه الذي به أروى ظمأ الأجيال وما يزال. سيكون
جبران خليل جبران موضوع بحثي بشكل عام وكتابيه "دمعة وإبتسامة" و"الأجنحة المتكسّرة" بشكل خاص، إذ سأحاول أن أجد الروابط بين شخصية وسيرة حياة جبران من جهة وكتابيه "دمعة وإبتسامة" و"الأجنحة المتكسّرة" من جهة أخرى.
ب. سيرة حياة جبران خليل جبران
ولد
جبران خليل جبران في السادس من كانون الثاني العام ١٨٨٣، من عائلة جران المارونية في بشري، منطقة جبلية في شمال لبنان. والدته، كميلة رحمه، أنجبت جبران وهي في الثلاثين من العمر من زوجها الثالث خليل جبران، الذي أثبت أنّه زوج غير مسؤول إذ قاد العائلة الى الفقر. لجبران أخ يكبره بست سنوات إسمه بطرس وهو من والد آخر، بالإضافة الى شقيقتين صُغرتين هما مريانا وسلطانة، اللتين أحبّهما حبّاً جمّاً. كانت عائلة كميلة من العائلات المحترمة، فساعدتها على إعالة أولادها والرحيل بهم الى الولايات المتحدة الأميركية.
عن عمرالثامنة، صُعق جبران لما سيق والده الى السجن بتهمة تهربه من دفع الضرائب، بالإضافة الى مصادرة أملاك العائلة من قبل السلطات العثمانية، مما دفع العائلة الى التشرد. فإضطرت العائلة الى العيش مع بعض الأقارب. لكن ما لبثت العائلة الى أن قرّرت الهجرة الى الولايات المتحدة الأميركية بحثاً عن مستوى عيش أفضل. في العام ۱٨٩٤، أخرج خليل جبران من السجن، لكنه لم يهاجر وبقية العائلة بسبب تردّده وتهوّره فبقي وحيداً في لبنان.
في الخامس والعشرين من حزيران عام ۱٨٩٥، أبحرت عائلة جبران الى شواطىء نيويورك الأميركية. إستقرّت العائلة في مدينة بوسطن حيث بدأت كميلة العمل كبائعة تتنقل من منزل الى آخر. تأقلمت كميلة بسرعة في المدينة بما أن الأغلبية كانت من الجاليات العربية التي إتّبعت العادات والتقاليد الغربية. في المدرسة، إرتكبت الإدارة خطأ في التسجيل، إذ سجلت جبران بإسم خليل جبران وبقي إسمه خليل جبران طيلة حياته. وُضع جبران في صف خاص للأولاد المهجّرين الذين إفتقروا للغة الإنكليزية. مع إستمرار كميلة عملها الدأوب، تحسّنت أوضاع العائلة، فإستطاع بطرس فتح متجر، عملت فيه مريانا وسلطانة. هذا التحسّن لم يساعد جبران على تخطي وحدته، فكانت أمه الملاذ الوحيد الى الحنان والحب. بمساعدتها تمكن جبران من إكتشاف الناحية الثقافية من بوسطن حيث دُهش بمسارحها ومعارضها الكبرى، وبالمقابل أدهش جبران أساتذته بلوحاته ورسوماته.
عام ۱٨٩٨، قرّرت العائلة أنّ على جبران العودة الى لبنان حتى يتمكن من إنهاء تحصليه المدرسي وتعلّم اللغة العربية. فإلتحق بمدرسة الحكمة بيروت، حيث تابع منهجاً تصحيحياً عربياً. أنهى جبران دراسته عام ١٩۰۲، متّقناً اللغة العربية والفرنسية ومتفوّقاً في دروسه وخاصة في الأدب العربي.
وصلت جبران أخبار عن إصابة عائلته بأمراض مختلفة، حيث أصيب أخوه بالسل وشقيقته سلطانة بمرض معّوي ووالدته بمرض السرطان. لدى سماعه هذه الأخبار، غادر جبران لبنان متّجهاً الى بوسطن عام ۱٩۰۲. لسوء حظّه، وصل متأخراً، توفيّت سلطانة، أولى ثلاث وفيّات تصيب العائلة في أشهر معدودة. في هذا الوقت، تعّرف جبران على شاعرة وكاتبة أميركية إسمها جوزفين بيبودي، فتطوّرت العلاقة الى صداقة حميمة،وبالتالي وجدها جبران بقربه في محنته الصعبة.
