كاتب الموضوع :
ثم كانت الذكري
المنتدى :
الارشيف
الفصل التاسع
عرض .. لا يمكن رفضه
زياد
إذا لم أنتبه للطريق فبالتأكيد سأتعرض لحادث كبير .. ولكني أشعر بغيظ شديد .. ضربت بيدي عجلة القيادة أكثر من مئة مرة بلا جدوى.. لم يفرغ ذلك من غضبي مقدار ذرة. إنه خطأي منذ البداية .. كيف أتطوع باختلاق تلك الكذبة الحمقاء لإنقاذ تلك الفتاة التي لا تستحق المساعدة.. ليتني تركت أقاربنا هؤلاء يحملونها إلي الجحيم. عقلي لا يكف عن استرجاع ذلك المشهد السخيف عشرات المرات. أحاول محوه من ذاكرتي بلا جدوى. ألم يكفها ذلك الكلام الذي تحملته من ذلك الرجل السخيف الذي يقولون إنه عمي. لم تحمد لي صنيعي عندما استطعت إخراجهم من منزلها. فما أن خرجوا والتفتت إليها لأبشرها بالخلاص منهم حتى وجدتها تنظر لي بنظره باردة برود الثلج و قد ارتسم علي وجهها تعبير غريب أشبه بخليط من الغيظ و الاحتقار وقالت: كيف جرؤت علي هذا؟.
في البداية لم أفهم ماذا تعني. و أعتقد أن البلاهة الشديدة قد ارتسمت علي وجهي و أنا أسألها في دهشة: جرؤت علي ماذا؟؟
أجابت في غيظ: كيف تقول لهم إنني زوجتك؟؟ هل جننت؟؟
شعرت بالدماء تتصاعد إلي رأسي حتى كاد عقلي أن ينفجر: قلت لها: أنا؟؟ جننت؟؟ أنت محقة أنا جننت بالفعل لأني ساعدت فتاه مثلك لا تستحق المساعدة.
قالت : أنا؟؟ لا أستحق المساعدة؟؟ بل إنك أنت الأحمق. ألا تفهم تلك الورطة التي أوقعتنا فيها بكذبتك الحمقاء. من السهل جدا أن يكتشفوا الحقيقية. هل تعرف ما الذي يمكن أن يحدث وقتها؟؟ لن يكلفهم الأمر سوي أربع جنيهات ثمن الرصاصتين التي سيغسلون بها عارهم كما يظنون ثم تتصدر صورتينا صفحة الحوادث.
يبدو أن خيال هذه الفتاة واسع جداً .. إنها حتي الآن لم تشكرني علي إنقاذها. قلت لها في غيظ: أنك حمقاء و هذا الفيلم الساذج ما هو إلا أوهام في رأسك .. ألن تشكريني علي أنني جعلتهم يرحلون؟؟
نظرت إلي في احتقار و قالت: و ما الذي تعرفه أنت أيها الإنجليزي عن تقاليد الصعيد .. ثم نظرت إلي في برود وأضافت: ألن ترحل أنت؟؟
شعرت بالغيظ الشديد و تمنيت لو أستطيع أن أحطم تلك المزهرية التي تزين المنضدة خلفها علي رأسها حتي يتهشما معاً.. أعتقد أن صورتي ستظهر يوما بالفعل في صفحة الحوادث ولكن ذلك سيحدث بالتأكيد عندما أقتلها. حاولت أن أتماسك و أن أتظاهر ببرود يوازي برودها: فقلت بأكثر النبرات التي استطعت افتعالها هدوءاً : ربما كانوا لا يزالون أسفل العمارة. سأنتظر قليلا.
قالت: بالتأكيد لا تستطيع الانتظار هنا. أنت تعلم أنني وحدي في المنزل.
أصابني الجنون من كلماتها الباردة فصرخت فيها في غيظ شديد: و ما الذي سأفعله بك؟؟ هل سآكلك. ألا تستطيعين احتمالي لعده دقائق حتي نتأكد من انصرافهم.
نظرت إلي في هدوء شديد وكأن صراخي لا يعنيها وقالت: بالفعل لا أستطيع احتمالك. سأدخل غرفتي و أغلق الباب. من فضلك حاول أن تنصرف بسرعة.
لم أرد عليها كي لا أرتكب تلك الجريمة المتوقعة. اتجهت لباب الحجرة و لكنها توقفت عند الباب و التفتت إلي ونادتني: زياد.
تري ماذا تريد؟ قلت لها في حدة: ماذا تريدين؟؟
قالت في برود شديد وقد رسمت ابتسامة سمجة علي شفتيها: من فضلك أغلق الباب ورآك جيدا عندما تنصرف. ثم غادرت بكل هدوء.
ألن يكن لي عذري عندما أقتلها يوماً ؟؟!!
قررت العودة للعمل اليوم.. لماذا؟؟ لأنني سأضطر لمواجهة العالم إن عاجلاً أم آجلاً. علي أي حال كلما كان أقرب كلما كان أفضل.رغم أنني اليوم بالذات أشعر ببعض الدوار إلا أنني ذكرت نفسي بأنني قوية و يجب ألا أستسلم لضعفي. دخلت المطبخ لأعد طعام الإفطار. منظر المطبخ في الصباح يعيد إلي ذكرياتي القديمة عندما كنت أستيقظ مبكرة لأعد لأبي إفطاره قبل أن يغادر لعمله. شعرت بغصة شديدة تخنقني و بالدموع تغافلني و تنهمر من عيوني في غزارة. غادرت المطبخ فلم أعد أشتهي أي طعام.
