كاتب الموضوع :
ثم كانت الذكري
المنتدى :
الارشيف
الفصل الثالث عشر
بداية جديدة
زياد
نزلت السلالم بسرعة وأنا أشعر أن كل ضربها تضربها قدمي علي درجات السلم تحاول أن تخفف ولو بقدر ضئيل من ذلك الغيظ الذي يكاد يخنقني.. لو لم تكن مريضة لعرفت كيف أتصرف معها.. كيف تعاملني بهذه الطريقة؟؟ هل نسيت أنها تعيش في منزلي .. وأن الغرفة التي طردتني منها منذ قليل هي في الأصل ملكي؟؟ توجهت إلي المبني الملحق بالفيلا والذي يحتوي علي حمام السباحة.. ألقيت بنفسي في الماء البارد لعله يخفف من سخونة عقلي الذي يكاد يشتعل.. كانت فكره حمقاء أن أجلبها لتعيش معي في نفس المنزل.. أخذت أضرب الماء بقوه وكأنني انتقم منه ومنها.. وبعد سباحة طويلة أقنعت نفسي أن الحل الوحيد ألا أحاول الاحتكاك بها مرة أخري.. عدت للمنزل فوجدت إلينا التي قالت لي بجفاف بمجرد رؤيتي: كف عن التجول في المنزل بملابس السباحة بهذا الشكل .. هناك فتاة الآن في المنزل وبالتأكيد هي لا ترغب في رؤيتك هكذا.
بدأت أزداد اشتعالا.. ما الذي تفعله إيمان هذه للجميع .. حتى إلينا تدافع عنها كأنها ابنتها. قلت لها في غيظ: وما الذي سيؤذيها في مظهري ؟؟ ألم تذهب للشاطئ من قبل؟؟ وهل وجود هذه الفتاة سيجعلني لا أستطيع أن أمارس حريتي في منزلي؟؟؟
صرخت في غضب: حريتك .. حريتك .. تتشدق طوال الوقت بتلك الحرية المزعومة ولكن ماذا فعلت بها حقاً؟؟ لا شئ.. وتتعامل مع الناس باحتقار وإهمال كأنهم لا شئ.. تحبس نفسك في قوقعة مظلمة .. تنتظر جودو الذي لن يأتي أبدا.. لا تجعلني أغضب أكثر من ذلك فإن غضبي يمكن أن يجعلني أنطق بالكثير من الأشياء التي لن تحبها حقا.. هيا ابتعد عن طريقي.
قالتها وهي تدفعني بيدها لتمر .. أستطيع أن أحتمل غضب أي شخص في العالم إلا إلينا.. ثم إنها لو ظلت غاضبة فستقول الكثير مما يمكن أن يضايقني بالفعل.. أعرف أساليبها في الضغط وأنها ستحصل في النهاية علي ما أرادته .. الأفضل أن أستسلم الآن قبل أن تجرني إلي معركة أعرف أنها ستفوز بها كالعادة في النهاية. قلت: حسنا إلينا إنني استسلم .. ما هي طلباتك.
تغير وجهها في ثانية واحدة . وبدلا من الوجه الغاضب ونظرات الاحتقار التي كانت تطالعني بها منذ لحظات التفتت إلي ووضعت يدها علي كتفي وهي تبتسم وقالت: لست أطلب منك الكثير يا عزيزي .. أريدك أن تبدي بعض الاهتمام نحو تلك الفتاة المسكينة.. فقط تناول معها طعام الغذاء في كل يوم وحاول أن تأخذها للتنزه من وقت لآخر.. أتري؟؟ طلباتي في غاية البساطة.