وفي العام ۱٩۰٤، يلتقي جبران بماري هاسكل، ناظرة في إحدى المدارس في بوسطن التي تشجّع اليتامى الواعدين. هذا اللقاء كان نقطة إنطلاق صداقة طويلة حيث إنحرفت أحياناً الى علاقة حب وغرام. بفضل ماري، إستطاع جبران تكريس ذاته لفنه وكتاباته.
نشر جبران عام ١٩۰٥ مجموعة من المقالات حول موضوع الموسيقى في صحيفة "المهاجر". بعدها بدأ جبران بكتابة القصائد النثرية التي جُمعت لاحقاً في كتابيّ "دمعة وإبتسامة" و"العواصف". عام ١٩۰٦، ينشر جبران كتاب في اللغة العربية تحت عنوان "عرائس المروج". أسلوبه الواقعي ووصفه الموضوعي للمشاكل الإجتماعية كتقييد المرأة ونفاق رجال الدين خلقا إنقساماً ضمن المفكرين العرب المغتربين. وعلى صعيد آخر وفي أعقاب مغادرة جوزفين من حياته، يُقيم جبران علاقة غرامية مع عازفة البيانو غيرترود باري.
وفي العام ١٩۰٨، ينشر جبران مجموعة من القصص القصيرة في كتاب هو الثاني له تحت عنوان "الأرواح المتمردة". بعد ذلك، ينتقل جبران للعيش في باريس لمدة عامين على نفقة ماري، وهناك درس الرسم وقد تأثر بالأسلوب الرّمزي. كان يقضي معظم أوقاته في المعارض والمتاحف، حيث يُحكى أنّه إلتقى بالنّحات أوغست رودين، وقد أغمر جبران بالتيّارات الرّمزية الفنّية عينها التي عمل ضمنها رودين.
بعد عامين، يعود جبران الى بوسطن حيث تنحرف علاقته بماري بإتجاه علاقة غرامية، لكن ماري من جهّتها تراجعت إذ خافت على سمعتها داخل المجتمع. عام ۱٩١١، يبدأ جبران العمل على أول كتاب له باللغة الإنكليزية تحت عنوان "المجنون". في العام ذاته، يلتقي بالشاعر الإيرلندي ييتس، إذ أبدى إعجاباً به لكنه إنتقده لشدّة وطنيته.
ثم في العام ١٩١۲، ينشر جبران في نيويورك كتابه الوحيد المؤلف من قصة واحدة تحت عنوان "الأجنحة المتكسّرة". وفي هذا الحين، يبدأ جبران بمراسلة الكاتبة السورية- المصرية مي زيادة، ثم ينتقل ليستقر في نيويورك، حيث يرسمه بعد مقابلته الزعيم عبدالله باها.
بعد ذلك في العام ۱٩١٤، مجموعة من مختارات جبران الشعرية النثرية تُنشر في نيويورك تحت عنوان "دمعة وإبتسامة" من قبل نسيب عريضة. في العام ذاته، يقوم جبران بعرض لوحاته في معرض مونسترومس إذ رفضت معظم المعارض عرض لوحاته مما تحتويها من عرية مجردة، لكنه لقي نجاحاً بارزاً.
عن عمر الثالثة والثلاثين، شعور جبران بإنتمائه الوطني وإستيائه من الحكم العثماني أخذ بالتزايد مع إنتشار المجاعة على طول السواحل الشرقية للبحر المتوسط. بدأ جبران بإرسال المساعدات والإعانات الأميركية للضائرين المساكين. على صعيد آخر، وبعد عامين، ينشر "المجنون" بطبعته في اللغة الإنكليزية كما أنه ينشر قصيدة طويلة في العربية بعنوان "المواكب".
عام ۱٩۲۰، أسس جبران ما سُمي بالرابطة القلمية، مع مجموعة من الّكتّاب العرب في نيويورك، على سبيل المثال أمين الريحاني وميخائيل نعيمة. الهدف من تأسيس هذه الرابطة كان لجمع الفكر العربي المغترب والدعوة الى الحداثة والتطور. في عام ١٩۲٣، نشر جبران كتابه الشهير "النبي" الذي لاقى نجاحاً سريعاً للأسلوب السهل والبسيط الذي كُتب به. وفي هذا العام، تنتقل ماري هاسكل الى مقاطعة أخرى وبالتالي تخرج من حياة جبران تاركة وراءها صداقة عمر وتعاون فنّي. هناك، تتزوّج من قائد في الجيش الأميركي وتبدأ حياة جديدة.
