بسم الله الرحمن الرحيم
دراسة عقدية في إبليس
تعريف إبليس والفرق بينه وبين الجن والشياطين :
تعريف إبليس :
لغة :
أبلس الرجل إبلاساً فهو مبلس إذا قطع به وسكت وتحير .
وأبلس من رحمة الله أي يئس وندم وحزن يقال : أُبلِسَ من رحمة الله أي أُويس
ومنه قوله تعالى : " ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون " أي ييأسون من كل
خير ؛ وذلك لأنهم ما قدموا لذلك اليوم إلا الإجرام .
والبلس : من لا خير عنده .
والإبلاس : هو الانقطاع والسكوت مع الحيرة والندم والقنوط واليأس
ولهذا سمي إبليس بهذا الاسم لانقطاع حجته وحيرته ويأسه من رحمة الله تعالى إذ لا خير عنده .
وقيل : سمي بهذا الاسم لأنه لما أويس من رحمة الله أبلس يأساً أي سكت وانقطع يأساً .
روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : " إبليس أبلسه الله من الخير كله وجعله شيطاناً رجيماً عقوبة لمعصيته" .
وقال ابن كثير : " فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله : أي أيسه من الخير كله وجعله شيطاناً رجيماً عقوبة لمعصيته . ترك السجود فلهذا أبلس من الرحمة : أي أويس من الرحمة فأبعده
الله جل وعلا وأرغم أنفه وطرد من باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه إبليس إعلاماً له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموماً مدحوراً .
وجاء عند البعض أنه لم يسمى إبليس إلا بعد المعصية أما قبل المعصية وامتناعه عن السجود فقد ذكرت بعض الآثار غير الثابتة ، غير الثابتة ، أن اسمه كان الحارث وفي بعضها عزازيل وفي أخرى نائل وفي رابعة الحكم وخامسة يافل
وفي بعض الآثار يكنى مرة وفي بعض آخر أبا كدوس وأبا الكروبيين
والحق أنه لم يثبت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم شيء من تلك الأسماء والكنى فوجب الوقوف عند النص .
وإبليس اسم أعجمي غير مشتق عند الأكثر فلا ينصرف للعجمة والتعريف . هي كلمة معربة جمعها أبالسة وأباليس .
وقيل هو عربي وزنه إفعيل مشتق من أبلس إذا أيس لم ينصرف للتعريف ولأنهلا نظير له في الأسماء فشبه بالأسماء الأعجمية .
اصطلاحاً :
إبليس اسم علم على عدو الله تعالى الذي خلقه من نار وأمره بالسجود لآدم عليه السلام إكراماً له وتشريفاً فأبى إبليس أن يسجد لآدم واستكبر فلعنه الله وطرده وأنظر إلى يوم الوقت المعلوم .
ولهذا يمكن أن يعرف إبليس بأنه أبو الجن المنظر إلى يوم الدين .
تعريف الجن
جَنَ الشيء يَجُنُّه جَنّاً : ستره . وكل شيء ستر عنك فقد جُنَّ عنك .
وأجنة ستره وبه سمي الجن لاستتارهم واختفائهم عن الأبصار .
قال الجوهري : والجن خلاف الإنس والواحد جني يقال سُميت بذلك لأنها تتقي ولا ترى .
والجن : ولد الجان الذي هو إبليس وهم نوع من العالم سموا بذلك لاجتنانهم عن الأبصار : ولأنهم استجنوا من الناس فلا يرون وهم الجنة .
والجن عالم آخر غير عالم الملائكة والإنس : خلقهم الله تعالى من نار يرون الإنس في حال لا يراهم الإنس فيها وهم مشاركون للإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم إلا أنهم ليسوا مماثلين في الحد والحقيقة فلا يكون ما أمروا به ونهوا عنه مساوياً لما على الإنس في الحد فهم مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم .
تعريف الشيطان :
الشطن : الحبل وقيل الحبل الطويل شديد الفتل والجمع أشطان ، والشطون من الآبار التي تنزع بحبلين من جانبيها وهي متسعة الأعلى ضيقة الأسفل .
يقال : بئر شطون : أي ملتوية عوجاء بعيدة القعر وحرب شطون : عسرة شديدة
وشطن عنه : بعد
وأشطنه : أبعده
والشاطن : البعيد عن الحق
والشيطان فيعال من شطن إذا بعد .