بساطة؟؟ لو طلبت مني أن أسافر لأدغال إفريقيا لأجلب لها أحد الأسود لكان طلبها أكثر رحمة بي .. ألا يكفيني ما عانيته طوال الليلة الماضية وصباح اليوم من جراء إبداء القليل فقط من الاهتمام نحو تلك الفتاة..الـ.. المسكينة؟؟ أي مسكينة؟؟؟ إنها متوحشة ووقحة .. أنا المسكين حقا في هذا المنزل .. ولكن ما جدوى الاعتراض؟؟ أعرف إلينا جيدا.. اعتراضاتي كلها لن تجدي معها ولن أجلب علي نفسي إلا المزيد من اللوم والتقريع وبالتأكيد ستذكر موضوع ساندي وهذا ما لا أرغب فيه الآن .. آه يا ساندي .. أنت الآن نقطة ضعفي الوحيدة .. كما أتمني لو أتخلص منك يوما لأعود قويا كما كنت. ليتني سمعت نصيحة أمي وعشت بلا قلب.. قلت لها في استسلام : حسنا إلينا سأفعل كل ما تريدين.
قالت: ولد جيد.. كنت أعلم أنك لن ترفضي طلبي.. هذا هو ولدي حقاً.
قلت لها: ولكن لا أعتقد أن ذلك سيكون قريباً .. فصديقتك مريضة منذ الأمس وستضطر خططك للانتظار بعض الوقت بالتأكيد حتى تتماثل للشفاء.
نظرت إلي في دهشة وقالت: إيمان مريضة؟؟؟ كيف؟؟ لقد تركتها أمس في صحة جيدة. ثم نظرت إلي في شك وقالت: زياد؟؟ إنك لم تؤذها أليس كذلك؟؟
قلت لها: أؤذها؟؟ من تظنيني حقا؟؟ جاك السفاح؟؟ بالتأكيد لم أفعل. لقد أصيبت بهستريا عندما أنقطع التيار الكهربائي أمس وأحضرت لها طبيب .. إنها بحالة جيدة الآن.. كما أن لسانها في حالة جيدة جداً.. بالمناسبة أرجو أن تضعي لسانها هذا في محلول مطهر قبل أن تبدئي في تنفيذ خططك الشريرة تجاهي.. ثم أسرعت أصعد غرفتي جريا حتى لا أستمع لشتائم إلينا المعتادة التي أطلقتها خلفي.
ارتديت ملابسي بسرعة ثم تسللت خارجا من المنزل حتى لا أقابل إلينا من جديد .. ذهبت للعمل.. يبدو أن المشاكل تطاردني من كل مكان.. أتصل هنري من الكويت ليخبرني أن المشاكل هناك أكبر مما نتوقع بكثير.. هناك بعض الاختلاسات بالإضافة إلي أن العديد من العقود لم يتم تنفيذها أو نفذت بطريقة سيئة جعلت أصحابها يطالبون بالتعويضات والشروط الجزائية وقال أنه سيقضي هناك بعض الوقت ليستطيع حل تلك المشكلات .. سمعة الشركة التي قضي أبي وأمي حياتهما في بنائها ستبدأ في الانهيار.. هل سأستطيع أن أنقذ ما يمكن إنقاذه؟؟ أم سألعب دور الابن الفاشل الذي سيضيع ميراثه العظيم.. الهاتف يدق؟؟ هل هو هنري من جديد؟؟ أرجو ألا يحمل لي المزيد من الأخبار السيئة.. أخرجت الهاتف من جيبي .. إنها ساندي مرة أخري.. ألا تكف أبداً.. أريد أن أنساها .. قذفت الهاتف نحو الحائط فسقط محطماً .. شعرت بالارتياح وأنا أتخيل حبي لها يتحطم مثل ذلك الهاتف.. أهذا وقت التفكير الحب والحماقات؟؟ أعمالك تنهار يا أحمق .. فتحت الملفات التي تحتاج لمراجعه وبدأت أنهمك في العمل.