وفي العام ١٩۲٨، ينشر جبران كتابه "يسوع إبن الإنسان". بعدها تتدهور صحته وبالرّغم من ذلك إستمر بشرب الكحول. وفي العام ١٩٣١، ينشر "آلهة الأرض"ز في العاشر من نيسان، توفيّ جبران في مستشفى نيويورك، وقد أعلنت صحيفة "نيويورك سان" في صفحة الوفيات: (نبي قد مات). نُقل جثمانه الى لبنان وقد رافقه موكب غفير من بيروت الى بشري. في الأعوام اللاحقة وحتى يومنا هذا، آلاف من الزّوار يصعدوا الى جبل مار سركيس حيث يرقد جثمانه في ظل سلسلة جبال لبنان الغربية في أحضان وادي القديسين.
ج. خصائص كتابات جبران
على الرّغم من كون جبران رسّاماً في تفكيره وعقله، لكن كتاباته هي التي أعطته الشهرة العالمية. قصصه البسيطة والواضحة الى جانب قصائده النثرية كان لها تأثيرها العميق في الأدب العربي الحديث.
لم يرَ النقّاد الغربيون جبران بعين الدهشة أو العظمة. هذا الإزدراء لا نراه في العالم العربي، حيث يُعتبر جبران أحد روّاد الأدب العربي الحديث. قد نسأل لماذا فشل جبران لفت أنظار النقّاد الغربيين، على الرّغم من تقبل القرّاء الشديد له؟ من المؤكد، لكتابات جبران حدود معينة.لا نجد قط أي أثر لروح الفكاهة أو السخرية في كتاباته أو حتى لوحاته. كل ما كتبه كتبه بجدية. بالطبع ليس الوحيد الذي تفتقر كتاباته الى الفكاهة، لكن هذه الصفة مميّزة في جبران.
لم يتّبع جبران النثر كثيراً، إذ لم يكتب الكثير من الروايات. أما رواياته الطويلة فكانت قصصاً متداخلة الأحداث خالية من التعقيدات تتناول طفولته في لبنان. "يسوع إبن الإنسان"، أطول كتب جبران، عبارة عن رسوم من خلالها يظهر المسيح. من الواضح أن عبقرية جبران مهما عظمت فهي لا تشمل التشخيص الدقيق أو حتى السيناريوهات المعقدة.
هناك حدود في أسلوب جبران في كتاباته باللغة العربية أيضاً، لم يستخدم الأسلوب العربي التقليدي المعقّد، لذلك إنتقد في مناسبات عدة من قبل النقاد التقليديين. بالإجمال، لم يكتب أي قصيدة بالأسلوب الشعري المحافظ، إذ خرج عن هيكلية القصيدة العربية التقليدية التي إتّبعت رويّاً واحداً وقافية وبحراً واحداً. إستعمل جبران الكلمات والمفردات السهلة وقد تأثّر أحياناً بالأسلوب الغربي في الكتابة. لم يتّبع جبران الأسلوب هذا لمجرد إعجابه به، بل لأنّه لم يتعلم الطريقة القديمة. عاد من أميركا وهو في الثانية عشرة من عمره، وبالتالي لم يمرّ بمرحلة تعلم مبادئ وأسس كتابة الشعر العربي.
ما يميّز كتب جبران أنّه يُمكن إختصارها أو تجسيدها في لوحة واحدة مليئة بالمعاني والعبر العميقة التي يضعها جبران بين سطوره أو بالأحرى خلف رسمته الوهمية. على سبيل المثال، في قصيدته النثرية "في مدينة الأموات" من كتابه "دمعة وإبتسامة"، يتأمّل رجل من على تلة، مدينة مغطّاة بسحابة سوداء، وفي وسط هذا كله، جنازتان، واحدة لرجل غنيّ وأخرى لفقير. مثال آخر في قصيدته "أمام عرش الجمال" من الكتاب عينه، آلهة تظهر في غابة. وفي قصيدته "الرؤية"، قفص وبداخله عصفور ميت من الجوع والعطش موجود في حقل على ضفاف نهر. هذه كلها أمثال تؤكد أولاً فكرة أن جبران يكتب كما لو أنّه يرسم وثانياً فكرة أن قصائده ونثره عبارة عن لوحات ورسومات. لذلك تفتقر كتاباته الى التعقيدات في الشخصيّات والأحداث، إذ يصعب تصويرها في إطار رسم.
د. جبران والمجتمع
أظن أنّ جبران لم يرّكز كثيراً على أسلوبه وذلك ليس لإفتقاره للذكاء أو الفطنة، بل على العكس، وطّن ذكاءه وفطنته لإيصال حكمه وآرائه. ومن هنا يجوز التساؤل: ما الأفكار التي يبغي جبران إيصالها الى قرّائه؟ وما مدى أهميّة هذه الأفكار في حياة قرّائه.
