كاتب الموضوع :
dr_e
المنتدى :
المخابرات والجاسوسية
12. اندلاع الحرب.. "اسرائيل" تهاجم والاتحاد السوفييتي يتفاعل
بدأ الهجوم "الاسرائيلي" على الجمهورية العربية المتحدة في صباح 5 يونيو/ حزيران 1967، وبفضل عنصر المفاجأة، تمكنت القوات الجوية "الاسرائيلية" من تدمير القوات الجوية المصرية في مراكزها الأرضية، وتقدمت القوات "الاسرائيلية" باتجاه سيناء وقطاع غزة من دون مشاكل تذكر، وفي 7 يونيو سيطرت على شرم الشيخ، وفي 8 يونيو أعلنت سيطرتها الكاملة على سيناء.
بدأت الحرب مع الأردن في وقت لاحق من يوم 5 يونيو/ حزيران. وبعد أن حاصرت القوات الأردنية مقر الأمم المتحدة في القدس، شنت "اسرائيل" هجمات جوية وبرية على طول خط الهدنة، واندفعت القوات "الاسرائيلية" باتجاه نهر الأردن. وتمكنت "اسرائيل" عمليا من تدمير القوات الجوية السورية في 5 يونيو/ حزيران، ولكنها لم تبدأ هجومها البري ضد سوريا حتى 9 يونيو/ حزيران.
عندما تم إعلان وقف إطلاق النار، كانت القوات "الاسرائيلية" قد توغلت لمسافة 10 كيلومترات في الأراضي السورية واحتلت مرتفعات الجولان.
واستمرت المؤسسات الإعلامية السوفييتية، التي فوجئت أيضاً، في حملتها الإعلامية التي بدأتها قبل الحرب. ففي 5 يونيو/ حزيران اتهمت صحيفة "الإزفيستيا" ووكالة "تاس" كلاً من جونسون وويلسون، أثناء اجتماعهما الأخير في واشنطن "هامش: انتهى اجتماع جونسون وويلسون في 3 يونيو/ حزيران"، بإعداد استراتيجية معادية للجمهورية العربية المتحدة، وبأنهما شجعا "اسرائيل" على شن الهجوم. وفي عصر ذلك اليوم، بثت موسكو خبراً باللغة العربية، قالت فيه إن "اسرائيل" لم تكن لتشن هجوما لولا تشجيع الولايات المتحدة، وإقناعها بأن العرب كانوا مستعدين للرد على الإمبرياليين، وبأنهم ليسوا وحدهم في صراعهم العادل. وبعد بضع ساعات، أذيعت النسخة الفرنسية من الخبر في دول المغرب العربي، مع إضافة السطرين التاليين:
كما أكدت الحكومة السوفييتية مؤخرا، فإن المعتدين لن يواجهوا البلدان العربية القوية بتوحدها فحسب، بل سيواجهون أيضاً ردا صارما على هذا العدوان من قبل الاتحاد السوفييتي والدول الأخرى المحبة للسلام.
لم يقدم الخبر أية توضيحات، تاركاً التهديد بالتدخل السوفييتي مبهماً. وكان البيان الذي أصدرته الحكومة السوفييتية في وقت لاحق من يوم 5 يونيو/ حزيران، أكثر غموضا. وطالب البيان بأن تقوم "اسرائيل" بوقف عملياتها العسكرية فورا، والانسحاب إلى ما قبل خط الهدنة، مشيرا إلى أن الحكومة السوفييتية تحتفظ بحق اتخاذ كافة الإجراءات الضرورية. ودعا البيان الأمم المتحدة إلى إدانة الأعمال "الاسرائيلية"، والعمل على استعادة السلام في الشرق الأوسط.
وكشفت هذه البيانات خشية السوفييت من انخراطهم العسكري، حيث أشارت عدة تقارير إلى الرد العسكري، في حين أن الأفعال كانت تشير إلى أن ذلك لم يكن مطروحا كخيار جدي في هذا المرحلة. وفي غضون ساعات من اندلاع الحرب، وحسب تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية، استخدمت موسكو "الخط الساخن" للاتصال بواشنطن، ربما لسببين هما التأكد من عدم حصول مواجهة عرضية مع الولايات المتحدة، ومحاولة وقف الحرب بعد أن أدركوا أن العرب لن يفوزوا فيها.
13. تهم بتورط أمريكي بريطاني
التحفظ السوفييتي كان واضحا أيضا في رد فعل موسكو تجاه اتهام العرب للولايات المتحدة وبريطانيا بالمشاركة الفعلية في الهجمات الجوية ضد الجمهورية العربية. بيد أن المصدر الأصلي للتقرير لم يكن واضحاً. وتبعا لمصدر مصري، فإن الاتهام الذي وجهته القاهرة يستند إلى اعتقاد بأن عدد الطائرات التي شاركت في الهجوم كان أكبر مما كانت تمتلك "اسرائيل"، ويبدو أن العرب على الأرجح لم يقرأوا بالشكل الصحيح العبارات التي تشير إلى المصدر والمكتوبة على الطائرات التي أرسلها "الاسرائيليون" على ارتفاع منخفض من البحر الأبيض المتوسط كي تتفادى الرادارات. وبدا عبد الناصر، على سبيل المثال، مقتنعا بالتقرير "هامش: هذا الاتهام كان منسجما مع الاتهامات التي أوردتها الصحافة السوفييتية قبل الحرب بأنه يتم تشكيل القوات البحرية الأمريكية والبريطانية في البحر الأبيض المتوسط، ومنسجمة أيضا مع اتهامات السوفييت للولايات المتحدة وبريطانيا بأنهما خططتا لدعم "اسرائيل" عسكريا".
ففي 7 يونيو/ حزيران أرسل رسالة إلى كل من الأردن وسوريا، والجزائر، ذكر فيها أن القيادة العليا للجمهورية العربية السورية قد "أكدت بما لا يدع مجالا للشك، التعاون السري للولايات المتحدة وإنجلترا مع "اسرائيل"".
وتداعيات هذا الاتهام قد تكون خطرة بالنسبة للسوفييت إذا ما كانوا قد التزموا فعلا بتقديم المساعدة في ما لو حصل تدخل أمريكي فعلي. ولكن السوفييت لم يقروا أبدا على الصعيد الرسمي، بصحة اتهام الولايات المتحدة بالمشاركة، رغم أن الصحافة السوفييتية كررت تلك الاتهامات في عدة مناسبات. "في 6 يونيو/ حزيران كررت إذاعة محلية تصريح القيادة العربية بأن لديها إثباتا على مشاركة الغرب، ولاحقا في 11 يونيو/ حزيران، أفاد معلق محلي سوفييتي أنه بينما كانت الولايات المتحدة تحاول نفي صحة التقارير حول المشاركة، ظلت الحقيقة أن في ليلة الحرب، عبرت الناقلات الأمريكية والبريطانية قناة السويس ورست في البحر الأحمر، ومن هناك قامت طائراتها بتأمين "الغطاء الجوي" ل "اسرائيل".
(يوجد حذف)
خلال زيارة بومدين إلى موسكو من 12 إلى 14 يونيو/ حزيران، أكد السوفييت، حسب التقارير، أن الطائرات الأمريكية لم تشارك في الحرب بين العرب و"اسرائيل"، وطلبوا منه توصيل هذه المعلومات إلى عبد الناصر. وعلاوة على ذلك، لم يعلن أي مصدر سوفييتي رسمي عن قبول الاتهام الذي وجهه العرب. كان من الواضح أن السوفييت لم يكونوا راغبين في التورط في الحرب كما يرغب العرب، حسب اعتقادهم.