إيمان
استيقظت من النوم وأنا أشعر برأسي ثقيل .. وكأنني كنت تحت تأثير مخدر قوي.. هناك ألم بسيط في ذراعي.. هل أعطاني أحدهم حقنة؟؟ أتذكر أطياف من أشياء حدثت أمس لا أدري عما إذا كانت واقع أم أحلام.. وكأن أبي عاد وتحدث معي وطلب مني ألا أحزن وقال أنه وأمي بخير.. حلمت أيضاً أنني تشاجرت مع زياد لأنني وجدته في غرفتي.. ألا يتركني زياد هذا أشعر ببعض الهدوء حتى في أحلامي؟؟ حاولت أن أجلس في الفراش فشعرت بجسدي يؤلمني وكأن شخص ما قضي طوال الليل يضربني بالعصا.. رأسي مشوش جداً.. يا له من صباح غريب .. لمحت الكتاب الذي كنت أقرأ فيه أمس ملقي علي الأرض وكأنني قذفته بعيدا في لحظه غضب .. العجيب أنني أشعر أن أشياء حدثت أمس ولكنني لا أتذكر أيا منها.. هناك العديد من الأحداث المختلطة في رأسي.. لا أستطيع الفصل بينها .. صورة أبي تختلط بصورة زياد ثم تعود صورة أمي نحتل رأسي .. ثم صورة زياد عندما أفقت في المستشفي ووجدته بجواري.. ثم صورة إلينا والدموع تملأ عينيها .. رأسي يزداد ثقلاً .. أحاول أن أدفع كل تلك الصور بعيدا.. أحاول التركيز في ما يمكن أن يكون قد حدث بالأمس .. لماذا ألقيت هذا الكتاب أرضا بتلك الطريقة آخر ما أتذكرة أنني كنت أجلس علي فراشي أقرأ.. ولا أتذكر أي شيء بعدها.. كنت وقتها أشعر بالغيظ من زياد لأنه وضعني في الغرفة التي كان قد أعدها لحبيبته السابقة .. ماذا يظن؟؟ أعقد الزواج هذا سيجعلني بديلة لها؟؟ فليذهب للجحيم .. ربما تلك الأفكار حي ما جعلتني أحلم بأنني أتشاجر معه.. لكنني لست أفهم .. لماذا أشعر بهذا الألم؟؟ تقلبت في الفراش .. عجبا كيف أتي هذا الكرسي بجوار السرير؟؟ لقد اعتدت أن أضعه بجوار النافذة لأستطيع أن أتسلي بمشاهدة الحديقة.. لقد حلمت أن زياد كان يجلس علي ذلك الكرسي.. هل كان زياد في غرفتي حقاً؟؟ أم أنني وضعته بجوار الفراش أمس ونسيت؟؟؟
انفتح الباب فالتفتت نحوه في خوف.. لا بأس إنها إلينا.. قالت: كيف تشعرين الآن يا عزيزتي؟؟ أرجو أن تكوني أفضل حالاً الآن.
ماذا تعني بذلك؟؟ قلت: ماذا حدث أمس يا إلينا؟؟ هل كنت مريضة؟؟.
قالت: مجرد وعكة بسيطة يا عزيزتي.. يقول زياد أن أعصابك قد تأثرت قليلا بسبب انقطاع التيار الكهربائي.. يبدو أنك تخافين الظلام.. قلت لزياد مئة مرة أن يسرع بتركيب مولد احتياطي لكنه كسول .. لا تقلقي يا عزيزتي يقول الطبيب أنك بخير.
قلت: طبيب؟؟ هل أحضرتم لي طبيب؟؟
نظرت إلي في دهشة وقالت: بالطبع يا عزيزتي.. قد يبدو زياد فظا ولا مبالي في بعض الأحيان ولكه في الحقيقة يهتم بالآخرين كثيرا..وإن كان لا يحب أن يظهر ذلك.