لعلّ السبيل الأفضل لدراسة فلسفة جبران إذا صحّ الكلام هو عن طريق دراسة جمهوره. إجمالاً، خاطب جبران المغترب العربي بشكل عام والمغترب اللبناني والسوري بشكل خاص، وذلك عبر نشره لمقالات في الصحف والمجلات. إنطلق جبران من حياته الخاصة ليعبر الى حياة كل مغترب، إذ أحداث حياته لم تكن مختلفة عن حياتهم، فالكل قد عانى من مرارة الغربة والكل قد حنّ الى الوطن. وما يشير الى أنّهم لم ينسوا تراثهم ووطنهم الأم وعاداتهم وتقاليدهم هو قراءتهم للصحف العربية حتى ولو أنّهم غير مثقفين.
حصد جبران شعبيته، إذ لامس بقصصه وقصائده القارىء بشكل لم تلامسه القصص والقصائد العربيّة الكلاسيكيّة. موضوعات كتاباته التي تحدّثت عن الحب والجمال والمجتمع والحريّة وغيرها من الموضوعات قد حاكت القرّاء الفقراء ببساطة أسلوبه نفخت فيه الخلود ورفعته الى مستوى سام بعيد كل البعد عن الوقت والزمن لذلك ما زالت كتاباته تُقرأ وتعلل الى يومنا هذا، إذ يمكن تطبيق فلسفته وحكمه في كل الأزمنة.
من يقرأ أعمال جبران يلاحظ أنّ فلسفته ليست معروضة بشكل واضح كباقي الفلاسفة، إذ على القارئ إستشفاف أفكار جبران الفلسفية. ولما يصل القارئ الى فهم وإستيعاب حكم جبران، تنطبع هذه الحكم في عقله وتضيء في وجدانه منارة معرفة وتثير في باطن ضميره الإنسان بداخله. كلوحة، فالقصيدة الجبرانية تحتوي على صورة موحية وثابتة تحثّنا على الإصغاء الى الكلمة الحق والمجرّدة. وبالتالي لا يجوز أن نتوقّع من جبران أخلاقيّات منطقيّة ولا لاهوت بشريّ ولا حتى أدوية لأدواء المجتمع، فبساطته الأدبية أسمى من أن تُوظّف في خدمة أهداف كهذه، بل وُظّفت لإظهار جبران النبي، جبران المُرشد، جبران المُلهم.
بالإجمال، لا يُملي جبران ما علينا فعله، بل يطرح الأسئلة حول الإفتراضات التي عليها نُؤسّس حياتنا. ومن ثمّ يزرع الشكوك فينا لكي يقويّ إيماننا بأنفسنا ونعزّز معرفتنا بذاتنا. كتاباته مكتوبة بأسلوب وكأنّها كُتبت خصّيصاً لنا. إقتصرت معظم أفكار جبران حول محورين هما :
• شرائع المجتمع وسموّ الأم
• القرية والمدينة
ه. شرائع المجتمع وسموّ الأم
١. جبران ومعاداته للسلطة
من غرائز البشر غريزة العدوان، هي موجودة في صلب كيان الانسان. هذه الغريزة
قد تأخذ أشكالاً متعددة، أما عند
جبران خليل جبران فهي معاداة للسلطة. وما يؤكد هذه العدائية، تجسّدها في كتاباته وأدبه. ويمكن القول أنّ جبران جعل معاداته للسلطة هدفاً يصل اليه من خلال أدبه.
للمجتمعات أحكام وقوانين تجعل منها السلطة الشاملة التي تحكم البشر. هذه السلطة الإجتماعية تتخذ أشكالاً عدة ومظاهر متعددة كالوالد ورجال الدين والأغنياء. جبران من الذين هاجموا من خلال كتاباتهم مظاهر السلطة كافّة وكانت المواضيع التي كتب عنها أكبر إثبات عن حقيقة وجوهر هذه المعاداة للسلطة.
عادى جبران سلطة الوالد في كتاباته وخاصة في "الأجنحة المتكسّرة" حيث يقول جبران: (إن أموال الأباء تكون في أكثر المواطن مجلبة لشقاء البنين. تلك الخزائن الواسعة التي يملأها نشاط الوالد وحرص الأم تنقلب حبوساً ضيّقة مظلمة لنفوس الورثة). هكذا يصف جبران والد سلمى كرامه (ويصوره غبياً، واهن الإرادة، مستسلماً لمشيئة الأسقف الذي يرى أحكامه توحّدت وأحكام القدر، وإذ تسأله إبنته محطمة القلب، متأوهة (هل هذه هي إرادتك يا والدي؟ لا يجيبها بغير التنهدات العميقة)).
