كاتب الموضوع :
حسن حسني
المنتدى :
الارشيف
الجزء الثامن
لا شك أن قيام ثورة يوليو ١٩٥٢ خلق طلباً علي نوع جديد من
المثقفين لم يكن مطلوباً من قبل، فهاهم مجموعة من الضباط الثوار
يزيحون الي الأبد الأحزاب السياسية التي تبادلت فيما بينها حكم
مصر منذ ثورة ١٩١٩، ويستولون علي مقاليد الأمور كلها في مصر وهم
ليسوا إلا ضباطاً صغيري السن ليس لهم سابق عهد بالسياسة أو
الوزارة ولا معرفة تذكر بأمور الاقتصاد أو السياسة الخارجية أو
العربية.
لديهم أهداف رائعة حقاً وشعارات خلابة ولكن كيف يكون وضع هذه
الأهداف والشعارات موضع التنفيذ دون الاستعانة بعدد من
القانونيين والدبلوماسيين والاقتصاديين والمهندسين والزراعيين..
إلخ،
ليصيغوا مبادئ الثورة في قوانين جديدة ويتعاملوا مع الدول
الأجنبية طبقاً للأصول المرعية في العلاقات الدولية، ولتسيير
الاقتصاد ثم فيما بعد لإدارة المشروعات المؤممة وليشرفوا علي
تطبيق الإصلاح الزراعي.. إلخ؟
بل لقد ظهرت الحاجة إلي «مفكرين» أيضاً فالأهداف التي تتبناها
الثورة مؤكدة ولا رجوع فيها، ولكنها غامضة ومشوشة وتحتاج إلي من
يوضحها ويضع نظرية لها، بل وقد يحتاج قادة الثورة إلي من يوضح
لهم هم أنفسهم ما يريدونه بالضبط، وعلاقته بالأفكار
والأيديولوجيات السائدة في العالم.. إلخ.
وأخيراً فقد كانوا في حاجة أيضاً إلي «دُعاة»، قد لا يؤمنون
بأهداف الثورة بالضبط ولكنهم فصيحون يجيدون الكلام وتنميق الخطب،
وكتابة المقالات المؤثرة في الصحف، هؤلاء مطلوبون أيضاً، إذا
فالثورة تحتاج إلي تكنوقراطيين ومفكرين ودُعاة، وهؤلاء يجمعهم
وصف «المثقفين»، وإن كان وصف كل هؤلاء بـ«المثقفين» فيه بعض
التجاوز بلا شك، فإذا كان «المفكر» لابد أن يكون مثقفاً، فليس من
الضروري أن يكون الدبلوماسي أو الاقتصادي أو المهندس مثقفاً بنفس
المعني، و«الداعية» قد يكون أو لا يكون مثقفاً.
المهم أن حكام ما قبل الثورة وإن كانوا بالطبع في حاجة إلي النوع
الأول من «المثقفين» (إذ كيف تدار شؤون الدولة بغيرهم؟) فإنهم لم
يكونوا في حاجة إلي مفكرين أو دُعاة بأي درجة تقارن بحاجة قادة
الثورة إليهم. نعم، كانت لكل حزب من أحزاب ما قبل الثورة صحف
تدافع عن الحزب ضد خصومه، وكان الملك يستخدم أحياناً بعض
المثقفين للتشهير ببعض رجال الأحزاب (خاصة الوفد).
ولكن ما الذي كان الملك يفعله أو يدعو إليه مما يمكن أن يكون
موضوعاً للثناء أو النفاق؟ كان من الممكن أن يشيد كاتب أو صحفي
بشباب الملك وصغر سنه، أو يبالغ في وصف حب الناس له في يوم
الاحتفال بعيد جلوسه علي العرش، أو يصف مصافحته لمستقبليه بقوله:
إن الملك صافحهم «بيده الكريمة»، ولكن هذا كله كان قليل الخطر
وضعيف الأثر، وكان يذكر الناس بما قاله المتنبي في مدح سيف
الدولة أو ما قاله النابغة الذبياني في مدح النعمان، أكثر مما
يثير غضبهم أو احتقارهم.
أما الدعاية والإفراط في الثناء علي رئيس حزب من الأحزاب فقد
كانا أيضاً نادرين وضعيفي الأثر. وأما «المفكرون» فقد كان من
النادر جداً أن توظف مواهبهم لخدمة هذا الحاكم أو ذاك، إذ لم تكن
السياسات المتبعة قبل الثورة تحددها الأفكار أو الأيديولوجيات
بقدر ما كان يحددها الإنجليز.