14. السوفييت يدعمون وقف إطلاق النار
كشفت تقارير عن محادثات محتدمة سوفييتية مصرية بعد اندلاع الحرب في القاهرة، بين عبد الناصر ومحمد بوضياف، وفي موسكو بين غالب وكبار القادة السوفييت. وطلب المصريون من السوفييت استبدال الطائرات المدمرة، فقالوا لهم أنه لا توجد أماكن تحط فيها الطائرات لأن المدرجات مدمرة أيضا. وردا على تهمة المصريين بأن السوفييت كانوا يتخلون عنهم في وقت الشدة، قال السوفييت إنهم ملتزمون فقط بدعم العرب ضد الولايات المتحدة وليس ضد "اسرائيل". (يوجد حذف). وبعد فترة قصيرة من الاعتداء "الاسرائيلي"، قرر السوفييت أنه يجب القبول بوقف إطلاق فوري، باعتبار أن وضع العرب لم يصل بعد إلى مستوى كارثي، وشعروا بأن المصريين لن يتمكنوا من الرد بنجاح لأنهم لا يملكون طائرات، ومع ذلك لم يقبل عبد الناصر بهذا الخط من التفكير، فشن هجوما مضادا انتهى بالفشل. ورفض السوفييت لفترة وجيزة، قبول القرار البسيط لوقف إطلاق النار الذي أقر في الأمم المتحدة، وبدلا من ذلك دعوا إلى تبني قرار وقف إطلاق النار مصحوبا بدعوة لسحب الجنود إلى المواقع التي كانوا فيها قبل الحرب. ورفضت "اسرائيل" القبول بهذا الشرط، كما رفضت الجمهورية العربية المتحدة قبول وقف إطلاق النار من دونه. في 6 يونيو/ حزيران أمر سميرنوف، نائب وزير الخارجية السوفييتي، السفير السوفييتي لدى الأمم المتحدة، فيدورنكو، بقبول القرار بوقف إطلاق النار، رغم معارضة العرب. وعلى كل حال، الجمهورية العربية المتحدة لم تكن مستعدة لقبوله، ومن دون الموافقة المصرية، أقر مجلس الأمن قرار وقف إطلاق النار بالإجماع. وعلى مدى اليومين التاليين، حاول السوفييت كما هو واضح، إقناع الجمهورية العربية المتحدة بقبول القرار البسيط بوقف إطلاق النار، على الرغم من أنهم كانوا يدفعون باتجاه وقف إطلاق النار بشروط. (يوجد حذف)
في 7 يونيو/ حزيران، قال الناطق باسم سفارة الجمهورية العربية المتحدة في باريس إن مصر رفضت قرار الأمم المتحدة، مشيرا إليه بوقف إطلاق نار بسيط. وطلب السوفييت عقد اجتماع فوري لمجلس الأمن في عصر ذلك اليوم، وطرحوا قرار وقف إطلاق نار آخر، حيث دعوا الحكومات المعنية إلى وقف إطلاق النار في الساعة 20 بتوقيت جرينتش من تلك الليلة، وتم إقراره بالإجماع. ووافق كل من الأردن و"اسرائيل" في حين ظلت الجمهورية العربية المصرية رافضة له. (هامش: في ذلك التاريخ، أذاع راديو موسكو نص بيان للحكومة السوفييتية موجها إلى "اسرائيل" تقول فيه إن عدم إذعان "اسرائيل" لدعوة الأمم المتحدة إلى وقف إطلاق النار، يشكل دليلا على عدوانية السياسية "الاسرائيلية"، مهددة بقطع العلاقات الدبلوماسية مع "اسرائيل").
الأسباب التي تكمن وراء هذا التغيير المفاجئ في السياسة المصرية غير واضحة. فبالرغم من أن الضغط السوفييتي باتجاه قبول وقف إطلاق النار كان متواصلا وربما فعالا، إلا أن السبب وراء ذلك قد يعود على الأرجح، إلى أن عبد الناصر أدرك الوضع البائس للقوات العسكرية المصرية، فقرر في النهاية القبول بالقرار.
(يوجد حذف)
في 8 يونيو/ حريزان، وخلال اجتماع مجلس الأمن ذاته الذي أعلن فيه يوثانت أن الجمهورية العربية المتحدة سوف تقبل قرار وقف إطلاق النار إذا قبلت "اسرائيل" به، قدم السوفييت مسودة قرار يدعون فيه إلى إدانة "اسرائيل" وسحب الجيوش إلى ما قبل خط الهدنة. لم يتم تمرير هذا القرار أبدا، ولكنه أصبح قاعدة لمطالبات السوفييت في الأشهر اللاحقة. وفي 9 يونيو/ حزيران، تم تمرير قرار بالإجماع يطالب بتطبيق جميع القرارات السابقة (في 6 و7 يونيو/ حزيران)، ويدعو إلى وقف إطلاق النار. وبعد ساعتين من تمرير القرار، أعلنت كل من سوريا و"اسرائيل" قبوله.
15. تهديد بالتدخل السوفييتي ومؤتمر موسكو
على الرغم من الموافقة الرسمية على وقف إطلاق النار، واصل الجنود "الاسرائيليون" التقدم في الأراضي السورية في 9 و10 يونيو/ حزيران. في هذه المرحلة، بدأ السوفييت بتهديد بالقيام ببعض الأعمال (غير محددة) إن لم تتوقف "اسرائيل". وأشارت التقارير إلى أنه في 9 يونيو/ حزيران، حذر عدد من الدبلوماسيين السوفييت من أنه ما لم تلتزم "اسرائيل" بقرار وقف إطلاق النار في سوريا، فإن السوفييت قد يتدخلون. وأفادت وثيقة للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، تم إعدادها في أكتوبر/ تشرين الأول 1967، أنه في صباح 10 يونيو/ حزيران، أرسل السوفييت رسالة عاجلة إلى الرئيس جونسون، يحذرون فيها من انه ما لم تتوقف "اسرائيل"، سوف يضطر الاتحاد السوفييتي إلى اتخاذ إجراءات "ضرورية" غير محددة. قد يكون المقصود في ذلك استخدام "الخط الساخن" بين موسكو وواشنطن.
16. موسكو تتحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد الهزيمة
كانت هناك دلائل وإشارات على الاستعدادات السوفييتية لعملية تدخل محدودة. وفي الحادي عشر من يونيو كانت هناك عدة تقارير تشير إلى التجهيزات العسكرية السوفييتية بما فيها عمليات إنزال 400 من البحارة بالقرب من اللاذقية في سوريا، بالإضافة إلى عملية إنزال جنود المظلات في سوريا بهدف إعاقة التقدم "الاسرائيلي" تجاه دمشق. وتكشف كل هذه التقارير اهتمام السوفييت بسوريا والنظام الحاكم فيها، وبالرغم من ذلك كانت المساعدات التي يقدمها الروس لسوريا مساعدات رمزية فقط، ويمكن القول إن السوفييت هم الذين قاموا بنشر هذه التقارير في محاولة لبث الرعب في قلب "اسرائيل" ومنعها من التقدم في اتجاه سوريا.
وقال السوفييت بعد الحرب إن عدم تقدم "اسرائيل" تجاه سوريا كان نتيجة مباشرة لموقفهم الثابت الذي أصروا عليه على الدوام. ويمكن القول إن التهديدات السوفييتية لعبت دوراً مهما في القرار "الاسرائيلي" بالتوقف إلا أن الحقيقة هي أن موافقة "اسرائيل" على وقف إطلاق النار جاءت قبل التهديدات السوفييتية مما يعكس عدم أهمية هذه التهديدات، وبالإضافة إلى ذلك فإن الدلائل على تخطيط "اسرائيل" للاستيلاء على دمشق كانت قليلة جداً.
وبعد يومين أو ثلاثة من بدء الحرب، استدعى السوفييت حلفاءهم من أوروبا الشرقية إلى موسكو لمناقشة الوضع الراهن آنذاك، والتقى الزعماء في التاسع من يونيو وصدر في اليوم التالي تصريحاً ينذر بأنه إذا لم يتخذ مجلس الأمن الإجراءات اللازمة وإذا لم تنسحب "اسرائيل" إلى خطوط الهدنة فسوف يقدم أطراف الاتفاق على فعل أي شيء لمساعدة الشعوب العربية، وكان هذا الإنذار بمثابة رفض حازم للهجوم "الاسرائيلي". وهذا الإنذار اللفظي المتأخر الذي يكتنفه الغموض دل على عدم وجود نية لدى السوفييت للتدخل العسكري، وفي العاشر من يونيو قطع بالفعل الاتحاد السوفييتي العلاقات الدبلوماسية مع "اسرائيل" وبعد ذلك بأيام قليلة اتبع حلفاؤه النهج نفسه.
وتم الاتفاق على أشياء أخرى في مؤتمر موسكو، إلا أنها لم ترد في التصريح الذي نشر إذ تم الاتفاق على أن يقوم الاتحاد السوفييتي بدور المتحدث الرسمي باسم حلفائه الذين يمثلون جبهة موحدة لحل مشكلة الشرق الأوسط.
هامش: وافق السوفييت على الاتصال بالقاهرة على الفور باسم بلدان أوروبا الشرقية، وكانت هذه هي المرة الأولى التي قام بها السوفييت بتمثيل دول أوروبا الشرقية بهذه الطريقة في مفاوضات مع الجمهورية العربية المتحدة. وقال (ثمة حذف في نص الوثيقة هنا)، ان المؤتمر يعي تماماً الحاجة الماسة لإصلاح ما أفسدته الحرب في الدول العربية، كما كان مدركاً لضرورة إمداد القوات المسلحة المصرية بأسلحة جديدة بدلاً من تلك التي فقدت في الحرب، من دبابات وطائرات وأجهزة أخرى، لكن كانت هناك حدود معينة لهذه المساعدات العسكرية ناقشها المؤتمرون.
هامش: وافق السوفييت على الاتصال بالقاهرة فوراً باسم دول أوروبا الشرقية.
ونظراً لما كان يعتري الهيكل العسكري المصري من ضعف أفصحت عنه التقارير العسكرية، قرر الروس فرض السيطرة والتحكم على استخدام مصر للمعدات العسكرية السوفييتية. كما اتفق على تلبية كل مطالب عبد الناصر العسكرية في مقابل مشاركة السوفييت مستقبلياً في أي قرار مصري يتعلق بعمليات عسكرية رئيسية تجري باستخدام الأسلحة السوفييتية إلا أن عبد الناصر لم يشأ أن يضعف من قوة الامتيازات التي كانت لديه. واكتسب السوفييت بالفعل دوراً أكبر داخل المؤسسة العسكرية المصرية.