ارتديت ثيابي في سرعة وغادرت منزل الذكريات. استنشقت هواء الصباح النقي وحاولت أن أجعله يغسل عقلي من كل ما علق به من صور الماضي. كل ما أرغب فيه الآن أن أفكر في العمل.. لا شئ غير العمل. بمجرد دخول المكتب أندفع الجميع ليرحب بي. تظاهرت بأنني لم ألحظ نظرات الشفقة التي تطل من عيونهم ودلفت فوراُ للحجرة الداخلية. صافحت أميرة و قبلتها وسألت عن حالها في سرعة ثم جلست و ألصقت ناظري بشاشة الكمبيوتر فلست أرغب في الحديث مع أي شخص الآن. بعد فترة رن هاتفي. تري من المتصل. شعرت بالاستغراب الشديد. زياد؟؟ تري لماذا يتصل؟؟ منذ مشاجرتنا الأخيرة بسبب كذبته الحمقاء وهو لا يتصل بي. لقد طلب من هنري أن يتولى مهمة ذلك الاتصال اليومي للاطمئنان علي صحتي. وكأنني سأموت أو سأصاب بمرض خبيث لو لم يطمئن جلالته علي صحتي يومياً. بصراحة أسعدني ذلك كثيرا فمكالمة هنري كانت أكثر دفئا و مرحا من مكالمة زياد هذا. ألا يدرك حتى الآن كم هو ثقيل الدم و متعجرف؟. هنري كان يسأل عن صحتي و أحوالي باهتمام و ينصحني أن أهتم بنفسي و يقنعني أن ما حدث ليس مأساة كبيرة و أن حياتي وحدي شيء عادي فهناك ملايين الفتيات في أوروبا يعشن بمفردهن. وهذا ما كنت أحتاجه بشدة و ليست مكالمة زياد الباردة الجافة التي يسأل فيها عن أحوال في سرعة كأنه يؤدي مهمة ثقيلة و يتمني لو أغلق الهاتف فوراً في وجهي. لن أرد علي ذلك الزياد بالتأكيد .. أنا لا أرغب إطلاقا في سماع صوته الكئيب.
جرس الهاتف يدق من جديد.. زياد مرة أخري؟؟ ألن يكف و يعرف أنني لن أرد عليه أبداً؟؟
صوت الجرس أزعج أميرة فرفعت رأسها عن عملها وقالت: ألن تردي؟؟
تنهدت وقلت في ملل لا لن أرد. استغربت ردي وقالت: لماذا؟؟ من المتصل؟؟ هل هو شخص يضايقك.
فضولها أغاظني و لكنها صديقتي علي أي حال فـأجبتها: لا.. ولكنه لا أحد مهم .. إنه مجرد أبن عمي.
نظرت إلي في استغراب وقالت: ابن عمك؟؟ ولكننا أصدقاء منذ زمن طويل و معلوماتي أنك مقطوعة من شجرة.
ضايقتني عبارتها كثيراً. أشعرتني و كأنني لقيطة وجدت في الشارع ولا أهل لها.ولكنني أخفيت ضيق كيلا أضايقها فهي لم تكن تقصد ذلك المعني بالتأكيد. فقلت في عجلة و أنا أوجه كل نظري لشاشة الكمبيوتر حتى تفهم أنني مشغولة ولا رغبة لدي في الرد علي أسئلتها السخيفة: لم أعد مقطوعة من شجرة فقد نبت للشجرة غصون و فروع و لم أعد وحدي علي الشجرة.
يبدو أن الرسالة وصلتها فقد عادت مرة أخري لتنهمك في عملها.
رغم صداقتي لإيمان منذ عهد بعيد إلا أنني حتى الآن لا أستطيع أن أفهمها. فتاة غريبة .. متقوقعة حول ذاتها. تتصرف دائما كالسلحفاة التي تحب الاختفاء داخل صدفتها فلا تستطيع أن تري منها أي شئ. أفكارها .. عواطفها .. مشاعرها .. كلها ملكها وحدها لا تشارك فيها أي شخص مهما كان. رغم أنها تتظاهر طوال الوقت بالمرح إلا أنني أدرك جيداً أن في قلبها جراح لم تندمل بعد.. وربما لن تندمل أبداً.
عندما رأيتها اليوم في المكتب .. بدت صلبة و متماسكة رغم وفاة والدها ورغم أنها صارت تواجه العالم وحدها كطائر صغير يرتعد من البرد ولا يجد سقفا يحميه من المطر .. ولكنني كنت أدرك جيدا أن ما يبدو منها الآن هو درع السلحفاة.. و أن داخل الدرع فتاة قتلها الحزن و تحتاج إلي مساندة. أردت أن أواسيها و لكنني كنت أدرك أن كلمات المواساة ستجرحه فهي تحب أن ينخدع الناس بقوتها و تكره أن يكتشف أحدهم ضعفها. تحدثت إليها وأنا أتظاهر بأن شئ لم يتغير في حياتها ثم أنهمك كلانا في عمله.
هاتفها يدق كثيراً.. تري لماذا لا ترد؟؟ خفت أن يكون ذلك الشخص قد عاد من جديد.. تري هل علم بوحدتها و ضعفها وعاد ليستغلها؟؟ احتمال كبير فهو يعرف جيداً كيف ينتهز الفرص السانحة. قررت أن أسألها بطريقة غير مباشرة سألتها لم لا ترد و عما إذا كان هناك شخص يضايقها. يبدو أنها تضايقت من سؤالي كثيراً و لكنني بالفعل أرغب في الاطمئنان عليها ولن أتركها حتي أعرف الحقيقة. عندما ضغطت عليها قالت أنه ابن عمها. لم أصدقها فأنا أعرفها منذ أيام الجامعة و زرتها في بيتها كثيرا و أعرف أنه ليس لها أقارب. لماذا تكذب؟ قلت لها: ولكننا أصدقاء منذ زمن طويل و معلوماتي أنك مقطوعة من شجرة. شعرت بأنها تضايقت وردت علي رد مبهم ولكني لم أفهم السبب. هل أنا محقة؟؟ هل تكذب فعلا؟؟. علي أي حال لن أثقل عليها أكثر من ذلك. هي فتاة بالغة وراشدة علي أي حال و إذا لم ترغب في أن تخبرني بشيء فهذا شأنها. عدت إلي عملي و أنا أشعر بالغضب.