وقيل : الشيطان فعلان من شاط يشيط إذا هلك واحترق مثل هيمان وغيمان من هام وغام .
ويقال استشاط غضباً : إذا احتد في غضبه والتهب .
وكلمة الشيطان فيها للعلماء قولين :
الأول : إن النون أصلية فيكون من الشطن وهو البعد فالشيطان بعد عن الخير أو من الحبل الطويل أي أنه طال في الشر .
الثاني : النون زائدة فيكون من شاط يشيط إذا هلك أو من استشاط إذا احتد والتهب .
وقد رجح الطبري الأول .
وقال ابن كثير : " الشيطان في الغة العرب مشتق من شطن إذا بعد فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر وبعيد بفسقه عن كل خير ".
وقيل مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار .
ومنهم من يقول : كلاهما صحيح في المعنى ولكن الأول أصح وعليه يدل كلام العرب .
وقال سيبويه : العرب تقول : تشيطن فلان إذا فعل فِعل الشياطين
ولو كان من شاط لقالوا : تشيط فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح ولهذا يسمون كل من تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطان .
فكلمة شيطان على هذا عربية فصيحة خلافاً لمن زعم غير ذلك .
إطلاق لفظ الشيطان على كل متمرد
قال بعض المفسرين : إن جميع الشياطين أولاد إبليس إلا أن الذي يوسوس للإنس يسمى شيطان الإنس والذي يوسوس للجن يسمى شيطان الجن .
وهذا القول فيه نظر والحق أن لفظ الشيطان يطلق على كل متمرد من الإنس والجن والدواب وهذا ما ذلت عليه النصوص الشرعية فيطلق الشيطان على إبليس لبعده عن الحق وتمرده عليه قال تعالى : " فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه "
والمراد بالشيطان هنا إبليس
أما إطلاق لفظ الشيطان على كل متمرد من الإنس والجن فدل عليه قوله تعالى : " وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً "
قال الطبري في تفسير هذه الآية : " معنى به أنه جعل مردة الإنس والجن لكل نبي عدواً يوحي بعضهم إلى بعض من القول ما يؤذيهم به .
وقال في موضع آخر : والشيطان في كلام العرب كل متمرد من الجن والإنس والدواب وكل شيء وكذلك قال ربنا جل ثناؤه : " وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن " فجعل من الإنس شياطين مثل الذي جعل من الجن .
ومن السنة ما رواه أبو ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن " فقلت : أو للإنس شياطين ؟ قال : " نعم " .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتبع حمامة فقال : " شيطان يتبع شيطانة "
أما إطلاق لفظ الشيطان على المتمرد من الحيوان فيدل عليه ما رواه عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخر الرحل فإن لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود ".
قلت يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر ؟ قال : يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال : " الكلب الأسود شيطان " .
فالكلب الأسود شيطان الكلاب كما أن الجن تتصور بصورته كثيراً
قال أبو جعفر الطبري : وإنما سمي المتمرد من كل شيء شيطاناً لمفارقته أخلاقه وأفعاله أخلاق سائر جنسه وأفعاله وبعده عن الخير .
وقال ابن كثير : فالصحيح ما تقدم من حديث أبي ذر أن للإنس شياطين منهم وشيطان كل شيء مارده ولهذا جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الكلب الأسود شيطان "
ومعناه والله أعلم : شيطان في الكلاب .
ونقل الطبري وغيره عن بعض المفسرين أنهم قالوا : " إن من الجن شياطين ومن الإنس شياطين وإن شيطان الجن إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليعينه عليه .
وأورد القرطبي عن مالك بن دينار أنه قال : شياطين الإنس تغلب شياطين الجن إن شيطان الإنس أشد عليّ من شيطان الجن لأني إذا تعوذت بالله ذهب شيطان الجن عني وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عياناً .
الفرق بين إبليس والجن والشياطين
اختلف العلماء في علاقة إبليس بالجن والشياطين على ثلاثة أقوال هي :
الأول : أن إبليس هو أبو الجن مؤمنهم وكافرهم ، وكفارهم هم الشياطين وعلى هذا فإبليس هو أصل الجن والشياطين ومصدرهم .