اختلف الأمر تماماً بقيام الثورة، فالنظام يدعو إلي مبادئ جديدة
ويحتاج إلي إقناع الناس بها. وهناك قوانين وإجراءات من نوع غير
معهود تحتاج إلي شرح وتبرير. وربما كان الأهم من هذا وذاك أن
النظام الجديد استولي علي الحكم بالقوة، واستغني عن البرلمان
والانتخابات، وأحل حكم الرجل الواحد محل حكم حزب من الأحزاب، ولا
يريد أن يتخلي عن سلطاته طالما كان هذا ممكناً، وهذا يحتاج إلي
تبرير ودعاية، ولابد من العثور علي «مثقفين» يقومون بهذه المهام.
***
ظلت مهمة المثقفين نظيفة نسبياً في السنتين الأوليين من عمر
الثورة، ولم تبدأ تتعرض للفساد بدرجة ملحوظة إلا مع بداية
الانقسام بين رجال الثورة في ١٩٥٤، فقد حما المثقفين المصريين في
السنوات الأولي عدة أمور. كان النظام الجديد في السنوات الأولي
يتمتع بتأييد شامل وحماس منقطع النظير مما سمح للنظام بأن يستعين
بمثقفين علي أعلي مستوي من النزاهة الشخصية، ومستعدين للدفاع عن
الثورة وتبرير أعمالها وقوانينها عن اقتناع كامل.
كانت هذه هي فترة استعانة الثورة بمثقفين كبار من نوع السنهوري
وسليمان حافظ لوضع قوانين جديدة، أو من نوع إسماعيل القباني
ومحمد عوض محمد لتولي وزارة التعليم، أو فتحي رضوان لتولي أمور
الثقافة (وزارة الإرشاد القومي وقتها) أو علي الجريتلي لتولي
وزارة الاقتصاد...إلخ. ولكن سرعان ما تبين لرجال الثورة من
ناحية، وللمثقفين من ناحية أخري، أن النظام الجديد في حاجة إلي
نوع آخر من المثقفين.
نعم، لقد استمر حماس الناس للثورة حتي بعد الانقسام الذي حدث بين
عبدالناصر ومحمد نجيب، وإن كان هذا الانقسام قد أفقد الثورة بعض
أنصارها. بل زاد الحماس بتأميم قناة السويس واتحاد مصر وسوريا
واكتسبت الثورة أنصارًا جددًا بتأميمات ١٩٦١. ولكن هذه
الانتصارات نفسها قوّت النزعة الديكتاتورية في الحكم وفتحت شهية
الحاكم للمزيد من السيطرة ولابد أنها أيضًا لعبت برأسه وجعلته
أكثر استجابة لمحاولات التقرب من السلطة التي يجيدها، نوع آخر من
المثقفين، سرعان ما تكاثروا عندما لاحظوا استجابة النظام لهم.
المدهش أنه في نفس هذه الفترة اتخذ عبدالناصر إجراءات في غاية
القسوة ضد الشيوعيين المصريين الذين كان من بينهم بعض كبار
المثقفين والفنانين الموهوبين. فلسبب ما فضل عبدالناصر أن يؤمم
الشركات ويتخذ إجراءات إعادة توزيع الدخل وإنصاف العمال وإشراكهم
في الإدارة في غياب الاشتراكيين والشيوعيين، إذ أودع كثيرين منهم
السجن، حيث تعرض بعضهم للتعذيب، ولم ينج منهم إلا من هرب إلي
خارج مصر.
فضَّل عبدالناصر أن يطبق الاشتراكية بدون اشتراكيين، ومن ثم كان
لابد أن يظهر علي سطح الحياة الثقافية في أواخر الخمسينيات
وأوائل الستينيات نوع من المثقفين الذين يتظاهرون بالإيمان
بالمبادئ التي أعلنها النظام دون أن يؤمنوا بها حقيقة، يجيدون
إلقاء الخطب أو تأليف الكتب بل والأغاني في مدح الاشتراكية
العربية، والحياد الإيجابي والقومية العربية، وفي ذم الاستعمار
ورفض السيطرة الأجنبية، لمجرد التقرب من السلطة.
