الفصل الخامس
لزواج الغريب ...
بعد مضى خمسة أيام قام ثورنتون , بوصفه الشخص المسئول عن تيسير الأمور في الجزيرة , بإبرام عقد زواج آدم وروبين في قاعة تم إعدادها بصفة مؤقتة في مبنى محطة الرصد . وكانت اللأيام الخمسة التى سبقت الزواج هي أشد الأيام غرابة وتأثيرا في حياة روبين تكشفت فيها الأعماق الدفينة والغير متوقعة لمشاعر العطف الإنسانية , ومنذ البداية أثارت فكرة إقامة حفل زواج في إلزينا خيال كل فرد في الجزيرة , وذلك منذ بدأ ثورنتون ينقب فيما لديه من مراجع للتعرف على الإجراء السليم الذي يتبع في مثل هذه الحالة النادرة حتى وضع آدم الخاتم في أصبع روبين , ورغم أنه لم يتبع في حفل الزواج التقليد المعروف الذي يقضي بأن ترتدي العروس شيئا جديدا وشيئا قديما إلا أن هذا الحفل أصبح له منزلة خاصة لا تمحى من ذاكرة روبين ... بغض النظر عما يحدث في المستقبل ..منتديات ليلاس
وكانت المشكلات التى طرأت تبدو مستعصية إلا أنه تم حلها بمعجزة والمشكلة التى كانت تبدو وكأن حلها ضرب من المستحيل هي مشكلة ملابسها , بل لقد بكت وهي لاتعرف حلا لمشكلة الحذاء , خاصة وقد بلي الخف الذي تلبسه وفقد لمعانه ولونه الأبيض , ولم يكن لديها خاتم زواج أو فستان ولم يبدو أن هناك بصيصا من أمل الحصول على شي من هذه الأشياء الضرورية أو تلك التى لم تكن غير ضرورية ,غير أنها مرغوب فيها في حفلات الزواج ,وعندئذ بدأ أهل الجزيرة يتكاتفون وأخذ كلا منهم يقدم كل ماعنده من قدرة إبداعية حتى أمكن التغلب على هذا التحدي وتمكن أفراد طاقم محطة الرصد بعد ست تجارب من صنع خف رقيق ومناسب لمقاس قدمي روبين وقد غطى الخف بقماش من الحرير الأبيض أخذ من قميص أحد أفراد الطاقم أما هودريك وولف الذي يميل عادة للعزلة ولا يبدي أهتماما أو عطفا نحو أحد فتبرع بخاتم ذهبي وطلب من أصغر أفراد طاقم المحطة الذي يتميز بموهبة دقيقة في أعمال النقش أن يعده ليصبح خاتم زواج روبين ..
وتولى هوارد صنع كعكة العرس وتعون الجميع في جمع الزهور ونباتات الزينة لتجميل الغرفة , وجاءت المفاجأة الخيرة من الرجل الذي يعيش على الشاطئ ...
رأته روبين على الشاطئ مرات عديدة وهو يصلح قاربه وكان في البداية يتجاهل ابتسامتها , ثم أخذ يرد عليها بإيماءة ,وبعد ذلك كان يرد على التحية بمثلها وهو لم يكن ذو مظهر همجي مثلما كانت تظن وتبين لها أن الصورة الذهنية التى أنطبعت له في خيالها وهو بشعر أشعث ولحية غير مهذبة ,هي أبعد ماتكون عن الحقيقة ...
كان غيفون كمبر مديد القامة نظيف المظهر حليق الذقن . رغم انه كان يرتدي ملابس بالية لاتساير الأزياء الحديثة وكشفت قسمات وجهه النحيفة التى تكسوها الكأبة وعيناه السوداوان الغائرتان عن شخص خانه الحظ في حياته , ولكنه علم بالحدث الذي سيقع هذا الأسبوع وقدم مساهمته في صباح اليوم السابق , وكانت عبارة عن مزهرية جميلة توضع وسط المائدة وهي تحفة جميلة أخذت شكل
الزهور ونباتات الزينة ولكنها شكلت كلها من مئات من ثمار البحر التى تم صقلها لتحتفظ على الدوام بألوانها الطبيعية .
