لم تكن "ميري كودوين" تدري أن روايتها الوحيدة التي كتبتها بعنوان "فرانكنشتين" سوف تُحِدث هذا الكم الرهيب من الجدل والنقاش والرعب.
فيبدو أن الحياة العجيبة التي عاشتها "ميري كودوين" ابنة "وليم كودوين" -المناظر الاجتماعي في عصره ومؤلف كتاب "العدالة السياسية"- وارتباطها عاطفياً بالشاعر الإنجليزي "وولستونكرافت شيلي" عام 1814م، وبالرغم من كونه متزوجاً من امرأة تدعى "هارييت" إلا أنه هرب مع "ميري" إلى أوروبا في نفس عام ارتباطهما؛ حيث استقرا في جنيف مع أخت "ميري" غير الشقيقة "كلير" وهناك التقيا بالشاعر "بيرون" وعاشا معه فترة من الزمن وفي عام 1816م انتحرت "هارييت" زوجة "شيلي" وتزوج "شيلي" و"ميري" بعد أيام من وفاتها!!
ومن خلال إشراف "ميري" على أعمال "شيلي" الشعرية اكتسبت خبرة أدبية لا بأس بها، كل ذلك كان وراء إبداعها الأدبي المرعب والغريب، والأغرب من ذلك أن عمر "ميري" عندما انتهت من روايتها الوحيدة والعظيمة لم يتعدّ العشرين عاماً وعندما بدأتها كان عمرها تسعة عشر عاماً!!
وبالرغم من أن "ميري" ولدت عام 1798 وتوفيت عن ثلاثة وخمسين عاماً عام 1851م فإنها على ما يبدو قد اكتفت برائعتها الأدبية "فرانكشتين" التي تُرجمت إلى عدة لغات وتحولت إلى أعمال سينمائية.
رسمت "ميري شيلي" رائعتها هذه عبر عدة دوائر حكي روائي، فجعلت من نفسها الراوي الخارجي العام، والراوي الداخلي الأول وهو السيد "وولتن"، والراوي الثاني الداخلي وهو "فرانكنشتين" الذي ابتكر المسخ، بالإضافة لراوِ ثالث هو "السير ألتر" أو "السيد العفريت".
كان "فرانكنشتين" في صباه يحلم بالحصول على حجر الفلسفة وأكسير الحياة وجعل الإنسان محصنا من المرض، فدرس التاريخ الطبيعي للإنسان الذي أوحى له بفكر من جوهر الحياة حتى توصّل بعد جهد خارق وبحث مستمر في التجارب والأبحاث إلى صياغة بدن إنسان قوي عملاق بطول 8 أقدام، معتقداً أن عمله سيبارك من قبل الإنسانية؛ إذ يقول في الرواية "إن الإنسانية سوف تدين لي لأني منحتها بشراً راقياً قوياً".
حين تكامل صنع الإنسان الجديد بعد سنتين من العمل شعر "فرانكنشتين" برعب شديد من المسخ الذي صاغه، فقد كان قبيحاً مخيفاً، وظل "فرانكنشتين" مرتعباً منه، وقد هرب المسخ منه بعيداً فوقع صانعه أسير المرض لفترة طويلة قتل خلالها ذلك المسخ "وليم" الصغير شقيق "فرانكنشتين"، ثم واصل قتل غيره من أقرب الناس إلى صانعه دون سبب واضح سوى إشعار الصانع بالذعر والخوف منه والخضوع لإرادته، لكن "فرانكنشتين" قرر قتاله والقضاء عليه.
وهكذا بدأ الصراع طويلاً مريراً بين الصانع والمصنوع، ثم حدث ما لم يكن في الحسبان..
فقد اقترب المسخ المشوه من صانعه، وأعلمه صراحة بكل جرائمه، قائلاً إنه سيكف عن ذلك إذا قدر لـ"فرانكنشتين" أن يصنع له "مسخة" مثله طويلة القامة متينة البنيان تستطيع أن تعاشره ليكتسب السعادة التي يفتقدها؛ إذ لا أحد يرحب بالحوار معه أو العيش بجواره لأنه في نظرهم كائن مرعب.. ثم يقول المسخ "أنت تمقتني وتزدريني.. أنا صنيعتك التي ترتبط إليها بروابط لا تنحل إلا بإبادة أحدنا، أنت تقصد قتلي فكيف تجرؤ أن تعبث هكذا بالحياة، قم بواجبك نحوي وسوف أقوم بواجبي نحوك ونحو بقية النوع البشري إذا استجبت لشروطي، وعندما حاول "فرانكنشتين" الهجوم على مسخه زاغ منه وهو يردد "أنا الذي يستحق عدلك ورأفتك ومحبتك.. ينبغي أن أكون آدم الخاص بك بيد أني الملاك الساقط الذي طردته من البهجة لذنب لم يقترفه".