بعد حوالي نصف ساعة من الصمت.. سمعت صوت حركة كرسي إيمان التفتت إليها فقالت: سأذهب الآن يا أميرة .. أشعر ببعض التعب. وجهها كان شاحبا منذ الصباح بالفعل ولكنه أزداد شحوبا الآن و تحولت شفتيها للون الأبيض. قلت لها في قلق: هي تريديني أن أصحبك للمنزل؟؟ تبدين مريضه جداً.. قالت: لا تقلقي أنا بخير. وقفت لتجمع أشيائها و لكنها بمجرد وقوفها وجدتها تسقط علي الأرض. أسرعت إليها فوجدتها فاقدة الوعي و تتنفس بصعوبة. صرخت فجاء كل العاملين بالمكتب. حملناها معاً ووضعناها علي الأريكة. حاولنا إفاقتها بكل الطرق.. رششنا وجهها بالماء.. جعلناها تشم العطور بلا فائدة. قال مدير المكتب: يجب أن نطلب الإسعاف. تلفتت حولي أبحث عن هاتفي فوجدت هاتف إيمان بجواري. أمسكته لأتصل بالإسعاف فوجدت عدة مكالمات فائته من شخص يدعي زياد. إذا المتصل لم يكن عمر كما ظننت. يبدو إنها كانت صادقة و لها ابن عم بالفعل. قررت أن أتصل به. طلب الرقم بسرعة فرد علي شخص يقول: لماذا لا تردي أيتها الحمقاء؟ لا تبشر بخير بالتأكيد و لكن رغم ذلك هو قريبها الوحيد الذي أعرفه الآن علي أي حال. قلت في سرعة: لست إيمان يا سيدي. إيمان فاقدة الوعي في المكتب الآن ولا نستطيع إفاقتها. قال في لهفة: ماذا؟؟ دقائق و سأكون عندكم. هل اتصلتم بالإسعاف؟ قلت: ليس بعد. قال: حسنا سأرسلها لكم فوراً. قلت له في سرعة: هل تريد العنوان. قال: أشكرك أعرفه جيداً.. وداعاً.
دقائق ووجدت شخصا يندفع للحجرة بسرعة كأنه إعصار هائج. أعتقد أنني رأيت هذا الوجه من قبل ولكن لست أتذكر أين. نظر ذلك الشاب إلي جسد إيمان الممد علي الأريكة وقال: يا إلهي تبدو شاحبة جداً . ألم يصل الإسعاف بعد. قلت: ليس بعد. هل أنت ابن عمها؟ قال: بلي.. سأحملها إذا للمستشفي. حملها وخرج. بدا لي بوسامته وجسده المتناسق وطوله الفارع كأحد أبطال الإغريق. لو كان لي قريب مثله لما كنت لزوجي الحالي هذا أبداً. تنهدت في قوة.. وقلت لنفسي: رغم كل شئ كم هل محظوظة إيمان.
زياد
فتاة مثيرة للمتاعب .. هذا هو أصدق وصف لهذه الفتاة.. لولا إنها ابنه عمي و قد أصبحت مسئول عنها لألقيت بها بطول زراعي خارج حياتي ورفضت رؤية وجهها من جديد. لم أكن أرغب في سماع صوتها بعد مشاجرتنا السخيفة معا. ناكرة الجميل. طلبت من هنري أن يتصل بها يوميا للاطمئنان عليها هو يعرفها جيدا علي أي حال وهي كذلك. كما إنه معجب جدا بشخصيتها وسيسعده أن يحدثها. في الحقيقة هنري معجب بكل الفتيات لذلك لا يوجد خطر حقيقي منه علي أي فتاة.
ولكني اليوم استيقظت متعكر المزاج.. لا أعرف لماذا فكرت في كلامها و شعرت أن شئ واحد علي الأقل فيه كان حقيقياً. تري ما الذي سيحدث بالفعل لو عاد أبناء العم هؤلاء من جديد واكتشفوا أنني كنت أكذب عليهم؟؟ لست خائفا علي نفسي. أعرف كيف أدافع عن نفسي جيداً. ولكن ماذا عنها؟؟ هل ستستطيع وقتها الاتصال بي؟؟ وهل سأصل في الوقت المناسب؟؟ شعرت بقلق حقيقي. فهي رغم رغبتي الشديدة في التخلص منها لا تزال أمانه تركها عمي رحمه الله في عنقي. فكيف أخون الأمانة؟؟ قررت أن أتصل بها لنتقابل و نتناقش في الأمر. أعتقد أنه قد حان الوقت لتغير مسكنها. لماذا لا أجعلها تقيم معي في الفيلا؟؟ إنها متسعة بما فيه الكفاية لتجعلنا لا نتقابل إلا نادرا. سيكون ذلك الأمر ثقيل جدا علي نفسي ولكني مضطر علي أي حال.
اتصلت بها عده مرات ولم ترد.. تري لماذا؟؟ شعرت بالقلق يغزو قلبي.. تري هل حدث لها شئ؟؟ طاف برأسي خاطر أنها ربما لا تود الحديث معي. إنها حمقاء وغبية فعلا ..لكن هل هي بتلك الحماقة؟؟.. قلقي يزداد .. لابد أن أذهب لمنزلها لأري ماذا هناك. ركبت سيارتي وانطلقت بسرعة.. لن أسامح نفسي إذا حدث لها شيء.. يبدو أنها كانت محقة وكنت أنا الأحمق. وصلت لمنزلها بسرعة. أخذت أدق البابا ولا مجيب.. ماذا أفعل هل أكسر الباب أم أتصل بالشرطة.. تخيلت منظرها في الداخل .. جثة غارقة في دمائها .. و أنا السبب.. أنا السبب.. لماذا لم أفكر في كلامها .. لقد كانت محقة.. لن أسامح نفسي أبداً.. هؤلاء الوحوش .. سأقتلهم جميعاً.
