-3-
إنه يوم مشمس ودافئ وتهب بعض النسمات المنعشة من حين لآخر.
والرجل الذي يدعى ايميت شاندلر كان يجر قدميه على شرفة الشاليه ويفتح زجاجة بيرة, ويتأمل المحيط, والرمال البيضاء التي يملكها هو وحده, على الأقل لمدة قليلة.
إنها الجنة يجب أن يعترف بذلك إنها تشبه كارت بوستال, إنه حقاً بحاجة لهذه الشمس ولهذا الدفء ولهذا المنظر الذي لا يتغير أبداً, لعله ينسى العاصفة القوية التي تجيش في نفسه منذ زمن طويل فإن الجلوس تحت هذا الرواق وزجاجة البيرة في يده, هي فرصة نادرة.
فإذا فشل مخططه لن يخسر كل شيء, فإنه يكون قد شعر ببعض الصفاء والسكينة.
أنه لم يتساءل لماذا أتصل بهاريس شاندلر, ولا لماذا وافق على هذه الخدعة السخيفة! فهو يعرف الجواب . . . وهو ليس نادما.
في هذه اللحظات الآمنة حيث لا يسمع سوى صوت الأمواج وصوت العصافير, بدأ الرجل يفقد صبره, فهو بحاجة ليقوم بعمل ضروري.
هذا المساء سيسير على الشاطئ حتى يصل إلى تلك الصخور البحرية, وببضعة أيام أو بأسبوع واحد سيبدأ بالعمل, ولن يعد لديه الوقت الكافي للقيام بنزهات ولشرب البيرة وهو يحلم بالشمس.
الشمس . . . هل سيشفي غليله منها ذات يوم؟ اليوم أيضاً بعد أن ضاع لمدة شهور بين جدران السجن، هو متعطش جداً للهواء النقي ولضوء الشمس.
لقد أخطأ في تشبيه هذه الجزيرة بكارت بوستال, إنها الجنة حقيقة, خلقها الإله الكريم كي يرتاح فيها المسافرون المتعبون.
ثم أسند كرسيه إلى الخلف وأغمض عينيه وتذكر أيامه السعيدة مع كريس.
في الطائرة الصغيرة التي تؤمن الانتقال بين الجزر, اعتقدت راشيل أن ساعتها الأخيرة قد دنت, وصعد المسافرون مباشرة إلى الطائرة لدرجة أنها لم تستطع أن تراه, وعندما جلست وربطت الحزام, نظرت حولها لقد فات الأوان, فبلحظة واحدة قررت أن تنزل من هذه الطائرة وقد شعرت بالخوف.
أرادت أن تركض بسرعة ولو اضطرت إلى قلب الكاهن الذي أمضى وقتاً طويلاً وهو يحاول الجلوس على المقعد الذي بجانبها, وكان جداها قد ربياها بطريقة تجعلها تحترم رجال الدين كثيراً, فانتظرت ريثما يرتاح الكاهن في جلسته كي تهرب بسرعة.
حاولت أن تفك حزام الأمان لكنها لشدة توترها لم تنجح, وبدأت يدها ترتجف, عندئذ قررت أن تنادي المضيفة لتساعدها, لكنها سمعت فجأة إشارة تعلن عن إقلاع الطائرة فأسندت ظهرها جيداً على المقعد وتهيأت لاستقبال ملاك الموت فوق المحيط, على الأقل حمدت ربها لأن هذا الكاهن يجلس قربها . . . فبإمكانها أن تقوم باعترافها الأخير له . . .
ولم تفتح عينيها إلا بعد أن سمعت إشارة تعلن أنه بإمكان المسافرين أن ينهضوا إذا أرادوا وأن يدخنوا السجائر, آه لماذا تخلت عن عادة التدخين؟ فإن تدخين السجائر يعطي أحساساً بالراحة أحياناً!.
وفجأة لاحظت أنها مراقبة, أوه, لامعجبان بنفس النهار! فنظرت إلى يمينها . . . فالتقت نظراتها بنظرات رجل الدين الهادئة.
((يبدو أنك لا تحبين ركوب الطائرة)) سألها وهو يفك الحزام الذي يشد على بطنه.
