كاتب الموضوع :
ثم كانت الذكري
المنتدى :
الارشيف
الفصل الثاني عشر
ذكريات .. من الزمن البعيد
زياد
توجهت لعملي كالعادة فقابلت هنري بمجرد دخولي للشركة.. نظر إلي في دهشة وقال: لم أتوقع قدومك اليوم علي الإطلاق. ألم تتزوج أمس أيها الفتي؟
نظرت له بسخرية وأجبته: ماذا كنت تتوقع؟ تظن أنني قد ذهبت لرحلة شهر العسل؟؟ تتكلم و كأنك لا تعرف حقيقة ذلك الزواج.
أجابني في مرح: وما حقيقته؟؟ تزوجت من فتاة رائعة الجمال. هذه هي الحقيقة الوحيدة. صحيح أنها لا تطيق النظر في وجهك ولكني لو كنت مكانك لقضيت اليوم في المنزل في محاولة لإغوائها.
هنري هذا يمكنه أن يحول أي شيء في الدنيا مهما كانت جديته لمزحة طريفة. لا جدوى من الحديث معه علي الإطلاق. قررت ألا أرد عليه.
قال: أحمق كعادتك. من يتزوج فتاة مثل لإيمان ويهملها ليعيش مع ذكري ساندي فهو أحمق ومجنون أيضاً.
لماذا يصر علي تذكيري بموضوع ساندي في كل وقت. هل نسي ماضيه هو؟ قلت له في تحدي: وماذا عنك؟ ألم تحب ساندي يوماً؟؟
ضحك في عمق وقال: هل كنت تسمي ذلك حباً؟ إن ساندي تلك لم تحب يوما أي شخص غير نفسها. أما أنا فلم أجد من تستحق حبي بعد. ما كان بيني وبين ساندي يمكن أن تسميه تبادل منفعة. كانت تعرف أنني أكثر الأشخاص خبرة في العمل وأرادت أن أعلمها كل الأسرار لتصبح محترفه في وقت قصير. وهي دائماً تحب أن تدفع ثمن ما تأخذه حتى لا تكون مدينة لأي شخص. هذه هي العلاقة التي كانت بيننا فهل تسمي ذلك حباً.
أعرف أن هنري يكره ساندي ربما لأنها تركته ولكن لم أظن أنها يمكن أن يصفها بتلك الطريقة التي تجعلها تبدو ك*****. يبدو أنه لا يتمتع بروح رياضية. بصراحة كلامه أغضبني جداً فقلت له في حده: من فضلك لا تتحدث عنها بتلك الطريقة لمجرد أنها تركتك. ربما لم تحبها أنت أبداُ ولكنها بالتأكيد هي أحبتك و إلا ما كانت قد ارتبطت بك.
نظر إلي في سخرية وقال: أنت لا تريد أن تفهم أليس كذلك؟؟ إن ساندي تستخدم دائماً كل الوسائل للوصول لأغراضها مهما كانت. ألم تلاحظ ذلك أيها الأحمق؟
لم أكن أتصور أنه يحقد عليها بهذا الشكل. قررت أنه أجيبه برد مفحم حتى لا يجد رداً. قلت: وما مصلحتها معي إذاً؟؟ إنها لا ترغب في مالي بدليل أنها تركتني من أجل عملها.
قال والسخرية لا تزال تطل من عينية ونبرات صوته: لقد ارتبطت بك لتجرب نوعاً جديداً من الفتيان. الفتي الذي أحبها طوال حياته رغم كل مساؤها وعيوبها. شخص لا يتعامل معها بمنطق تبادل المصالح ولا يريد منها أي شيء مقابل حبه. ولذلك لا تزال ترغب في الاحتفاظ بك علي حالتك هذه دائماً فهي لن تجد مثلك أبداً. وليس معني إنها ابنه خالك أنك تعرفها جيداً. أنت لم تفهمها بعد يا زياد رغم إنك عرفتها طوال عمرك. بالفعل هي ترغب في الحصول علي المال ولكنها ترغب الحصول عليه بنفسها وليس من خلال رجل آخر. ألا تذكر عقدتها القديمة؟؟ ربما كان الهدف جيداً ولكن الوسائل ليست جيدة. ثم أضاف في جدية: صدقني يا زياد ستكتشف هذا لاحقاً بنفسك وستندم علي تجاهلك لنصيحتي كثيراً. ولكن أرجو عندها ألا يكون وقت الندم قد رحل من زمن. أعرف أنك تعتقد أنني أحقد عليها لأنها تركتني. هذا ما أخبرتك هي به أليس كذلك؟ ما لا تعرفه يا صديقي أنني أنا من تركتها عندما علمت أنك تحبها. فكر في كلامي يا صديقي وربما هداك عقلك للشيء الصحيح.