وخلال تلك الأيام كانت روبين يكاد يغلبها البكاء الذي كان يتحول عادة إلى ضحكات وهي تتذكر مدى النجاح الذي حققه حفل زواجها وبالتأكيد أنا لابد أن تكون العروس الوحيدة التى أرتدت زيا واقيا من قرص البعوض ,وتم العثور على هذا النسيج بمحض الصدفة فوق رفوف المخزن الموجود في محطة الرصد ولا أحد يذكر مالذي جاء بهذا النسيج الذي لاحاجة لأحد به إلى محطة الرصد ,أهداه لها أفراد طاقم المحطة لتصنع منه ستائر للنوافذ إلا أن آدم أوحى لروبين أن تصنع منه رداء العرس .
كل هذا مر بخاطرها وهي جالسة في حفل العرس وسط الضحكات التى تتعالى من حولها في حين أخذ هوارد يوزع قطع الكعك اللذيذة التى صنعها على المدعوين , وبدا على وجه روبين مسحة من الحزن وهي ترفع كأسها ردا على تحية آدم وسألها آدم إذا كانت تفتقد الشراب والخمار الذي ترتديه العروس فقالت له وهي تغض بصرها :
( طبعا لا ...وفي أي حال فإن الحفل له طابع مختلف . أليس كذلك )
( أهو حقا كذلك , إن هذا يتوقف على ماتقصدينه من معنى بعبارة الطابع المختلف )
قالها آدم بجفاف مما جعلها تقلع عن المضي في تلك المناقشة ,الأيام الخمسة السابقة مرت بسرعة, وكان لدى روبين عمل كثير خلال تلك الأيام معظمه تركز في حياكة الملابس وإصلاحها وهي ذات خبرة ضئيلة بهذه العملية خاصة أن الملابس كلها مخصصة للرجال وفي النهاية تملكها إحساس عاطفي غريب وهي تشعر بأنها ترتدي ملابس كانت من قبل تخص آدم غرانت ,وأخذت تتسأل بينها وبين نفسها ماعسى أن يكون إحساس آدم وهو يراها ترتدي تلك الملابس وذلك إذا كان يعير هذا الأمر أي أهمية ,وهذا الإحساس جعل من الصعب عليها أن تدرك إلى أي مدى يعد غرانت شخصا غريبا بالنسبة إليها من عدة نواحي ...
وفجأة قال لها آدم :
(ليس هناك داع للقلق بالنسبة إلى المظهر الذي تبدين به ,ولن يعرف أحد أنك صنعت هذا الزي من نسيج الستائر الواقية من البعوض ,مالم تبلغيه أنت بذلك ,وسألته إذا كان زيها يبدو مناسبا من حيث الطول والشكل ,فرد عليها أنه يشبه أزياء العصر الفيكتوري ولم تكن تعرف ما إذا كانت أزياء العصر الفيكتوري تناسبها ,وعاودها الشك في أن يكون زيها كئيبا ً وفضفاضا مثل الملابس التى ترتديها ربة البيت في المنزل ,فقال لها آدم :
( سوف يهدأ بالك في أي حال عندما ترين الصور الفوتوغرافية غدا )
( حقا , لدينا الكثير من الأفلام الفوتوغرافية )
( لابد أن أقوم بعملية تقطيع لهذا الفيلم لكي أفصل العروس عن الطيور )
فأقترب منهما توني ستيفنز قائلا ً :
( حقا ً , طيورك الأخرى مسكينة )
فأطرق برأسه وقال لها :
( مافعلته هو مبعث سرور لي ,لاداعي لذكره ,لكنني آمل في إصلاح الخطأ الذي ارتكبناه ,وسأكون سعيدا ً جدا ً إذا منحتني انت وزوجك شرف تناول العشاء معي في القريب العاجل )
ولاحظ انها راحت ترمق زوجها في تردد في حين كان آدم مشغولا ً بالحديث مع غيفون وقال لها أنهما لا يمكنهما أن يعيشا في عزلة طوال فترة بقائهما في الجزيرة , كما أن آدم أصبح أقرب للناسك وهذا ليس بالشيء المقبول بالنسبة للرجل ,ولم تستطع أن تمنع نفسها من أن تقول بلهجة لطيفة :
(ولكن ألا تشبه أنت النساك ياسيد وولف ,أعتقد انك عشت هنا سنوات طويلة )
فقال لها بجفاف :
( أنا لست شابا ًومازالت أمامي سنوات أعاني فيها من متاعب هذا العالم , أما آدم فما زال أمامه العمر المديد ,ويجب ألا تسمحي باستمرار هذا الميل للانعزال عن الحياة )
ولاحظ تعبيرات وجهها فأبتسم قائلاً :
( أليس هذا هو ماجئت إلى هنا من أجله وما جعلك تغيرين فجأة كل خططك التى لابد أن تكوني أعددتها لحفل الزواج ولقضاء شهر العسل في إحدى تلك المناطق المثالية التى يختارها المرء عادة في هذه المناسبة )
فنظرت إليه روبين في يأس ,وهي تتطلع لمن يساعدها في الخروج من هذا الموقف الصعب ,فكيف تستطيع أن تقول لتلك الشخصية المسيطرة أنها تعرف أن آدم يتطلع لنسيان شيء ما والفرار منه , أو لإغلاق الباب على وقائع من الماضي تتسم بالمرارة , إلا أنها لا تدري بالمرة سبب تلك المرارة , وكيف لها أن تعترف بأنها هي الأخرى قد فرت من شيء ما , وأنها تتطلع لإغلاق الباب على حياة لم تكن تحتمل .