فجأة دق جرس الهاتف نظرت إليه رأيت اسم المتصل بصعوبة بسبب الدموع التي بدأت تتجمع في عيني.إيمان؟؟ حقاً؟؟ إذا فهي حية .. شعرت بالغضب.. و أنا الذي كنت سأبكي عليها.. رفعت السماعة و أنا أكاد أنفجر من الغيظ وقلت: لماذا لا تردي أيتها الحمقاء؟. جاء الرد بصوت رقيقي يختلف كثيراً عن صوت إيمان المتعجرف. قالت تلك الفتاة أن إيمان معشي عليها في عملها و لا تفيق. أغلقت الهاتف و اتصلت بالإسعاف وطرت مسرعا بسيارتي لمقر عملها. هذه الفتاة لا تكف عن إصابتي بالقلق. لماذا ترك لي عمي ذلك الحمل الثقيل.
وصلت للمكتب واندفعت للحجرة الداخلية التي رأيتها تخرج منها من قبل. وصدقت توقعاتي كانت هناك ممدة علي الأريكة. بدت شاحبة جداً و تنفسها بطئ. شعرت بالخوف. لن أستطيع انتظار الإسعاف أكثر من ذلك حملتها بسرعة و طرت بسيارتي لأقرب مستشفي. في المستشفي أخذوها مني ووضعوها في أحد الحجرات وابتسمت الممرضة لي وقالت: اطمئن .. ستكون بخير.
دخلت الطبيبة لتفحصها و بقيت في الخارج لحظات. ولكنها كانت أطول لحظات في حياتي. تنهدت وقلت في نفسي: لماذا يا عمي .. لماذا اخترتني بالذات لأحمل هذا الهم الثقيل؟.. طوال عمري أحمل المسئولية ولكنها كانت دائما مسئولية مكاتب و شركات و أموال.. أشياء لا تتنفس ولا تسكنها روح.. إنها المرة الأولي التي أحملها فيها مسئولية كائن حي حقيقي.. إنسانه تتنفس و تمرض ويمكن أن تموت .. أو ربما تقتل بسببي. ساعدني يا إلهي. هذا فوق احتمالي.
خرجت الطبيبة مبتسمة وقالت: لا تنزعج هكذا .. زوجتك بخير.
كنت شارد الذهن فلم أركز في كلامي وكان أول ما فعلته هو أن قلت في حدة: ليست زوجتي. نظرت إلي في دهشة وشك وقالت: من هي إذن؟؟ قلت: ابنه عمي. وأضفت لم رأيت نظرة عدم اقتناع في عينيها :وخطيبتي.
ابتسمت من جديد وقالت: فهمت .. لذلك أنت تبدو قلقا جداً. هي بخير كل ما هنالك إنها تعرضت لصدمة كبيرة مؤخرا بالإضافة إلي أنها لا تأكل جيداً. أرجو أن تعتني بتغذيتها بنفسك. يمكنها أن تغادر المستشفي اليوم ولكنها ستحتاج لراحة تامة في الفراش لمدة أسبوع علي الأقل و ألا تقوم بأي مجهود.
هذه مشكلة جديدة تظهر علي السطح. من سيعتني بها؟؟ لم نتحدث بعد في موضوع إقامتها عندي في الفيلا ولست أجد الوقت مناسبا لهذه المناقشة. سألت الطبيبة: ألا يمكن أن تبقي هذا الأسبوع في المستشفي؟؟
نظرت إلي في دهشة وقالت: كنت أظنك ستفرح بخروجها لا تطلب بقائها هنا. ثم أن تكاليف المستشفي هنا ضخمة جداً.
أجبتها: ولكنها تقيم وحدها ولا يوجد شخص للاعتناء بها. والمال لا يهمني في شئ. سأدفع.
نظرت إلي في شك من جديد.. يبدو أنها حمقاء أخري تود التدخل في ما لا يعنيها.. ولكنها هزت كتفيها في النهاية وقالت باستسلام : كما تريد.
دخلت لأطمئن علي إيمان.. وجدتها نائمة.. قالت الممرضة إنها ستنام عده ساعات بسبب الحقنة التي أعطتها لها الطبيبة فغادرت الحجرة وذهبت لإنهاء إجراءات المستشفي. ثم قررت الذهاب للمكتب لإنهاء بعض الأعمال العاجلة علي أن أعود بعد قليل للمستشفي.
توجهت للمكتب.. بمجرد دخولي قابلت هنري الذي قال في مرح: متأخر كعادتك أيها الكسول .. تذكر أن الطائر المبكر يمسك بالديدان.. ثم غمز بعينه وهو يقول: تبدو شاحبا جداً.. يبدو إنك لم تنم جيداً.. ما الذي كنت تفعله طوال الليل يا خبيث.
لم أكن في مزاج يسمح بمزاح هنري الثقيل. فقلت له: كف عن ذلك.. لست رائق البال لأتقبل سخافاتك تلك.
ظهر علي وجهه الاهتمام وقال: يبدو أن الأمر جدي.. ماذا هناك؟
قلت: تعال أحتاج للحديث معك.
دخلنا مكتبي و حكيت له كل ما حدث ثم تنهدت وقلت: يبدو أنه لا يوجد حل أمامي إلا أن أصحبها لتقيم معي في الفيلا.
نظر إلي في سخرية وقال: أحمق كعادتك. وهل تظن أنها ستوافق علي هذا الحل.
سألته في حدة: ولما لا توافق.