خرج وترك عقلي يدور في دوامة رهيبة .. لا أستطيع أن أصدق أن ساندي بهذه الصورة البشعة التي يحاول هنري أن يضعها نصب عيني .. هل يكذب .. بالتأكيد يفعل.. ولكن طوال صداقتنا التي استمرت سبعة وعشرون عاماً منذ كنا في مدرسة الأطفال معاً لم يكذب علي مرة واحدة. ساندي أخبرتني بأنها تركت هنري لأنها تحبني لذلك يكرهها كثيراً.. تري من أصدق حقاً صديق العمر؟؟.. أم حبيبة العمر؟؟!!
إيمان
ملل .. ملل.. لم أكن أتوقع أن تكون الحياة في هذا المكان مملة جداً. أشعر بالحرج الشديد مثل أي شخص يقيم في مكان غريب عنه لذلك أبقي في غرفتي طوال الوقت.. شهر كامل مر علي اليوم الذي أتيت فيه لهذا المنزل. لم أري زياد خلالها ولا مرة واحدة وأسعدني ذلك كثيراً فأنا لا أعرف كيف سأتعامل معه الآن. كنا نتشاجر طوال الوقت .. والآن كيف يمكن أن أتشاجر مع الشخص الذي يؤويني تحت سقف بيته. إلينا تحاول التودد إلي كثيراُ ولكنني أتعامل معها بتحفظ ربما لأنني لا أعرف ما وضعها هنا بالضبط. تتعامل طوال الوقت وكأنها صاحبة المنزل وليست فقط موظفه فيه. لا زلت أشعر بالملل رغم أن الغرفة مزودة بجميع وسائل التسلية .. يوجد تلفزيون وDVD وكمبيوتر محمول متصل بالإنترنت ومكتبة مليئة بكتب عربية و إنجليزية. دق باب غرفتي ودخلت إلينا. قالت: لماذا تصرين علي الجلوس وحيدة طوال الوقت يا عزيزتي. يبدو أنك خجولة جداً. تعالي إلي الحديقة لتستمتعي بشمس الشتاء الدافئة.
استجبت لها لأول مرة ربما يفيدني تغيير الجو قليلاً. ارتديت ملابسي وأخذت معي كتاباً ونزلت للحديقة. جلست علي أحد المقاعد تحت المظلة وبدأت في القراءة. بعد دقائق لحقت بي إلينا نظرت إلي وضحكت وقالت: تبدين في الثمانين من عمرك وأنت جالسة للقراءة في الشمس هكذا مثل العجائز. تصرفي كالفتيات في سنك يا عزيزتي هناك ملعب للتنس و حمام للسباحة في القسم الخلفي من المنزل. لماذا لا تستمتعين بوقتك هناك. يمكننا أن نلعب التنس معاً.
قلت: آسفة إلينا ولكني لا أعرف كيف ألعب التنس كما أنني لا أعرف السباحة.
قالت بحماس: يمكن لزياد أن يعلمك يا عزيزتي فهو يجيد كلاهما ببراعة.
لم أرغب في الرد بالطبع علي هذه الدعوة الغير مرحب بها بالمرة. يبدو أنها شعرت بذلك فغيرت الموضوع قائلة: لماذا تبدين حزينة دائما يا عزيزتي. منذ جئت إلي "لاف هوس" لم أرك تبتسمين مرة واحدة.
نظرت إليها في دهشة "لاف هاوس" بيت الحب؟ لم أتوقع أن يكون اسم بيت زياد بهذه الرومانسية. وانتقلت دهشتي إلا لساني فوجدتني أسألها: لاف هاوس.
ضحكت طويلاً وقالت: أعجبك اسم المنزل إلي كذلك؟ إن له قصة طويلة هل ترغبين في سماعها؟
انتابني فضول شديد لسماع القصة بالطبع فقلت لها في حماس: بالتأكيد.