إذا لم يكن حلماً.. كل ما حدث أمس كان حقيقياً.. هل كان زياد يجلس بجواري لأنني مريضة حقا؟؟ وأنا التي تشاجرت معه .. أنا أيضا في بعض الأحيان أصبح فظة وغير مراعية لشعور الآخرين..أعتقد أنني يجب أن أعتذر له عما فعلت.. لقد قضي ليلته علي كرسي فقط ليطمئن علي صحتي وأنا كنت مندفعة ووقحة معه حقا .. حسنا سأعتذر له الليلة.
لكن أتذكر أنني اندفعت علي السلم بسرعة وأن شخص ما تلقفني في أحضانه وحملني إلي غرفتي.. إذا لم يكن ذلك حلما فبالتأكيد لم يكن ذلك الشخص أبي كما تخيلت.. هل كان زياد .. آه هذا مخجل حقاً.. أعتقد أن الدماء قد اندفعت لوجهي بشده فقد وجدت إلينا تقول: وجهك شديد الاحمرار يا عزيزتي أرجو ألا تكوني قد أصبت بالحمى .. ثم وضعت يدها علي جبهتي وقالت: حرارتك طبيعية ربما احمر وجهك من أثر النوم.. سأتركك ترتاحين وأعد لك الإفطار.
أصرت إلينا أن أقضي معظم اليوم في الفراش وفي المساء قالت: هناك فيلم رائع في التلفاز اليوم هل ترغبي في مشاهدته معي؟؟ القلب الشجاع لميل جيبسون بالتأكيد تعرفينه.
قلت: نعم.. أحبه كثيراً.
قالت: هيا إلي غرفة المعيشة إذا فالشاشة الضخمة هناك تجعلني أشعر بأنني أعيش مع أحداث الفيلم.
جلسنا معا في غرفة المعيشة ولكن بعد ساعة واحدة من أحداث الفيلم قالت إلينا: أشعر بنعاس شديد يا عزيزتي.. أكملي أنت الأحداث أم أنا فسأتوجه للفراش.
فكرت أن أعود لغرفتي ولكنني قررت البقاء حتى انتهاء الفيلم .. غاليا ما أبكي كلما شاهدت هذا الفيلم.. أما اليوم فلم أبك ولكني كنت أشعر باختناق شديد كدا يكاد يكتم أنفاسي وعندما قتلوه في مشهد النهاية وجدتني أنفجر في بكاء شديد جدا.. بالتأكيد لم أكن أبكي بطل الفيلم فقط.. ولكنني أكره الموت والفراق كثيراً.. كنت أبكي كل من أحببتهم وتركوني .. كنت أبكي أبي .. أمي.. جدتي.. وحتى خطيبي السابق كنت أبكيه.. لا لأنني أحبه ولا لأنني أفتقده ولكن كنت أبكي نفسي في شخصه فلو لم يكن شخصاً وضيعا لكانت حياتي بالتأكيد أسهل الآن.. ربما كنت قد أصبحت زوجة وأم مثل صديقاتي وعوضتني عائلتي الجديدة تلك عن عائلتي التي فقدتها .. أما الآن فلا يوجد في حياتي شيء واحد حقيقي.. كل شئ في حياتي مزيف.. زوجة مزيفة .. أعيش في منزل ليس لي.. في حجرة فتاة أخري.. لا شيء حقيقي في حياتي الآن علي الإطلاق .. أعيش في وهم.. كل ما في حياتي الآن وهم. ضممت ركبتي لصدري أكثر.. وأسندت رأسي عليها .. أتمني لو أتلاشي من هذا العالم فربما كان ذلك أكثر راحة للجميع.
سمعت صوتا عند الباب .. فرفعت وجهي الذي أغرقته الدموع لأري القادم.. حاولت أن أتماسك فقد كنت أظن أنها إلينا قد عادت.. ولكني رأيت آخر شخص أرغب في رؤيته في تلك اللحظة.. زياد.