الثاني : أن إبليس هو أبو الشياطين وأصلهم أما الجن فإن أصلهم هو الجان الوارد ذكره في قوله تعالى
(( والجان خلقناه من قبل من نار السموم ))
الثالث : أن إبليس ليس هو أبا للجن ولا للشياطين وإنما هو واحد من الجن بدليل قوله تعالى : (( إلا إبليس كان من الجن ))
قال بدر الدين العيني : " اختلف في أصلهم فعن الحسن أن الجن ولد إبليس ومنهم المؤمن والكافر ، والكافر يسمى شيطان .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : هم ولد الجان وليسوا شياطين منهم الكافر والمؤمن وهم يموتون والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس وقد روي عن ابن عباس أن الجان في الآية هو إبليس .
ولعل الراجح هو القول الأول : فإن الجان في قوله تعالى : " والجان خلقناه من قبل من نار السموم " ،، هو إبليس على الصحيح .
قال الطبري في تفسير الآية : وعنى بالجان ههنا إبليس أبا الجن يقول تعالى ذكره وإبليس خلقناه من قبل الإنسان من نار السموم " .
وعن الحسن البصري قال : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنسان .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولم يكن في المأمورين بالسجود أحد من الشياطين لكن أبوهم إبليس هو كان مأموراً فامتنع وعصى .
وفي موضع آخر قال : وأيضاً فإبليس الذي هو أبو الجن لم يكن معصيته تكذيباً .
وقال أيضاً : والشياطين هم مردة الإنس والجن وجميع الجن ولد إبليس .
وقد جزم ابن القيم بأن إبليس أبو الجن في أكثر من موضع .
وقال ابن حجر في حديثه عن الجن : فقد اختلف في أصلهم فقيل إن أصلهم من ولد إبليس فمن كان منهم كافراً سمي شيطاناً .
وقيل : إن الشياطين خاصة أولاد إبليس وما عداهم ليسوا من ولده .
ثم رجح أن أصلهم من ولد إبليس وأن الشياطين والجن لمسمى واحد وإنما صارا صنفين باعتبار الكفر والإيمان فلا يقال لمن آمن منهم إنه شيطان .
وقال الرازي : والأصح أن الشيطان قسم من الجن فكل من كان منهم مؤمناً فإنه لا يسمى بالشيطان ، وكل من كان منهم كافلااً يسمى بهذا الاسم . وممن رجح ذلك أيضاً السعدي رحمه الله في تفسيره .
مادة خلقه
خلق الله سبحانه وتعالى إبليس من نار وقد دل على ذلك القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة .
فمن القرآن الكريم .
قوله تعالى : " قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين "
وقال تعالى : " والجان خلقناه من قبل من نار السموم " .
قال أبو جعفر الطبري : " واختلف أهل التأويل في معنى نار السموم فقال بعضهم هي السموم الحار التي تقتل ونسب هذا القول إلى ابن عباس رضي الله عنهما ثم قال : وقال آخرون : يعني بذلك من لهب النار ونسبه إلى الضحاك وغيره وقال بعضهم : الحرور بالنهار والسموم بالليل .
وقال عبد الرحمن بن سعدي : " من نار السموم " أي من النار الشديدة الحرارة .
قال تعالى : " وخلق الجان من مارج من نار "
أي من طرف لهبها وخالصها كما روى ذلك ابن كثير عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم .
وروى البغوي عن مجاهد أنه قال : هو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت .
أما من السنة النبوية :
فقول النبي صلى الله عليه وسلم : " خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم " .
ومعنى " خلق الجان من مارج من نار " أي من نار مختلطة بهواء مشتعل والمرج الاختلاط فهو من عنصرين هواء ونار كما أن آدم من عنصرين تراب وماء عجن به فحدث له اسم الطين كما حدث للجن اسم المارج .
أصل إبليس :
اختلف العلماء في أصل إبليس وهل هو من الملائكة أو من الجن ؟ على قولين :
القول الأول :
إن إبليس من الجن وليس من الملائكة .
القول الثاني :
إنه من الملائكة فلما استكبر وأبى عن السجود لآدم عليه السلام أُبلس من الخير وصار شيطاناً .