عادت بظهرها للوراء علي كرسيها ونظرت بعيداً وكأنها تقرأ قصة مكتوبة في الأفق وقالت: بدأ ذلك منذ عهد بعيد. بالتحديد قبل خمسة وثلاثون عاماً. بدأت الحكاية بفتاتين يعملان معاً في نفس الشركة و يقيمان معاً في نفس المنزل ليتقاسما الإيجار كانتا في نفس السن, عشرون عاماً ولكنهما كانت مختلفتان في كل شئ آخر. أحداهما كانت خجولة جداً ولا تمتلك الكثير من المواهب. توفي والديها في سن مبكرة وعاشت لتصطدم بالحياة وتصدمها الحياة دائماً. كانت تعمل في وظيفة صغيرة ولكنها لم تكن بارعة في عملها. كانت تتمني أن تتزوج يوما من شخص لطيف وتصبح ربة منزل لها أطفال أصحاء. أما الفتاة الثانية فقد كانت بارعة وطموحة جدا. تنطلق في عملها بسرعة الصاروخ. ومثل الصاروخ المندفع لم تكن تتوقف لتري من تصدمه في اندفاعها السريع هذا. الغاية عندها دائما تبرر الوسيلة وغايتها كانت النجاح و الغني. في أحد الأيام دعت الشركة كل موظفيها لحضور حفل بمناسبة مرور خمسة وعشرون عاما علي تأسيس الشركة. بالطبع ذهبت الفتاتان للحفل. وهناك تقابلا مع شاب عربي أنتقل إلي الشركة حديثا من أحد فروع الشركة في دولة عربية. الغريب أن كلا الفتاتان وجدتا في ذلك الشاب ما تبحثا عنه. الأولي وجدت فيه الحنان والرجولة والقلب الطيب التي بحثت عنهم دائما. أما الأخرى فنظراتها الثاقبة كنظرات الصقر وجدت فيه بذرة رجل أعمال ناجح يمكن أن يصلا معاً لحلمها الكبير. ولما لم تكن الأولي بارعة جداً فقد نجحت الأخرى في الاستيلاء عليه وتزوجته وتركا العمل في الشركة ليؤسسا شركتهما الخاصة التي بدأت في الازدهار سريعا بفضل نشاطيهما الكبير. أما الفتاة الأخرى فقضت في الشركة عده سنوات أخري قبل أن تستغني عنها الشركة في أحدي نوبات توفير العمالة. وبعدت أن فشلت في الحصول علي عمل جديد, قررت أن تطلب من زميلة سكنها القديمة أن تساعدها في الحصول علي عمل. فقالت لها الصديقة التي أصبحت الآن سيدة أعمال محترفة أنها لا تحتاجها في شركتها ولكن يمكنها أن تعمل كمدبرة لمنزلها وأن تعتني بطفلها. فكرت تلك الفتاة أن ترفض في البداية لكن عندما رأت الطفل الصغير الذي يشبه أباه كثيراً استعادت حبها القديم وقررت أن تبقي للعناية بهذا الطفل الذي لا يجد من يعتني به فأمه و أبيه مشغولان تماما بعمليهما حتى أنهما لم يكادا يفطنا لوجوده أصلاً. وهكذا بقيت في المنزل و اعتنت بالطفل الذي صار رجلاً مع الأيام. وبعد مرور سنوات قرر الشاب العربي الذي كان قد صار رجلاً في الخمسين من عمره أنه قد أكتفي من العمل والمال وأنه يحتاج للحب. بحث عنه عند زوجته فلم يجده. فقد كانت منهمكة في توسيع رقعه شركتهم ولا ترغب في ما يعطلها عن ذلك حتى وإن كان زوجها و ابنها. تلفت حولها فأكتشفها. اكتشف مديرة المنزل التي أحبته طوال عمرها وعاشت فقط لتربي أبنه. أحبها .. أو ربما أكتشف أنه كان يحبها منذ البداية لكنه لم يفطن أثناء اندفاعه نحو المال. قال له بأنه لا يستطيع الانفصال عن زوجته بسبب معاملاتهم المالية . سيخسر كثيرا وهذه الثروة يحفظها لولده من بعده. قال بأنه مسلم و يستطيع الزواج من أكثر من زوجه فوافقت. كانت تحبه لدرجة أن تفعل أي شيء من أجله. قال بأنه سيبني لها بيت رائع