كان أصحاب السلطة يعرفون تمام المعرفة، طبيعة هؤلاء الرجال
وأغراضهم، ولكنهم كانوا يفضلونهم لهذا السبب بالضبط. إنهم رجال
بلا مبادئ وبلا تاريخ، ومن ثم يمكن الاعتماد عليهم اعتمادًا كليا
لتنفيذ كل ما يطلب منهم.
لاشك أن هذا النوع من المثقفين موجود في أي بلد من البلاد، وكان
موجودًا بالطبع قبل الثورة كما كان موجودًا بعدها، ولكن لاشك
أيضًا أن المناخ السياسي الذي ساد في مصر ابتداء من منتصف
الخمسينيات، وعلي الأخص منذ بداية الستينيات، قد شجع هؤلاء علي
الظهور وفجّر مواهبهم الدفينة وبعث فيهم النشاط والحيوية.
كان بعض هؤلاء معروفًا للجميع بقلة النزاهة والانتهازية، ولكن
كثيرين منهم لم يكتشف معدنه الحقيقي إلا عندما تغيرت سياسة
النظام تغيرًا تامًا فيما بين الستينيات والسبعينيات، فإذا
بهؤلاء يظلون قريبين من الممسكين بالسلطة في السبعينيات مثلما
كانوا في الستينيات، واتضح أن لديهم من المزايا ما لابد أن يعجب
أي حاكم.
كانت هذه هي الفترة (٥٨ - ١٩٦٤) التي انزوي فيها عدد من المثقفين
الكبار، رأوا أن المناخ لم يعد يناسبهم فنأوا بأنفسهم عن
المشاركة فيه (كنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم في الأدب والمسرح،
وإحسان عبد القدوس في الصحافة) ولكن كانت هي أيضًا الفترة التي
لمعت فيها نجوم جديدة من المثقفين المصريين من أصحاب المواهب
الحقيقية، ومن المتعاطفين تعاطفًا تاماً، في نفس الوقت مع
النظام، (من أمثال يوسف إدريس في الأدب ونعمان عاشور في المسرح
وأحمد بهاء الدين في الصحافة وصلاح جاهين في الشعر العامي
والكاريكاتير والأغنية، وصلاح عبد الصبور وأحمد حجازي في
الشعر...إلخ)
وانضم إلي هؤلاء طائفة كبيرة من المثقفين الماركسيين بعد إطلاق
سراحهم في ١٩٦٤، وتوليهم مسؤوليات مهمة في مؤسسات لنشر الكتب
والسينما والمسرح ( كعبدالعظيم أنيس، وإسماعيل صبري عبدالله،
ومحمود العالم، ومحمد سيد أحمد...إلخ).
ولكن جاءت هزيمة ١٩٦٧ فخبا ضوء كل هذه النجوم القديمة والجديدة،
إذ لزم بعضهم الصمت حزنًا ويأسًا، وهاجر بعضهم إلي دول الخليج أو
أوروبا، ومن استمر منهم في الكتابة كتب بنفس مسدودة، أو تحول من
كتابة القصة إلي كتابة المقال (كيوسف إدريس) أو من كتابة الشعر
إلي تولي وظيفة إدارية (كصلاح عبدالصبور).
واستمرت هذه الفترة الكئيبة نحو ثماني سنوات (٦٧ - ١٩٧٥)، دخلت
مصر بعدها مرحلة جديدة شعاراتها الانفتاح والتصالح مع إسرائيل
والابتعاد عن العرب والارتباط الوثيق بالولايات المتحدة، فإذا
بالمناخ الثقافي تبعث فيه الحيوية من جديد، ولكنها حيوية يشوبها
نوع جديد من الفساد.
الجزء التاسع
أدي التحول الذي جري في عهد السادات في السياسة الاقتصادية
والعربية والخارجية إلي انقسام المثقفين المصريين إلي ثلاثة
أقسام، كان هناك من المثقفين من وجد بغيته فيما أحدثه السادات من
انفتاح علي الغرب وتصالح مع إسرائيل.
فهؤلاء لم يتعاطفوا مع عبدالناصر قط، في إغلاقه الأبواب في وجه
منتجات الغرب من السلع والثقافة، ولا تحمسوا لانتصاره للقضية
الفلسطينية، ولا شعروا بانتساب قوي للعروبة، بل فضّلوا أن تلتفت
مصر لحالها وتصلح أمورها وتنفق أموالها في تنمية اقتصادها. كان
علي رأس هؤلاء بعض المثقفين الكبار الذين لزموا الصمت طوال عهد
عبدالناصر أو كتبوا قصصاً رمزية أو مقالات في خارج الموضوع طلباً
للأمان.