أجابني في مزيد من السخرية: فتاة عذراء تقيم مع شاب أعزب في منزله .. نحن في مصر يا عزيزي .. لسنا في إنجلترا. حتي إذا وافقت هي هناك تقاليد و أعراف يفرضها الدين و المجتمع لن تسمح لكما بذلك.
كنت أدرك جيداً أنه محق. فقلت له في إحباط: إذا ما العمل. لا أستطيع حمايتها و الاعتناء بها وهي تقيم بعيداً. ما الذي سيحدث إذا ظهر أبناء عمها من جديد؟؟ حتى إذا وجدت لها مسكنا جديدا لا يعرفونه, ماذا لو مرضت و أو فقدت الوعي مرة أخري و كانت وحدها في منزلها هذه المرة؟؟ ربما حدث لها شئ وهي وحدها .. ربما ماتت حتي ولم يشعر بها أحد. لن أكون مرتاحا علي الإطلاق لو ظلت وحيدة.
قال: ابحث لها عن خادمة أو مرافقة تقيم معها إذاً.
زفرت وقلت في ضيق: وهل تظنني لم أفكر في ذلك؟؟ ولكن ذلك سيحتاج وقتاً بالتأكيد للعثور علي فتاة أمينة وتقبل إيمان أن تعيش معها لتقوم بذلك الدور. ثم إنني لست أعرف كيف يقومون بذلك في مصر. هل سيحتاج الأمر لنشر إعلان في الجرائد أم يوجد مكاتب متخصصة؟؟. وتلك الخادمة ستحتاج ليوم أجازة في الأسبوع علي الأقل. فماذا سيحدث في هذا اليوم؟؟ هل سأستأجر لها خادمة أخري؟؟ لا أعتقد أنه حل عملي. أحتاج لحل جذري.
انفجر هنري ضاحكاً وقال: أشعر و كأنك أصبحت أبا وحيداً و تبحث عن وسيلة للعناية بطفلك الذي هجرته أمه. تبدو مضحكا جدا في هذا الدور.
قلت له في غيظ: امزح كما تشاء.. فلست تحمل تلك المسئولية الرهيبة التي أحملها.
توقف عن الضحك وقال في جدية: إذا أردت رأيي هناك حل واحد فقط لمشكلتك و إن كنت واثقاً أنه لن يعجبك.
تنهدت بعمق وقلت: اخبرني من فضلك فأنا مستعد لعمل أي شئ لتنفيذ وصية عمي و للتخلص من هذا الصداع الذي بات يلازمني.
غمغم هنري: أنا واثق من رده فعلك .. أعرف جيدا رأيك في هذا. ثم بدا و كأنه أتخذ قرارا بالتحدث علي أي حال وقال وكأنه يلقي بقنبلة: ليس أمامك حل سوي أن تتزوجها.
انتفضت كالملسوع وقلت له في دهشة: ماذا تقول؟؟ هل أنت أحمق.
قال: كنت أعرف أنك ستقول هذا و لكن دعنا نتناقش بهدوء. المجتمع لا يسمح لشاب برعاية فتاة إلا إذا كانت أخته أو زوجته. وهي ليست أختك بالتأكيد فليس أمامك سوي أن تتزوجها. أعرف أنك قد حذفت فكرة الزواج من مخططاتك نهائيا وهذا حسن. لن تقع إذا في غرام فتاة في المستقبل وترغب في الزواج منها و تشعر أن إيمان عبئاً عليك.
أفكاره حمقاء بالفعل.. فتحت فمي لأرد برد مناسب فلم يمنحني الفرصة وقال: أعرف ماذا ستقول .. أنت لا تحبها أليس كذلك؟؟ .. و ما المشكلة؟؟ .. هي أيضاً لا تطيق رؤية وجهك. هو شعور متبادل إذاً. والموضوع لن يحتاج لحب. أعتبره عقد لأحد المشاريع التي تقوم بها. مجرد عقد ليضفي علي علاقتكما الشرعية و القانونية أمام الناس. فقد ضع إمضائك عليه ثم تناساه و تعامل كأنه لم يكن.
كلامه لا يجد لي منفذاً للهروب .. علي الرغم من كراهيتي للفكرة بشده إلا أنها بالفعل تبدو الحل المنطقي الوحيد .. رغم ذلك حاولت الهرب من حصاره النفسي وقلت: ليس لدي مشكله في الأمر ولكن ماذا عنها.. إنها لن تقتنع بالتأكيد.
قال: أعرف أنها لن تقتنع بسهولة .. ولكن حاول أن تقنعها أنت من جانبك و سأحاول من جانبي و أعتقد أنه مع الضغط المستمر يمكن أن نجعلها توافق حتى و إن لم تقتنع تماماً.
المزيد من الحصار .. يبدو أنه لا مفر.. معه حق فيما يقوله ولكنني اشعر بالاختناق من مجرد التفكير في الموضوع .. فماذا عن التنفيذ. نبتت في رأسي فكره فتمسكت بها كالغريق وقلت: لكن ماذا لو كان لها حبيب..أو شخص ترغب في الزواج منه.. وإذا لم تكن ترغب في ذلك الآن .. فربما تجد في المستقبل شخصاً ترغب في الزواج منه.
تنهد وقال: كف عن المراوغة.. علي أي حال لا تقلق من هذه الناحية. ليس لها حبيب الآن ولا أعتقد أن ذلك سيحدث في المستقبل القريب.. فهي مصابة بصدمة عاطفية منذ وقت ليس ببعيد ولا تثق بالرجال وفكرة الزواج مستبعده من تفكيرها تماما.