الراجح هو: القول الأول ، الذي يقول إن إبليس من الجن وليس من الملائكة ودليل ذلك ما يلي :
1- إخبار الله تعالى في كتابه الكريم بأنه خلق إبليس من نار .
قال تعالى : " قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين "
وثبت في السنة قوله صلى الله عليه وسلم إن الملائكة خلقت من نور
( خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار ) فدل ذلك على اختلاف أصليهما إذ في حديث واحد فرق الرسول صلى الله عليه وسلم بين المادة التي خلقت منها الملائكة وهي النور والمادة التي خلق منها الجان وهي مارج من نار .
2- أخبر الله تعالى بنص القرآن الكريم أن إبليس من الجن قال تعالى : " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه "
فالآية صريحة الدلالة على أن إبليس من الجن فلا يجوز أن ينسب إلى غير ما نسبه الله إليه .
3- أخبر الله تعالى عن الملائكة بأنهم معصومون ووصفهم بأنهم (( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون "
وأنهم " لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون "
ففي هذه الآيات نفى الله تعالى عن الملائكة المعصية نفياً تاماً أما إبليس فإنه خالف أمر الله تعالى وعصى وامتنع عن السجود لآدم عليه السلام فدل ذلك على أن إبليس ليس من الملائكة .
4- أن الملائكة لا ذرية لهم لأن الذرية إنما تحصل من الذكر والأنثى وقد نفى الله عن الملائكة أن يكونوا إناثاً كما قال تعالى : " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون " فهذه الآية وصفت الملائكة بأنهم عباد الله ليسوا ذكور وليسو إناث بل هم عباد الله وبتالي لا ذرية لهم .
أما إبليس فإن له ذرية بدليل قوله تعالى : " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني "
فهذا صريح في إثبات الذرية له .
5- أن الملائكة رسل قال تعالى : " الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً "
ورسل الله معصومون لقوله تعالى : " الله أعلم حيث يجعل رسالته "
فلما لم يكن إبليس كذلك وجب ألا يكون من الملائكة .
حقيقة سجود الملائكة لآدم عليه السلام
لا شك أن سجود الملائكة لآدم ليس سجود عبادة لأن سجود العبادة لغير الله شرك بالله تعالى .
واختلف في حقيقة ذلك السجود على ثلاثة أقوال :
الأول :
أنه سجود تحية وسلام وإكرام وتعظيم .
الثاني :
أن السجود كان لله تعالى وآدم مجرد قبلة قالته المعتزلة وغيرهم .
الثالث :
أن المراد بذلك السجود هو الانقياد والخضوع لا حقيقة السجود والانحناء .
الراجح :
الأول : وهو أن السجدة كانت لآدم عليه السلام تعظيماً له وتحية كالسلام منهم عليه .
قال أبو جعفر الطبري : وكان سجود الملائكة لآدم تكرمة وطاعة لله لا عبادة لآدم .
وقال ابن تيمية : فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة له وقربة يتقربون بها إليه وهو لآدم تشريف وتكريم وتعظيم وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام ألا ترى أن يوسف لو سجد لأبويه تحية لم يكره له .
فسجود الملائكة لآدم كان سجود تشريف وتكريم لا سجود عبادة وقد كان السجود تحية مشروعة في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا كما قال تعالى : ( ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً وقال يا أبت هذا تأويل رءياي من قبل قد جعلها ربي حقاً ) .
فكانت تحية الناس يومئذ سجود بعضهم لبعض .
امتناع إبليس عن الامتثال لأمر الله تعالى بالسجود لآدم عليه السلام :
سبب امتناعه :
ورد في آيات من كتاب الله تعالى أنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام وكان هذا الأمر قبل أن يسوي الله خلقه وينفخ فيه من روحه .
بدليل قوله تعالى : " إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " .
امتثل الملائكة لأمر الله تعالى بالسجود لآدم عليه السلام إلا إبليس فإنه أبى وامتنع عن السجود وكانت شبهته وحجته في ذلك أنه خير من آدم لأنه خلق من نار وآدم خلق من طين .
قال تعالى " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " .
قال ابن كثير : وقول إبليس لعنه الله ( أنا خير منه ) من العذر الذي هو أكبر من الذنب ، يعني لعنه الله وأنا خير منه فكيف تأمرني بالسجود له ثم بين أنه خير منه بأنه خلق من نار والنار أشرف مما خلقته منه وهو الطين فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم ينظر إلى التشريف العظيم وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه .
وقال عبد الرحمن بن سعدي : امتنع عن السجود واستكبر عن أمر الله ... إباء منه واستكباراً نتيجة الكفر الذي هو منطو عليه فتبينت حينئذ عداوته لله ولآدم وكفره واستكباره أبى أن يسجد له تكبراً عليه وإعجاباً بنفسه فوبخه الله على ذلك وقال : " ما منعك ألا تسجد لما خلقت بيدي " .
فإبليس قاس نفسه على أصله وهو النار وقاس آدم على أصله وهو الطين ثم زعم أن النار خير من الطين وبالتالي يكون هو خيراً من آدم على حد زعمه وهو قياس فاسد لأنه معارض لكلام رب العالمين .
فساد قياس إبليس :
حجة إبليس في امتناعه عن السجود بقوله : " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين "
حجة باطلة لأنه عارض النص بالقياس ولهذا قال الحسن البصري في تفسير هذه الآية قاس إبليس وهو أول من قاس .
وقال ابن سيرين : أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس .
فهو قاس قياساً فاسداً في مقابلة نص قوله تعالى : " فقعوا له ساجدين "
فشذ من بين الملائكة لترك السجود فأخطأ قبحه الله في قياسه ودعواه أن النار أشرف من الطين .
قال ابن سعدي : وهذا القياس من أفسد الأقيسة .
وهوباطل من وجوه :
1- أن الطين من شأنه الرزانة والحلم والثبات والأناة ولهذا نفع آدم عنصره بالرجوع والإنابة والانقياد والاستسلام لأمر الله تعالى وطلب التوبة والمغفرة .
أما النار فمن شأنها الإحراق والطيش والحدة والاضطراب ولهذا خان إبليس عنصره فأبى واستكبر وشقي .
2- أن النار طبعها الفساد وإتلاف ما تعلقت به بخلاف التراب
3- أن التراب يتكون فيه ومنه أرزاق الحيوان وأقواتهم ولباس العباد وزينتهم وآلات معاشهم ومساكنهم
والنار لا يتكون فيها شيء من ذلك .
4- أن التراب ضروري للإنسان والحيوان فالحيوان لا يستغني عنه البتة ولا عما يتكون فيه ومنه .
والنار يستغني عنها الحيوان وقد يستغني عنها الإنسان الأيام والشهور فلا تدعوه إليها الضرورة .
5- أن التراب إذا وضع فيه القوت أخرجه أضعاف أضعاف ما وضع فيه فمن بركته يؤدي إليك ما تستودعه فيه مضاعفاً .
ولو استودعته النار لخانتك وأكلته ولم تبق ولم تذر .
6- أن الطين قائم بنفسه فلا يحتاج إلى حامل .
أما النار فإنها لا تقوم بنفسها بل هي مفتقرة إلى محل تقوم به يكون حاملاً لها فالطين أكمل منها لغناه وافتقارها
الجنة التي أسكنها الله تعالى آدم عليه السلام :
اختلف العلماء في الجنة التي أسكنها الله تعالى آدم أهي جنة الخلد أم لا ؟
وهل هي جنة في السماء أو من جنات الأرض ؟
والحق أن الجنة التي أسكنها الله تعالى آدم وزوجه هي جنة الخلد لقوله تعالى : " يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة " إلى قوله " اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم غي الأرض مستقر ومتاع إلى حين "
فقد أخبر سبحانه وتعالى أنه أمرهم بالهبوط وأن بعضهم عدو لبعض وأن لهم في الأرض مستقراً ومتاعاً إلى حين وهذا يبين أنهم لم يكونوا في الأرض وإنما أهبطوا إلى الأرض فإنهم لو كانوا في الأرض وانتقلوا إلى أرض أخرى كانتقال موسى من أرض إلى أرض لكان مستقرهم ومتاعهم إلى حين في الأرض قبل الهبوط وبعده .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " والجنة التي أسكنها آدم وزوجه عند سلف الأمة وأهل السنة والجماعة هي جنة الخلد ومن قال إنها جنة في الأرض بأرض الهند أو بأرض جدة أو غير ذلك فهو من المتفلسفة والملحدين أو من إخوانهم المتكلمين المبتدعين فإن هذا يقوله من يقوله من المتفلسفة والمعتزلة .
