كاتب الموضوع :
النهى
المنتدى :
القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
3/ شعبان:
إليــــــــها.. تتمة وجــــــع ,
وكان الطفل ينمو .. وكنت لم أستطع أن أغفر له أن جاء بغير إرادتي كما لم أستطع أن أغفر لأبيه من قبل أن سرقني من طفولتي .. فلم أهتم به كثيرا .. بل إنني كنت أحمله إلى غرفة والده كلما بكى , وأدعه بين يديه وأنصرف لأغط في نوم عميق .. فهو ليس ابني وحدي ورعاية الطفل في نظري مسؤولية يكفي أن يقوم بها أحد الوالدين .. وأنا تبرعت بها له ..
أِشهر طويلة مرت قبل أن أشعر أن أشياء كثيرة فيّ قد تهاوت .. وأن هواء جديدا بدأت ُ أتنفسه .. لم تكن هناك لحظة فاصلة .. بل صور متتابعة متقطعة بدأت تشعرني بنفس آخر للحياة ..
بدأتُ أتعمد أن أتباطأ عند المرور إلى غرفتي لألقي نظرة عليهما وهما في غرفته .. كنت أسمع ضحكات الطفل المغمورة بالحنان .. وكلمات بسيطة منه لكنها معبرة ..
كنت أرى سعادة كان بإمكاني أن أكون جزءا منها, ولكن كثيرا ماكنت أكتفي بالتأمل الصامت ,, ثم أطرق وأمضي إلى غرفتي ..
كان مازال فيّ شيء من عناد وكبرياء .. وكنت أنتظر إشارة لأعود لكنها تأخرت , مثلما جاءت إفاقتي متأخرة..
لم يكن موجودا حين اتصل المشرف على دراسته طالبا بعض الأوراق على عجل .. ويبدو أنني أردت أن أختبر نفسي في مدى إجادتي اللغة الأجنبية , حينما بدأت أصغي له باهتمام .. وأدون مايريد .. ثم مضيت إلى مكتبه لأول مرة , وصرت أبحث عن المطلوب وحين وجدته كان مكتوبا بخط غير واضح .. وكان أمامي ساعة أخرى قبل وصول مندوب المشرف ..فشرعت في طباعت الأوراق وإعدادها بشكل منظم ..بعد ذلك تلقيت شكرا من المشرف .. الذي أبدى سروره بالشكل المعد .. مثنيا على المرأة الشرقية , وتفانيها في مساعدة أسرتها .. وكان يقول بأنه يرغب في توصيل تقديره هذا بعد أن علم منه أن الأوراق من إعدادي ..
وقد عجبت في ذلك اليوم من سعادتي بأني قدمت له شيئا , على الرغم من أني كنت أعتقد أنه لايعنيني ..
لقد سررت بما حققت له , أكثر من سروري بكل ما أنجزت لنفسي في المعهد ..لا أدري كيف حدث هذا ..
ولكن يبدو أن في داخل كل منا تلك المرأة العربية التي تحب دائما أن تكون خلف الإنجاز لا أمامه ..
وكان ذلك من الأيام القلائل التي وقفت فيها بانتظار أن يعود ..
وكنت قد حضرت كلمات قليلة حول أوراقه طبعا .. وكلي أمل أن يبادر هو ويجعل تلك الكلمات تكبر .. وحينذاك سأعرض عليه أن أعد له مايحتاج من أوراق دائما .. كنت على استعداد كبير لأن أقدم وأخدم بعد أن بقيت زمنا آخذ فقط .. ولكن حين حضر , اكتفى بأن شكرني بكلمة بسيطة وقال إنه يكرر أسفه ويعد بأن لايحرجني بموقف مثل هذا مرة أخرى , ثم اتجه إلى غرفته ..
هل سكن قلبك ندم ما ؟ ندم صغير على أشياء هجرتها , أشياء تركتها .. وعلمت فيما بعد أن حياتك ستكون أبهى معها ؟
هل هجع في جنباتك يوما شعور ما , ثم استيقظ فجأة ؟ هكذا كنت في تلك الأيام أتحسس قلبي فأجد أن ثمة طيورا صغيرة كانت قد هاجرت دون أن أشعر بها .. وأني أحتاج أن تعود ..
ذات يوم عاد مبكرا .. ودعاني إلى غرفته , كانت المرة الأولى التي يدعوني فيها .. وحين دخلت وجدت الطفل نائما في سريره بهدوء عميق , وهو جالس على الأريكة بانتظاري .. لما رآني قال:
_ سبق أن عرضتِ علي ّ رغبتك في أن تعودي إلى أهلك .. الآن أخبرك بأن بوسعك ذلك ..