قلت له في دهشة: كيف عرفت كل هذا؟؟
قال: نحن أصدقاء منذ وقت طويل .. منذ بدأنا نقوم بترجمة أوراقنا الهامة في مكتبهم. وأعرف عنها الكثير مما لا تعرفه أنت. و الآن كف عن هذا الهراء و خذ الأمر بجديه. ثم أبتسم ابتسامة خبيثة وهو يضيف: ودعك من التفكير في المستقبل.. فمن يعلم ما الذي سيحدث غداً.. ربما وقعت في حبها.
قلت بسرعة في عصبية: بالتأكيد لن يحدث هذا.
ضحك وقال: طفل كعادتك .. إنها مجرد مزحه.
ثم خرج وتركني لفكرته المجنونة تلك تنهش في رأسي.. نعم هو محق في كل ما قال.. ولكن الفكرة نفسها تشعرني بالاختناق.. زواج؟؟؟؟ ومن من؟ من إيمان من دون البشر؟؟.. ربما كان زواجا علي الورق ولكنها ستحمل اسمي علي أي حال.. ابتسمت لنفسي و أنا أتذكر أن اسمها علي أي حال يشبه اسمي كثيراً.. الدم الذي يجري في عروقها يشبه دمي .. جيناتنا الوراثية متشابهة.. إذا فمهما كرهتها أو رفضتها هي جزء مني.. إن الإنسان الذي ينظر في المرآة فيكره بشرته السمراء لا يستطيع أن يخلعها و يتخلى عنها.. كذلك أنا .. لا أستطيع أن أتخلي عن إيمان أبداً.. رغم ذلك أكره تلك الفكرة .. أكرهها بجنون.
فجأة دق جرس هاتفي .. تنفست الصعداء فربما تجعلني تلك المكالمة أتخلص من ذلك الصداع الذي قد بدأ يهاجمني.. مكالمة من لندن.. ولكن هذا الرقم لا أعرفه .. تري من المتحدث.. فتحت الخط وقلت : آلو
.. وانتظرت أن استمع للصوت الطرف الآخر.
جاءني صوتها مرحاً.. ينساب في رقة و دلال كعادتها.. ذلك الصوت الذي شبهته يوماً في نغماته التي ترتفع وتنخفض في نعومه بالنهر المتدفق.. قالت: زياد.. كيف حالك؟.. اشتقت إليك كثيراً.
تتحدث وكأننا كنا معاً بالأمس .. ولا ينم صوتها عما حدث بيننا في لقاءنا الأخير.. صوتها جعلني أشعر وكأن شوقي يحملني علي جناحيه ليطير إليها رغم شعور المرارة الذي عاد ليسد حلقي.. حاولت أن أبدو صارماًُ و أنا أجيبها: ساندي.. عجيب .. لماذا تتصلين؟؟ وكيف حصلت علي رقم هاتفي؟؟
أجابتني بضحكة مرحه .. ضحكتها تذكرني دائما بتفتح الزهرة .. تبدو صغيرة و خافته في البداية ثم تتصاعد بالتدريج ويعلو صوتها حتى تكتمل فتبدو أشبه بالداليا .. وأنا أعشق زهره الداليا .. ثم قالت: كعادتك .. تبدو كالأطفال عندما تغضب. حصلت علي رقم هاتفك أنت تعرف أن لي أساليبي دائما في الحصول علي ما أرغب فيه. أردت أن أبلغك خبر سيجعلك تطير من السعادة .. سنري بعض كثيرا في الفترة القادمة سأنتقل لأعمل علي رحلة لندن- القاهرة و سآتي لرؤيتك بالتأكيد.
تجذبني إليها بخيوط حريرية تشبه خيوط العنكبوت .. وأنا لا أرغب في الاقتراب .. الهرب .. الهرب .. أين أنت أيها الغضب الذي تصاعد في قلبي يوماً حتى كاد يحرقني .. عد إلي أيها المارد الجبار فلا منقذ لي الآن سواك.. وبكل غضبي صحت بها: ساندي .. أنا لا أرغب بصراحة في الحديث معك.. وبالتأكيد لا أرغب نهائيا في رؤيتك.
ضحكت من جديد .. أتخيل الآن صورتها و هي ترمي برأسها للخلف فتتطاير خصلات شعرها مثلما اعتادت أن تفعل عندما تستغرق في الضحك.. أخذ قلبي يدق في سرعة .. فتمنيت لو توقفت دقات قلبي حتى و إن كان في ذلك هلاكي.. سمعتها تقول: عزيزي هل تظن أنني سأصدق أنك نسيتني .. لا يا عزيزي أعرف أنك ستظل تحبني دائما ولن تنساني أبداً .. وستتأكد من ذلك عندما أراك .. وداعا الآن و إلي لقاء قريب.
رغم أنها أغلقت الخط إلا أنني ظللت ممسكا بالهاتف وكأنني انتظر سماع صوتها من جديد.. وعندما انتبهت لنفسي ألقيت بالهاتف بعيداً وكأنني ألقي بثعبان سام.. ثم تنهدت في يأس .. للأسف أعرف أنها محقة .. إن حبي لها لم يكن أبداً حبا عادياًً لقد كان إدمان .. تلاعبت بي طوال الوقت ولكنني لم أستطع أن أتوقف عن حبها.. كم أتمني لو أجد مصحة لعلاج ذلك النوع المستعصي من الإدمان الذي يكاد يدمرني.. لماذا تتصل الآن.. لقد تركت لها انجلترا كلها .. غيرت رقم هاتفي . جئت إلي مصر لأبدأ حياة جديدة وظننت أني نجحت في نسيانها وها هي تعود لتثبت من جديد أنني قد فشلت.. ماذا أفعل؟؟ يبدو أن الحل الوحيد لنسيانها هو أن تنساني هي .. يجب أن ترحل عني ولا تفكر في العودة إلي من جديد.. ولكن كيف؟؟
قفزت إلي ذهني فكره مجنونة.. ماذا لو عادت ساندي لمصر فوجدتني متزوجا؟؟ بالتأكيد ذلك سيجعلها تتأكد بأنها غادرت حياتي للأبد .. وقتها سترحل ولن تعود لتطل برأسها في حياتي من جديد .. ذلك يبدو رائعاً.. يبدو أن زواجي من إيمان لم يعد عملاً لصالحها فقط .. ولكن لصالحي أنا أيضا.