والكتاب والسنة يرد هذا القول وسلف الأمة وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول والنصوص في ذلك كثيرة وكذلك كلام السلف والأئمة .
قال ابن كثير : والجمهور على أنها هي التي في السماء وهي جنة المأوى لظاهر الآيات والأحاديث كقوله تعالى " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة "
والألف واللام ليست للعموم ولا لمعهود لفظي وإنما تعود على معهود ذهني وهو المستقر شرعاً من جنة المأوى .
هل دخل إبليس الجنة بعد طرده ؟
قال بعض أهل العلم إذا كانت الجنة التي أسكنها الله تعالى آدم وزوجه هي جنة الخلد فكيف تمكن إبليس من دخولها ؟ إذ أزلهما عنها وأخرجهما مما كانا فيه ؟
وأجيب عن ذلك بأجوبة منها :
1- أنه منع من دخول الجنة مكرماً أما على وجه الإهانة فلا يمتنع .
2- كان دخوله مروراً لا استقراراً .
3- يحتمل أنه وسوس لهما وهو واقف على باب الجنة أو خارجها .
4- يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض وهما في السماء .
وظاهر النصوص الشرعية أن إبليس خاطب آدم وزوجه مباشرة حتى أزلهما كما هو ظاهر النص وذلك الدخول ليس إكراماً لإبليس بل على وجه الإهانة وبيان فساد إبليس وحرصه على إغواء آدم عليه السلام وذريته .
والمسائل الغيبية يوقف بها عند النص كما هو معلوم
أما الأخبار الإسرائيلية فما وافق شرعنا ففي شرعنا الكفاية عنه وما خالفه رد ولم يقبل
وما لم يرد في شرعنا ما يوافقه أو يخالفه توقفنا فيه فلا نصدقه ولا نكذبه
وحسبنا ما جاء في شرعنا .
عرش إبليس :
ثبت في الصحيح أن عرش إبليس ومركزه على البحر وأنه يرسل جنوده وسراياه لإضلال بني آدم فعن جابر قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة حتى يجيء أحدهم فيقول : فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئاً قال ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال قيدنيه منه ويقول نعم أنت " قال الأعمش - أحد رواة الحديث - أراه قال فيلتزمه .
وإبليس له خبرة طويلة في مجال الإضلال ولذلك فإنه يجيد وضع خططه ونصب مصائده وأحابيله فهو لم يزل حياً يضل الناس منذ وجد الإنسان إلى اليوم وإلى أن تقوم الساعة .
قال تعالى : " قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم "
إنظار إبليس ثم موته وحكم ذلك :
لما امتنع عدو الله إبليس عن الامتثال لأمر الله تعالى بالسجود لآدم عليه السلام وأبى واستكبر أهبطه الله وجعله من الصاغرين وسأل الله النظرة والإمهال ليتمكن من إغواء من يقدر عليه من بني آدم .
قال تعالى : " قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين قال أنظرني إلى يوم يبعثون "
فهو طلب من الله أن يؤخره فلا يموت إلى يوم أن يبعث الله الخلق من قبورهم ويحشرهم لموقف يوم القيامة .
وقال بعض العلماء : إن إبليس أراد بسؤاله الإنظار إلى يوم يبعثون الأ يموت لأن يوم البعث لا موت فيه ولا بعده .
ولما كانت حكمة الله مقتضية لابتلاء العباد واختبارهم ليتبين الصادق من الكاذب ومن يطيعه ومن يطيع عدوه أجابه لما سأله .
قال تعالى : " قال إنك من المنظرين " والغاية التي أنظره إليها جاءت في قوله تعالى : " قال فإنك من المنظرين إلى يومالوقت المعلوم " .
وأكثر العلماء على أن المراد بالوقت المعلوم أي يوم الوقت المعلوم لهلاك جميع الخلق وذلك حين لا يبقى على الأرض من بني آدم ديار .
وقال بعض المفسرين : المراد بالوقت المعلوم البعث وهو نفخة الصور الثانية .