وقال هودريك وولف في بطء :
( لم يعد يعزف الموسيقى الآن, أليس كذلك , أشعر بأن هذا أمر يؤسف له أي أسف , المرء يجد في الموسيقى قدرا هائلا ً من العزاء والسلوان , فهي أكثر من أي وسيلة أخرى لها القدرة على إنعاش الروح وإمتاع القلب وتهدئته )
وتنهد ثم أضاف قوله :
( عندما حضر آدم لأول مرة إلى الجزيرة وتعرفت عليه أبلغته أن البيانو الخاص بي تحت تصرفه في أي وقت يشاء , ولكنه حتى الآن لم يبذل أي محاولة لاستخدام البيانو ,برغم أن هذا هو أفضل مكان يستطيع أن يخلو فيه إلى نفسه ليبدأ في خوض أول الطريق في تلك التجربة التى تبدو وكأنها حاجز لا يمكن اقتحامه )
وأطرقت هنيهة وحاولت أثنائها أن تجمع الأجزاء المبعثرة لهذا اللغز الذي لايبدو كما كان واضحاً , لغزا بالنسبة لهودريك وولف كما حاولت أن تكبت إحساسها الطبيعي بالمرارة لأن آدم فضل عدم الإفضاء إليها بأسراره ,ثم قالت في بطء :
( إنه لا يريد التحدث عن أسراره )
فرد عليها هودريك قائلا ً :
( هذا أمر طبيعي , ولكنه لن يظل منعزلا ً عن الحياة للأبد , إن لديك مفتاحا لهذه المشكلة وعليك استخدامه من أجل مصلحة آدم , والآن هل تقبلان الدعوة لزيارتي ,أعتقد أن الزوجة هي التى تنفرد بالحق في قبوله أو توجيه الدعوات الودية ,ولا زوجة سواك في هذه الجزيرة كما تعلمين ... )
وابتسمت بصعوبة برغم الأفكار التي تدور كالدوامة في رأسها وقالت له :
( طبعا ً سأقبل الدعوة بكل سرور , وأشكرك كل الشكر )
( هل يناسبكما موعد مساء الخميس )
فردت عليه بلهجة رسمية :
( أنه مناسب تماما ً )
فضحك وقالت له روبين أنها بعد أن تتقن أعمال الطهو والتدبير المنزلي سوف تقيم حفلا ً ,شرط أن يحضر كل من المدعوين كرسيه معه , فضحك كثيرا ً , ولم تنسى روبين الكلام الذي قاله لها وأخذت تفكر فيه مليا ً وإن كانت قد لزمت الصمت وهي في طريق العودة للمنزل برفقة آدم الذي لزم الصمت أيضا ً إلى أن وصلا إلى البيت ,وقبل أن يوقف السيارة قال لها :
( إنك هادئة جدا ياسيدة غرانت .. )
ونظر إلى الحقيبة الضخمة الموضوعة في مؤخرة سيارة الجيب وأضاف قائلا ً :
( حصلت على هدايا كثيرة في حفل الزواج )
ولكنها لفتت نظره بقولها :
( حصلنا عليها نحن الاثنين ياسيد غرانت ..)
وتعاونا سويا ً في حمل حقيبة الهدايا إلى داخل المنزل , وبعد ذلك استدار آدم تاركا إياها فقالت له وفي صوتها نبرة تنم عن الشعور ببعض الإحباط ..
( ألن تساعدني في فتح الحقيبة وإخراج مافيها ؟)
( وهل تريدين مني فعلا ً مساعدتك ؟)
( طبعا فهي هدايانا معا ً )
( أهي حقا ً كذلك , لا تخدعي نفسك أو تخدعيني , فأنت التى فزت بهذه الهدايا .)