في مصر.. سيسميه بيت الحب "اللاف هاوس".. وسيفتتح فرع كبير لشركته هناك و سيترك لزوجته إدارة فرع إنجلترا. رغم أنهما قد قاربا علي الشيخوخة إلا أن أحلامها كانت شابة. شرع في بناء المنزل في مصر كما وعدها ولكن القدر كان يعد لهما مفاجأة. سائق سكير دهم سيارة الزوجة أثناء عودتها من احدي رحلات العمل. ربما كان ذلك رائعا ويفتح لهما باباًَََََ لزواج سريع ولكنه كان مصابا بمرض في القلب تزايد بعد تحمله مسئولية إدارة الشركة وحده. ذهب في رحلة طويلة للعلاج علي أن يتزوجا عند عودته ولكنه لم يعد أبداً.. لقد مات. أما الابن فقد قرر هو الآخر العودة لمصر كما كان والده يخطط. أنشأ فرعا للشركة و استكمل "اللاف هاوس" .. كان يرغب في أن يعيش فيه مع الفتاة التي يحبها.. لكن تلك الفتاة تركته. في النهاية جاء الابن مع المرأة التي ربته ليعيشا في اللاف هاوس .. ولكن بقلوب كسيرة".
كان صوتها يتهدج بشدة فالتفتت إليها فوجدت الدموع تغرق وجهها. شعرت بالارتباك من نظرتي فقامت بسرعة وقالت: سأعود حالاً. ثم دخلت للمنزل. أنا أيضا وجدت الدموع تندفع إلي عيني ..مسكينة إلينا .. يبدو أنها أحبت عمي حسن وانتظرته كثيرا ولكن في النهاية لم تحصل علي شيء. هكذا الحب دائماً خسائر مستمرة بدون أي مكسب.. ربما كانت هي كسيرة القلب حقاً..أما زياد فلا يبدو كسير القلب علي الإطلاق. فهمت الآن لماذا تتصرف إلينا وكأن البيت بيتها.. لأنه بيتها بالفعل.. شعرت بحب شديد نحوها ورغبت في أن نكون أصدقاء حقاً.
بعد دقائق فوجئت بهنري يدخل للحديقة. وبطريقته المرحة التي أحبها أنحني وقال: كيف حال الأميرة الجميلة. ابتسمت له وقلت: بخير يا هنري. يبدو أنه لمح الدموع في عيني فنظر لي بقلق وقال: إيمان هل كنت تبكين؟
ابتسمت له وقلت: لا يا هنري.. فقط ذرة تراب دخلت في عيني.
قال: هل أساء لك زياد بأي شيء.
قلت: صدقني يا هنري ليس هناك شيء علي الإطلاق. ثم أنني لم أري زياد أبداً منذ جئت لهذا المنزل.
قال: حسناً. ثم أخذ يروي لي الكثير من الأشياء المضحكة. ما أجمل أن يكون لي صديق رائع مثل هنري!
زياد
فوجئت بهنري اليوم يدخل علي ثائراً.. كان قد أخبرني أنه ذاهب لزيارة إيمان في وقت راحة الغداء. لابد أنه عائد للتو من عندها. تري ما الذي أغضبه؟ بمجرد دخوله قال لي في ثورة شديدة: إنك غبي حقاً.. لماذا أخذتها من بيتها إذا كنت ستعاملها بهذه الطريقة؟
أي طريقة يعني .. تري ما الذي قالته له هذه الفتاة بالضبط. قلت له في نفاذ صبر: دائما ثائر بسبب إيمان هذه الأيام. علي أي حال لم أعاملها بطريقة سيئة كما تظن فأنا لم أرها أصلا منذ جاءت لتسكن معي في الفيلا.
صرخ في وجهي وقال: وهذا بالضبط ما أعنيه أيها الأحمق. هل أحضرتها لمنزلك لتعتني بها أم لتهملها وتتركها وحيدة طوال الوقت.
صحيح أن هنري صديق طفولتي إلا أنه في بعض الأحيان يصبح مستفز جداً وأعجز عن احتماله. قلت له في عصبية: وما الذي تريده مني؟ هل أترك عملي وأعمل جليسة أطفال؟ تريدني أن أبقي بجوارها في المنزل أليس كذلك؟
قال: لم أقل ذلك بالتأكيد. كل ما أطلبه هو أن تمنحها بعضاً من وقتك الذي أعرف جيدا أنك تملك الكثير منه ولا تعرف ماذا تفعل به. لماذا لا تأخذها في نزهة لأي مكان.