وقيل الوقت المعلوم الذي استأثر الله بعلمه ويجهله إبليس فيموت إبليس ثم يبعث لقوله تعالى : " كل من عليها فان " .
كيف يعذب إبليس بالنار وهو مخلوق منها ؟
وهذه شبهة وملخصها هي أن الله قضى بأن جزاء إبليس نار جهنم يعذب فيها هو ومن تبعه من شياطين الإنس والجن فكيف يعذب إبليس بالنار وهو مخلوق منها ؟ وكيف يعذب كفرة الجن بالنار وأصلهم منها ؟ وكيف ترمى الشياطين بالشهب ؟
الجواب على هذه الشبهة :
1- أنه ثبت بالنصوص الشرعية أن إبليس خلق من نار وثبت أنه يعذب في النار بدليل قوله تعالى : " لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين "
وقال تعالى : " قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً "
فيجب الإيمان والوقوف مع النص ولا اجتهاد معه .
2- أن الله سبحانه وتعالى أخبر في القرآن الكريم أنه خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون .
قال تعالى : " ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون "
والمراد أم أصل الإنسان كان طيناً وليس الآدمي طيناً حقيقة وكذلك إبليس والجن والشياطين كانوا ناراً في أصل الخلقة وليسوا ناراً بعد ذلك .
3- ما رواه أبو الدرداء قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعناه يقول : " أعوذ بالله منك " ثم قال :" ألعنك بلعنة الله ثلاثاً " وبسط يده كأنه يتناول شيئاً فلما فرغ من الصلاة قلنا يا رسول الله قد سمعناك تقول في الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك . قال :" إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت أعوذ بالله منك ثلاث مرات ثم قلت ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر ثلاث مرات ثم أردت أخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة " .
فلو كان إبليس باقياً على عنصره الناري لما احتاج إلى أن يأتي بشهاب من نار إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولكانت يد إبليس أو شيء من أعضائه كافياً .
قال الخطابي في تعليقه على هذا الحديث : فيه دليل على أن الجن ليسوا باقين على عنصرهم الناري ..... فدل على أن تلك النارية انغمرت في سائر العناصر .
الحكمة من خلق إبليس وجنوده :
الله سبحانه وتعالى حكيم لا يخلق شيئاً عبثاً ولا يفعل لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل .
والله جل وعلا خالق الخير والشر فالشر في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله وخلقه وفعله وقدره خير كله ولهذا تنزه ربنا سبحانه عن الظلم الذي حقيقته وضع الشيء في غير موضعه فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها وذلك خير كله والشر وضع الشيء في غير محله فإذا وضع في محله لم يكن شراً فعلم أن الشر ليس إليه .
ويوم القيامة يخطب ابليس في اهل النار في جهنم خطبة
جاء ذكر ذلك في القرآن
وأخبرنا الله جل وعلا بها فى كتابه الكريم
فى سورة إبراهيم
وأكتفيت بأن أذكر تفسير ابن كثير لهذه الآيات
وعلى من يريد الزيادة فليراجع بقية التفاسير
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)سورة إبرهيم
يخبر تعالى عما خاطب به إبليس أتباعه بعدما قضى الله بين عباده, فأدخل المؤمنين الجنات,
وأسكن الكافرين الدركات, فقام فيهم إبليس لعنه الله يومئذ خطيباً ليزيدهم حزناً إلى حزنهم, وغبناً إلى غبنهم, وحسرة إلى حسرتهم, فقال: {إن الله وعدكم وعد الحق} أي على ألسنة رسله, ووعدكم في اتباعهم النجاة والسلامة, وكان وعداً حقاً وخبراً صدقاً, وأما أنا فوعدتكم فأخلفتكم, كما قال الله تعالى: {يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً},
ثم قال: {وما كان لي عليكم من سلطان} أي ما كان لي دليل فيما دعوتكم إليه ولا حجة فيما وعدتكم به {إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} بمجرد ذلك,
هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به, فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه {فلا تلوموني} اليوم {ولوموا أنفسكم} فإن الذنب لكم لكونكم خالفتم الحجج واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل {ما أنا بمصرخكم} أي بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه,
{وما أنتم بمصرخيّ} أي بنافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال {إني كفرت بما أشركتمون من قبل} قال قتادة: أي بسبب ما أشركتمون من قبل,
وقال ابن جرير: يقول: إني جحدت أن أكون شريكاً لله عز وجل, وهذا الذي قاله هو الراجح, كما قال تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين},
قال: {كلاّ سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً}.