نهضت واقفة بعد أن كانت تجثو على ركبتيها بجوار حقيبة الهدايا , وأندفعت أمامه لتدخل غرفة النوم وقامت بتغيير ملابسها بحركات غاضبة ثم أعادت تمشيط شعرها بسرعة . وأشعلت سيجارة وبدأت تدخن في توتر وهي تقول لنفسها أنه لو كان هذا هو تفكيره فإن حقيبة الهدايا ستظل مكانها كما هي إلى يوم القيامة ,وأخذت تنظر إلى الباب وهي تغالب دموعها .. ألا يملك هذا الرجل أي مشاعر أو عواطف , كانت تدرك أن هذا الزواج لن يكون عاديا ً السماء وحدها تعلم أي دافع غريب يكمن وراء اقتراحه بالزواج منها , إنه ليس دافع الحب ,فهي لا يمكنها أن تخدع نفسها بهذا الاعتقاد ,كما إنه ليس الرغبة في اتخاذ زوجة .. ربما يكون الإحساس بالوحدة هو الدافع , أو يكون فعل ذلك بدافع الشهامة والفروسية الوهمية التي ولدها الإحساس بالشفقة عليها بسبب الظروف المحيطة بوجودها في الجزيرة وربما كان السبب الكامن وراء ذلك هو تمسكه الشديد بالتقاليد القديمة ....
ولكن ماهي دوافعها هي ؟مالذي جعلها تستسلم للرغبة البدائية الكامنة في أعماقها بقبول اقتراحه ؟ ألانها لم تكن تعبأ كثيرا بما يحدث لها ؟أم لأنها أرادت الإمساك بحبل الأمان الذي يتمثل في ارتباطها بحياته .. أم أنها فعلت ذلك بدافع من غريزة المرأة التي تحس بأن مهمتها هي أن تسري عن ذلك الرجل وتدخل السلوان إلى قلبه برغم أنه لن يعترف أبدا ً أنه محتاج إلى هذا, أم هل الدافع يتمثل ببساطة في أنه ينتمي للجنس الآخر وأن له شخصية جذابة ومسيطرة , وهو يمثل ذلك التحدى الخالد بالنسبة لها ...
ولكن هناك خطأ أساسي في هذا ,فآدم غرانت لم يظهر أدنى دليل يشير إلى أنه يمثل فعلا ً هذا التحدي وصاحت فجأة عندما كادت السيجارة أن تحرق يدها وهي مستغرقة في التفكير ,وفي تلك اللحظة قرع آدم الباب ,وعندما علم بالأمر تأسف لما بدر منه وقال لها :
( هيا بنا نفتح هدايا زواجنا ,شخصيا لم أكن أتوقع أن نتلقى أي هدايا )
وأخذا يتفحصان الهدايا وهما في سعادة إلى أن قالت له روبين أن هودريك دعاهما لتناول العشاء يوم الخميس المقبل , فتبدل وجهه بصورة أربكتها وقال لها في حدة :
(العشاء ؟ وهل قبلت الدعوة ؟ )
( طبعاً قبلتها لا يمكنني أن أرفضها ..)
( كنت أرجو ألا تفعلي )
وتلاشت روح الدعابة لديه لتحل محلها تعبيرات باردة مليئة بالعجرفة ,مما جعلها تشعر من جديد بأنه غريب عنها ... وتنهدت قائلة :
( ولماذا لا أقبل الدعوة الجزيرة فيها أناس قليلون وعلينا أن نعقد صلة صداقة مع هذه القلة )
فضم آدم شفتيه وهو متجهم وقال لها :
( لم أحضر إلى هنا لإقامة علاقات اجتماعية ,أعتقد أن هودريك له أسبابه الخاصة التى دفعته لهذا , لا تظني أن الأمر مجرد شعور بالصداقة من جانبه مضى وقت طويل منذ أتيحت له فرصة لفرض رعايته واستعراض غروره )
( لا أعتقد هذا , وما الذي يدفعه إلى ذلك , قد يكون فيه بعض الغرور .. ولكن )
وانتابتها الحيرة ,فمن المؤكد أن آدم يبالغ في قوله فهو يصور هودريك وكأن لديه هدفا شخصيا ً يسعى لتحقيقه ,وأنه يحاول دفعه للقيام بعمل ما ضد إرادته , ولكن ماهو هذا العمل؟ ولماذا سبب مثل هذا الغضب لآدم ,وأخيرا ً توصلت إلى قرار فربما كان هناك أمر ما يهم هودريك, بل من المؤكد أن هناك أمر ما ,وكيف يمكنها إن هي لم تعرف الحقيقة أن تخفف شيئا من شؤونها الخاصة ,فلماذا يخفى آدم عنها أسراره ؟وفوق كل شيء أنها الآن زوجته ...
