المنتدى :
القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
زائر المصعد الكهربائي ، بقلم : فاطمه بنت السراة ..
بسم الله الرحمن الرحيم
زائر المصعد الكهربائي - قصة بقلم فاطمه بنت السراة
ــــــــــــــ
مرض الرجل الثري، والتفت الزوجة والأبناء الثلاثة حوله.. كُل يريد خدمته والبرّ به..
أعيته المراجعة اليومية للعيادة الخاصة الشهير علاجها بالإبر الصينية المُذهبة..
فكّر في الاستسلام لقدره، والخلود في البيت بعد رحلة عمل طويلة ملأى بالنجاح والفشل، إلى أن يحين الأجل..
كان في الرابعة والستين لمّا مرض, وكان الأبناء والزوجة يعشقون رعايته..
فكّروا في نقل حجرته إلى الطابق الأرضي بدلاً من الثاني،
استحسنت الأم الفكرة، لكن الابن الأكبر اقترح بناء مصعد كهربائي خلف حجرة نوم الأب مباشرة..
هلّلوا للفكرة الجديدة، وباشر العمّال العمل.
وقعت حادثة مؤسفة كما قال لهم المُقاول: "سقط أحد العمّال في هاوية المصعد .. لقي حتفه سريعاً.. تناثرت جمجمته بدمائها وعظامها في كل مكان..
يحدث هذا دائما لمن له مثل عملنا.. بالطبع أعطينا لأهله تعويضاً"..
بعد خمسة أشهر كاملة, كان المصعد الكهربائي ينقل الثري وأبناءه إلى العيادة كل يوم..
اعتادت الأم يومياً بعد صلاة المغرب بقليل على سماع المصعد نازلاً برجلها والأبناء، وبعد سـاعة أو اثنتين صاعداً بهم الى فوق..
اتخذت في حجرة النوم مقعداً لها، بالتمام مقابل بابي المصعد الفضيّين .. تُودع خروجهم وتستقبل أوبتهم، مُنصتة إلى هديره وقعقعة المتاريس التي تحمله..
تجربة جديدة بهرتها في قعر دارها بل وفي حجرة نومه..
واشتد مرض الأب، فقرّروا له السفر إلى طبيب بارع في الخارج.
رافقه اثنان مـن الأبناء فجر أحد الأيام، وبقي الأصغر مرافقاً لأمه ولدروسه..
***
بالكاد مرّ الصباح وجزءٌ من المساء على المرأة أول أيام غيابهم..
جعلتها العادة تتخذ مجلسها الذي اعتادت عليه يومياً بعد صلاة المغرب، جلـست هناك تشرب قهوتها، وحيدة، مفكرة..
فجأة فُتح البابان الفضيّان،
رفعت رأسها بهدوء.. طالعها وجهها في المرآة الداخلية للمصعد.. ثوان وانغلق..
سمعت هديره وقعقعة المتاريس هابطاً إلى الأسفل..
"بسم الله الرحمن الرحيم"..
ذكرت اسم الله تلقائياً، ثم عادت لتفكيرها..
بعد ساعة, سمعت نفس الهدير صاعداً هذه المرة،
جمدت،
نفس موعد عودتهم اليومي.
انفتح البابان بهدوء،
لم يكن هناك أحد،
لا حركة، لا صوت خطوات..
وجهها فقط طالعها في المرآة.
***
لمّا حكت لابنها الأصغر ما حدث، رافق وحدتها مُستعيناً بكتاب جامعي وكثيراً من البرّ لأمه، لقتل الوقت..
في الوقت المحدّد, كانت أنفاسها في تسارع، وخفقان قلبها في ازدياد..
ربما الآن،
والفتى مشغولٌ بالقراءة وبأحلام يقظته، ناسٍ ما حضر لأجله،
انفتح الباب فجأة،
وضعت هي راحتها على قلبها تهدئ خفقانه، مُتمتمة بآيات قصار،
وتوقف هو عن القراءة،
رفع رأسه تجاه البابين المفتوحين,
لم يرَ شيئا، لم يسمع أي صوت!
فقط نسخة وجهيهما في المرآة.
أراد مغادرة البيت مُتعللاً بالذهاب إلى "المقاول" الذي أشرف على بنائه، إلا أنها رجته بالبقاء ساعة أخرى..
- مؤكد به عُطلْ.
قالها للاطمئنان الذي بدا بالفعل يأخذ مكانه إلى صدره..
- لكن التوقيت هو نفسه!