17. ردة فعل السوفييت تجاه الهزيمة
ردة فعل السوفييت التي أصابتهم جراء الهزيمة التي مني بها العرب، اتسمت بكونها غريزية حيث حاولوا أولاً إنقاذ ما يمكن إنقاذه في هذا الوضع السيئ، وكانوا عرضة بوجه خاص، لاتهامات بأنهم خذلوا العرب، وكانوا أيضاً حساسين تجاه إشاعات مفادها أن الصينيين قادمون إلى المنطقة بعروض مساعدة، وأكثر حساسية لآفاق بلوغ الدعاية الصينية ذروتها على حسابهم، وتمثلت أهدافهم الأمنية المباشرة في استعادة منزلتهم المحطمة واحترامهم المفقود في عيون العالم، وأيضاً في إعادة تأسيس مصداقيتهم باعتبارهم أصدقاء للعرب، وبتاريخ 6 يونيو بدأ السوفييت في إرسال جسر جوي طارئ للمساعدة والإمداد (وكان ذلك أكبر عملية من نوعها تقوم بها موسكو على الإطلاق).
هامش: مع أن السوفييت شرعوا في إمداد العرب بجسر جوي من السلاح والعتاد حين كانت الحرب لاتزال مستعرة، الا أن العون وحده كان أبعد ما يكون عن سد الحاجة بما يكفي لقلب موازين القوى وعكس مسار الحرب. ففي لجة الحرب فقدت الجمهورية العربية المتحدة نحو ثلثي طائراتها المقاتلة وأربعة أخماس طائراتها القاذفة، ونصف عدد دباباتها، وفقد السوريون معظم طائراتهم المقاتلة وربع عدد دباباتهم ولم يفقد العراقيون والجزائريون سوى كميات ضئيلة من العتاد والمواد. وكان بيان مؤتمر موسكو بتاريخ 10 يونيو الخطوة الأولى في هذا الاتجاه، وأما الزيارات اللاحقة الرفيعة المستوى، والتطمينات بمواصلة الإمداد بالعون العسكري، فكانت عاملاً بالغ الأهمية في مساعيهم لاستعادة نفوذهم وتأثيرهم في العرب.
وصعقت الهزيمة العرب واستولى عليهم الذهول والإحساس بالصدمة، وأحرق قلوبهم الشعور بالذل والهوان، فاتقد سخطهم العارم، وفتشوا عن أكباش فداء فعثروا على ضالتهم في الولايات المتحدة وبريطانيا، وهي الدول التي قالوا إنها ساعدت "اسرائيل" وفي بعض قادتهم لا سيما العسكريين الذين اتهموا بأنهم خذلوهم.
هامش: نشر ناصر استقالته الرسمية يوم 9 يونيو، وفي نفس الوقت قدم كل من المشير عامر، قائد القوات المسلحة، ووزير الدفاع شمس بدران استقالتيهما، كما حذا حذوهما 11 قائداً عسكرياً من أصحاب الرتب العالية إلا أن ناصر سحب استقالته لاحقاً، غير أن الآخرين لم يسلكوا هذا المنحى.
وعبّر العرب عن غضبهم من السوفييت وأعربوا علانية عن شعورهم بالإحباط جراء ما نالهم من هزيمة، في الصحافة وفي مجالسهم الخاصة، وكان من بين أشد من أفصحوا عن سخطهم لهجة الرئيس الجزائري بومدين، الذي فكر على ما يبدو في وقت من الأوقات بالإيعاز لكافة الطلبة الجزائريين الذين يدرسون في الاتحاد السوفييتي بالعودة إلى وطنهم. وفي 12 يونيو طار بومدين إلى موسكو، حيث ذكرت التقارير أنه هاجم السوفييت لاخفاقهم في مد يد العون، وجرى تذكيره بمخاطر الحرب النووية، وسكن السوفييت غضبته بشكل ما، وهدأوا من روعه بوعود أطلقوها بمواصلة الدعم وتقديم المساعدات. وزار الرئيس السوري نور الدين الأتاسي موسكو بعد برهة وجيزة من الحرب وأطلق اتهامه بأن السفير السوفييتي في دمشق كان قد وعد في ثاني أيام الحرب بالإمداد "بعون عسكري تقني" ولم يف به السوفييت من بعدها، ولم يقدموا مثل هذه المساعدات لسوريا، وذكرت التقارير أن السوفييت ردوا بأن الوضع العسكري كان قد تطور بسرعة مذهلة لدرجة أن برنامج العون السوفييتي ترنح واختل توازنه.
ولكن أصوات تيار العرب المناوئين للسوفييت التي تعالت في الأيام القليلة الأولى ما لبثت أن خفتت بسرعة نسبياً، ربما بسبب إدراكهم لمدى الاحتياج للعون السوفييتي، ولضرورة استمرار هذا الدعم، ولطف هذا الاتجاه لهجة الصحافة، وخلت المقالات التي نشرت بعدها من النبرة الحادة الانتقادية المعادية للسوفييت (ثمة حذف هنا) وفي اليوم ذاته سلم محمد بوضياف لعبد الناصر رسالة مهمة من الحكومة السوفييتية. ويحتمل أن تكون الرسالة قد اشتملت على وعود بدعم سوفييتي إضافي. (هامش: كان للنقمة العربية أن تتواصل، في الحقيقة وتشتد لردح طويل من الزمن، غير أن الانتقاد العلني الصريح توقف على أية حال نظراً للحاجة إلى عون السوفييت.
وكان من بين أهم السبل التي اتخذها السوفييت في خضم مساعيهم لإطفاء غضب العرب وتهدئتهم تلك الجولة التي قام بها الرئيس السوفييتي بودجورني حيث يطاف بالعواصم العربية في أواخر شهر يونيو. ووصف بودجورني ذاته تلك الرحلة بأنها "مهمة تهدئة". ولا شك أنه تقدم بتطمينات وأطلق وعوداً بدعم متواصل سواء منه العسكري أو الاقتصادي إلا أن مقدار هذا الدعم وكميات المساعدات وحجم التعويضات (إن كان ثمة أي تعويضات) لم يكن جلياً. ويبدو من المحتمل أن السوفييت الزموا أنفسهم في تلك الآونة باستبدال العتاد والمعدات المصرية والأسلحة التي دمرت أو فقدت في الحرب على الأقل. وعلى ما يبدو، لم تكن المحادثات بين ناصر وبودجورني في سلسة المأخذ لينة بشكل كامل فجرى إرجاء التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن جميع القضايا (ثمة مقطع محذوف هنا).
وعاد بودجورني فعلاً إلى موسكو قبل زيارة سوريا. وزيارته لسوريا ربما كانت بوجه خاص غير مرضية. والمذكرة التي صدرت بعد هذه الزيارة كانت أكثر بروداً مما اتسمت به تلك التي أعقبت زيارته لكل من القاهرة وبغداد. 0هامش: لم تزد القاهرة على مجرد القول إن محادثات رسمية قد أجريت وأن بودجورني أعرب عن امتنانه العميق لما حظي به من حسن الضيافة. وأما بغداد فأكدت على روح الصداقة والتفاهم التي سادت أجواء اللقاءات). (مقطع محذوف هنا) كان السوريون جد منزعجين من (حذف آخر هنا)، وحث بودجورني على انتهاج أسلوب هادئ، ونصح السوريين بألا يفكروا باستئناف فوري للعمليات العدائية. وقيل إن وعده بالمساعدات لدعم استئناف الحرب في نهاية المطاف إنما كان لقاء طلب إقامة قاعدة بحرية في سوريا، وقيام السوفييت بإدارة وتوجيه القيادات التقنية. (ثمة حذف هنا)، التي كان السوفييت يطالبون بها (مقطع محذوف هنا) فإذا كانوا يبتغون قواعد ويطلبونها فإنهم لم يفلحوا في تحقيق بغيتهم لأنه على الرغم من أنهم منحوا بصورة متزايدة سبلاً لبلوغ الموانئ العربية فإنهم لم يمكنوا من إحكام سيطرتهم على أي مرافق موانئ، واتخذ الخبراء التقنيون السوفييت والمستشارون مواقع لهم ورابطوا في سوريا فيما بعد، إلا أنه ينبغي القول إنه حتى في هذه الحالة، من المستبعد جداً أن يكون هؤلاء المستشارون قد منحوا سلطات قيادية آمرة في هذه المواقع التي عملوا فيها.
18. الجهود لاسترداد المكانة الدولية
احتل هدف استعادة مكانتهم الدولية المرتبة الثانية في لائحة غايات السوفييت المباشرة والعاجلة في أعقاب نكستهم في يونيو/حزيران، وفي 13 يونيو طلب جروميكو في رسالة بعث بها إلى الأمين العام للأمم المتحدة عقد جلسة طارئة للجمعية العامة للنظر في الوضع في الشرق الأوسط. وبحث قضية "تصفية آثار وعواقب العدوان" "الاسرائيلي" على الدول العربية، والانسحاب الفوري للقوات "الاسرائيلية" إلى ما وراء خطوط الهدنة. وكان هذا عكس الموقف السوفييتي التقليدي المعهود المتمثل في التأكيد على مجلس الأمن، ولربما استند هذا النهج الجديد إلى توقعات بأن تكون الجمعية العامة أداة أكثر تعاطفاً وواسطة تتيح أرضاً خصبة للأغراض الدعائية. (هامش: أخفق مجلس الأمن في 14 يونيو/ حزيران في تبني مسودة قرار تقدم به السوفييت يشجب "اسرائيل" ويطالبها بسحب قواتها إلى ما خلف خط الهدنة). (مقاطع محذوفة في هذه الفقرة).