لفهم الحقيقة الكامنة وراء معاداة جبران لسلطة الوالد، علينا التعمّق في طبيعة علاقته مع والده خليل جبران. كما ورد سابقاً، فعلاقة جبران بأبيه لم تكن علاقة سليمة فحواها إحترام متبادل أو عاطفة أبويّة أو حتى شعور بوجود الآخر، وقد أثّر ذلك على صورة الأب داخل تفكير جبران. لمّا بلغ جبران عامه الثامن، إتّهم والده بالتهرّب من دفع الضرائب وأدخل السجن وصودرت أملاك العائلة. ولمّا قررت العائلة الهجرة الى الولايات المتحدة الأميركية، خرج خليل جبران من السجن ولكن كونه ربّ عائلة غير مسؤول بقي في لبنان وترك زوجته وأولاده يرحلون الى بلاد غريبة. فهذه القساوة لا بد أن تكون قد تركت أثرها في جبران الطفل البريء. ولمّا أنهى جبران دراسته، وأراد أن يحصل على شهادات أعلى، ساءت علاقته بوالده أكثر، فإنتقل للعيش مع قريبه حياة فقيرة ومخجلة. وبالتالي، نرى مدى تأثّر جبران بأفعال والده الطائشة، فلم يكن المثل والقدوة التي قد تحثّ جبران الى الإقتداء بها.
عادى جبران سلطة رجال الدين (فسلطانهم في الشرق يكاد يكون مستعرقاً إستعراق التاريخ. وليس حدثاً مألوفاً أن يعصاهم امرؤ خاصة في الأوساط المسيحيّة.) هذه المعاداة بانت جلياً في "الأجنحة المتكسّرة" حيث يقول جبران: (وهكذا يصبح الأسقف المسيحي والإمام المسلم والكاهن البرهمي كأفاعي البحر التي تقبض على الفريسة بمقابض كثيرة وتمتص دماءها بأفواه عديدة) ويدعوهم الى الكفّ عن النفاق والإدّعاء بالتقوى وإلتزام القيم والمبادىء.
منذ صغره وجبران يلاحظ تحكّم رجال الدين بأمور مجتمعه وبأمور العائلات الخاصة ومن الملاحظ رفضه لهذا الواقع وذلك عبر وصفه لرجال الدين. جبران ليس ملحداً، لكنه لا يوافق على ما يقوم به رجال الدين فهو يعتبر أنّ رسالتهم أسمى من أن يستغلوا سلطاتهم. لذلك صودرت كتبه من الأسواق في العديد من الدول العربيّة كسوريا على سبيل المثال.
عادى جبران اللأغنياء بشكل عنيف إذ (تلقّوا من سهام عدائية العدد الأوفر سواء أكانوا حكّاماً سياسيّين أم أثرياء عاديّين. (ففي "الأجنحة المتكسّرة" يصّب جبران جامّ تحقيره على منصور بك غالب، فيجعله (ماديّاً كالتراب وقاسيّاً كالفولاذ وطامعاً كالمقبرة...) تحتشد في نفسه وتتنازع (عناصر المفاسد والمكاره مثلما تنقلب العقارب والأفاعي على جوانب الكهوف والمستنقعات.) كما يجعل، إزاءه، سلمى كرامه سامية الأخلاق روحانيّة الميول، حتى أنّ من يزوّجها به يكون قد قيّد (سلاسل التكهين والتعزيم جسداً طاهراً بجيفة منتنه، جامعاً في قبضة الشريعة الفاسدة روحاً سماويّة بذات ترابية.) وفي "دمعة وإبتسامة"، يقيم جبران مقابلات تتناول الغني والفقير في عدة مواقف، مستهدفة تحقير الأول وتمجيد الثاني: يولد إبن الأمير فتهتف الجموع وتهزج لولادته، غير دارين أنّه سيصبح حاكماً مطلقاً برقابهم، ويولد في السكينة، إبن الأرملة الفقيرة التي أمات رفيقها الضعيف تعسّف الأمير المتسلّط، (بينما سكان المدينة يمجّدون القويّ ويحتقرون ذواتهم، ويتغنّون بإسم المستبدّ، والملائكة تبكي على صغرهم.)