ونادته وانتظرت حتى تحرك وأصبح في مواجهتها وقالت له :
( ألم يحن الوقت بعد لتتحدث إلي؟ )
( أتقصدين أن هودريك لم يحك لك ؟ )
( لم يبلغني هودريك بأي شيء وتلك هي المشكلة ..)
وصاحت قائلة :
( لم يبلغني أحد بشيء , أنهم يفترضون أنني أعرف . ويتحدثون بأشياء تصبح ذات معنى عندما ترتبط بما لا أعرفه , وكيف يمكنني المضي في التظاهر بمعرفة مايتحدثون عنه وأجعلك تنظر إلي وكأنني أرتكبت أكبر زلة في حياتي ؟ كلامهم كله يدور حول امتناعك عن العزف ,وأن هذا أمر يؤسف له و... و.... آدم .... لماذا أشعر بأنني أعرفك ؟ وأشعر برغم هذا بأنني يجب أن أعرفك ؟ لا يمكن أن أكون قد قابلتك من قبل ونسيت , لماذا لا تحكي لي ....)
ونظر إليها لحظة طويلة وهي تحدق فيه بنظرات مليئة بالعاطفة المشبوبة وقال لها :
( السبب في هذا أنني لم أعد أحتمل المزيد من مشاعر العطف والشفقة , وعندما أدركت أنك لم تعرفيني فضلت عدم إبلاغك حتى أوفر على نفسي عناء ومشقة الشرح والتفسير من جديد )
ونظر إليها وأضاف قائلا ً :
( أنا آدم فاند ... )
( فاند .. عازف البيانو؟ )
ومرت لحظات كأنها الدهر , وتنهدت روبين تنهيدة طويلة وانعقد لسانها في البداية ,وهي تعجب كيف لم تتعرف عليه .هل كانت عمياء إلى درجة أنها لم تتعرف إلى الرجل الذي استطاع في ثلاث مناسبات ,كما تذكر الآن . أن يستحوذ على اهتمامها هي وعدة ألاف آخرين لليلة كاملة ,
آدم فاند هو واحد من أعظم عازفي البيانو في العالم , ويعتبره البعض واحدا ً من أبرع الموسيقيين في هذا القرن اللذين ساروا على درب شوبان ...
وبدأت روبين تتذكر ماحدث قبل شهر واحد من وفاة أبيها ,كان والدها من هواة حضور الحفلات الموسيقية وحاول أن يغرس حب الموسيقى في ابنتيه منذ طفولتهما المبكرة ,وهي تتذكر الآن كأن هذا قد وقع بالأمس ,أن والدها صاح ذات مساء وهو يقرأ العنوان الرئيسي في الجريدة ,وقع حادث لسيارة آدم فاند وهو عائد من حفل موسيقي من أدنبره ,وبمعجزة لم تلحق به إصابات خطيرة ,إلا أن الأطباء يخشون أن تؤدي التمزقات التي لحقت بيده اليمنى إلى تهديد مستقبله الموسيقي ,وبعد مضي أسبوع نشر بيان مفاده أن آدم فاند لن يعزف مرة أخرى للجمهور ,وأنه سيرحل لجهة غير معلومة لقضاء فترة نقاهة .... كانت خطيبته هي التي قادت السيارة .. وكان أسمها .... هل كان الاسم هو ... ستيللا ..؟ وتأجل الزواج وعقب أبوها على هذا الحادث بقوله :
( كم هو مفزع )
ووافقته هي على رأيه ,ثم نسيت تلك الفاجعة التي لم تمس حياتها الشخصية . والآن أصبحت زوجة آدم فاند ...
وعادت معالم الغرفة الهادئة تتضح من جديد أمام عينيها بعدما عاشت مع ذكرياتها لبعض الوقت ,وبدت لها الملامح المكفهرة للرجل الذي كان يقف بلا حراك كأنما نحت من الصخر ,ونظرت إلى يديه اللتان أدخلتا الحيرة إلى نفسها وكانت تظنهما يدي جراح ونسجت حولهما قصة خيالية وهي تحاول اكتشاف السر الذي أدركت بحاستها الغريزية أنهما تخفيانه ,,,
وأخيرا ً تمالكت نفسها وخرجت من صمتها قائلة :
( لماذا ... لماذا لم تخبرني ؟... لا أعرف ماذا أقول ؟ أنه للأمر شديد ....)