فلما مات عبدالناصر كتبوا ما معناه أنه طوال عهده كانوا «فاقدي
الوعي» والآن عاد وعيهم إليهم، أو رفعوا شعار «مصر أولاً» ونشط
بعضهم في الكتابة للمسرح بعد حرمان طويل، أو ساعدوا السادات في
كتابة سيرته الذاتية ورافقوه في نزهاته، وارتاح السادات إلي
مجلسهم بعد ما عاناه في ظل عبدالناصر من كبت طويل.
هؤلاء لم يخونوا أنفسهم ولم يتنكروا لماضيهم، فما أقل ما كتبوه
لتأييد عبدالناصر، وعندما فعلوا ذلك كان من الواضح للجميع أنهم
فعلوه خوفاً من بطش عبدالناصر لا حباً فيه.
ولكن هناك قسماً آخر من المثقفين لم يتنكروا بدورهم لماضيهم، ولم
يخونوا أنفسهم، إذ استمروا يدافعون عن سياسات عبدالناصر بعد
موته، واشتبكوا مع الساداتيين في عراك عنيف، سمح به السادات
سنوات طويلة بما أتاحه من حريات لم تكن متاحة من قبل.
فاشتبك الاقتصاديون المنادون بحماية الاقتصاد مع الاقتصاديين
الموالين للسادات في مؤتمرات سنوية حامية، واشتبك المعارضون
للصلح مع إسرائيل مع من رفعوا شعار السلام وأيدوا زيارة السادات
للقدس، ووقف المؤمنون بالقومية العربية يهاجمون اتجاه السادات
الجديد للتقليل من شأن الدول العربية الأخري بل الاستهزاء بها،
وأزعجهم بشدة ما أبداه السادات من انهيار نفسي أمام الولايات
المتحدة وما أبداه من استعداد لتلبية كل طلباتها.
هكذا شهدت جريدة «الأهالي»، التي بدأت في الصدور في عهد السادات،
أمجد أيامها تحت رئاسة رجال من نوع محمد عودة وحسين عبدالرازق،
وقرأنا فيها مقالات رائعة لكتاب موهوبين ومعارضين للسادات
كعبدالعظيم أنيس وصلاح عيسي وفيليب جلاب، ونشرت جريدة «الشعب»
(التي بدأت في الصدور أيضاً في عهد السادات) مقالات ممتازة،
شكلاً وموضوعاً لرجال مثل فتحي رضوان وحلمي مراد، واحتفظت «روز
اليوسف» باستقلالها فنشرت أيضاً مقالات ضد سياسة السادات.
بل استمر كتاب مرموقون يكتبون في الجرائد والمجلات المعبرة عن
سياسة الحكومة، مقالات ضد هذه السياسة، مثل أحمد بهاء الدين
وصلاح حافظ...إلخ، هؤلاء جميعاً لم يتنكروا لشيء كتبوه في عهد
عبدالناصر، ولم يخونوا اعتقادهم بضرورة العمل من أجل الاستقلال
الوطني، اقتصادياً وسياسياً، ومن أجل تحقيق آمال الفلسطينيين،
وضم صفوف العرب.
ولكن كان هناك أيضاً ذلك النوع الثالث من المثقفين المستعدين
للعمل في ظل أي عهد تحقيقاً لمكاسب خاصة، وهؤلاء، وإن كانوا
موجودين بالطبع في عهد عبدالناصر أيضاً، فقد تكاثروا في عهد
السادات، عندما وجدوا المكاسب أكبر وأشد جاذبية، بما أتاحه
الانفتاح من فرص لم تكن موجودة من قبل، للانغماس في الترف
والتمتع بالحياة.