هذا الإزدراء والتحقير نتيجة واقع جبران المادي. من البديهي أن يشعر أي إنسان فقير بالكراهية تجاه الغنيّ إذ يعتبره المسبّب في كونه فقيراً. فجبران لدى سفره الى الولايات المتحدة وُضع في مدرسة وبالتحديد في صف للاجئين الفقراء والمرتزقة.
۲. سمو الام
(يتبارى أهل الكرم في مجال العطاء، ويتفوّق بعضهم، فيبلغ شأواً لا يدانيه فيه أحد، ويغدو مثالاً سامياً، تُضرب به الأمثال، وتتناقل إسمه الأجيال... بيد أنّ ذلك الكريم، لن بيلغ عطاؤه وهو في ذروته، بعض ما تجود به الأم من عطاء!) هذه حالة كميلة رحمه التي سخت بقلبها وفكرها، وبراحتها وعافيتها من أجل أطفالها... جاعت ليشبعوا وظمأت ليرتوا، وتألمت ليسعدوا، وسهرت ليناموا... كانت في البيت نور يتكوكب ثريات أين منها سائر الثريّات المرصّعة بأغلى الجواهر! وقد ظهرت الأمومة في كتابات جبران عبر مراحل إنتاجه جميعها. (ففي "دمعة وإبتسامة" لوحة أدبية لأرملة فقيرة جالسة تستدفئ من البرد القارص، وهي تنسج الصوف رداء لإبنها، (وبقربها وحيدها ينظر تارة الى أشعة النار وطوراً الى وجه أمّه الهادئ.)) وفي "الأجنحة المتكسّرة" يستوقفنا مشهد الوالد المنازع ينتشل من بين المساند صورة أم سلمى الميتة ليريها إبنته، فتكبّ عليها تقبيلاً صارخة: (يا أماه، يا أماه، يا أماه!) وكأنّما تتّحد أم سلمى بأمه الميتة، ويتّحد هو بسلمى، فتندفق نفسه نشيداً لأمه ولا أرقّ. (أنّ أعذب ما تحدثه الشفاه البشريّة هو لفظة (الأم)، وأجمل مناداة هي (يا أمّي) كلمة صغيرة كبيرة مملوءة بالأمل والحبّ والإنعطاف وكل ما في القلب البشريّ من الرقّة والحلاوة والعذوبة. الأم هي كل شىء في هذه الحياة، هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوّة في الضعف، هي ينبوع الحنوّ والرأفة والشفقة والغفران، فالذي يفقد أمه يفقد صدراً يسند اليه رأسه ويداً تباركه وعيناً تحرسه.)
لم تتجسّد الأمومة لدى كتابات جبران أو حتّى حياته في الأم فقط. النساء اللواتي قابلهن جبران لعبن أدواراً أخرى غير الحبيبات، فكنّ ملاذاً يهتدي اليه جبران، وبالتالي إعتنين به كأمه بالضبط. أبرز مثال على ذلك ماري هاسكل التي حثّته على المضيّ قدماً، وساعدته لمّا إحتاج الى العون، وإهتمت به كالأم التي ترعى طفلها. إتّخذت الأمومة مظهراً آخر هو الطبيعة. فالأخيرة كانت بمثابة الملجأ الذي يهتدي اليه جبران للتأمل والتركيز وقد دفعته للسير قدماً، بالإضافة الى كونها ملهمته في أدبه وفنّه. هذا التأثير الشديد قد إنطبع في كتاباته، ففي "دمعة وإبتسامة" يقول: (أنا إبنة العناصر التي حبل بها الشتاء وتمخّض بها الربيع وربّاها الصيف ونوّمها الخريف.) أما في "الأجنحة المتكسّرة" يقول: (كل شيء في الطبيعة يرمز ويتكلم عن الأمومة، فالشمس هي أم هذه الأرض تُرضعها حرارتها وتحتضنها بنورها ولا تغادرها إلا عند المساء إلا بعد أن تنوّمها على نغمة أمواج البحر وترنيمة العصافير والسواقي، وهذه الأرض هي أم للأشجار والأزهار تلدها وتُرضعها ثم تُفطمها. والأشجار والأزهار تصير بدورها أمّهات حنونات للأثمار الشهيّة والبزور الحّية.) (وطبيعيّ أن تكون بشري، مسقط رأسه، وأول إنبساط أرض أمام ناظريه، حميمة الصلة بطفولته، فيتشوّق اليها ( تشوّق الرضيع الى ذراعيّ أمه.))