النقاش مع هنري غالبا ما يكون بلا جدوى. الحل الوحيد لتجعله يسكت هو أن تتظاهر بالموافقة علي ما يقول. قلت: حسناً هنري .. سأفعل يوماً.
نظر إلي في يأس وغادر الحجرة.
عدت إلي المنزل متعباً.. كان اليوم طويلاً جداً وملئ بالعمل.. هناك مشاكل ضخمة في فرع الكويت.. فكرت أن أسافر لمتابعة الوضع بنفسي هناك علي أرض الواقع ولكن هنري قال أنه سيسافر هو لأنه أقدر دائماً علي حل المشاكل. لم أستطع الصعود لغرفتي فألقيت بنفسي علي أول أريكة صادفتني.
مرت بي إلينا وهي خارجة من احدي الحجرات وقالت: زياد .. لقد عدت أخيراُ.. ذلك جيد فقد كنت أرغب في الحديث معك لبعض الوقت.
قلت: حسناً إلينا ماذا هناك؟
توقعت أن تحدثني عن أحدي مشكلات المنزل ولكنني فوجئت بها تقول: أنه بخصوص إيمان.. تبدو حزينة جداً طوال الوقت حتى وهي تبتسم .. لا يفارق الحزن عينيها كما أنها منطوية جداً علي نفسها ولا تغادر حجرتها علي الإطلاق .. أخشي أن تكون مصابة بالإكتئاب.
هل هذا هو اليوم العالمي لإيمان و أنا لا أدري..لماذا يحدثني الجميع عنها اليوم وكأن الحياة قد خلت من كل شيء إلا منها. كنت أشعر بما يكفيني من الصداع ولا أشعر بالحاجة لإضافة صداع جديد يدعي إيمان. قلت لإيلينا: لا تقلقي عليها إنها بخير ولا أري أثراً لذلك الحزن الذي تتحدثين عنه. تبدو سخيفة وسمجة كعادتها وهذا يعني أنها بالتأكيد علي ما يرام.
نظرت إلي نظرة غريبة وقالت: لماذا تتحدث بهذه الطريقة؟ تبدو مختلفاً كثيرا عن زياد الذي أعرفه. لم أكن أظن أنك تشبه أمك علي الإطلاق ولكني الآن واثقة من إنك تشبهها كثيراً. كلاكما بلا قلب. ألم تعد عمك أن تعتني بها؟ لماذا تعد بتحمل مسئولية لا تنوي تحملها؟؟
قلت: إلينا من فضلك كفي عن ذلك.. أنت تدركين جيداً أنني لست بهذا السوء.. أنا فقط لا أحبها..صحيح .. لقد اكتشفت أمس أنك أعطيتها حجرة ساندي .. لماذا فعلت ذلك؟؟ ألم تعثري علي حجرة أخري مناسبة في هذا البيت الواسع؟؟
نظرت لي باحتقار وقالت: ألا زلت واقعاً في فخ تلك الحية؟؟ إنك حقاً مثير للشفقة.
ثم خرجت غاضبة و تركتني حتى قبل أن أرد عليها. إنها المرة الأولي التي تحدثني فيها إلينا بهذه الطريقة. علي أي حال سأهدأ قليلا ثم أتحدث إليها فيما بعد.
تمددت علي الأريكة وأغمضت عيني بعد لحظات أحسست بشيء غريب ففتحت عيني ووجدت المكان مظلم تماماً. يبدو أن التيار الكهربائي قد انقطع. سأتعرض لتوبيخ إلينا من جديد الليلة فقد طلبت مني العديد من المرات أن أشتري مولداً احتياطيا حتي يعمل عند انقطاع الكهرباء.. ولكنني كالعادة نسيت. ذاكرتي الآن صارت مثل أواني الطهي الغير قابلة للالتصاق لا يثبت فيها أي شئ.