وأخذت تهز رأسها وهي عاجزة عن أن تعبر بالكلمات عما يجيش في صدرها من أحاسيس بعد أن عرفت من هو .وهي مدركة أن أي كلام تقوله لن يؤدي إلا لتجديد آلامه ,وفجأة تغلبت عليها عواطفها ولم تستطع السيطرة على نفسها واندفعت نحوه لتمسك بيديه وتضغطهما على خديها ,وكانت في تلك اللحظة على استعداد أن تمنح أي شيء وتفعل أي شيء إن كان هذا سيعيد هاتين اليدين للعزف من جديد ...
واهتزت الرؤى أمام عينيها , وفجأة دفعها بعيدا عنه بغلظة وقال :
( لا تفعلي هذا .. ولننسى ماحدث )
فردت عليه هامسة :
(كلا ,سيكون من الحمق أن نحاول هذا , وأنا أعرف أنني لن أستطيع , ولا أدري كيف يمكنك أنت أن تفعل هذا , فقال لها في مرارة :
( ليس أمامي أي خيار آخر ,وربما أدركت الآن السبب الذي جعلني أتردد في قبول دعوة هودريك وولف )
( وهل هو يذكرك بالأمر كله )
(أنه يملك البيانو الوحيد الموجود في هذه الجزيرة ,ولو كنت أعرف ذلك لما جئت إلى هنا )
ولوى فمه قائلا ً :
( إنه يتمنى من كل قلبه أن يغريني بلمس هذا البيانو , وأن أحاول ..... )
وصاحت قائلة :
( ولم لا ؟الأطباء قد يخطئون , وقد شفيت يداك, وكيف لك أن تدري أنك غير قادر على العزف مرة أخرى قبل أن تجرب ذلك ؟)
فقال في تجهم :
( بإمكاني أن أعزف تشكيلات من القطع الموسيقية. ولكنني لن أستطيع أن أعزف بالطريقة التي أراها صحيحة )
( ولكن ألا يستحق الأمر التجربة , كيف يمكنك أن تسمح بضياع كل هذا المجد بدون أن تخوض معركة ؟الناس يتعلمون كيف يسيرون من جديد , ويفعلون أشياء أخرى كثيرة عقب تعرضهم للحوادث فلماذا لا تفعل أنت كذلك ؟ )
( لأن هذه الحالة مختلفة , فعندما يفقد المرء حاسة اللمس لا يمكنه استردادها ,أو استرجاعها على الأقل بدرجة الكمال الضرورية بالنسبة إلى عازف البيانو ,والآن أفضل ألا أخوض في هذه المسألة أكثر ...)
قال هذا بنبرة مثبطة للهمة ودعاها لمشاركته الشراب فاستجابت , رغم انها لم تكن ترغب لعلها بذلك تخفف من بعض آلامه وتزيل جو التوتر القائم بينهما .
وفي محاولة منها لتهدئة مشاعره صاحت قائلة :
( يا للسماء نسيت وتركت غرفة النوم بدون ترتيب )
وأسرعت إلى ترتيب الأشياء التي تركتها مبعثرة بعد انتهائها من استعدادات حفل الزواج ,ودخل آدم عندئذ فقالت له أنها لا يمكنها أن تظل ترتدي البيجامات الخاصة به ,فقال انها تستطيع ارتدائها فلديه ثلاثة منها وعندما سألته عن رأيه في الستائر التي علقتها على النافذة قال لها .:
( أعددت لنفسك مخدعا ً نسائيا ً )
ردت عليه في بطء بدون أن تنظر إليه :
( أعددت لنفسي ؟ إن أي شيء أفعله أو أصنعه هنا هو من أجلنا نحن الاثنين يا آدم وليس من أجلي وحدي لدي بعض الخطط لجعل المكان أكثر بهجة ,, أتمانع في قيامي ببعض التغييرات ؟)
( كلا , أفعلي ماشئت )
وجلست على السرير بعدما خلعت خفيها وقالت له أن مارك وعد بأن يعطيها بعض الطلاء ذي اللون البيج والأبيض وبطلاء الركن الذي يستخدماه في الطهو كذلك الحائط الموجود في أحد الجوانب ونقل المائدة إلى هذا المكان فإنه سيصبح لديهما مكان لتناول الطعام , وفي استطاعتها أن تصنع ستارا ً خلف المائدة , فسألها إذا كانت تستطيع القيام بالطلاء فقالت له أنها لا تعرف الطلاء ولكنها ستحاول أن تتعلم ستجرب أي شيء فقال لها أن هذه معتقدات الشباب , فسألته عن الخطأ في ذلك , فقال لها أن لا بأس بشرط أن يدرك الشباب أنه يجب عليه ألا يتوقف عن المحاولة وتحقيق أي شيء أظهر فشله في البداية , فقالت له أنها مستعدة لهذا أيضا ً وأنها تعتقد أنه يجب على المرء أن يحاول مرة أخرى,