وفيما بلغ نشاط حملة السوفييت المباشرة بعد الحرب لاستعادة ثقة العرب ذروته بجولات بودجورني وتطوافه في عواصم الشرق الأوسط، كذلك وصل زخم التحرك لاسترداد المكانة في العالم إلى نقطة عالية بوصول رئيس الوزراء السوفييتي كوسجين إلى الأمم المتحدة في 17 يونيو. وفي التاسع عشر من يونيو خاطب كوسجين الجمعية العامة في الأمم المتحدة. وكرر اتهامات السوفييت ل"اسرائيل" بإعداد خطة لمهاجمة سوريا في منتصف مايو، كما هاجم الدعم الامبريالي ل"اسرائيل" ووجه اتهامات بأن المناورات العسكرية التي قامت بها الولايات المتحدة والأساطيل البريطانية عشية الحرب فسرتها "اسرائيل" على أنها تشجيع لها على العدوان. وهاجم كذلك الولايات المتحدة لوقوفها في وجه قرار لمجلس الأمن يدعو لانسحاب فوري للقوات "الاسرائيلية" إلا أنه نأى بنفسه عن توجيه أي اتهام ضمني لتورط أمريكي وبريطاني مباشر في الحرب، وأكد على مخاطر اندلاع حرب عالمية، قال إنها ستكون نووية إذا نشبت، وفي تصريح له لم تورده نشرة محلية بثت من موسكو لاحقاً، قال كوسجين إنه ينبغي على الدول قاطبة الامتناع عن زيادة الوضع تعقيداً.
بعد ذلك قدم كوسجين مسودة قرار الاتحاد السوفييتي التي اشتملت على أربعة بنود:
1- إدانة أعمال "اسرائيل" العدوانية ومواصلة احتلالها لأجزاء من أراضي الجمهورية العربية المتحدة وسوريا والأردن.
2- الانسحاب الفوري غير المشروط لجميع القوات "الاسرائيلية" من المناطق المحتلة إلى مواقع خلف خطوط الهدنة.
3- دفع "اسرائيل" تعويضات كاملة عن الأضرار التي نجمت عن عدوانها.
4- اتخاذ مجلس الأمن لإجراءات فورية فعالة لإزالة كافة آثار وعواقب العدوان "الاسرائيلي".
والتقى كوسجين الرئيس جونسون في جلاسبورو يوم 23 يونيو، ثم مرة أخرى في 25 يونيو، ثم عقد مؤتمراً صحافياً لمناقشة تلك الاجتماعات، وألمح إلى مرونة سوفييتية في تصريحه الذي ذكر فيه أنه يمكن لمجلس الأمن بعد الانسحاب "الاسرائيلي" أن يدرس كل القضايا الأخرى التي استجدت في الشرق الأوسط. وحذفت النسخة التي أوردتها وكالة "تاس" من المؤتمر الصحافي هذه العبارة، إلا أنها قالت ببساطة إن جميع "الحلول" الأخرى (أي ما عدا الانسحاب) للأزمة كانت غير واقعية وغير عملية. (هامش: سوف نتطرق لاحقاً لمناقشة اختلافات القيادة بشأن الشرق الأوسط). وستكون الصيغة التي ارتآها كوسجين هي أساس اقتراح السوفييت في يوليو من عام 1967 والذي لم يجر التصويت عليه أبداً.
19. تغير في تكتيكات السوفييت
في حين أن الرغبة في استعادة سمعتهم الطيبة في أوساط العرب وحرصهم على ضمان إبعاد الصين عن المنطقة كانت هي الدوافع التي تحرك السوفييت لمواصلة دعمهم النشط الفاعل للراديكاليين العرب مع أنهم شهدوا أيضاً النتائج المدمرة لتلك السياسة وما أدت إليه في يونيو. غير أن السوفييت حاولوا على أي حال مسايرة وتأييد طرفي المشكلة. وواصلوا الإمداد بكميات ضخمة من المساعدات العسكرية منها والاقتصادية. إلا أنهم حاولوا أيضاً تعزيز سيطرتهم على استخدامها وتشديد الضوابط وزيادة القيود المتعلقة باستخدام الأسلحة وإضافة إلى ذلك فإنهم سيخففون من دعمهم للتيار الراديكالي العربي.
وعكس تحفظ السوفييت السياسي رغبة ملحة في تجنب تكرار حرب يونيو. وأوضح السوفييت وقتها للعرب بكل جلاء أنهم لن يهبوا لمساعدتهم في حال تجددت الأعمال العدائية. وهذا التحول من موقف يكتنفه الغموض إلى حد ما إلى موقف محدد المعالم حدث في أوائل يوليو. واجتمع قادة أوروبا الشرقية من 10 إلى 12 يوليو/ تموز في بودابست وذلك باستثناء زعماء رومانيا، ووعدت مذكرتهم باستمرار الدعم، إضافة إلى "خطوات تهدف إلى تعزيز القدرات الدفاعية العربية". ولم تشتمل على تهديد ضمني باتخاذ الدول الاشتراكية إجراءات في حال تجددت الأعمال العدائية. (هامش: إضافة إلى ذلك فإنه وفقاً لإحدى وثائق الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي أعدت في أكتوبر من عام 1967، لتوزع على الوفود التي تحضر احتفالات ذكرى نوفمبر السنوية في موسكو، فإن المؤتمر قرر أيضاً أن ثمة حاجة إلى أن يتبنى العرب موقفاً أكثر واقعية وأن يتم اتخاذ خطوة فورية بحيث تصاحب المطالبة بانسحاب "اسرائيلي" فوري صيغة لإنهاء حالة الحرب).
وخلال الفترة ذاتها كان القادة العرب يجتمعون في القاهرة ويبذلون جهداً لوضع خطة ونهج مشترك. (هامش: في 11 يوليو التقى كل من بومدين وناصر وحسين في القاهرة، إلا أن التقارير ذكرت أنهم عجزوا عن التوصل إلى اتفاق حول خطة مشتركة، وفي اليوم التالي التقى بومدين في دمشق بالقيادة السورية وأصدروا بياناً يعد بمقاومة التنازل. وفي هذه المرة كان الملك حسين يحاول مساندة مؤتمر قمة عربية، يكون معتدلاً في نهجه، وكان السوريون والجزائريون معارضين، وكانت الجمهورية العربية المتحدة مترددة. وفي 23 يوليو/تموز اشار عبد الناصر إلى أن الجمهورية العربية المتحدة سوف تحضر مؤتمر قمة عربية).
وذكر أن السوفييت أبلغوا هذه "القمة المصغرة" أن على العرب ألا ينتظروا تدخلاً عسكرياً سوفييتياً إذا استؤنفت الأعمال العدائية، رغم أن المعونة والدعم الدبلوماسي سوف يتواصلان. ولن يتدخل الاتحاد السوفييتي مباشرة إلا في حال حدوث تدخل أمريكي سافر "لا لبس فيه" (وهذا سيقرره السوفييت). (يوجد حذف هنا). كما اقترح السوفييت كذلك خطة تسوية، وإذا قبل العرب ضمناً بوجود "اسرائيل" كدولة وإنهاء حالة الحرب، فسوف يتدخل الاتحاد السوفييتي مع الولايات المتحدة للضغط على "اسرائيل" لكي تتخلى عن "معظم" الأراضي التي تم احتلالها أثناء الحرب.
وبالإضافة إلى المشاورات والاتصالات على أعلى مستوى، كان العديد من الوفود العسكرية يسافر جيئة وذهاباً في محاولة لتحديد أولويات وشروط المعونة. (هامش: كان النائب الأول لوزير الدفاع السوفييتي زاخاروف في القاهرة من 20 يونيو/حزيران إلى 1 يوليو/تموز. وفي أواخر يونيو/حزيران التقى وزير الدفاع الجزائري مع بريجينيف وجريتشكو، وفي أوائل يوليو/تموز أمضى وكيل وزارة الدفاع السوفييتية بافلوفسكي عدة أسابيع في الجزائر. كما وصلت بعثات عسكرية سوفييتية إلى سوريا بعيد الحرب. وفي 14 يوليو/تموز التقى جريتشكو مع وفد عسكري من الجمهورية العربية المتحدة برئاسة رئيس الأركان عبدالمنعم رياض، وفي أواخر يوليو/تموز التقى عضو المكتب السياسي السوفييتي مازوروف مع وفدين عسكريين عراقي وسوداني). وقد جرت الإشارة إلى عدم قناعة العرب بعروض المعونة السوفييتية بعد زيارة بودجورني إلى سوريا في أوائل يوليو. وفي حوالي أواخر ذلك الشهر بدأت بوادر التبرم المصري في الظهور. وعندما زار رئيس الأركان المصري رياض موسكو في أواخر يوليو، وذكر أن السوفييت قدموا اقتراحاً مضاداً لاقتراحه، وعرضوا أقل مما كان المصريون يتوقعون. وقيل إن رياض أشار إلى أن السوفييت لم يكونوا مستعدين أن يفعلوا أكثر من تقديم بدل عما تم فقده، وقال إن السوفييت أيدوا طرد "اسرائيل" من سيناء ولكنهم لن يساندوا حرباً لتدمير "اسرائيل"، وذكر مصدر آخر ان السوفييت وعدوا بتقديم ما يكفي فقط لأن تدافع الجمهورية العربية المتحدة عن نفسها.