قررت الصعود لغرفتي .. تحسست طريقي للسلم وبدأت في الصعود عندما سمعت صوتا مكتوما لأرجل حافي يجري بسرعة نازله من الأعلى.. بالتأكيد هي إيمان فلا يوجد بالأعلى غيرها.. قبل أن أسألها ماذا بها فوجئت بجسم يسقط فوقي.. أمسكتها بسرعة قبل أن أفقد توازني فنسقط معاً.. كانت ترتجف بشدة فوجدتني أحتضنها لتهدأ.. كانت تتمتم بكلمة أبي .. ماذا بها؟؟ لست أدري؟ .. كنت أسمع صوت نشيجها وأشعر بكتفي يبتل من خلال القميص الخفيف الذي كنت أرتديه.. إنها تبكي بشدة.. أخذت أربت علي ظهرها وأنا أشعر بالارتباك .. لا أدري ماذا أقول أو أفعل.. حاولت أن أبعدها عني قليلا فسمعتها تقول: لا تتركني من جديد.. أرجوك لا تذهب.
قلت: لا تخافي .. لن أتركك.. حملتها وصعدت بها درجات السلم حتى غرفتها .. غرفتها أم غرفه ساندي؟؟ أصبح مسمي الحجرة لدي مختلط تماما.. ما هذا الهراء الذي أفكر فيه؟؟.. وضعتها في الفراش فوجدتها تتمسك بي بشدة فجلست بجوارها علي حافة الفراش وأنا ممسك بيدها.. أو في الحقيقة هي من كانت تمسك بيدي ولا تريد أن تفلتها.. بدت صغيرة جدا وسط ذلك الفراش الضخم وقد تناثر شعرها الأسود الطويل حول وجهها.. كانت أشبه بقطة ضالة.. شعرت بالشفقة عليها كانت مغمضة العينين.. تبكي وتنادي والدها .. ناديتها عده مرات ولكن بدت وكأنها فاقدة الوعي.. شعرت بالقلق فاتصلت بطبيب أعرفه يسكن في فيللا المجاورة فجاء مسرعاً.. طمأنني وقال أن ما يحدث هو من آثار الصدمة العصبية التي أصيبت بها عند وفاة والدها.. أعطاها حقنة مهدئة وقال أنها ستكون بخير في الصباح. بعد أن غادر حاولت سحب كفي التي تمسك بها فلم استطع.. كانت تتمسك بها بشده .. ولكنها بعد فترة تركتها.. يبدو أنها قد نامت من تأثير الحقنة.. قمت من مكاني بجوارها علي حافة الفراش وقررت العودة لغرفتي ولكن قلبي لم يطاوعني.. ماذا لو عادت لها تلك الحالة ليلاً؟؟.. هل أوقظ إلينا لتبقي معها؟؟ حجرة إلينا في نهاية المنزل فبالتأكيد لم تسمع شيئاً مما حدث.. لابد أنها نائمة الآن.. لا داعي لأن أوقظها فربما وضعت في حالة إيمان مسوغا ً لتمنحني المزيد من التوبيخ.. قررت أن أبقي أنا لبعض الوقت.. سحبت أحد الكراسي ووضعته بجانب الفراش وجلست أتأملها.. عندما غلبني النوم.
إيمان
جلست في الفراش أقرأ في كتاب ولكن تركيزي لم يكن في سطور الكتاب حقاً.. كنت أستعيد تلك القصة التي روتها لي إلينا. قصتها غريبة .. تبدو كقصة في أحد الأفلام .. رومانسية جداً وغريبة عن الواقع .. فواقعنا لم يعد يحتمل هذا القدر من الرومانسية .. أو ربما لم يعد يحتمل الرومانسية علي الإطلاق .. العملية هي شعار هذا الجيل.. الكل أصبح عملي جداً .. ومستغل جداً .. يبحث عن فرص لينتهزها ولم يعد أحد يطيق سماع مثل تلك الكلمات القديمة الطراز عن العواطف والحب والرومانسية. حتى زياد كان يحب؟؟؟ ربما كان هذا هو سر حرف S الموجود علي الفراش.. يبدو أنه كان يعد ذلك الفراش لها.. شعرت بالغيظ الشديد منه .. لماذا يعطيني غرفتها إذاً.. هل هو نوع من أنواع الانتقام؟؟.. ربما.. تري كيف كان يبدو وهو يعيش دور العاشق.. حاولت أن أتخيل منظره وهو ينظر لفتاته في هيام أو يتلو عليها بعض أشعار الحب فجاءت الصورة كوميدية جداً مما جعلني استغرق في ضحك طويل. ولكن لأقول الحق شعرت ببعض التعاطف معه .. إن من عاش جراح الحب مرة يعرف جيداً كيف يقدر مشاعر الآخرين.
