كاتب الموضوع :
ثم كانت الذكري
المنتدى :
الارشيف
الفصل السادس
جحيم الإنتظار
إيمان
زياد.. زياد .. زياد.. أصبح ذلك الاسم يتكرر كثيراً علي لسان والدي حتى كرهته أكثر مما أكره صاحبه. و ذلك الزياد أصبح ضيفاً مستمراً علي بيتنا و علاقته بأبي تزداد قوة كل يوم. أما أنا فقد حاولت تجنبه ما استطعت دائماً أصبحت أحاول أن أجد ما يشغلني أثناء وجوده في منزلنا, مكالمة تليفونية مع صديقة تطول أكثر من المعتاد أو عمل طارئ لا يحتمل التأجيل أو أي شئ يجعلني بعيده عن مكان تواجده. في أحياناً كثيرة كان زياد يأخذ أبي ليخرجا معا يتجولا في شوارع القاهرة. بدأت أشعر بالوحدة الشديدة فحتى الساعات القليلة التي كان أبي يقضيها معي لم تعد لي. استولي عليها زياد .. ذلك المقيت الغبي.. يوماً ما سأعرف كيف أقتص منه.
اليوم من الأيام النادرة التي لم يزرنا فيها ذلك الأحمق و أبي في المنزل علي غير عادته في الأيام الأخيرة. اتصلت بي أميرة لتخبرني إنها قد أنجبت طفلة جميلة و أن حفل السبوع غدا و أصرت علي أنني يجب أن أحضر. قررت أن أذهب فأنا أحتاج كثيرا لتغيير الجو المحيط بي و إلا أصبت بالجنون. ذهبت إلي أبي و أخبرته و ظننت أنه مثل كل مرة أقرر فيها الخروج سيوصيني آلاف المرات بألا أتأخر كثيراً لأنه يكره قضاء الوقت وحيدا و ذلك ما كان يمنعني دائما من مغادرة المنزل. و لكنه لدهشتي الشديدة هذه المرة وافق في بساطة ولكن دهشتي اختفت عندما رفع سماعه الهاتف و وجدته يقول: زياد تعال لزيارتي غدا فإيمان ستذهب لصديقتها و سأكون وحيداً. اختفيت من أمامه قبل أن أنفجر من الغيظ فهذا الشخص أصبح يحتل قلب أبي و يحتل منزلنا حتى لم يعد لي أنا أي مكان. لا أعرف كيف وجد النوم طريقه لي في تلك الليلة, فالغيظ يحرقني لدرجة أنني توقعت أن يمنعني من النوم, و لكن يبدو أنني عديمة الإحساس لدرجة أنني استغرقت في نوم عميق بكل سهولة.
في اليوم التالي قررت أن أغادر المنزل بسرعة حتى لا أعرض نفسي لروية ذلك الغبي. و لكن يبدو أن ارتدائي لملابسي أستغرق وقت أكثر مما تخيلت. فبمجرد نزولي من العمارة و جدت ذلك الشخص أمامي يحاول أن يجد مكانا لسيارته. قررت أن أتظاهر بأنني لم أراه ولكنني فوجئت به ينادي علي. التفتت في دهشة فذلك النداء لم يكن ضمن توقعاتي علي الإطلاق. وجدته يخرج رأسه من شباك السيارة و يقول: لو كنت ذاهبة إلي أي مكان يا إيمان يمكنني توصيلك. لماذا يحاول اصطناع الرقة معي؟ أيظن أنني نسيت حقيقته؟؟ أم إنه يحاول الاستيلاء علي مثلما نجح في الاستيلاء علي أبي؟ لا يا سيدي لست ساذجة إلي هذه الدرجة. نظرت إليه في تحد و قلت في سخرية: أشكر لك أخلاقك العالية التي اختبرتها من قبل. سأركب المواصلات العامة. أحمر وجهه و بدا و كأنه يكتم غضبه. ابتعدت مسرعه قبل أن ينزل من سيارته. انتظرت طويلا حتى استطعت أن أجد سيارة أجرة بها مكان خالي. أثناء فترة الانتظار أخذت ألوم نفسي. فقد كان في إمكاني ركوب سيارة فارهه و لم يكن ذلك ليكلفني إلا بعض التهذيب و الحديث بشكل جيد إلي حد ما مع ذلك الشخص. و الحكمة القديمة قالت "من لا تحتاج اليوم إلي وجهه تحتاج غداً إلي قفاه" لماذا أصر علي قذف الآخرين بكلام كالحجارة في حين أنني يمكن أن أحتاجهم في يوم ما. و لكن بكل صراحة كل تلك الدروس عن التهذيب اختفت بمجرد أن وجدت مكانا في احدي السيارات و أخبرت نفسي أنني لن أطيق أبدا أن أتعامل مع ذلك الشخص بصورة جيدة إلا لو حدثت معجزه من السماء مثل أن تصدمه سيارة فتحوله إلي فتات لا يصلح لشئ. ربما وقتها أشفقت عليه و عاملته بصورة جيدة إلي حد ما و لكن بالطبع ليست جيدة جداً.