إيمان
سأغادر المستشفي غداً .. أشعر أنني قد أصبحت أفضل بكثير و أتمني أن أغادر اليوم .. زياد يمر علي يوميا و يجلس معي طوال وقت الزيارة .. أحيانا بمفرده و غالبا بصحبه هنري.. يعاملني برقه شديدة .. هل ذلك بسبب مرضي؟؟ كما أنه يحمل لي في كل مره الكثير من الأزهار و الشيكولاته..بما كان ذلك رائعا و يجبرني علي تغيير وجهه نظري السابقة عنه ولكن هناك شعور غريب في داخلي نحو كل ما يفعله .. شعور يقول لي بألا أنخدع بتلك الرقة فما هي إلا مثل السكون الذي يسبق العاصفة .. أشعر وكأن زياد يدبر مصيبة وبالفعل لم يخيب ظني فيه.
دخل حجرتي اليوم وهو يحمل باقة ضخمة من الزهور الحمراء وابتسم ثم قال: كيف حالك اليوم؟؟
نظرت إليه في ريبه وقلت: بخير .. ولكنك أنت لست بخير .. يبدو وكأن هناك حديثا تختزنه في صدرك و يكاد يطبق علي أنفاسك لو لم تخرجه.
ضحك وقال: رغم أن تعبيراتك غريبة إلا أن كلامك صحيح .. هناك ما أريد أن أحدثك فيه ولكن علي ألا تقاطعيني حتى أنهي كلامي.
قلت: حسنا.. هات ما لديك.
بدا علي وجهه الجدية وكأنه سيتناقش معي في أحد الخطط الحربية وقال: إيمان أنا قلق عليك بشدة منذ وفاة عمي .. أنت تعيشين وحيدة وأخاف أن يحدث لك شيء وأنت وحدك في المنزل.. ما الذي كان سيحدث لو حدث الإغماء وأنت وحدك في المنزل..سيكون ذلك خطراً جداً بالتأكيد.. ثم ماذا لو عاد أولاد العم من جديد .. ربما كان ذلك خطراً.. لقد أوصاني والدك قبل وفاته أن أعتني بك.. و أنا أرغب في تنفيذ وصيته .. فكرت أن تنتقلي لتعيشي معي في بيتي ولكن أعرف أنك سترفضين ذلك.. وبعد تفكير طويل لم أجد إلا حلا واحداً.. ثم نظر للأرض وهو يكمل: إيمان .. دعينا نتزوج.
كنت أستمع لكلامه وأنا أشعر بالتسلية.. بدا مرتبكا كطفل مذنب يقف أمام معلمته ليعترف بخطئه .. أكن أفهم مغزى كلامه علي الإطلاق ولكن ما أن سمعت سيرة الزواج حتى وجدتني أصرخ فيه: ماذا هل أنت مجنون؟؟ تتزوج من؟؟ تتزوجني؟؟ هل خلا العالم من الرجال ولم يبقي إلا أحمق سواك لأتزوجه؟؟ حتى في هذه الحالة لن أقوم بذلك العمل الأخرق ..
قاطعي بل أن أكمل ذلك العزف المنفرد الذي كنت أنوي الاستمرار فيه لوقت طويل وقال وقد عاد له طبعه الناري الذي كان يحاول أن يخفيه خلف قناع الرقة: ألم أخبرك أن تخرسي حتى أكمل حديثي.. هل تظنين نفسك مارلين مونرو أو إليزابيث تايلور حتى أفتن بك و أتزوجك؟؟ لن يكون زواجا حقيقيا بالطبع. فقط سنعقد قراننا ثم ننسي أنني قد ارتكبنا تلك الغلطة الحمقاء.. والفيللا واسعة والجناح الذي ستكون به غرفتك سيكون بعيد جدا عن مكان غرفتي أي أننا لن نتقابل تقريبا إلا بالصدفة ولكنك علي الأقل ستكونين في وسط الناس .. فهناك الخدم ومدبره المنزل وإذا حدث شيء ستجدين من ينقذك.. كما أنه لو عاد أولاد عمك فسيعرفون أننا لم نكن نكذب وبذلك يصبح الوضع مستقراً لكلانا. وإذا وجدت يوما شخصاً مناسبا وشعرت بالرغبة في الزواج منه فسأمنحك الطلاق في أي وقت تريدين. كما ترين أعتقد أن هذا الوضع مناسب.
صرخت فيه: مناسب لمن أيها الأحمق.. أنت بالتأكيد مجنون ولن أوافق علي عرضك مهما فعلت.
تنهد وقال: حسناً .. اهدئي .. لا أريد منك رداً الآن.. فكري طويلاً وامنحيني ردك متي شئت. سأغادر الآن .. وداعاً.
ثم غادر بكل هدوء وكأن شيئاً لم يحدث .. سأقتله يوماً ذلك الأحمق.
رفضت كما توقعت . ولكن شعور في داخلي يقول بأنها ستعود وتتصل بي لتعلن موافقتها .. لا مشكلة في بعض الانتظار.
كيف يعرض علي شئ مثل هذا ذلك الأحمق.. يبدو أن عقله قد تلاشي تماماً.. أفكر أن أبلغ عنه مستشفي الأمراض العقلية فهي مكانه الطبيعي.. ويظن أنني سأفكر في الأمر مرة أخري.. أحمق.. ولا بعد مليون سنة .. ولا بعد مليون قرن من الزمان.