و. القرية والمدينة
محور القرية والمدينة من أكثر المحاور التي عولجت من قبل الأدباء، حيث أقاموا مقابلة بين البيئتين، إذ غالباً ما أعطوا القرية والطبيعة صفات سامية وحسنة وبالمقابل أعطوا المدينة والساحل سمات دولية وحقيرة. جبران من جهّته أيضاً أرفق الطبيعة بالخير والجمال والحياة، والمدينة بالشرّ والبؤس والموت.
(الطبيعة بالنسبة الى الإنسان خير مدرسة. نتعلّم في أحضانها كيف يكون الكمال الإنسانيّ بما تقدّمه لنا من أمثولات يقصّر المجتمع عنها. فمن الشجرة نتعلّم العطاء بلا منّة، ومن الزّهرة الجمال والتواضع، ومن القمم الوقار، ومن جذور الأشجار الرسوخ في الخير، ومن النسيم شمول المحبة، ومن البحار رحابة الصدر والتسامح.) هذا ينطبق تماماً على فلسفة جبران التي تعتبر الطبيعة أم الجميع وبما أن الأم مدرسة الإنسان طفلاً كان أم عجوز، يجوز القول أن الطبيعة خير مدرسة.
إن الطبيعة بكل أشكالها منصهرة وخواطر جبران الخياليّة الإبداعيّة، فهي تبرز كلما سنحت الفرصة في جميع كتاباته، وخاصة "دمعة وإبتسامة" و"الأجنحة المتكسّرة". كون كتابه "دمعة وإبتسامة" بجوهره مجموعة مقابلات بين موضوعات مختلفة، فمن البديهي أن نجد نصاً يمثّل مقارنة بين القرية والمدينة. (مناخه في الحقل نص يجسّد واقع جمال الطبيعة وقبح المدينة، حيث يقول جبران: (عند الفجر قبل بزوغ الشمس من وراء الشفق جلست في وسط الحقل أناجي الطبيعة. في تلك الساعة المملؤة طهراً وجمالاً بينما كان الإنسان مستتراً حليّ لحف الكرى تنتابه الأحلام تارة واليقظة أخرى كنت متوسّداً الأعشاب أستفسر كل ما أرى عن حقيقة الجمال وأستحكي ما يرى عن جمال الحقيقة.) وبالمقابل يرد عليه النسيم: (ذاهب نحو المدينة مدحوراً من حرارة الشمس. الى المدينة حيث تتعلّق بأذيالي النقيّة مكروبات الأمراض ووتتشبّث بي أنفاس البشر السامة. من أجل ذلك تراني حزيناً.) وتجاوبه الأزهار: (الإنسان سوف يأتي ويقطع أعناقنا ويذهب بنا نحو المدينة ويبيعنا كالعبيد ونحن حرائر، وإذا ما جاء المساء وذبلنا رمى بنا الى الأقذار، كيف لا نبكي ويد الإنسان القاسية سوف تفصلنا عن وطننا الحقل؟) ويقول له الجدول: (سائر كرهاً الى المدينة حيث يحتقرني الإنسان ويستعيض عني بعصير الكرمة ويستخدمني لحمل أدرانه. كيف لا أنوح وعن قريب تصبح نقاوتي وزراً وطهارتي قذرا؟) أما العصفور فقال: (سوف يأتي إبن آدم حاملاً آلة جهنّميّة تفتك بنا فتك المنجل بالزرع، فنحن نودع بعضنا بعضاً لأنّنا لا ندري من منّا يتملّص من القدر المحتوم. كيف لا نندب والموت يتبعنا أينما سرنا؟) هناك أمثال أخرى تبين مدى تأثر جبران بالطبيعة. ففي "مدينة الأموات"، يقول: (تملّصت بالأمس من غوغاء المدينة وخرجت أمشي في الحقول الساكنة حتى بلغت أكمة عالية ألبستها الطبيعة أجمل حلاها، فوقفت وقد بانت المدينة بكلّ ما فيها من البنايات الشاهقة والقصور الفخمة تحت غيمة كثيفة من دخان المعامل.) أما من جهّة أخرى، فكتابه "الأجنحة المتكسّرة" يحتوي على العديد من الصور الوصفية، إذ يصف جبران ممراً تظلله أشجار الصفصاف، وتتمايل على جانبيه الأعشاب والدوالي المتعرّشة، وأزهار نيسان المبتسمة بثغور حمراء كالياقوت، وزرقاء كالزمرّد، وصفراء كالذهب.) لاحقاً، يحاول وصف سلمى فيقول: (هل يستطيع الجالس في ظل أجنحة الموت أن يستحضر تغريدة البلبل وهمس الوردة، وتنهيدة الغدير؟ أيقدر الأسير المثقل بالقيود أن يلاحق هبوب نسمات الضجر؟) إن الطبيعة بقصولها الأربعة مثّلت لجبران حياة الإنسان حيث يكتب: (وفي الربيع سأمشي والحب جنباً لجنب، مترنمين بين الحقول والمنحدرات متنبعين آثار أقدام الحياة المخططة بالبنفسج والأقحوان، شاربين بقايا الأمطار بكؤوس النرجس والزنبق. وفي الصيف سأتّكئ والحب ساندين رأسينا الى أغمار القش مفترشين الأعشاب، ملتحفين السماء، ساهرين مع القمر والنجوم. وفي الخريف سأذهب والحبيب الى الكروم، فنجلس بقرب المعاصر ناظرين الى الأشجار، وهي تخلع أثوابها المذهّبة، متأملين بأسراب الطيور الراحلة الى الساحل. وفي الشتاء سأجلس والحب بقرب الموقد تاليين حكايات الأجيال، مردّدين أخبار الأمم والشعوب.)