20. تسهيلات بحرية للسوفييت في مصر وسوريا
تباينت التقارير التي تحدثت عن الشروط التي طلبها السوفييت نظير المعونات. وذكر بعض المصادر أن السوفييت وافقوا على تقديم بدل عن المواد التي فقدت من "دون زوائد". ولكن من الواضح أنهم كانوا يضغطون للحصول على أمور معينة مقابل المعونة.
وكان أوضح شرط طولب به وووفق عليه هو وضع مستشارين سوفييت ضمن القوات المسلحة العربية، وبدأ المستشارون السوفييت بالوصول فوراً تقريباً إلى الجمهورية العربية المتحدة. ووصلوا في وقت متأخر عن ذلك إلى حد ما إلى سوريا والجزائر، ولعل ذلك يعكس رد فعل سوريا سابقاً على زيارة بودجورني (يوجد حذف هنا). قد ذكر أنه كان قد تم في أواخر شهر يونيو/ حزيران الحاق نحو 100 ضابط سوفييتي بجيش الجمهورية العربية المتحدة على مستوى الفرقة، وأنهم كانوا يسببون التنافر في جيش هذه الدولة.
وفي أواخر يونيو/ حزيران قال عبد الناصر ل (يوجد حذف هنا): للمرة الأولى تم دمج الخبراء السوفييت بالهيكل العضوي لجيش الجمهورية العربية المتحدة على أدنى مستوى، وأنا آسف بشأن ذلك، ولكني كنت مضطراً لفعله.
الشرط السوفييتي الثاني الذي طالما تردد في التقارير، كان امتلاك قوات بحرية في البحر المتوسط. ومثل هذه القوات مهمة كي يحتفظ السوفييت بأسطول ضخم في البحر المتوسط، فقد كشف السوفييت في عام 1967 عن نيتهم القوية بأن يصبحوا ويبقوا قوة كبيرة في البحر المتوسط. (هامش: بدأ السوفييت في بناء أسطولهم في البحر الأبيض المتوسط بعد الحرب بفترة قصيرة. وفي أواخر يونيو/ حزيران، قاموا بإرسال أولى سفنهم عبر البوسفور باتجاه البحر الأبيض المتوسط، وفي منتصف يوليو/ تموز بدأت موسكو الاتصال المباشر مع سفنها الحربية المتمركزة هناك. واستمر نمو الأسطول السوفييتي خلال العام). وفي نفس الوقت، جعلت إدانة السوفييت لوجود قواعد غربية في المنطقة، المطالبة بامتلاك قواعد خاصة بهم أمراً محرجاً. وخلال مناقشاته مع الملك حسين في أوائل يوليو/ تموز، قال عبد الناصر إنه على استعداد لتوقيع معاهدة دفع مع السوفييت والسماح لهم بإنشاء القواعد التي يرغبون فيها في الجمهورية العربية المتحدة. وهذا التصريح مشكوك فيه إلى حد ما، باعتبار أنه ينسف جهود عبد الناصر (الذي ربما افترض أن الغرب سوف يحصل على هذه المعلومات) الرامية إلى دفع الغرب إلى السعي من أجل الحصول على امتيازات في محاولة لمنع مثل هذا الوجود السوفييتي. (يوجد حذف) أفادت تقارير بأن عبد الناصر رفض طلباً من بودجورني وزاخاروف للسماح بإقامة منشآت بحرية سوفييتية، ولكنه وافق على فكرة توسيع المنشآت البحرية الحالية. في 10 و11 يوليو/ تموز، رست السفن السوفييتية في مينائي الاسكندرية وبورسعيد في إطار زيارة لمدة أسبوع، ربما لاظهار دعم السوفييت للعرب، وكذلك استثمار التصريح الجديد لهم باستخدام التسهيلات الموجودة هناك. في 12 يوليو/ تموز أفادت صحيفة "الجمهورية" المصرية بأن الجمهورية العربية المتحدة منحت الأسطول السوفييتي دعوة مفتوحة للبقاء في مينائي بورسعيد والاسكندرية قدر ما يشاء. ومنذ ذلك الوقت، واصلت سفن الاسطول السوفييتي زياراتها للميناءين، وكذلك ميناء اللاذقية في سوريا.
21. موقف أكثر مرونة في الأمم المتحدة
بالإضافة إلى تعديل السوفييت سياسة الدعم التي ينتهجونها ازاء العرب، بحث هؤلاء على ضبط النفس، وبفرض شروط على المساعدات، بدأ السوفييت في يوليو/ تموز التحرك نحو موقف أكثر مرونة في الأمم المتحدة. وكان موقفهم، كما بدا في مؤتمر بودابست من 10 12 يوليو/ تموز، يقوم على ضرورة اتخاذ العرب موقفاً أكثر واقعية، وأن المطالبات بانسحاب "اسرائيلي" فوري ينبغي أن يلحق بها صيغة لإنهاء حالة الحرب.
وبعد أن حقق السوفييت أغراضهم الدعائية مع العرب، اسقطوا الحل المتشدد الذي اقترحه كوسيجين في 19 يونيو/ حزيران، ومنحوا مساندتهم لقرار لدول عدم الانحياز برعاية يوغسلافيا، وكانت مسودة هذا القرار أكثر اعتدالاً إلى حد ما من قرار السوفييت.
ففي حين دعا إلى الانسحاب الفوري لجميع القوات إلى ما وراء خط الهدنة بإشراف الأمم المتحدة، لم يطالب بإدانة "اسرائيل"، ولم يدعُ إلى دفع تعويضات، واقترح في حال حدوث الانسحاب، أن يقوم مجلس الأمن بدراسة "جميع جوانب الوضع في المنطقة". وبالإضافة إلى ذلك، طلب من الأمين العام للأمم المتحدة أن يعين ممثلاً شخصياً عنه للعمل على الامتثال للقرار. وفي 3 يوليو/ تموز أطرى جروميكو القرار وشجب أي نهج آخر. ولكن القرار أخفق في اجتياز التصويت في 4 يوليو/ تموز 1967.
هامش: تدارست الجلسة الطارئة لمجلس الأمن سبع مسودات قرارات وتبنت اثنتين منها وفشل جميع ما عداها في الحصول على أغلبية الثلثين المطلوبة. وقد دعت المسودة الأمريكية، التي فشلت في المرور شأن المسودة السوفييتية، إلى إجراءات متفاوض عليها بمساعدة طرف ثالث، قائمة على خمسة مبادئ، هي: الاعتراف المتبادل بالاستقلال السياسي وسلامة الأراضي لجميع الدول في المنطقة، الاعتراف بالحدود، مترافقاً مع فك الاشتباك والانسحاب، حرية التعبير عبر الممر المائي، حل عادل لمشكلة اللاجئين، الاعتراف بحق جميع الدول المستقلة في العيش بسلام وأمان. ودعا القراران اللذان تم تمريرهما إلى تبني المبادئ الإنسانية، ودعا "اسرائيل" إلى عدم اتخاذ أي إجراء لتغيير وضعية مدينة القدس.
وفي منتصف يوليو/ تموز أشار السوفييت إلى رغبتهم في بذل المزيد من التنازل بشأن قرار للأمم المتحدة (يوجد حذف هنا). وتشير تقارير أخرى إلى أن السوفييت، بينما لم يضمّنوا للمرة الأولى وعداً باتخاذ إجراء متبادل مقابل انسحاب "اسرائيلي"، لم يضعوا الانسحاب وإنهاء حالة الحرب على مستوى واحد. وبدلاً من ذلك طالبوا بانسحاب "اسرائيلي" تحت اشراف الأمم المتحدة، وإحالة المسألة العربية "الاسرائيلية" إلى مجلس الأمن، الذي يمكن الافادة منه في البت بقضايا تتعلق بإنهاء حالة الحرب، وحرية المرور عبر الممرات المائية الدولية، ومشكلة اللاجئين.
(يوجد حذف هنا) أن المصريين والعراقيين كانوا قد وافقوا على اقتراح المسودة السوفييتية. ولكن بومدين والسوريين أصدروا بياناً في 12 يوليو/ تموز يعدون فيه بمقاومة أي تنازل. ولم يتمكن السوفييت من تغيير رأي بومدين عندما زار موسكو في منتصف يوليو/ تموز، وهكذا هيمن العرب الراديكاليون. ولم يقدم الاتحاد السوفييتي مسودته أبداً، وفي 21 يوليو/ تموز، تم إرجاء الجلسة الطارئة للجمعية العمومية.