وصلت لمنزل صديقتي. لا أعرف لماذا ذهبت من الأساس, فأنا أكره الزحام و الضجيج. أصابني الصداع بعد أول ثلاث دقائق و لكنني قاومت بشجاعة اختفت بعد أن قضيت ساعة كاملة. و أخذت أقنع نفسي أن أبي وزياد بالتأكيد قد غادرا منزلنا الآن لأي مكان و أن بيتنا الآن أصبح مكانا آمناً. كنت قد وعدت أبي أن أعود للمنزل في السادسة و أعتقد أنني لو غادرت الآن فسأعود قبل ذلك بساعة علي الأقل. ودعت صديقتي و خرجت من ذلك الحفل و أنا أشعر أن رأسي قد أصبح أثقل من جبل المقطم. أحتاج فورا لحبة مسكنة و كوب من الشاي لأستعيد توازني. و لكن كل أحلامي عن الشاي و المسكن و الوصول المبكر تبعثرت أشلاء فور وصولي للشارع. فحركة المرور متوقفة تماما و السيارات واقفة لا تتحرك. حاولت معرفة السبب و سألت الكثيرين و لكني لم أستطع الوصول لسبب بالضبط فالبعض تكهن بأن السبب هو حادث في بداية الشارع و أنهم في انتظار ونش المرور ليفتح الطريق و آخرين أفتوا بأن مسئولا هاما سيمر لذلك توقف المرور حتى انتهاء موكب سيادته. بمرور الوقت لم يعد يهمني السبب كثيرا فأنا في مكان غريب لا أعرفه و الوقت يمر بسرعة و لا أستطيع أن أجد سيارة تقلني للمنزل. بدأت أشعر بالعجز و الوحدة لا أدري ماذا أفعل. يا رب ساعدني.
زياد
بدأت حياتي تأخذ شكلا جديدا منذ عرفت عمي. إنها المرة الأولي التي أدرك فيها المعني الدافئ لكلمة أسرة. و تأكدت الآن أنني لم أحصل علي أي أسرة حقيقية من قبل. أتقابل معه الآن كل يوم تقريبا و غالبا ما نخرج معاً ليعرفني علي القاهرة . تلك المدينة العريقة التي اكتشفتها من جديد علي يديه .ذهبنا إلي معا إلي كل مكان كنت أحلم بزيارته و كل مكان لم أسمع عنه من قبل. تجولنا في الأزهر و جلسنا علي مقاهي الحسين و رأيت معه النيل و برج القاهرة و دار الأوبرا و حتى دار الكتب. كانت فكرة الخروج من المنزل من اقتراحي فلم أكن أتخيل أن أظل لوقت طويل في نفس المنزل مع تلك الفتاة السخيفة. صحيح أنها تتظاهر بالأهمية طوال فترة وجودي في منزلهم فدائما ما تقول أن عندها مكالمة هامة أو عمل هام كأنها مسئولة خطيرة تدير شئون الدولة. لكن تظاهرها الغبي هذا أراحني من وجهها كثيرا و إن كان وجودها معي في نفس المكان في حد ذاته يشعرني بالاختناق.