هكذا وجدنا ماركسياً قديماً وناصرياً متحمساً يكتب في محاولة
التنظير «لمدرسة السادات السياسية» بعد أن كان في عهد عبدالناصر
رئيساً لتحرير مجلة شهرية تدافع عن عكس ذلك بالضبط. ووجدنا
اقتصاديين سبق لهم تأليف كتب في مدح الاشتراكية العربية يكتبون
المقالات في مدح الانفتاح، وأساتذة جامعيين كانوا أعضاء نشطين في
منظمة الشباب التي أنشأها عبدالناصر لترسيخ الإيمان بالاشتراكية
بين الشباب، يعرضون خدماتهم علي السادات للدفاع عن سياسته، أو
كانوا من قبل يدافعون عن حقوق الفلسطينيين، ثم فوجئوا بزيارة
السادات للقدس في ١٩٧٧ وتصالحه مع الإسرائيليين إلي حد إلقائه
خطاباً في الكنيست، فاحتاروا فيما يفعلون، وأخذ بعضهم يكتب
مقالات يمكن أن تفسر علي أنها مع الزيارة، وكذلك علي أنها ضدها،
وفضّل أحدهم أن يكتب مقالاً ذكر فيه أن لزيارة السادات لإسرائيل
عشر مزايا وعشرة عيوب.
مع كل هذا اتسمت الحياة الثقافية في عهد السادات بالحيوية وشدة
الجدل بين الآراء المختلفة، واستمرت هذه الحيوية خلال السنوات
الأولي من عهد مبارك، وأظن أن سبب هذه الحيوية هو أن الأمل كان
لايزال قائماً في إعادة الأمور إلي نصابها، وإجبار النظام علي
النكوص عن الردة التي اتخذها السادات في السياسة الاقتصادية وفي
علاقاته الخارجية والعربية ومع إسرائيل، وكأن طائفة كبيرة من
المثقفين المصريين لم يصدقوا أن من الممكن أن تنقلب السياسة
المصرية علي هذا النحو رأساً علي عقب، فاستمروا يدافعون عن
السياسات التي دشنها عبدالناصر حتي وضعهم السادات جميعاً في
السجن في سبتمبر ١٩٨١.
***
بعد فترة قصيرة من التفاؤل في أوائل عهد مبارك أصاب الكثيرين من
المثقفين المصريين شعور بالإحباط زادت قوته شيئاً فشيئاً خلال
العشرين سنة الأخيرة، ولكن اتسم عهد مبارك أيضاً ببعض السمات
التي سمحت لصور جديدة من الفساد بأن تترعرع بين المثقفين.
فمن ناحية، ظهر مع مرور سنة بعد أخري أن سياسة العهد الجديد لن
تختلف في أي شيء مهم عن السياسة التي دشنها السادات، سواء في
الاقتصاد أو في العلاقة مع العرب أو مع الولايات المتحدة أو
إسرائيل. نعم، كانت اللهجة أهدأ، واختفت النبرة الحادة التي اتسم
بها أسلوب السادات، والتي كانت تلائم تدشين سياسة جديدة،
أما الآن فكل شيء يسير في نفس الطريق دون تشنج ودون صياح.
الانفتاح مستمر، بل بدرجة أكثر فجاجة ولكن دون محاولة للتبرير أو
الدفاع. وإهمال القطاع العام ثم بيعه يسير بمعدل أسرع ولكن في
صمت. والعلاقة مع البلاد العربية الأخري بقيت فاترة ولكن دون
توجيه الإهانات. والتبعية للولايات المتحدة استمرت واقترنت
بإذلال أكبر ومهانة أشد، ولكن دون تسمية الساسة الأمريكيين
بالأصدقاء، كما كان يفعل السادات، ودون مبالغة في الاحتفاء بهم.
أما إسرائيل فظلت طلباتها مجابة، وعقدت معها اتفاقيات اقتصادية
بالغة الأهمية، وتمهد الطريق لتبعية الاقتصاد المصري لها، ولكن
هذه الاتفاقيات تعقد بسرعة ودون مناقشة، وكأنها اتفاقيات سرية،
ويتم توطيد العلاقات بين مصر وإسرائيل دون أن تتم زيارة من
الرئيس المصري لإسرائيل تطبل لها وسائل الإعلام وتزمر.
في مناخ كهذا كان لابد أن يسود اليأس من حدوث التغيير المأمول.
وفي ظل هذه الدرجة من اليأس يبرز نوع جديد من المثقفين القناصين
للفرص، يائسون هم أيضاً كغيرهم، فيما يتعلق بالمستقبل المصري،
ولكنهم أبعد ما يكونون عن اليأس فيما يتعلق بتحسين أحوالهم
الشخصية. فحين يختفي مشروع للنهضة يوحد الجميع ويمنح فرصة
للموهوبين من المثقفين للتألق، لا يبقي إلا المشروعات الخاصة
التي تجلب للمثقف وأسرته الثراء وبحبوحة العيش. بعبارة أخري: إذا
كانت الموهبة لم تعد مطلوبة لتحقيق نهضة الأمة، فلا مفر من
توجيهها لتحقيق الثراء.