وهكذا حشر السوفييت أنفسهم في الزاوية، بتقييد حريتهم في المناورة في الأمم المتحدة. وعكست دعوتهم المبدئية إلى عقد جلسة للجمعية العمومية، رغبتهم في عقد منتدى دعائي علني. وفي يوليو/ تموز عندما أصبحوا أكثر جدية في جهودهم المبذولة للتوصل إلى قرار وسط من الأمم المتحدة، وجدوا أنفسهم واقعين في اسار إشكالية ما، ففي الجمعية العمومية، حيث لكل دولة عربية صوت، يتعين على السوفييت من أجل امرار قرارهم، أن يعارضوا العرب الراديكاليين، بفاعلية وفي العلن.
وكانوا لايزالون غير راغبين في فعل ذلك. وقد ورد التعبير عن تبرمهم من قبيل العديد من الشخصيات السوفييتية على مستوى عال في أواخر يوليو/ تموز. (يوجد حذف هنا). كما أن بونوماريف أثناء لقائه مع الشيوعيين الإيطاليين في أواخر يوليو/ تموز، انتقد العرب بشدة، ودعاهم بالمتعصبين وغير المنطقيين.
22. تيارات متقاطعة في القيادة السوفييتية
بينما خلقت الحرب توترات حادة في التحالف السوفييتي العربي، وإن تكن معتدلة، أنتجت كذلك ضغوطاً في السياسات الداخلية السوفييتية. وفي مرحلة ما، تعرض حتى أداء كبار القادة في الأزمة إلى هجوم سافر. ويبدو أن ذلك الهجوم يعكس وجهات النظر في عنصر كان ينتقد الحذر الذي اتسمت به تحركات السياسة الرسمية في الأزمة. وقد ظل مثل وجهة النظر تلك، أثناء الأزمة وبعدها، خارج الإجماع في القيادة بل كانت في الحقيقة مرفوضة من قبلها بثبات. ولكن، ضمن الإجماع الذي كان يعارض التورط المباشر في الأزمة ولكنه يحبذ استمرار مساندة العرب، كان يمكن مشاهدة خلافات بشأن مدى مثل ذلك العون في المستقبل، بالإضافة إلى مواقف مرنة إلى هذا الحد أو ذاك، تتعلق بتسوية سلمية للنزاع. ولم يكن العرب المتشددون وحدهم الذين كانوا يشكلون عامل تعقيد في عملية صنع السياسة السوفييتية، بل يضاف إليهم غياب الإجماع التام ضمن فئة كبار الزعماء السوفييت.
23. حماية ييجوريتشيف
دعت وجهة النظر المطالبة بالتدخل المباشر، والتي (يوجد حذف هنا) جرت دراستها من قبل بعض القادة ولكنها استبعدت، إلى القيام بمجازفة عسكرية محدودة، وتحدي الولايات المتحدة في الأزمة بحذر. وسواء تم تقديم مثل وجهة النظر تلك، أم لم يتم في المكتب السياسي خلال ذروة الأزمة عندما اجتمعت تلك الهيئة في جلسة عادية، فإنها ربما تكون قد طرحت من قبل رئيس الحزب في موسكو ييجوريتشيف عندما تحدث إلى اللجنة المركزية التي دعيت إلى الانعقاد برمتها بعد حرب يونيو/ حزيران لكي تصادق على أعمال المكتب السياسي في الأزمة، وحسب بعض التقارير، انتقد القيادة بسبب افتقارها إلى القوة والحزم أثناء الأزمة، وعلى الرغم من أنه عانى بسبب طيشه، بفقدان منصبه، يبدو من غير المرجح أن يكون قد رفع صوته لو لم يكن هنالك تأييد لآرائه على أعلى المستويات. وعلى أية حال، تم اجتناب اتخاذ سياسة مجازفة محسوبة، من قبل الإجماع الذي برز في المكتب السياسي أثناء الأزمة.
وفي حين يحتمل أن تكون وجهة نظر أكثر هجومية، قد حظيت ببعض المؤيدين في أوساط المكتب السياسي نفسه، فإنه لا تتوفر أدلة كثيرة تساعد في تحديد أولئك المؤيدين. وبطبيعة الحال، يمكن اعتبار شيلبين، الذي يشتبه في أنه منذ ييجوريتشيف قد عبر عن انتقاد القيادة أثناء الأزمة، عضواً في الزمرة التي تحيط بهذا الزعيم. ولكن هنالك علامات على أن وجهة النظر الميالة إلى القتال، كان لها مؤيدون بين عناصر يقعون على أطراف القيادة الداخلية، وبخاصة في أوساط الجيش. وعلى سبيل المثال كانت مجلة "النجم الأحمر" إحدى المجلات السوفييتية القليلة التي دافعت علناً عن اغلاق الجمهورية العربية المتحدة لمضائق تيران (28 يونيو/ حزيران) وكانت تصر بنوع خاص على دعواتها إلى انسحاب القوات "الاسرائيلية" الفوري وغير المشروط من المناطق المحتلة. وإضافة إلى ذلك، مضى ما يقرب من شهر بعد الحرب، قبل أن يصادق أي زعيم عسكري سوفييتي صراحة على أسلوب السوفييت في التعامل مع الأزمة. وفي 5 يوليو/ تموز فقط، فعل وزير الدفاع جريتشكو ذلك في اليوم الذي قدم فيه بريجينيف أيضاً دفاعاً علنياً شديداً عن سياسة المكتب السياسي أثناء الأزمة.
وقد حمل خطاب بريجينيف في 5 يوليو/ تموز كل سمات الدفاع العام عن السياسة السوفييتية في الشرق الأوسط، في الماضي والحاضر والمستقبل. وكان ذلك خطابه الأول بعد الحرب، ولعل المقصود منه، كان مواجهة النقد الخارجي والعربي بخاصة والنقد الداخلي. وحاول في البداية أن يجابه الحجج التي تقول إنه كان ينبغي اتباع سياسة أكثر حسماً أثناء الأزمة. وأصر على "صحة" التحركات "النشيطة" التي اتخذتها موسكو لوقف "اسرائيل" وحماية المصالح العربية. ثم مضى بعد ذلك للدفاع عن استمرار الدعم السوفييتي القوي للعرب، وفي حين كان حذراً ازاء القول إن الصراع كان في هذه المرحلة "سياسياً" انسجاماً مع سياسة المكتب السياسي أكد على المطالبة بانسحاب "اسرائيل" من أراض محتلة وأشار إلى العون المادي الذي كان يقدمه الاتحاد السوفييتي إلى العرب. وبينما ألمح إلى جهود حل الأزمة في الأمم المتحدة، أبقى على هدف مهمات بودجورني في الجمهورية العربية المتحدة وسوريا والعراق، وهي بالتحديد، تعزيز العلاقات وتنسيق العمل المشترك دفاعاً عن المصالح العربية. ولم يتضمن الخطاب سوى تلميح قليل إلى أي مصلحة في التوصل إلى تسوية وسط في المنطقة. وبوجه عام بدا الخطاب دفاعاً عن سياسة موسكو الموالية للعرب. ومن منظور السياسات الداخلية السوفييتية، بدا الخطاب معبراً عن إدراك بريجينيف لخطر تحالف بين الجيش وبين عناصر الحزب، يتضافرون معاً في معارضة السياسة الرسمية في الشرق الأوسط. (هامش: كان الخطاب قد ألقي في تخريج صف دراسي عسكري).
24. إغراق المدمرة "إيلات" عزز شعور عبد الناصر باستعادة مكانة مصر
كان الخطر كامناً متضمناً من قبل في ثنايا قضية يجوريتشيف. وشن يجوريتشيف، رئيس الحزب في موسكو، الذي هو بالتالي شخصية مهمة من بين الرؤساء التنفيذيين في المستوى المتوسط في أوساط الحزب، حملة انتقاد للسياسة الرسمية عندما كان اثنان من كبار مروجيه وأقطابه، بودجورني وكوسيجين، بعيدين عن الوطن ويتوليان تنفيذ تلك السياسة، إذ كان الأول في القاهرة والثاني في نيويورك، في أروقة الأمم المتحدة. وترك هذا الوضع بريجينيف، وهو الركن الثالث في هذا الثالوث الحاكم الذي يتولى تنفيذ السياسة المتبناة والمعتمدة في موسكو ليتحمل وطأة هذا الهجوم غير المتوقع على ما يظهر.
(حذف هنا)
وتظل فحوى الانتقاد الذي صدر عن يجوريتشيف وماهيته بدقة في دائرة الغموض. (مقاطع محذوفة).
هامش:
كان من الممكن ان يلحظ المرء انتقاداً مماثلاً، لكنه صادر عن شخصيات ارتبط اسمها بالإصلاح ولم يعهد عنها انها متشددة في مواقفها، حيث ظهر هذا في مقال في "البرافدا" بتاريخ 17 يونيو/ حزيران بقلم رومياتسيف وبيرلاتسكي وبستروجيف. وفي حين انصب الاهتمام الاكبر بكتاب المقال على بحث الحاجة إلى دراسة اكثر استفاضة وتعمقاً للتيارات السياسية والاجتماعية العريضة، فإنه اشتمل أيضاً على دعوة صريحة إلى تكهنات سياسية أفضل استشرافاً للمستقبل "ولا سيما" في ما يتعلق "بآفاق تطوير علاقات دولية" . والحالة الصارخة التي هي محور الاهتمام والتي يستشهد بها، إنما هي الوضع الذي قاد إلى الحرب العربية "الاسرائيلية" وأدى إلى اندلاعها، وهي حالة لا يمكن للقارئ المطلع الفطن إغفالها.