زياد
دخلت إلي المنزل وأنا أشعر بتعب شديد .. الوقت متأخر جدا.. العمل وحدي شيء مرهق جدا.. متي سيعود هنري؟؟.. أشعر بأهميته دائما عندما يغيب.. كان يوفر علي عمل الكثير من الأشياء التي يجب أن أقوم الآن بأدائها بنفسي.. لمحت ضوءا ضعيفا في غرفه المعيشة.. يبدو أن إلينا قد نامت أمام التلفاز مثلما تفعل أحياناً.. سأدخل لأوقظها لتكتشف أن رقبتها قد تشنجت كالعادة.. حثي تلك الأحداث البسيطة التي كانت مضحكة في الماضي أصبحت جزء من روتين حياتي الممل.. أتمني لو أكسر الملل ولو لمرة واحدة فقط.
عندما اقتربت من الغرفة سمعت صوت بكاء ونشيج مرتفع.. هذه ليست إلينا بالتأكيد.. هل هذه إيمان؟؟ نعم.. توقعاتي صحيحة.. يا لهذه الفتاة.. يبدو أنها لن تتوقف عن الحزن حتى تموت.. ما الذي يمكنني أن أفعله لها.. لم تراني في البداية.. كانت تبدو رقيقة جدا وهشة.. أعشق منظر المرأة وهي تبكي .. ففي تلك اللحظات تبدو في قمة رقتها وضعفها وأنوثتها.. فأشعر أنا بالضعف أمامها وبأنني أرغب في أن أفعل أي شيء في العالم لأوقف بكائها.. نزلت علي ركبتي بجوار كرسيها وناديتها بصوت خافت: إيمان.. رفعت إلي عينين حمراوان مملوءتين بالدموع .. لا أحتمل أنا أري دموعها.. هذه نقطة ضعفي .. نسيت كل ما فعلته بي في الصباح.. وتذكرت فقط أنها فتاه ضعيفة تحتاج لمساعدتي.. قلت: لماذا تبكين؟؟
أجابت وشهقاتها تجعل كلماتها تخرج متقطعة: الفيلم.. أكره الفراق.. أكره الموت.
تساقطت دموعها في غزارة .. أمسكت بذقنها لأرفع رأسها ومددت أصابعي أمسح دموعها .. كم كنت أرغب في أن أضمها إلي صدري في تلك اللحظة لأربت عليها كقطة صغيرة ناعمة.. وكأنها قرأت أفكاري شعرت بها ترتجف فجأة وعادت برأسها بسرعة للخلف.. شعرت بالإحراج كثيرا ولكني حاولت أن أتغلب علي ذلك بسرعة .. وقررت أن أفعل شيئا لأخرجها من هذا الحزن..فكرت.. ما الذي أحب فعله عندما أشعر بالحزن؟؟ غالبا جولة بالسيارة فالهواء المنعش يساعدنا علي التخلص من أفكارنا السيئة.. حسنا فلأفعلها إذن.. قلت لها: إيمان.. غيري ملابسك بسرعة.. سنخرج في جولة بالسيارة.
نظرت إلي في دهشة وقالت: الآن.
قلت في حزم: نعم الآن.. هيا أرتدي ملابسك وانزلي بسرعة و إلا صعدت لإحضارك بنفسي.
نظرت إلي كأنها تنظر لشخص مجنون ولكنها صعدت وعادت بعد خمس دقائق وقد ارتدت ملابسها.. يبدو أن تهديداتي قد صارت مجديه هذه الأيام .