تذكرت الماضي .. فبدأت الدموع تندفع إلي عيني .. ثم فجأة أنقطع التيار الكهربائي .. استعدت تلك اللحظة التي كنت أحاول أن أبقيها بعيدا. في المرة السابقة انقطع التيار فاختفي أبي معه من حياتي. أصبت برعب يكاد يشل تفكيري. لا ليس مرة أخري. حاولت أن أهرب بكل ما أوتيت من قوة. بحثت كالمجنونة في الظلام عن مقبض الباب. لماذا لا أستطيع أن أجده. لا أريد أن أفقد أبي من جديد. فتحت الباب و انطلقت أجري إلي الخارج. أريد أن أفر. لا أريد أن يموت أبي من جديد. اندفعت قافزة لأهبط درجات السلم. انثنت قدمي تحتي فسقطت و لكنني وجدت شخص ما يتلقفني قبل أن أسقط. حضن دافئ احتواني. لقد عاد أبي. انفجرت في البكاء في أحضانة و أنا أهمس أبي لا تتركني من جديد. سمعت صوته هامسا إيمان لا تخافي. حملني و صعد بي درجات السلم و وضعني في الفراش و ظل يربت علي حتى غرقت في النعاس.
في اليوم التالي استيقظت و أنا أشعر برأسي شديد الثقل و كأنه يزن ألف طن . ماذا حدث؟ لست اذكر شيئا. وكأنني كنت أحلم أن أبي قد عاد. فتحت عيوني بصعوبة لأشاهد شبحا ينام علي كرسي بجانبي. حاولت أن أفيق و أركز لأعرف من هو. نعم هذا زياد .. تري ما الذي أتي به إلي هنا؟؟ يبدو لطيفا و هو نائم. ملامحه الحادة قد استرخت و يبدو كطفل صغير. أخذت أتأمله. ما أجمله!. يشبهني بعض الشئ بالفعل أو ربما يشبه أبي. ذلك الأنف الروماني ربما. أو ربما تلك الشفاه الممتلئة . وسيم جدا بالفعل. تاهت عيناي في بحر ملامحه الجميلة عندما فتح عيناه فجأة. شعرت بالخجل و خفت أن يكون قد لاحظني و أنا أتأمله. قررت أن أبدأ بالهجوم قبل أن يعلق علي هذا الموقف. قلت له في حدة مصطنعه أخفي بها اضطرابي: ما الذي أتي بك إلي هنا. قال في عصبيه شديدة: ألا تستطيعين حتي التفوه بصباح الخير مثل باقي البشر. غاظتني لهجته بشده. ماذا يقصد. يقصد أنني لست بشرية. لن أتركه يمر بما قال. قلت: أليس من حقي أن أسأل عندما أجد رجل غريب في غرفتي عما يفعل. وضغطت علي كلمه غريب لأنني كنت أعرف أنه ستغيظه بشده. و بالفعل و صلت إلي هدفي: فقد صرخ في عصبية شديدة: غريب؟؟ أنا غريب؟؟ علي العموم هذا بالفعل ما أستحقه علي بقائي بجوارك طوال الليل لأطمئن عليك؟ فعلا لا تستحقين.
لا أستحق؟؟ أحمق. ثم ماذا يقصد بموضوع اطمئنانه علي؟؟. لا يهم الآن المهم أن أرد له الصاع صاعين. رسمت ابتسامه صفراء علي شفتي و قلت له و اطمأننت؟؟ حسنا من فضلك أخرج الآن. و أشرت بيدي للباب في علامة واضحة تشير لأنني أطرده. خرج مندفعا من الباب و هو يغمغم بكلمات مبهمة لم استطع فهمها. ربما كان يسبني علي الغالب. ارتسمت علي شفتي ابتسامه انتصار. تري ماذا كان يقصد بموضوع اطمئنانه علي؟ماذا حدث أمس؟ لست أذكر شيئا علي العموم لا يهم المهم أنني حققت انتصارا جديدا عليه. انزلقت مره أخري في الفراش و استكملت نومي في سعادة.
|