((بالفعل, لا فأنا أحاول أن لا أستقل طائرة قدر الإمكان)).
((أتمنى أن تكوني اضطررت لركوب هذه الطائرة لسبب جيد)).
كانت ابتسامته لطيفة وكان شعره رمادياً فشعرت كأنه كاهن يلبس اكليلاً, وكانت التجاعيد الرقيقة تحيط بعينيه وبفمه, كم عمره يا ترى؟ أنه بين الثلاثين والستين, قد يكون عمره خمسة وأربعين عاماً. . .
((نعم أن السبب قوي جداً, لقد جئت لرؤية أخي)) فهز الرجل رأسه وانحنى نحوها.
(بالتأكيد ستكونان سعيدين معاً, فمنذ متى لم تريا بعضكما؟)).
((منذ خمسة عشرة عاما, وهذا ليس بسببي نحن . . . افترقنا بسبب مشاكل عائلية ولكن كل شيء سيعود إلى سابق عهده. . . )).
((أنا لا أريد أن أكون متطفلاً, آنسة. . . )).
((شالندر, راشل شاندلر)).
((راشل شاندلر, لقد تساءلنا كثيراً إذا كنت حقاً ستأتين . . .)) أجابها بصوت منخفض.
((حقاً؟)),.
ودون أن تلاحظ فكت حزامها.
((إذن أنت شقيقة ايميت شاندلر, أليس كذلك؟ لقد سمعت بأنه من المحتمل أنك ستأتي, ولكن لم أكن متأكداً)).
((وكيف علمت بوجودي؟ هل تعرف أخي؟)) سألته بدهشة.
((نحن لم نلتق حتى الآن ولكن لقاءنا لن يكون بعيداً, الكوري جزيرة صغيرة, وتنتقل فيها الأخبار بسرعة, فإن وصول عمك للبحث عن الذي سيرث ملايين الدولارات أثار فضول الجميع, ثم ظهور ايميت فيما بعد كان حدثاً مدهشاً, لقد نشرت كل الصحف مقالات عن قصة هذه العائلة, وأشاروا أيضاً إلى وجود أخت صغيرة لايميت شاندلر . . . ولكن اعذريني! لقد نسيت أن أعرفك بنفسي, أنا الأب فرانك مورفي, وأنا في كووي منذ أربعة سنوات, وصدقيني, لقد تأثرت كثيراً بعودة أخيك)).
((نعم, أتخيل ذلك)).
((لقد وعدت بأن أذهب لزيارته في أحد الأيام ولكن وقتي لم يسمح لي حتى الآن)).
((هل تعرف أين يسكن؟)) سألته بسرعة.
((نعم, أنه يسكن في مشاتل شاندلر القديمة, أليس كذلك؟ ألم تذهبي إليها من قبل, آنسة شاندلر؟)).
((لا, لسوء الحظ إنها المرة الأولى التي أسافر فيها إلى جزر الهاواي . . . بسبب الطائرات, ألا تستطيع أن تدلني على الطريق؟ فأنا لا أثق بسائقي التاكسي, وأفضل أن لا التقي بعمي هاريس قبل أن أجد أخي)).
ثم صمتت قليلاً وتساءلت, لماذا تروي كل شيء لهذا الكاهن, بينما لم تبح بشيء إلى أعز صديقاتها, آه, هذا شيء طبيعي, فرجال الدين هم أخل للثقة, فهذا جزء من مهنتهم وهي بحاجة لأن تفتح قلبها لأحد.
((ألا يعلم عمك بموعد قدومك؟)).
((لا ايميت أيضاً لا يعلم, فأنا أريد أن أجعلها مفاجأة)).
((أوه, ستنجحين بالتأكيد فلا تقلقي سأصحبك إلى أخيك)).
((ألا يضطرك ذلك إلى القيام بدورة طويلة؟)).
وفكرت أنه بذلك يسدي لها خدمة كبيرة . . . ووجوده سيكون ألطف من وجود عمها هاريس عندما ستلتقي بأخيها. وكأن الأب فرانك أدرك بماذا تفكر.
((هذا لا يسبب لي إزعاج, تأكدي, فأني سأؤجل زيارتي لموعد آخر, فأنا لا أريد أن أفسد لقائكما)).