ولكن هذا الغياب لمشروع للنهضة يثير الحماس بين الناس ويوحدهم،
لم يكن العامل الوحيد لإفساد المناخ الثقافي في مصر. فقد تضافر
هذا مع عوامل أخري خلال العشرين عاماً الأخيرة لإحداث مزيد من
التدهور.
ففي الوقت الذي ضعفت فيه الآمال في حدوث نهضة عامة، زاد انفتاح
مصر علي العالم، فتدفقت عليها السلع والاستثمارات الأجنبية،
وانفتح بشدة الإعلام المصري علي المؤثرات الاقتصادية والاجتماعية
الخارجية، من إعلانات عن السلع إلي التعرف علي أنماط جديدة
للمعيشة أعلي بكثير من المتاح في مصر. سال لعاب الناس في مصر،
خلال العقدين الماضيين (بما في ذلك لعاب المثقفين) شوقاً للوصول
إلي هذه المستويات العالية من المعيشة، مما قوي الدافع إلي
الخروج علي مقتضيات الواجب والأخلاق. وإذ حدث هذا في ظل تراخي
معدل النمو الاقتصادي، وإنكماش فرص الهجرة إلي الخليج، أصبح
التنافس يجري علي نصيب أكبر من كعكة ثابتة الحجم (أو تكاد أن
تكون ثابتة الحجم)، مما يقوي بدوره الدافع إلي الفساد.
يمكن التعبير عن ذلك بشكل آخر، بالإشارة إلي تأثير ارتفاع معدل
«العولمة» علي مجتمع ضعيف الهمة، فاقد البوصلة، ينمو اقتصاده
ببطء، مع تعريض الناس لإغراءات أكبر. لابد في مثل هذا المناخ أن
ينمو الفساد، بما في ذلك الفساد بين صفوف المثقفين، بل ليس من
المستغرب أيضاً أن يتسرب الفساد إلي الخطاب الديني نفسه، شكلاً
ومضموناً.
هكذا رأينا بعض الجالسين علي قمة المؤسسة الدينية يعبرون عن آراء
مدهشة لا يمكن أن يقبلها الدين أو الخلق الكريم، لمجرد التقرب من
الجالسين علي قمة السلطة كالقول بأن مقاطعة الاستفتاء (لصالح
الرئيس طبعاً)، هذه المقاطعة التي دعت إليها بعض عناصر المعارضة
تعبيراً عن رفضها للتزوير، هي بمثابة كتمان للشهادة، وهو مما
ينهي عنه الدين، ومن ثم فالممتنع عن الذهاب إلي الاستفتاء «آثم
قلبه». وذهب آخر إلي أن الشباب الغرقي الذين كانوا يحاولون الهرب
من مصر والالتجاء إلي شواطئ دولة أوروبية أملاً في الحصول علي
فرص للعمل حرموا منها في مصر، لا يمكن اعتبارهم شهداء جزاؤهم
الجنة، بل يؤكد أنهم طماعون جشعون فضلاً عن مخالفتهم قوانين
البلاد التي يحاولون الذهاب إليها.
***
في هذا المناخ يميل بعض أصحاب المواهب الحقيقية من الراغبين في
الإصلاح وتحقيق النهضة إلي الانسحاب أو الانزواء، إن لم يكن
بالموت أو الشيخوخة، فبالقنوط والإحباط. ولكن يميل بعض المثقفين
الموهوبين أيضاً إلي تغيير موقعهم فتنطفئ موهبتهم بسبب هذا
التغيير، إذ ينشغلون بكتابة أشياء تافهة أو لا تعبر عما يشعرون
به. وينتهز هذه الفرصة أعداد كبيرة من أنصاف الموهوبين أو عديمي
الموهبة فيقفزون لاحتلال مراكز المحررين والكتاب ورئاسة تحرير
الصحف والمجلات المملوكة للحكومة، فيكتبون كلاماً لا معني له،
مما لا يكاد يقرؤه أحد أو يعبأ به أحد، بل إنهم هم أنفسهم لا
يعبأون برأي الناس فيهم، إذ إنهم في الحقيقة لا يوجهون كلامهم
إلا للممسكين بالسلطة، يريدون به تأكيد ولائهم، واستحقاقهم
لمناصبهم.
|