وصمت آدم لحظة وسرى الجمود في عينيه من جديد ,وقد أحست أنه لم يخطي فهم المعنى الذي تقصده وقال لها :
( الأمر مختلف ,فأنا لم أكن فاشلا ً في البداية )
وخرج فجأة من الغرفة فقفزت من فوق السرير وتبعته بسرعة وهي تقول :
( لم أقصد هذا يا آدم , وأنت تعلم ذلك )
وإذ أحست روبين بأن المناقشة اتجهت اتجاها ً ينذر بالسوء أمسكت بذراعه وقالت له :
( آسفة , وأفهم موقفك جيدا أنني لمنزعجة فعلا ً كم كنت أتمنى لو لم يكن هودريك قد أثار هذا الموضوع , أنها غلطته )
فأبتسم آدم وهو يسألها :
( وكيف تكون تلك هي غلطته ؟)
فصاحت بلهجة أنثوية قائلة :
( أنها فعلا ً غلطته , فلقد تشاجرنا رغم أننا مازلنا في يوم زواجنا )
فرد عليها بفم ارتسم عليه تعبير التهكم وقال :
( وهل هناك فرق ؟ لا أظنك مازلت تحاولين التظاهر بالمشاعر العاطفية الشاعرية , لا حاجة بك لأن تفعلي هذا فنحن الآن وحدنا )
فسرت رعدة في شفتيها وقالت له :
( وهل تظن أنني كنت أتظاهر بتلك المشاعر ؟ )
فهز كتفيه باستخفاف قائلا ً :
( أصحيح أنك لم تكوني تتظاهرين ؟ وكيف لي أن أعرف ؟ )
( لم أكن أتظاهر , ولا أعتزم الآن التظاهر بأي شيء )
وأضافت قائلة بصوت منخفض :
( لم أقصد أيذاءك أو مضايقتك بأسئلتي , وعليك أن تعلم أننا كي نعيش سويا ً في وئام يجب أن نكف عن المبارزة , وألا يتصيد أحدنا هفوات الآخر )
فتنهد قائلا ً :
( نعم , وأعتقد أننا تحدثنا اليوم بما فيه الكفاية ,وكان اكتشافك أكثر عمقا ً مما ظننت )
فهمست متسائلة :
( مازلت أجهل السبب الذي جعلك تخفي عني , كان عليك أن تدرك أنني كنت سأعرف بذلك عاجلا ً أم آجلا ً )
( أعتقد أن السبب كان واضحا ً )
( وهو أنني كنت سأتزوجك بإعتبارك آدم فاند وأنا أشعر بالرثاء لحالك ؟ أليس هذا هو السبب ؟)
ولم يرد عليها فأشاحت بوجهها عنه في حزن وقالت :
( كنت أتمنى أن أعرف لأن الأمر كان سيختلف عندئذ , إذ لم أكن لأقبل الزواج منك لو أنني علمت بهذا ...)
( ولم لا ؟ )
( لأن الأمر غير معقول , ظننت أنك ترثي لحالي بسبب المأزق الذي أنا فيه ,وأعتقدت أنك تحتاج إلى بشكل ما , إلا أن آدم فاند ليس بحاجة لي , فقد استقر رأيه على الخط الذي يسير عليه في حياته , ولا أحد يستطيع أن يثنيه عن قراره , وخاصة تلك الفتاة التي استثارت فيه روح الفروسية الوهمية )
ورفعت رأسها في تحدى وهي تقول :
( أعدك بألا أظهر أي عاطفة أو أمنحها لأحد بعد الآن . ولكنني أذكرك بأن هذا لا يتفق مع الطبيعة البشرية , قلت أنت نفسك أنه إذا اجتمعت الإرادة والإخلاص لدى شخصين ففي امكانهما إقامة حياة مشتركة راسخة البنيان , كما أنك ذكرت أيضا ً أنني في حاجة إلى شخص يعيد تنظيم حياتي المرتبكة وأنا أقول لك بأمانة أنني لم أرغب في الزواج لأن رجلاً ما شعر بالرثاء لحالي فليس هذا في رأيي هو الأساس الذي يبنى عليه الزواج )
فقال لها في حدة :
( وهذا هو رأيي أيضا ً وأعتقد أنني أوضحته لك , كما أعتقد أنني ذكرت لك أيضا ً في البداية أنني سأترك لك تحديد مدى التقدم الذي يتم في علاقتنا العاطفية .)
