ولد السلطان المملوكي ركن الدين بيبرس البندقداري (الظاهر بيبرس) على أرجح الأقوال عام 1221م في منطقة "قيرغيزستان" بوسط آسيا، أخذ من بلاده وهو صغير وبيع بالشام، فنشأ وتربى كمملوك حتى اشتراه الأمير علاء الدين البندقداري، ومنه أخذ بيبرس لقب البندقداري، ثم آلت ملكيته للسلطان (الصالح نجم الدين أيوب) فأظهر بيبرس في خدمته همة وشجاعة ميزته بين أقرانه، فضمه السلطان الصالح إلى قوات الأمير "فارس الدين أقطاي" حتى أصبح من كبار القادة المماليك، وعندما وصل (لويس التاسع) بحملته الصليبية إلى مصر كان بيبرس من الذين تصدوا له في معركة المنصورة عام 1249م، فأسر لويس التاسع وانهارت حملته.
عقب اغتيال أقطاي وتولي السلطان (عز الدين أيبك) حكم مصر اضطر بيبرس إلى الانتقال إلى الشام، إذ لم تكن العلاقة بين أيبك وأقطاي على ما يرام، وبعد أن تولي الأمير (سيف الدين قطز) مقاليد الأمور في مصر قام باستدعاء بيبرس من الشام لمعاونته في إيقاف زحف التتار على الشرق، فتمكنا معاً من سحق التتار في معركة "عين جالوت"، وعهد قطز إلى بيبرس بمهمة ملاحقة فلول التتار وتشتيتهم، في عام 1260م تولى بيبرس حكم مصر عقب مقتل قطز.
أبلى بيبرس بلاء حسناً في خدمة الأمة والدين الإسلامي خلال فترة حكمه، وعمل على إنقاذ الخلافة الإسلامية من الانهيار بعد مقتل الخليفة العباسي على يد التتار عقب إسقاطهم لبغداد عاصمة الخلافة عام 1258م وبقاء كرسي الخلافة خاوياً، وتمكن من استقدام أحد أمراء الأسرة العباسية إلى القاهرة وبايعه بالخلافة في احتفال كبير عام 1262م، فكان هذا العمل ذا أثر كبير في جمع شمل الأمة الإسلامية حول خليفتها مرة أخرى.
لم يقتصر دور بيبرس على التصدي لتهديد التتار للدولة الإسلامية وحسب، فقد عمل على تصفية الوجود الصليبي في الشام، وكان له الفضل في تطهير مدن قيسارية وأرسوف وطبرية ويافا وأنطاكية من الصليبيين، كما لم يدخر بيبرس وسعاً في التصدي لأي خطر خارجي على الدولة الإسلامية، فقد اتخذ نفس الأسلوب في التصدي لدعوات التخريب الداخلية التي تبنتها بعض الفرق التخريبية المعروفة بالـ (باطنية) والتي لم تكن أقل خطراً من التتار أو الصليبيين، فقد أشاعت الذعر بين الناس وعملت على نشر مذهبها المنحرف، ناهيك عن إعمالها السيف في الكثير من القادة والعلماء، الأمر الذي جعل مجرد ذكرهم مصدراً للذعر بين الناس، لذا فقد استعمل بيبرس الحيلة للقضاء عليهم وعهد إلى العلماء باستقطاب أكبر عدد منهم للعودة إلي صفوف الأمة، فتاب منهم من تاب ولم يبق إلا عتاتهم الذين رفضوا العدول عن ما هم عليه، فقام بيبرس باقتحام قلاعهم وأماكن تمركزهم فقضى عليهم وشتتهم وخلص الأمة من شرورهم.
لم يكن بيبرس محارباً بارعاً فحسب، بل كان رجل دين ودولة، وكان يكره الفساد ويُحرمه في مملكته، فأمر بالقضاء على تجارة الخمور وعلى مروجي الرذيلة، وصادر أموالهم ودعاهم إلى التوبة والرجوع إلى الطريق المستقيم، وأدخل تعديلات على النظام القضائي آنذاك فأمر بتعيين أربعة قضاة يمثلون المذاهب الأربعة، وأعاد للجامع الأزهر مكانته.
كان للعمران في عهد بيبرس نصيب كبير من الاهتمام؛ فانتعشت حركة العمران وشيدت السدود وبنيت القناطر وعمرت الأسواق، أما المساجد فقد عني بيبرس بإعمارها والعناية بها أيما عناية، وبنى في القاهرة مسجداً عرف باسمه لا يزال قائما إلى اليوم وأنشأ المدرسة الظاهرية بكل من القاهرة ودمشق وأمدهما بذخائر الكتب، عني بيبرس أيضا بالتجارة وسعى لتأمينها، وصك عملات خالصة نقية حازت على ثقة الناس، فازدهرت التجارة في عصره وعم الأمان ربوع دولته.
بعد حياة مليئة بالأحداث وبعد حكم دام لسبعة عشر عاماً توفي
الظاهر بيبرس في الثاني من شهر مايو عام 1277م، بعد أن اتخذ لنفسه مكاناً رفيعاًً بين خيرة الحكام المسلمين، الذين ذادوا عن حياض الدولة الإسلامية ورفعوا عليها راية الدين خفاقة عالية، فأمن بفضلهم الناس وأينعت في عهدهم الأرض، ألا فرحمة الله على المُجاهدين المُخلصين.
تحياتي للجميع