25. تزايد التوتر
زادت الحوادث الحدودية الكثيرة التي وقعت عند خطوط وقف إطلاق النار في الشرق الاوسط من حدة التوتر العربي "الاسرائيلي" منذ نهاية الحرب، كما زادت من مخاطر اندلاع حرب على نطاق واسع، وتزايدت كذلك باطراد الغارات "الفدائية" العربية التي تشن داخل "اسرائيل" وبحلول اكتوبر/تشرين الأول من عام 1967 ركّزت "اسرائيل" على التحذير من انها ربما تضطر لضرب "مراكز الإرهاب"، وهو تهديد صريح ووعيد لسوريا، وربما انسحب هذا على الاردن، وأفزع التهديد السوريين، الذين كانوا يتوقعون "هجوماً وشيكاً".
(حذف هنا)
في اكتوبر/تشرين الأول ظهرت علائم تدل على أن ناصر كان هاجسه الاكبر الذي سرعان ما تحول إلى طموح متأصل يتطلع إلى استعادة مكانة مصر من خلال توجيه ضربة ناجحة إلى "اسرائيل"، ولربما عكس غرق المدمرة "الاسرائيلية" "إيلات" هذا التوجه وهذا الموقف من جانب ناصر، فإذا كان الامر كذلك، فلا بد ان رد "اسرائيل" الانتقامي قد أجج غضبه، حين قصفت ودمرت مصافي البترول المصرية. كما زاد من سخطه الإعلان عن أن الولايات المتحدة سوف تزود "اسرائيل" بطائرات مقاتلة قاذفة.
ونشر العديد من التقارير في ذلك الوقت، وكانت تتحدث عن ان الموقف المصري آخذ بالتشدد، وبدأت الشكوك تتزايد في القاهرة بشأن احتمال إبرام تسوية سلمية.
وفي العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني ، وصف هيكل، وهو يكتب في "الأهرام" أمر مواصلة الحرب بأنه "حتمي"، إلا أنه احتاط للأمر قليلاً، فاستدرك بأن هذا لايعني بالضرورة ان القتال سوف يستأنف غداً.
وباختصار يتضح انه وخلال الأزمة ربما تشكل إجماع قلق يقوم على رغبة السوفييت في جعل الخسائر في حدها الأدنى وتجنب اي تورط مباشر في الصراع. ومع ان بعض القادة ربما طالبوا باتخاذ اجراء اقوى مما جرى اتخاذه بالفعل، إلا ان الدعم لمثل هذا الامر كان على ما يبدو، ضئيلاً. وعلى اي حال فقد جرى تجاوز الخلافات (في اوساط القيادة السوفييتية)، ومع ذلك عادت الخلافات حول سياسة الشرق الاوسط تطفو بصورة بالغة التفجر في الهجوم الذي شنه يجوريتشيف على التيار السوفييتي المعتدل.
وهكذا اصبح هناك موقف للمتشددين وآخر للمعتدلين، واستمرت الخلافات حول مدى الالتزام الذي يجب القيام به تجاه العرب. ومن المرجح ان هذين الاتجاهين المتعارضين في اوساط القيادة مسؤولان جزئيا عن المسار المتسم بالانفصام للسلوك السوفييتي منذ بدء الحرب، ويشيران ايضا الى امكانية حدوث تغيير في السياسة السوفييتية المتعلقة بالشرق الاوسط.
وعلى الرغم من الخلافات الداخلية، بدأت السياسة السوفييتية تتخذ شكلاً اوضح وتتجلى معالمها في صيف 1967، وبحلول نوفمبر/تشرين الثاني من ذلك العام اكتمل بحق وبصورة واقعية التحول الثاني الذي شهدته السياسة السوفييتية. فأما التحول الأول، ذاك الذي حدث في منتصف عام 1966 فقد أعقب الانقلاب البعثي الراديكالي في سوريا، عكس جوهر القرار السوفييتي بدعم هذا النظام والدفاع عنه ومحاولة تحقيق التقارب السوري المصري. وانطوى هذا التحول على تبني السوفييت نهجاً أكثر نشاطاً وساعد على دفع ناصر لاتخاذ مواقف متشددة أقرب إلى النزعة القتالية والتحول الثاني تبع قرار ناصر نفسه بعد الحرب برفض الجنوح إلى "مواصلة القتال". وهو الموقف الذي اقترن بالسوريين، كما اشتمل هذا التحول على اتخاذ السوفييت قراراً بدعم ناصر، ولو على حساب تنفير السوريين وإقصائهم.
وبدأت الجمهورية العربية المتحدة في أواخر يوليو/تموز وأغسطس/آب بتبني موقف أميل إلى الروح التصالحية تجاه الغرب، وموقف اكثر وداً وحميمية إزاء البلدان العربية المحافظة، وربما كانت جذور العوامل المحفزة التي قادت إلى هذا التحول الثاني ترجع في الشطر الأعظم منها إلى المحنة الاقتصادية التي عانت منها الجمهورية العربية المتحدة، لأن الدول العربية المحافظة ما لبث حكامها ان أطلقوا وعوداً مباشرة بعد الحرب ببذل مقادير ضخمة من المساعدات والعون لناصر. وتحول ناصر من معارض إلى داعم لانعقاد قمة عربية مقترحة كانت قد أقرتها الدول المحافظة (السعودية، الكويت، والأردن) وقاطعها السوريون الراديكاليون، ومنح المؤتمر، الذي عقد في الخرطوم في نهاية اغسطس، ناصر والحسين تفويضاً للسعي من أجل التوصل الى تسوية سياسية، وأسبغ على اقتراح يوغسلافي يلتمس تسوية وصف "متعقل".
هامش:
إلا ان السوفييت استطاعوا في الحقيقة ان يتدبروا أمر الحفاظ على شيء من عنصر الغموض فيما يتعلق باستجابتهم وردهم في حال حدوث تدخل أمريكي في حرب شرق أوسطية. وفي حين بيّن السوفييت بشكل واضح وصريح انه لن يكون هناك تدخل عسكري في حال وقوع اي اعمال حربية عدائية عربية "اسرائيلية"، بينوا ايضا ان الاتحاد السوفييتي يمكن ان يتدخل بشكل مباشر في حال حدث تدخل أمريكي "محدد المعالم" لا لبس فيه، وهو أمر يترك البت فيه للسوفييت.
وفي نهاية المطاف، اختار السوفييت، الذين ارغموا على المفاضلة العلنية ما بين ناصر والسوريين في هذه القضية، ناصر. وتحول السوفييت، الذين ظلوا ينتقدون المؤتمر الى ان صادق عليه ناصر، إلى موقف المؤيد والداعم له، بل وحاولوا حتى في اللحظة الاخيرة (لكن دون إحراز نجاح) إقناع السوريين بالحضور.
وظهر دعم السوفييت لسياسات ناصر بصورة أوضح في ثنايا قرار الاتحاد السوفييتي في اكتوبر/تشرين الأول من عام 1967 الذي تضمن دعم جهود ناصر وحسين من أجل تمرير قرار في الامم المتحدة.
والشروط والبنود التي اتفق عليها الزعيمان العربيان في سبتمبر/أيلول كانت مشابهة لتلك التي اشتملت عليها الخطة التي وضعت في يوليو/تموز ودعمها السوفييت، وكان السوفييت قد سحبوا هذه الخطة عندما رفضها الراديكاليون العرب. وهذه المرة بين السوفييت انهم سيدعمون قراراً بغض النظر عن معارضة سوريا.
واشتملت مسودة قرار التسوية البريطانية التي مررها مجلس الأمن الأممي في نهاية المطاف على بنود وعبارات وشروط كانت الجمهورية العربية المتحدة ترغب بأفضل منها بكثير (على سبيل المثال، لم تحدد تلك البنود أن على "اسرائيل" الانسحاب من كل المناطق التي احتلتها بعد 4 يونيو/حزيران، كما لم تدع لانسحاب "اسرائيلي" فوري. ومع ذلك، وبعد مساومات ومماحكات كثيرة وافق ناصر على ما يبدو على القبول بها، ولكن قبل تبنيها بذل السوفييت محاولة يتيمة اخيرة لتجنب تنفير العرب الراديكاليين وإقصائهم. فعشية التصويت في مجلس الأمن، تقدموا بمسودتهم البديلة التي تدعوا الى انسحاب "اسرائيلي" فوري من جميع المناطق التي احتلت خلال الحرب، غير ان تلك لم تكن سوى إيماءة موحية فحسب، القصد منها تسجيل موقف. وفي اليوم التالي لتقديمها سحب السوفييت المسودة وصوتوا موافقين على القرار البريطاني.