وخلال حوارهما المتعب المعذب المليء بالصراحة والشعور بالذنب من قبل "فرانكشتين" تتضح أهداف الطرفين بعدما حدث، فالصانع نادم على ما فعل لأنه خالف سنن الطبيعة والحياة بصياغته نوعاً متفرداً من البشر الأعداء للإنسانية، والمصنوع يريد أن يكون "آدم" الجديد وهو بحاجة لـ"حواء" لكي تتشكل أجيال أخرى مثله، لكن "فرانكنشتين" -إزاء خوفه من استمرار المسخ في قتل الناس- يعده بـ"صياغة" إنسانة مثله شرط أن يمتنع عن سفك الدماء؛ فيعده المسخ ويبتعد سعيداً في انتظار "حواء".
ويقول "فرانكنشتين" في نفسه إنه مضطر لهذا العمل القذر، ويبدأ في جمع المواد اللازمة لصياغة "حواء" الجديدة والأفكار السوداء تنتابه حول تناسل المسخ والمسخة وصياغة أجيال دموية.
وفي وقت كان فيه المسخ يراقب صانعه وهو يعمل معتكفاً لمحه "فرانكنشتين" ولمح في وجهه الشاحب أقصى حدود الحقد والغدر، عندئذ أيقن الصانع النهاية المأساوية لو صنع "حواء" لتحصد مع "آدم" الإنسانية المسكينة، فحطم "فرانكشتين" ما بناه من مواد أولية لصياغة "حواء" واندفع العفريت مهدداً صارخاً مبتعداً ثم عاد إلى "فرانكشتين" معلناً بغضب "أيها العبد، أثبت أنك غير جدير بتلطفي.. تذكر أني أمتلك القوة وأنك بائس وأستطيع أن أجعلك تعيساً جداً حتى يكون النهار بغيضاً إلى نفسك.. أنت خالقي ولكني سيدك فأطعني"، ويهرب بعدها المسخ مهدداً "فرانكشتين" بالانتقام منه ليلة زواجه.
ويتم ذلك فعلاً ويقوم المسخ بخنق "إليزابيث" خطيبة "فرانكنشتين" ليلة عرسها بعد أن قتل قبلها أُناساً عديدين.
وتستمر مطاردة العبد والسيد والصانع والمصنع، وهي مطاردة دامية مسرحها الجليد والجبال بحيث يصل "فرانكنشتين" ساعياً وراء المسخ إلى القطب الشمالي حيث سفينة السيد "وولتن" الذي أنقذ بحارته "فرانكنشتين"؛ لتنشأ علاقة صداقة قصيرة بينه وبين السيد "وولتن"، ويموت بعد أن يقص عليه كل ما حدث. وهنا ظهر المسخ لـ"وولتن" وحكى له كيف أنه جاور أسرة في منطقة نائية، وعرف منها طعم السعادة الأسرية، ثم يعلن المسخ أن مهمته على الأرض قد انتهت بموت صانعه؛ إذ لا أمل له في البقاء، وسيموت نوعه عند موته؛ لذا فإن قتل أي إنسان آخر لا معنى له مادام قد فقد سلطة التهديد على "فرانكنشتين" الذي انتهى.
ويُعد البعض رواية "ميري" هذه واحدة من أوائل روايات الخيال العلمي، في حين يرفض البعض الآخر هذا التصنيف بشدة، لأسباب شخصية، أو لنزعات دينية خاصة، ولكن أكثر ما يلفت النظر هو ذلك الخلط العجيب في أذهان الجميع بين المسخ وصانعه؛ حيث أطلقت كل الأفلام السينمائية تقريباً اسم "فرانكنشتين" على المسخ نفسه، على الرغم من شهرة وانتشار العمل الأدبي.
تحياتي للجميع