أتصل بي عمي وطلب من أن أذهب إلي منزله اليوم. قبل أن أعترض أو أجد عذراً لنخرج كالعادة فاجأني بمفاجأة رائعة فقد قال أن إيمان لن تكون بالمنزل. هذا رائع. يمكنني الاستمتاع حقا. وافقت بسرعة و في الموعد الذي حددناه تماما كانت سيارتي أمام باب المنزل. ولسوء حظي وصلت في نفس اللحظة التي كانت فيه تلك الفتاة تغادر المنزل. قررت أن أتظاهر بأنني لا أرها و لكنني كنت واثقا من إنها رأتني و إذا أخبرت عمي بأنني تجاهلتها بتلك الطريقة ربما شعر بالحزن لذلك استسلمت للأمر الواقع و ناديت عليها. و من باب اللياقة فقط بالطبع عرضت عليها توصيلها فقط من باب اللياقة رغم أنني كنت أردد في داخلي "بالله عليك ارفضي من فضلك". من جديد أثبتت أن رأيي فيها صحيح تماما فبدلا من أن تشكرني بأدب كأي فتاه مهذبة ردت علي ردا وقحاً ثم تركتني أغلي من الغيظ و غادرت. و لكن و الحمد لله تبخر كل ذلك الغيظ بمجرد رؤيتي للوجه الطيب لعمي. قضينا معا وقتا ممتعاً. لعبنا الشطرنج و حكي لي الكثير من ذكرياته و أنا أيضاً أخبرته بالكثير الذي لم أصرح لغيره به من قبل. و كالعادة تمر اللحظات الرائعة بسرعة و يظهر دائما ما يعكر الصفو. و كان ما عكر صفوي كالعادة تلك الإنسانه البغيضة. فقد ظهر القلق فجأة علي وجه عمي و هو ينظر إلي الساعة وقال: لقد تأخرت إيمان كثيراً. لقد وعدتني بأن تعود في السادسة و الساعة الآن قد اقتربت من السابعة. قلت في لا مبالاة (فقد كنت أتمني ألا تعود تلك الفتاة أبداً): ربما تستمتع مع صديقاتها كثيراً فنسيت ميعاد عودتها. رد عمي و القلق لازال يخنق نبراته: لا.. إيمان دقيقة في مواعيدها دائماً. ثم إنها لا تحب الأماكن المزدحمة. أخشي أن يكون مكروها قد حدث لها. ذهب مسرعا إلي الهاتف ثم عاد وقد تزايد القلق علي وجهه. شعرت بالخوف عليه, فهل يحتمل قلبه المريض هذه الانفعالات القوية؟ خوفي عليه هو ما جعلني أسأله في لهفة: ماذا حدث؟. قال: إيمان عالقة بالقرب من منزل صديقتها لا تستطيع العودة بسبب توقف حركة المرور.
لو طاوعت نفسي لتركت الأمر يمر بكل لا مبالاة, فماذا يهمني إذا ظلت في مكانها طوال الليل؟ ولكن رؤيتي لوجه عمي هي التي دفعتني رغما عني لأن أعرض المساعدة. قلت له: دعها تصف لي موقعها بالظبط و سأذهب لأخذها. ظهرت السعادة علي وجه عمي وقال: أخشي أن أعطلك ثم إنك لازلت لا تعرف شوارع مصر بشكل جيد. تظاهرت باللامبالاة حتى أرضيه و قلت: لست مشغولا الآن و يمكنك أن تصف لي الطريق و سأنجح في الوصول. اتسعت ابتسامته وهو يربت علي كتفي في حنان ويقول: كنت أتمني أن أصحبك يا بني و لكني أشعر ببدايات المرض و الجو بارد بالخارج و أخشي أن يزيد علي المرض. لمسته تلك علي كتفي محت من نفسي أي ضيق لقيامي بذلك المشوار من أجله. فقلت له في حماس: لا تقلق يا عمي اعتني أنت بنفسك و سأذهب أنا لإحضار إيمان. لن أتأخر.
بعد لحظات كنت أتجه نحو سيارتي و بمجرد وصولي إليها فارقني كل حماسي. وطوال سيري في الطريق الذي وصفه لي عمي انطلق عقلي يدور و يدور حول سؤال واحد. تري كيف سيكون لقاءي هذه المرة مع المرأة الجليدية؟؟؟
|