كانت راشل شابة متحفظة دائماً, فابتسمت للكاهن.
((آه, يا أبتاه! أنت قديس!)) صرخت بحماس.
فأحنى الأب فرانك رأسه وابتسم بتواضع.
((أنا أفعل ما بوسعي يا أبنتي)).
كان جبين الرجل مرطباً, وقميصه أيضا مبللاً بالرطوبة,أوه أين يكون إبليس عندما نحتاج إليه؟ تساءل الرجل غاضباً وهو يغمض عينيه من النور القوي, وكانت الرمال تحرق قدميه وكان يتقدم بصعوبة.
تابع الرجل الذي يدعى ايميت شاندلر سيره على رمال الشاطئ, فبالتأكيد هو لن يشبع ظمأه لهذه الشمس القوية, يجب أن يبدأ بعمله بسرعة, وإلا فإنه سيخاطر وسيموت وستنتهي حياته عاطل ن العمل في هذه الجزيرة.
أوه! أنه بحاجة لعدة أشهر من الراحة وكان يشعر بألف إشارة صغيرة, وبهواء بعد الظهر الخانق, وبالقلق الكبير وبحاجة كبيرة تدفعه للإكثار من الشرب والتدخين, فهو يشعر بأن شيئا ما سيحدث, أنه مداهم هذا أفضل أنه لم يعد يقوى على الصبر.
لا يمكننا أن نقول نفس الشيء عن هاريس شاندلر, فإن زجاجة الروم تكفي لإرضائه!.
"لا شيء مستعجل يا ولدي العزيز! وكل شيء بأوانه" هذا ما قاله له في نفس ذلك الصباح.
"دع كل شيء للقدر؟" لا, لا لقد سبق له وانتظر طويلاً, خمسة عشرة عاماً وهذا يكفي.
لقد بدأت عضلات ساقيه تتقلصان وتجتاحه الآن أحاسيس قوية, أنه يحاول استعادة قوته ورشاقته التي كان عليها في السابق, فهو كرجل في الأربعين من عمره أحس بأن جسمه يضعف بسرعة عندما يمضي ستة أشهر بدون حراك في غرفة لا يتعدى طولها وعرضها المترين.
"ها نحن هنا يا أبني العزيز!"
حتى من بعيد عرف قامة هاريس شاندلر وهو يقف تحت سقسف الشاليه, ومهما كان عدد زجاجات الكونيل التي شربها كبيراً فإن هاريس يبقى دائماً على أناقته.
"أنا لا أحب الزيارات غير المتوقعة, وأنت تعلم ذلك جيداً" قال له الرجل الذي يدعى ايميت وهو يصعد الدرجات الثلاث.
"ليس لديك ما تفعله هنا على الأقل قبل أن توجه إليك دعوة".
"أسكت, أسكت, يا لهذه الضيافة السيئة. . ."
ورمى هاريس نفسه على الكرسي الهزاز.
" . . . لو تنازلت وامتلكت هاتفاً بالصدفة كان بإمكاني أن أتصل بك وأعلن عن قدومي . . . "
"اتفقنا إذاً لم أخدع؟ فنحن لا نريد أن تبقى عائلتي العزيزة بقرب الهاتف ليلاً ونهارا للإطمئنان على صحتي".
ثم جلس ايميت على الأرجوحة المنصوبة في الزاوية الأكثر برودة.
وأحيانا يبدو إليه في الليل وكأن جدران غرفته تقترب من بعضها وتكاد تطبق عليه. وكي لا يموت خنقا كان يخرج من غرفته مسرعاً وينام على هذه الأرجوحة. ولم يكن أحد يعلم بما يحدث له في الليل, وخاصة هذا الساخر هاريس.
"واه, أنا لم أغير رأيي, وهذا يبدو لي أفضل بكثير وبالتالي ستضطر لقبول زيارات مفاجئة من وقت لأخر.
أليس لديك شيئا نشربه؟ إن الهواء خانق هذا اليوم".
أغمض ايميت عينيه وقال له:
"ستجد في الثلاجة بعض البيرة, وأحضر لي معك واحدة".
"البيرة!" كرر هاريس بانزعاج.منتديات ليلاس