تجولت بالسيارة لبعض الوقت ثم توقفت في مكان هادئ بجوار النيل.. قمت بتشغيل موسيقي هادئة وأعدت المقاعد للخلف قليلاً في وضع أكثر راحة وجلسنا نتأمل النهر.. لم نكن نتحدث.. بصراحة لم أجد ما أقوله لها.. كلمات المواساة ستبدو سخيفة.. ولا أجد لدي غيرها الآن.. واكتشفت أنه لا توجد بيننا مواضيع مشتركة.. ربما لأنني لم أتحدث معها في أي شيء من قبل.. تأملتها بجانب عيني وهي تجلس في هدوء تتأمل النهر.. كانت تجلس في هدوء شديد وكأنها لا تشعر بالعالم من حولها .. بدا جسدها متصلبا مشدودا وكأنها تواجه خطر مجهول.. تتنفس في عمق ما بين لحظة وأخري وكأنها تقاوم شيء ما يجري داخلها ومن حين لآخر ترفع كفها في حذر لتمسح دمعة أفلتت رغما عنها وهي تظن أنني لا ألاحظها.. تري فيما تفكر الآن؟؟ والديها الراحلين؟؟ لماذا؟ أنا أيضا رحل عني والدي منذ فترة .. أشعر ببعض الحزن بالتأكيد عندما أتذكرهما ولكن حزنها يحوي شيئا مختلف .. وكأنها تحمل حزن الدنيا كله داخل قلبها الصغير هذا.. حبها الضائع الذي لمح له هنري من قبل؟؟ لست أدري إذا كان بهذا العمق حقا أم كان مجرد تجربة مرت بها صغيرة ساذجة.. في كل لحظة أدرك حقاً أنني لا أعرف تلك الفتاة جيداً.. العجيب أنها حقا من المفترض أن تكون زوجتي.. هل هي زوجتي؟؟ حتى الكلمة غريبة عني .. حولت أن أنطقها في داخلي بكل اللغات التي أجيدها فوجدتها تزداد غرابة.. غرابة وغربة.. كلمتان تتشابهان في اللغة العربية.. نعم بيننا غربة ووحشة.. لا نستطيع أن نتعامل كأقارب حقا.. هل تجعلنا صلة الدم أقرباء حقاً؟؟
أم إن الأمر يحتاج إلي معاشرة طويلة وتواصل وحوار لتشعر أن ذلك الشخص قريبك فعلا .. جزء منك .. له نفس الاسم ونفس الدم ..
أيتها الفتاه الخائفة.. الجالسة بجواري في صمت كتمثال من الرخام.. هل سيأتي اليوم الذي تتلاقي فيه أفكاري وأفكارك أم ستظل عقولنا غريبة للأبد؟؟.لماذا لا أجعلها صديقتي؟؟ أصدقاء هنري كانوا دائما أصدقائي فلما لا أمنحها هي تلك الفرصة فربما عثرت فيها علي ما وجده هنري .. وربما أكثر.. من يدري.. أحكام هنري كانت صائبة دائما فلما لا أتبعه هذه المرة أيضا؟؟
هنري كان دائما علي حق.. حتى عندما نصحني بخصوص ساندي.. ساندي .. آه يا جرحي العميق.. كلما حاولت تذكر آخر مرة رأيتها فيها أجدي لا أذكر إلا فتاه صغيرة شقراء .. زرقاء العينين شديدة الجمال في السادسة من عمرها تربت علي كتفي وتقول "زياد أنا بجوارك دائما" .. متي كان ذلك؟؟ نعم.. في حفل الشاي في بيتنا الريفي في يوركشاير.. كنت أحاول أن التزم بالسلوك الجيد الذي تفرضه علي أمي.. أصدقائي ظلوا يسخرون مني دائما بسبب ذلك ويقولون أنني إنسان آلي أعمل طبقا لدليل التشغيل الذي وضعته لي أمي.. ولكن حتى الآليين يخطئون أحيانا.. فقد سقط فنجان الشاي من يدي ليتحطم مصدرا صوتا انتبه له الجميع.. بدأت أمي في توبيخي بصوت عال أمام الجميع.. بدأت الدموع تتجمع في عيني فانسحبت في خجل لركن الحديقة البعيد.. من مكاني سمعت صوت طفولي.. ساندي ذات الستة أعوام تقول لأمي: لماذا توبخين زياد يا خالتي.. لا تصرخي فيه بعد ذلك أبدا فهو صديقي.. سمعت خطواتها تجري لمخبأي البعيد ووجدت ذراعين صغيرين تطوقاني ثم قالت: وهي تمسح دموعي: زياد لا تبكي أبدا.. أنا معك.. سأظل بجوارك دائما.