ومد يده بتذكرة سفر وأكمل :
_ الرحلة الساعة الثامنة مساء .. أرجو أن تكوني على استعداد ..
نظرت إلى التذكرة بمزيج من الوحشة والذهول .. في حين أكمل هو :
_ الطفل سيبقى معي طبعا ..
_ لكني أريد أن أبقى .. من أجل الطفل ..
وكدت ُ أقول ( ومن أجلك ) لكن منعتني بقية مكابرة ..
قال :
_ الطفل سيكون بخير وهو معي .. تعلمين ذلك ..
_ لكن ..
_ ألم تكن هذه رغبتك ؟
_ نعم , لكن تأخرت كثيرا و ..
_ أعتذر لك عن كل تلك الأيام التي قضيتها في بيتي ..
_ لا لم أقصد .. أعني أن الوضع اختلف , وأنا اعتدت على حياتي .. ثم إن الأمر يحتاج إلى تفكير ..
_ فكرت ُ كثيرا .. وانتهيت ُ إلى أن هذا هو الحل .. وكان ينبغي أن يكون منذ زمن ..
_ لكن لماذا لا يكون هناك حل آخر ؟ أعدك أن أشياء كثيرة ستتغير ..
_ مضى وقت الحلول الأخرى ..
أطرقت ُ , فأكمل :
_ أرجو أن تتمكني من تجهيز حقائبك .. سأخرج الآن وأعود في المساء لأصطحبك إلى المطار ..
وفي المساء كانت السيارة تعبر بنا الأنفاق والجسور .. وتعبر الظلمة , وكان الطفل بين يدي مستغرقا في النوم.. قلت كمن يبحث عن حجة للبقاء:
_ الطفل يجب أن يكون معي ..
كان صوتي ضعيفا وأنينا وأقرب إلى بث حزن مبهم منه إلى مطالبة بحق .. فقال:
_ دعيه .. إنه على الأقل قطعة منك أمتلكها بعد أن فشلت في كسب مودتك .. تعلمين كم دعوت ُ الله أن يكون الطفل يشبهك , ليذكرني بك .. ولكن والدتي تقول أن الأبناء يأتون أكثر شبها للطرف الأكثر محبة للآخر ..
لا مانع بأن أعترف لك الآن بأن كلام والدتي كان صحيحا وأن تلك المحبة ظلت بالرغم من كل شيء ..
في تلك اللحظة كانت أعمدة الإنارة تلقي بحزم واهنة من أشعتها الضئيلة داخل السيارة .. رأيت وجهه ولمحت في عينيه وميضا مكتوما .. وكان على الرغم من تأثره الواضح لا يزال ثابتا .. ويده على مقود السيارة التي ينطلق بها نحو المطار بأقصى سرعة ..
لا تعجبي , كان يمتلك نوعا من الحنان الصلد .. الحنان القوي الذي يمكن للإنسان أن يستند إليه دون أن يخشى ضعفا .. ولأنني أعلم أنه يمتلك هذا النوع من الحنان , كنت أدرك أن لاشيء من تأثره ولا توسلي .. سيجعله يعود من نفس الطريق حتى وإن كان القرار بيده ..
حينما وصلت كان أهلي في استقبالي في المطار .. ولم يخفوا دهشتهم من مجيئي وحدي .. ولكن صمتي أوحى لهم بأن ثمة شيء .. وأنهم سيعرفونه فيما بعد .. وعلى طوال الطريق لم يكن أحد منا يتحدث , لكني كنت أسمع شيئا ينوح من بعيد .. وحين أكدت لي أختي بأنها لا تسمع شيئا أدركت أنه قلبي وقد تركته هناك ..
لم يبق بعد ذلك مايربطني بهما .. سوى صورة للطفل فقط .. يرسلها إليّ مطلع كل شهر .. وكنت أعرف من خلالها أنه ينمو , وأنه سعيد , وأنه بصحة جيدة ..
هذا الشهر وجدت شيئا آخر غير الصورة .. جملة صغيرة مبهمة لكنها حملت أطيافا عذبة لقلبي الموهن الموجوع ..
رأيت فيها الطفل وهو بين يدي , والسيارة التي كانت تجمعنا حتى وإن كانت تتجه إلى المطار , وليل الطريق الطويل , وأعمدة الإنارة .. أعمدة الإنارة التي ألقت ببعض شعاعها على وجهه وهو يتحدث .. رأيتها تومض في الفضاء كجمرات تأكل العتمة ..
- تمــــــــــــــــت -
|