- أي توقيت؟
- خروجكم وعودتكم.
سـكتت بعدها الأم التي كانت على وشك البكاء..
حاولا بعدها قطع الوقت بالكلام، فلم يفلحا..
طلبا القهوة سوياً، وكلاهما نسِيَ شربها إلى أن بردت!
أوهم نفسه بأنه مشدودٌ إلى كتابه الذي أحضره، وأنّ هذه الكلمة التي أمامه هي اسم لامرأة عظيمة صنعت لها تاريخًا وسُجّل صنيعها في القرآن بإيمانها القوي..
قرأها بصوت عال: "آسيا بنت مُزاحم" امرأة فرعون جبّار مصر..
"رمسيس الثاني" هل هو "رمسيس الثاني"؟ .. حاول أن يستحضر وعيه، لكنه فشل..
رفع بصره إلى أمه التي كانت بصمت تنظر إليه.
قبل آذان العشاء بقليل, سُمع نفس الهدير الصاعد..
نظر برجاء إليها، لا تدري لماذا أمسكت بيده،
توقف الهدير، وبعد لحظة لم تطل، فُتح البابان،
وكالعادة .. لا أحد.
خابر المقاول الذي حضر سريعاً،
كشف على الكهرباء، تفحص السيور والمتاريس..
جرّبه مرارا، صعوداً وهبوطا
- لا علّة به.
أخبرته الأم بالحكاية من بدايتها. تفكّر فيها بعجب، واعداً إيّاها بالحضور مساء الغد..
وفي نفس الموعد، من بعد صلاة المغرب مباشرة، انسحبت الأم الى الحجرة المقابلة، مفسحة مكانها لابنها وللمقاول..
سمعتْ بوضوح صوت فتح البابين،
بالكاد سارت إلى باب حجرتها متلفعة بغطائها ..
انغلق البابان لحظة وصولها، وسُمع الهدير هابطاً إلى الأسفل..
كان وجه الرجل في لون الكركم الأصفر! أما ابنها, حاول أن يبدو أكثر شجاعة..
طلبت لهما الشاي وبعض المُعجنات،
طال الوقت وهما في ترقب.
في الموعد المُحدد، سُمع الهدير الموعود صاعداً..
وبهدوء فُتح البابان على .. لا أحد.
بعد صمت مليء بكل شيء، تنحنح المقاول:
- المصعد في حال طيب، لكن... هل تُؤمنان بالأرواح؟
فغر الفتى فاه، ونطقت الأم:
- لا أرواح، ولا أشباح... كل هذا اللغو .. هُراء.
نفض يده بحيرة:
- وأنا أيضا, أعتبر كل هذا هُراء.
- لِم السؤال إذن؟
لم تكن تعرف بالحادثة القديمة, أبناؤها الثلاثة فقط عرفوا..
أخبرها الرجل بما كان.
ذهلتْ، استغفرتْ، ودعتْ للميت بالرحمة.
هزّت رأسها الذي شاخ:
- ربما عبث شياطين، لكن أرواح وانتقام .. كل هذا لا يدخل العقل.
- سأغلق كهرباءَهُ من اليوم .. لن يعمل المصعد، ولنر ما يحدث غدا..
***
وأتى الغد، وكثير من الخوف قد تراخى..
المصعد مُعطّل.. لا كهرباء تدفع سيوره الحديدية إلى الأعلى، ولا كهرباء تُجبره على فتح الباب، ولا كهرباء تُعيده هابطاً ثانية إلى الأسفل..
كان المقاول معهم بصوته على الهاتف، والفتى وأمه في حجرة النوم، على نفس المقعد الطويل المقابل للبابين الفضيين..
دون سابق إنذار, ودون استعداد منهما, انفتح البابان.
شهقت الأم.
وجفّ ريق الفتى.
وحضر المقاول الذي فَهِم على عَجل.
انتظروا الموعد الأخير في ذلك اليـوم.. حَدَث قبل صلاة العشاء،
سُمع الهدير واضحاً صـاعداً إليهم أمام دهشة المقاول الذي أغلق مفتاح الكهرباء بيديه مساء الأمس..
وأخيراً توقف الهدير، وأمام الأعناق المتوترة المُشرئبة إلى الأمام،
بهدوء, فُتح الباب,
لا أحد!
لم يكن هناك أحدٌ!!
لا ظل، لا طيف، لا صورة واضحة...
فقط: وجه، وجهان, ثلاثة وجوه ... كانت خائفة في المرآة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
|