فتسألت في إعياء :
( وأي تقدم يتحقق ؟ إن الأمر ..... أننا متزوجان )
( نعم .. ولكننا نقف عند مستويين عاطفيين مختلفين تمام الأختلاف ..)
وأضاف في تجهم قائلا ً :
( حسنا ً هل أنت مستعدة الآن لسماع الكلمات المعسولة وهمسات الغزل ؟ وهل سوف تصدقينها إذا تفوهت بها ؟)
وقاومت في نفسها الرغبة في الصياح لتقول له انها فعلا ً تحتاج إلى الكلمات الحانية وإلى الإحساس بأن مشاعره نحوها لا تتسم باللامبالاة . وأن هناك دفئا ً يخفيه وراء تلك المرارة الظاهرة . وأنها هي ليست مجرد شيء دخل حياته ليتعامل معه وفقا ً للمنطق الذي يرضيه ويشبع ميله للحياة المخططة طبقا ً لجدول أو نظام معين ..
تم هذا الزواج بناء على إقتراحه هو , وفي أي حال لم يتمكنا من أن يصبحا حبيبين لكن في استطاعتهما أن يكونا صديقين ..
وكان آدم يحدق فيها طويلا ً مما جعلها تفقد كل مقاومة وأحست بدمائها تكاد تشتعل ,أنه يعتقد أنها ترغب في ... واستطاعت بعد جهد أن تبقى على نظراته مشدودة إليها وهمست قائلة :
( أنك لا تجعل الأمر سهلا ً بالنسبة إلي , أليس كذلك ؟ هل تعتقد أنني أتطلع للظفر بحبك لي , أعرف جيدا ً أنه جرت العادة على أن يخطو الرجل الخطوة الأولى )
( نعم , ولكن ليس في مثل هذه الحالة , وقد اعتقدت أنك فهمت ذلك , ولا أظن أن حق الحب يمنح بدافع من الشعور بالواجب ,وكأنه التزام يمليه التقليد المتعارف عليه )
فتنهدت روبين وضغطت على شفتيها وقالت :
( وهل يجب أن تصدر هذه العاطفة عن الحافز المحرك للحب أو عن مجرد الرغبة ألا تدرك أن المودة تنشأ عن الكرم وعن التقارب في حياة الوحدة أو هي تنشأ عن المصالح المشتركة , هناك أشياء كثيرة جدا تولد هذه العاطفة بحيث يطول شرحها ..)
أشاحت بوجهها عنه وأضافت قائلة :
( أنك في حقيقتك رجل كريم جدا ً على الرغم من الشخصية الأخرى التي تحتجب خلف جدار في داخلك .. أعطيتني الشيء الكثير ..)
وأخذت تجول ببصرها تلقائيا ً في ارجاء الغرفة وتنظر إلى خزانة الملابس المفتوحة وقد ظهر مابداخلها ,وأضافت تقول :
( منحتني بيتك .. وأنا لايمكنني أن أظل أخذ وأخذ بدون .... )
وتوقفت عن الكلام مرة أخرى وقد أعيتها الحيلة , وأحست بصراع في داخلها وبنوع من الخجل لأنها أصبحت تعتمد على شفقة وكرم رجلا ً غريب ,ولأن هذا الغريب عرف طريقه إلى قلبها بصورة ما قبل أن تدرك مدى الخطر الذي ينطوي علية تلك الرابطة الحمقاء ... ورد عليها آدم في هدوء :
( أعرف هذا , ولكن لا تظني أنني تطلعت لشرائك أو شراء الشفقة منك بصندوق مليء بالملابس القديمة ؟ تزوجتك ياروبين لأحميك , وهذا هو كل مافي الأمر , تصبحين على خير .. وليباركك الله )
وأغلقت روبين باب غرفتها لتعود إلى عزلتها اليائسة وخلال الصمت الذي خيم حولها أخذت تسترجع كلماته التي وجدت صدى لها في دقات قلبها أنه هو وليست هي , الذي أوضح من الذي يقرر مدى التقدم في علاقتهما العاطفية إلى أين سينتهي بها هذا الوضع ؟؟؟
انتهى الفصل