أشعر أنني بصحة أفضل الآن.. قررت أن أعود للعمل. جدران المنزل باتت تخنقني. أشعر أحيانا أن الجدران تتحرك .. تقترب من بعضها حتى تسحقني يوما. الذكريات تملأ كل شبر في البيت حتى صرت أشعر و كأنه لم يعد لم مكان فيه. أفكر جدياً في بيع هذه الشقة و الانتقال لمسكن آخر ولكن كيف أبيع المنزل الذي شهد الأيام الأخيرة لأبي و أمي.. المنزل الذي شهد أسعد و أتعس أيام حياتي.. العودة للعمل هو الحل الوحيد.. أجهد نفسي بالعمل حتي أعود للمنزل شبه ميتة لألقي بنفسي علي الفراش ولا أستيقظ إلا في موعد عودتي في اليوم التالي.
عملت كثيراُ اليوم.. أشعر بإرهاق شديد و أحلم باللحظة التي أرتمي فيها في فراشي. ركبت السيارة المتوجهة لمنزلي. سندت رأسي علي الزجاج وكدت أسقط نائمة لولا جرس الهاتف. هنري من جديد. لا يكف عن الاتصال يومياً لإقناعي بقبول عرض زياد. يقول أن هذا هو الحل الوحيد لتقويم وضعي الاجتماعي في مجتمع لا يعترف بالمرأة الوحيدة. ربما كان هنري صديق عزيز علي جداً.. وربما صديقي الحقيقي الوحيد الآن ولكنه لن يستطيع أن يقنعني بالانتحار بهذه الطريقة. أتزوج زياد؟؟ .. إن هذا مضحك حقاً. مبدأ الزواج نفسه لا يروقني فما بالك بالزواج من إنسان عصبي .. متوحش .. أحمق مثل زياد. و إن كان مجرد زواج صوري.. فالبقاء معه في مكان واحد سيصيبني بالجنون.
نزلت من السيارة و أخذت أسرع الخطي في اتجاه منزلي.. أين أنت يا فراشي الحبيب.. كانت مجموعه الشباب المعتادة تقف في مكانها المعتاد.. لم ألحظهم فقد أصبحوا بالنسبة لي أحد معالم الشارع الثابتة التي لم أعد أنتبه لها وأنا أمر بها يومياً.. فجأة غادر أحدهم المجموعة بسرعة وفوجئت به يقف أمامي ويسد علي الطريق. حاولت أن أتجاهل وجوده و أمر من جواره لكنه تحرك بسرعة ليقف أمامي من جديد و فرد ذراعيه وهو يقول: لحظة يا آنسه إيمان.. أنا هشام .. ألا يمكن أن نتحدث قليلاً.
شعرت برعب شديد.. حاولت أن أبدو قويه ولكن نبرات صوتي التي خرجت مرتعشة فضحتني .. قلت: دعني أمر.
تعالت ضحكاته وضحكات أصحابه الذين أخذوا يراقبون الموقف باستمتاع وقال: لن أدعك تمرين حتى تتحدثين معي قليلاً.
حاولت أن أتجاوزه و أمر من جواره بأي طريقة ولكنه مع كل حركه مني كان يتحرك ليقف أمامي.. وتتعالي ضحكاته وضحكات زبانية الجحيم أصدقائه. ماذا أفعل يا ربي.. هل أجري لأغادر المنطقة.. ولكن أين أقضي ليلتي اليوم؟؟ ثم أنني أشعر بالخوف الشديد أن يقوم هذا الفتي بأي تصرف آخر.. طافت برأسي الكثير من الاحتمالات.. تلفتت حولي .. المنطقة التي أسكن بها هادئة جداً.. لا يوجد أحد غيرنا في الشارع.. هل أصرخ؟؟ وماذا إذا لم يسمعني أحد.. وإذا سمعني الناس ستكون فضيحة.. لست أدري كيف سيفسرون الموقف.. لا أريد أن تلوك اسمي الألسن.. فكرت بخطة جريئة توقفت عن الحركة لثوان ثم بسرعة قبل أن ينتبه غافلته ومررت من تحت ذراعه المفرودة وأطلقت ساقي للرياح .. جريت أسرع من أبطال الجري في الماراثون ولم أتوقف حتى كنت داخل شقتي و الكرسي الضخم يسد الباب. وعندما تأكدت أنني في أمان أخيراً سقطت علي الكرسي و ارتفع نشيجي وأنا أبكي وأتمتم بشكر الله علي إنقاذي من ذلك الموقف الذي لست أدري كيف كان سينتهي.
يبدو أن الجميع علي حق و أنا كنت مخطئة .. لا مكان في هذا المجتمع لامرأة وحيدة مثلي.. لم يكن يحدث لي مثل هذه المواقف عندما كان أبي علي قيد الحياة .. وربما لن تحدث لي مرة أخري لو قبلت الزواج من زياد. ولكن فكرة الزواج من زياد هذه لا تشعرني بالراحة حتى و إن كنت أدرك جيداً أنه ليس زواجا حقيقياً.. فهو مجرد عقد سأوقعه ثم أتجاهله بعد ذلك كأنه لم يكن.. زياد يكرهني علي أي حال و أنا لا أحبه وهذا بالتأكيد لن يدفعه لأن يطالبني بما لا أريد منحه له. لذا فلا يجب أن أقلق من هذا الوضع. كما أنه يقول أن اتساع فيللته لن يجعلنا نلتقي كثيرا .. ومن جانبي سأحرص بشده علي هذا. يبدو أنه ليس أمامي سوي الحل الذي أمقته بشده و أرفضه ..ولكن الناس جميعاً يدفعونني نحوه.. لا مهرب. أمسكت بهاتفي وأنا أرتجف مما سأورط فيه نفسي ..وبمجرد سماعي صوت زياد قلت: زياد.. أنا موافقة علي عرضك.
|