لماذا لم تفي بوعدها إذن؟؟ .. آه.. لماذا تسحبني أفكاري دائما لترسو علي شاطيء ساندي.. لماذا لا أفكر ولو قليلا في تعاسة وألم تلك الفتاه الجالسة بجواري؟؟ هل حبست نفسي في قمقم ضيق كما تقول إلينا فلم أعد أشعر بالعالم من حولي؟؟ هل فقدت إحساسي بالآخرين تماما إلي هذه الدرجة؟؟
التفتت إليها فوجدتها تنظر إلي.. وعندما التقت عيوننا شعرت وكأنني أخترق أعماق نفسها وأري ما في قلبها من أحزان. ربما كنا أحيانا نحتاج لأن ننظر للأمور بعيون الطرف الأخر لنستطيع أن نفهمه بشكل أفضل. وأنا لم أحاول أن أفهمها أبدا.. من الآن فلنبدأ صفحة جديدة.
إيمان
عندما رفعت عيني ووجدت زياد لدي الباب شعرت بضيق شديد.. أكره أنا يري شخص ما لحظات ضعفي.. لطالما أحببت أن يظن الجميع أنني قوية.. شديدة القوة.. لا يستطيع أن يقهرني أحد.. لقد استقلت من عملي السابق حتى لا يري أي شخص لحظة ضعفي.. فلحظات الضعف هي ما تعطي الآخرين الفرصة في أن يسحقوننا ويدوسون كبريائنا بالنعال.. نظرت إليه فوجدت في عينيه نظره غريبة.. ربما كانت تعاطف أو شفقة.. أكره الشفقة فهي دليل علي اعتراف الآخر بأنه قد أستطاع أن يدرك كم أنت ضعيف ومثير للازدراء.. وعندما جلس علي ركبتيه بجوار مقعدي وأمسك ذقني بيده شعرت برجفة تجتاح جسدي وكأنني أفطن لأول مرة أنه رجل .. رجل لا أعرفه.. رجل غريب عني.. فطوال فترة معرفتي القصيرة به كنت أتعامل مع زياد علي أنه مجرد زياد .. إنسان.. كائن حي.. بدون أن يمر بذهني لحظة أنه رجل .. وأنني امرأة.. عدت برأسي للخلف بسرعة وكأن اكتشاف هذه الحقيقة جعلني أشعر بالرعب فجأة.. حاولت أن أخبئ وجهي بين كفي حتى لا يقرأ في عيني ما يمر الآن بذهني.. سمعت صوته يقترح برقة أن نخرج في جولة بالسيارة.. بدت لي فكره رائعة في تلك اللحظة فقد كنت أشعر أن جدران المنزل قد أخذت تطبق علي وتكتم أنفاسي وأن الحجرة تضيق في كل لحظة.. سمعته يهدد في طفولة أنني إذا لم أرتدي ملابسي بسرعة فسيصعد ليحضرني.. كنت واثقة في أنه لن يجروء أبدا علي فعل ذلك.. وابتسمت لنفسي .. يا لها من فكره حمقاء تلك التي مرت برأسي.. لماذا أخاف من زياد؟؟ زياد أقرب إلي طفل عدواني شرس منه إلي رجل ناضج مكتمل وأنا بالنسبة له لست أنثي علي الإطلاق.. ارتديت ملابسي بسرعة ونزلت.. بدا فخورا وكأنه يظن أنني خفت من تهديده حقا فابتسمت.. ركبنا السيارة وانطلق بسرعة.. كنت أشعر بهواء الليل المنعش يرتطم بوجهي ولكن رغم ذلك لم أكن أشعر بالانتعاش.. هناك حجرا يجسم علي قلبي يجعلني أتنفس في صعوبة شديدة.. وقف فجأة في مكان ما أمام النيل.. هل يعتقد أنني سأشعر بشكل أفضل إذا رأيت منظر النيل؟؟ لم يكن ذلك اختيارا صائبا علي الإطلاق.. شعرت وكأن مياه النيل تجذبني إليها.. كنت أرغب في أن ألقي بنفسي في أعماق النهر ربما جعلني ذلك أشعر بأنني أفضل.. وربما جعل ذلك الشخص الصامت القابع بجواري والذي لم يتفوه بكلمة واحدة منذ خرجنا من المنزل يتخلص من ذلك العبء الذي ألقي فجأة علي كاهله والذي يبدو بوضوح أنه لا يتحمله أو يطيقه علي الإطلاق.. شعرت أنني بالنسبة له كجوال ثقيل أعطاه له شخص ما وطلب منه أنه يحمله لمكان بعيد .. فهو يمشي في كل لحظه وهو متعب من حمله الثقيل ويرغب في أن يتخلص منه بسرعة.. يتمني لو أستطاع أن يلقي بحمله ذاك ليغوص في أعماق النهر للأبد .. لكنه للأسف مقيد مع هذا الجوال بالوعد وميثاق الشرف الذي لن يسمح له بتحقيق أمنيته.. فلا يبقي أمامه إلا أنه يحمله وهو يحلم في كل لحظه بالتخلص منه.. تمنيت أن يتكلم .. فقط يقول أي شيء حتى وإن كانت ثرثرة تافهة عن أي شيء .. أي شيء يخلعني من ذلك الصمت الذي يضمني بقوة حتى أشعر بثقله يكاد يكتم أنفاسي.. لكنه بدا حزينا وغارقا في أفكار تبعده عني آلاف الأميال رغم المسافة الضئيلة التي نفصل بين مقعدينا. وكأن كل منا قادم من كوكب آخر.. زوار فضائيين لا يتشاركون في أي شيء ولا يتحدثون اللغة نفسها .. كوكبين لكل منهما مدار مستقل لا يلتقي مع مدار الكوكب الآخر.
فجأة تذكرت أنني لم أعتذر له عما قلته في الصباح.. لقد ظل جواري طوال الليل .. هناك أيضا تلك المرة التي حملني فيها للمستشفي.. كيف لم أشكره وقتها.. ثم أنه تخلص بمهارة من أقاربي السخفاء هؤلاء.. وإقامتي في بيته.. يبدو أن هناك الكثير الذي كان من المفترض أن أشكره عليه ولكنني نسيت ذلك في خضم صراعي المستمر معه.. أشعر أن الوقت حان لذلك الآن فهو يبدو إنسانيا ورقيقا جدا في حزنه هذا.. وكأن الحزن لغة مشتركة يمكن أن تجمع حتى بين زائري الفضاء.. نظرت تجاهه وأنا أحاول أن أستجمع شجاعتي فالتفت إلي.. بدت في عينية نظره تعاطف وتفهم شجعتني علي أن يخرج صوتي وإن كان خافتا ليقول: أشكرك. بدا مندهشا وهو يسأل: علي ماذا؟ .. قلت: علي كل شيء نسيت أن أشكرك عليه من قبل.. لقد فعلت الكثير من أجلي.
ابتسم وقال: وأنا آسف.. آسف علي كل المضايقات التي سببتها لك من قبل.. مد كفه ليصافحني وقال: بداية جديدة؟؟
ترددت كثيرا قبل أن أمد له كفي فأنا لم أعتد مصافحة الرجال.. ولكنني تذكرت بأنني طبقا للشرع وللأوراق الرسمية زوجته وإن كنت لا أود الاعتراف بذلك.. فمددت كفي له علي استحياء وأنا أتمتم: نعم بداية جديدة.
|