مسرحية فاضل الجعايبي تثير جدلاً في عواصم عربية وأجنبية
»خمسون« التونسية تلهب »شمس« بيروت: صرخة في وجه التطرف والمحظورات السياسية
بيروت - ليندا عثمان:
بعدما جالت في عواصم عربية واجنبية عدة, منها باريس وتونس وطوكيو, حطت فرقة »فاميليا« التونسية برئاسة المخرج فاضل الجعايبي في بيروت, حيث قدمت على مدى يومين مسرحيتها المثيرة للجدل »خمسون« على خشبة مسرح دوار الشمس, بدعوة من »جمعية شمس«.
هذه المسرحية التي كتبتها الممثلة جليلة بكار وأخرجها الجعايبي طبعت مجرى الحوادث في تونس في الأعوام الخمسين الأخيرة, وقد أثارت جدلاً كبيراً قبل أن تعرض في تونس والعالم العربي, فهي تركز على موضوع الإرهاب والتعاطي مع الخطاب المتطرف, كونه أصبح ظاهرة عالمية متعددة النسخ والصيغ والطروحات الناشطة والمساومات على حساب مصائر الأوطان والشعوب.
تبدأ المسرحية, بمشهد أستاذة محجبة تدعى »دوجة« تفجر نفسها وسط ساحة مدرسة فتشرع السلطة السياسية في التحقيق في خفايا الحادث وملابساته, ويتم توقيف عدد من الشبان المتدينين وتعذيب الذين لهم صلة بالأستاذة من بينهم »أمل« المتحدرة من عائلة يسارية.
قدم الثنائي (الجعايبي وبكار) المسرحية على أنها صرخة في وجه كل أشكال التطرف والممنوعات والمحظورات السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية التي طبعت الفرد في تونس طوال خمسين عاما, لكن المخرج أظهر العرض على أنه يشبه عالمنا العربي كله, حيث تنامت ظاهرة التطرف وتقلصت الحريات على حساب حرية الفرد وتنامت أيضاً الاحتلالات من فلسطين إلى العراق إلى حروب أفغانستان ولبنان, وغيرها »فالسياسة امل لم تتحول إلى متطرفة لو لم يزر شارون الحرم القدسي«.
وبرغم اللهجة التونسية العامية الصعبة, إلا أن مقولة المسرحية وصلت إلى الجمهور الذي حضر ليشاهد عمل الجعايبي الذي زار بيروت منذ وضعت الحرب أوزارها في التسعينيات حيث عرض »فاميليا« على خشبة مسرح بيروت في عين المريسة, ثم عرض - منذ أكثر من عشر سنوات - »عشاق المقهى المهجور« في مسرح المدينة. فهذا المخرج الذي يعرفه عالم المسرح اللبناني ببصمته الجريئة وحضوره المسرحي الطليعي والمجدد استطاع على مدى يومين عرض مسرحية لها, وقعها الاجتماعي الإنساني والسياسي, فيما يتعلق بضياع الهوية, والتغرب والغربة في الأوطان, فضلا عن الواقع المعيشي في العلاقات الأسرية والواقع الديني والعلماني والإرهاب الفكري وصولاً إلى المحرمات الأخلاقية في العائلة خصوصاً المجتمع التونسي, (الثقافة, التعليم, العلمانية, التحرر, التحجر)... رأينا صراع الأجيال على مدى خمسين عاماً في وطن رسم الجعايبي شخصياته بواقعية مشهودة, وفنية تمثيلية عالية, فهو اشتغل على الممثل ووظف حركاته وتعابيره وحضوره على الخشبة في خدمة النص الذي كان بمثابة الصرخة الجريئة في وجه الواقع السياسي والاجتماعي حيث الشرخ يستفحل والجدل يتعاظم من خلال المواقف والرموز والإشارات المحمولة على الإبهام والإيهام, رغم افتقار المسرح للديكور المبهر والسينوغرافيا الأخاذة.
يقول الجعايبي عن المسرحية إنها كناية عن افتراض حقيقي وخيالي, هذه البنت التي ترعرعت بين والديها في ظل عائلة »ماركسية« تناضل لفرض حلم طوباوي في تونس... كيف اضمحل هذا الحلم وأخذ مكانه حلم آخر لاسترجاع عز الأمة المفقود. رحلت إلى فرنسا, لأنها طردت من الجامعة التونسية, فاكتشفت الإسلام هناك, تحجبت وتصوفت وعادت إلى تونس, تعرفت إلى شبان وشابات اعتنقوا الإسلام السياسي, اعتناقاً جديداً وغريباً... هذا الواقع حولناه إلى افتراض مسرحي خيالي بعملية تفجير ومطاردة من البوليس السياسي, وبعملية تقييم ذاتي لنا نحن اليساريون الديموقراطيون الطوباويون, لوضع النقاط على الحروف, فما هي مسؤولياتنا نحن? إنها مسؤولية الأنظمة والأفراد, إنها أساس طرحنا في »خمسون«, إنهم يطاردون ما تسببوا فيه, ما صنعوه على حساب التعددية وحرية التعبير, مطاردة اليسار, ثمنها بروز المتطرفين: الغرب مسؤول عن ذلك أيضاً, ليس هناك من بريء, المسؤولية متعددة, كان قرارنا أن نحاور الجميع, ونفهم الجميع.. حينما منع العرض فلأننا اتهمنا بإعطاء الكلمة لليسار, بمختلف مستوياته, والتطرف بكامل مستوياته.. كان يجب برأيهم أن نحكم على الجميع بالإعدام, أن نقرر أن النظام أبيض والآخرين سود... نحن كمواطنين فنانين, حتمي بالنسبة لنا فهم الواقع, واختزاله واقتراحه بطريقة شعرية فنية, نصبوا أن تكون عالمية, لأن المسرح لذة والتفكير فيه متعة, ولذة أخرى, لا نحب المسرح الاستهلاكي الترفيهي, فلنا انشغالات فكرية وسياسية, وأساساً انشغالات فنية.
يفرح الجعايبي لأن »خمسون« لقيت الإعجاب والاستحسان في مختلف الأمكنة والبلدان التي عرضت فيها ويستشهد بمسرح »الأوديون« الباريسي الذي لم يسبق أن أعطى الكلمة لفنانين عرب أو أفارقة أو آسيويين. »كنا مع جليلة بكار أول من اعترف بهم مسرح (الأوديون) وأعطاهم هذه الطاقة البيضاء لينددوا حتى بالغرب, إذا شاؤوا وبأنظمتهم إذا شاؤوا«.
»خمسون« تنطلق من النص الذهني والأدبي لتعمم وتصبح واقعاً حتمياً, لضرورات وإشكاليات الحياة المعاصرة, لانشغالات الإنسان التونسي خصوصاً والعربي عموماً في وعيه ولا وعيه, إنه مسرح الوعي والذاكرة الحية والتاريخ الحديث, تاريخ وتأريخ الكيان.
المسرحية بعدت عن الخيال, استمدت اليومي من العيش والفكر والتصالح مع الذات.. جسدت خطورة الإعلام والدعايات المتطرفة التي تسيس الدين الحقيقي للوصول إلى مآرب أخرى. وقد نجح الجعايبي في إيصال ما يود قوله ورفضه من خلال (المسرح) الذي هو المكان الأمثل لعرض المشكلات والحلول وجهاً لوجه مع الآخرين.
صحيفة السياسة- 10 ماي 2008