بإختصار، كلّما أراد جبران المدح والمجاملة أو التعبير عن حبه وسعادته إستعان بالطبيعة بما فيها من عناصر الجمال والطهارة، وبالمقابل كلّما أراد الذم والتحقير أو الكشف عمّا يختلج فؤاده من غضب وإضطراب، إستخدم المدينة وأوساخها أداة لشنّ هجومه العنيف
على الشرّ والبؤس وفي بعض الأحيان على المدينة بذاتها. والإنزعاج والضياع الذي يعيشه جبران في حياته.
. خاتمة
نستخلص ممّا سلف ذكره أنّ حياة
جبران خليل جبران قد تركت تأثيراً عميقاً في كتاباته. كلّ من والدته ووالده وحتّى الطبيعة التي ترعرع فيها تركوا في فنّه وأدبه أثراً قد تمّ دراسته في هذه المقالة المطولة. فقد ظهر هذا التأثير واضحاً وجليّاً خاصة في كتابيه "دمعة وإبتسامة" و"الأجنحة المتكسّرة".
ساهم في إعطاء كتاباته مكانتها الأدبية العالمية العمق والسموّ الذي قلّما تميز به كاتب. كما أنّ طبيعته الفنّانة والخلاقة جعلت من الكلمات صوراً وخيالات تتراقص مع المعاني والمضامين على مسرح الابداع والخلق، وما لبثت كتاباته أن قادته الى درجة النبوّة وجعلته فريداً ومميّزاً بين أترابه.
لم يترك أي مجال في الحياة من موضوع الأمومة الى موضوع السلطة الى موضوع الطبيعة، إلا وتناول بمقالة أو قصة أو رواية تجسيداً وإيحاء. فكلمة من كلماته حملت ألف معنى ومعنى. أسلوبه يُطرب السامع ويُغزق القارئ ببحر من الخيالات والأحاسيس ولا يتركه إلا وهو في ذهول وإنخطاف.
جبران خليل جبران فخر الأرز ووادي القديسين، فخر لبنان من شماله الى جنوبه ومن بقاعه الى ساحله، وفخر اللبنانيّين والعرب جميعاّ. جبران نابغة أدبية وفنّية عرفها العالم بأكمله، حيث عُرضت لوحاته في أبرز المعارض العالمية وحققت كتاباته نجاحاّ ساحقاّ على مرّ الأعوام.
نبيّ وقف بجانب الضعيف والمغبون والفقير وهاجم القويّ والمستبد والغنيّ. هذا جبران الذي رفض الحكم العثماني وخاطب ضمائر البشر وحثّهم على إتّباع الطريق المستقيم والصائب. كان بكتبه الملجأ لكل إنسان يتوق الى غذائه الروحي والأخلاقي والجوهري، فقد لامس أدبه عقول طبقات المجتمع كافة، إذ لم يحصر أفكاره وفلسفته لتناسب فئة معيّنة من البشر.
أخيراً وليس آخراً، أود الإعتذار من روح
جبران خليل جبران التي تسكن داخل أفئدة اللبنانيّين. مَن أنا لأحلّل ما مرّ به جبران؟ مَن أنا لأدرس ما يدور داخل عقل نابغة؟ ومن هذا المنطلق أسأل نفسي: أسيأتي جبران آخر؟ مَن سيخلف جبران؟ أسئلة يصعب الإجابة عنها وهي رهن الزمان والعصور المقبلة.
تحياتي للجميع