وخدمت الإيماءة السوفييتية غرض منح الراديكاليين العرب بعض التطمينات بخصوص الالتزام السوفييتي بقضيتهم. وأعادت المسودة البديلة التوكيد على الموقف السوفييتي المناصر للعرب، وأناطت بالسوفييت دوراً مؤقتاً أشبه ما يكون بالمعيق أو واضع العقبات في الطريق. فإذا كانت الغاية هي تهدئة السوريين وتليين تشنجهم فإن المسودة لم تحرز نجاحاً يذكر على هذا الصعيد، لأن ردة فعلهم كانت عنيفة إزاء فقرات القرار، وهاجموا السوفييت بقسوة ومرارة لتصويتهم بالموافقة عليها.
وحسبما أوردت التقارير، فإن السوفييت مارسوا ضغوطاً كذلك من اجل اكتساب مرافق وقواعد بحرية في البحر الابيض المتوسط أو حيازة حقوق باستخدام مثل هذه المنشآت ولم يكونوا قد حازوا السيطرة على اي ميناء عربي، وحتى استخدامهم لتلك المرافق كان على أضيق نطاق ممكن، حيث كانت المراكب والقطع البحرية السوفييتية تعتمد أساساً على سفنها المساعدة سواء في الإمدادات أو في الصيانة والإصلاح. غير ان الاسطول السوفييتي كان دائما يمنح حق الوصول الى شتى الموانئ العربية، وكانت السفن الحربية السوفييتية تقوم بزيارة هذه الموانئ بين الفينة والفينة بغاية ظاهرها على ما يبدو التبيان بجلاء ان السوفييت يدعمون العرب ويقفون في صفهم، وبهدف الحيلولة بين "اسرائيل" ومهاجمة هذه الموانئ، ولم تهاجم "اسرائيل" في الحقيقة أياً من هذه الموانئ، لكن الامر يظل رهن التكهنات والحدس لحسم مسألة ما اذا كان "إحجام" "اسرائيل" عن ضرب تلك الموانئ له أي صلة بالوجود السوفييتي على الإطلاق.
وازدادت شحنات السوفييت من العتاد العسكري الى العرب وتكثفت في الفترة التي أعقبت الحرب مباشرة وخلال ما تلاها من الشهور. وعلى ما يبدو، وعد السوفييت بأن يعجلوا إلى حد كبير عملية تعويض العتاد الذي فقد في الحرب واستبداله بأسلحة وتجهيزات جديدة، وتم إنجاز هذا على ارض الواقع. ومنذ صيف عام 1967 انتظم تدفق هذه الشحنات ليستقر عند معدل مطرد بثبات الى حد ما، واستردت حملات إعادة الإمداد وبرامج التدريب القدرات العربية فرجعت بها الى المستوى الذي كانت عليه قبل الحرب على الاقل.
وعلى نحو مشابه اتجه موقف السوفييت تجاه الفدائيين الى ان يزيد، لا ان يخفف من التوتر، فعلى الرغم من مخاطر قيام "اسرائيل" بعمليات ثأرية حربية كبرى، ظل السوفييت وبصورة متزايدة يتحاشون، بل ولا يقبلون استثارة نفور الفدائيين، ويتجنبون حدوث جفوة بينهم وبين الفدائيين، ونتيجة لذلك كانوا يزودونهم بشكل غير مباشر ببعض العون، الذي كان في معظمه على شكل أسلحة خفيفة ومعدات، وفي النصف الثاني من عام 1969 بدأ الإعلام السوفييتي يسلط الضوء على دعم السوفييت للفدائيين وينشر على الملأ تقارير عن نشاطات رجال حرب العصابات.
وفي نهاية عام 1969 أظهرت البيانات التي صدرت عن شخصيات في المكتب السياسي ان تياراً جديداً يحبذ تقديم مساعدة أكبر وأجدى للفدائيين العرب، قد أخذ ينبثق في صفوف القيادة السوفييتية واعتراف السوفييت بالفدائيين بصفتهم قوة يحسب حسابها ولا يمكن الإغضاء من شأنها يعكس الواقع السياسي وحقيقة الوضع آنذاك، فمنذ حرب يونيو تحول الفدائيون الى عامل بالغ الاهمية في الشرق الاوسط.
وتزايد الوجود السوفييتي العسكري الفعلي في الشرق الاوسط بشكل كبير منذ الحرب. وجرى تعزيز الاسطول البحري السوفييتي في البحر المتوسط وتقويته بشكل كبير خلال عام 1967، إلا ان هذا المستوى استقر على حاله من بعدها. وبعد الحرب نشر السوفييت أعداداً كبيرة من الخبراء والتقنيين والمستشارين ليرابطوا في كافة الأفرع والمجالات العسكرية داخل القوات المسلحة لكل من الجمهورية العربية المتحدة وسوريا بهدف رفع المستوى المعياري القتالي وتعزيز القدرات العسكرية في هذه المؤسسات العسكرية، وثمة عنصر من الحذر والتوقي كامن في هذه السياسة، إذ ان هذه الأطقم البشرية انيطت بها غاية اضافية تتمثل في ممارسة لون من ألوان السيطرة على الاستخدامات التي من اجلها أمد السوفييت العرب بهذه الأعتدة والأسلحة. إلا انه، وعلى الرغم من ان المستشارين السوفييت قد منحوا على ما يبدو درجة عالية من السلطة والهيمنة، لا سيما في عمليات التدريب، الامر الذي أدى الى حزازات كبيرة وخلافات مع العرب، ليس ثمة دليل سواء في الجمهورية العربية المتحدة أو سوريا على تمتع السوفييت بسلطة مهيمنة وقيادة وسيطرة مباشرة، ومن المشكوك فيه انه كان لهؤلاء العسكريين السوفييت من الخبراء والمستشارين والتقنيين مشاركة مباشرة في القتال، وحتى لو حدث ذلك فإن من المشكوك فيه الاعتراف بهذا الأمر.
هامش:
ربما كان الحضور الكبير لأطقم المستشارين السوفييت في سوريا مسؤولاً بشكل جزئي عن إحجام "اسرائيل" عن شن هجمات انتقامية ضد سوريا.
لا انه يمكن ارجاع هذا بصورة أدق الى حقيقة ان السوريين كانوا حذرين بشأن شن هجمات "إرهابية" ضد "اسرائيل" انطلاقاً من اراضيهم، ويحرصون كل الحرص على الحيلولة دون ذلك، وهذا الاحتمال الثاني هو الأرجح، إذ ان "الاسرائيليين" شنوا هجمات انتقامية على مصر على الرغم من وجود المستشارين السوفييت هناك.
ومع ذلك، فإن الوجود السوفييتي الاضافي والمعزز في الشرق الاوسط يزيد من احتمالات تورط السوفييت في صراع مستقبلي. وعلاوة على ذلك فإن هيمنة الاتحاد السوفييتي، رغم وجود مستشاريه على التصرفات والتحركات العربية لم تتعزز إلا بمقدار طفيف جداً عما كانت عليه في مايو/أيار من عام 1967، وناصر كالعهد به دائماً، لا يمكن ابداً التكهن بسياساته ولا توقع تحركاته، وهو مصمم على الحفاظ على الضغط العسكري على "اسرائيل" على طول قناة السويس. وليس ثمة إلا النزر اليسير جداً عن المعلومات التي توحي بأن السوفييت بذلوا أي جهد جاد لكبح ناصر وحمله على ضبط النفس، وهكذا نجد ان السوفييت كانوا مرة اخرى في موقف الالتزام شبه الكامل بالإمداد بالمال والسلاح والرجال والمكانة لحلفائهم العرب دون ان يحصلوا مقابل ذلك على ما يوازي هذا الدعم من مشاركة في صياغة السياسة وصنع القرار.
ومن هنا فإن سياسة الاتحاد السوفييتي في الشرق الاوسط تشبه محاولة الطبخ بطنجرة ضغط من دون وجود صمام أمان يعتمد عليه. فهي من ناحية تسعى لكبح الضغوط التي تؤدي لانفجار الوضع في منطقة الشرق الاوسط، ومن جهة أخرى فإنها تغذي الاسباب المؤدية لهذه الضغوط. ولكن الموقف الذي يميل لسياسة الاعتدال التي ظهرت بعد حرب يونيو/حزيران كان في الآونة الاخيرة من التآكل والتراجع، فتفضيل السوفييت لناصر على السوريين باعتباره أقل تعصباً واكثر عقلانية اصبح متناقضاً ومتعارضاً مع تزايد الروح القتالية المناهضة ل "اسرائيل" عند المصريين في ظل قيادة ناصر بعد حرب حزيران ولعدم استعدادهم لخسارة المكانة التي تبوؤها كطليعة للحركة العربية، عاد السوفييت للتحرك ثانية مع نزعة التطرف العربي التي سادت آنذاك، ومخاطر تلك السياسة أمر مؤكد، ولكن الامر الذي ظل غير مؤكد الى حد بعيد هو هل استطاع السوفييت أم لم يستطيعوا صياغة وسائل فعالة تقود التيار وتوجهه أو تحرفه عن مساره طبقاً لما تقتضيه المصلحة السوفييتية.
***
|