وقوله: {إن الظالمين} أي في إعراضهم عن الحق واتباعهم الباطل, لهم عذاب أليم, والظاهر من سياق الاَية أن هذه الخطبة تكون من إبليس بعد دخولهم النار كما قدمنا,
ولكن قد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم, وهذا لفظه, وابن جرير من رواية عبد الرحمن بن زياد: حدثني دخين الحجري عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«إذا جمع الله الأولين والاَخرين فقضى بينهم ففرغ من القضاء, قال المؤمنون: قد قضى بيننا ربنا, فمن يشفع لنا ؟
فيقولون, انطلقوا بنا إلى آدم, وذكر نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى فيقول عيسى: أدلكم على النبي الأمي, فيأتوني, فيأذن الله لي أن أقوم إليه فيثور من مجلسي من أطيب ريح شمها أحد قط,
حتى آتي ربي فيشفعني ويجعل لي نوراً من شعر رأسي إلى ظفر قدمي,
ثم يقول الكافرون: هذا قد وجد المؤمنون من يشفع لهم, فمن يشفع لنا ؟ ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا, فيأتون إبليس
فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم, فقم أنت فاشفع لنا, فإنك أنت أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمها أحد قط, ثم يعظم نحيبهم
{وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} وهذا سياق ابن أبي حاتم, ورواه المبارك عن رشدين بن سعد عن عبد الرحمن بن زياد بن نعيم, عن دخين عن عقبة به مرفوعاً.
وقال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: لما قال أهل النار {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} قال لهم إبليس {إن الله وعدكم وعد الحق} الاَية
, فلما سمعوا مقالته, مقتوا أنفسهم فنودوا {لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون}
وقال عامر الشعبي: يقوم خطيبان يوم القيامة على رؤوس الناس, يقول الله تعالى لعيسى ابن مريم: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟} إلى قوله {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم}
قال: ويقوم إبليس لعنه الله فيقول {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} الاَية. ثم لما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال, وأن خطيبهم إبليس عطف بمآل السعداء,
فقال {وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار} سارحة فيها حيث ساروا وأين ساروا {خالدين فيها} ماكثين أبداً لا يحولون ولا يزولون {بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام}, كما قال تعالى: {حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم}, وقال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم}, وقال تعا
لى: {ويلقون فيها تحية وسلاماً},
وقال تعالى: {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}.
ومن الحكم :
1-إكمال مراتب العبودية لأنبيائه وأوليائه بمجاهدة إبليس وجنوده ومخالفته والاستعاذة بالله تعالى منه واللجأ إليه جل وعلا أن يعيذهم من شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لا يحصل بدونه .
2- أن المحبة والإنابة والتوكل والصبر والرضا ونحوها أنواع عظيمة من العبودية المحبوبة عند الله تعالى وهي إنما تتحقق بالجهاد وبذل النفس لله وتقديم محبته على كل ما سواه فكان في خلق إبليس وجنوده قيام سوق هذه العبودية وتوابعها وتتضمن من الفوائد ما لا يحصيه إلا الله تعالى .
3- أن عدو الله إبليس محك امتحن الله به خلقه ليتبين به خبيثهم من طيبهم فإنه سبحانه خلق النوع الإنساني من الأرض وفيها السهل والحزن والطيب والخبيث فلا بد أن يظهر فيهم ما كان في مادتهم ولا بد من سبب يظهر ذلك وكان إبليس محكاً يميز به الطيب من الخبيث كما جعل الله تعالى أنبياءه ورسله محكاً لذلك التمييز . .......... إلى غير ذلك من الحكم
الحكمة من ذكر قصة إبليس وتكرارها في القرآن الكريم :
1- التنبيه على عظيم مخالفة النصوص
2-بيان عداوة إبليس لآدم وذريته والتحذير من اتباعه .
3-التحذير من الحسد والكبر وبيان عاقبتهما
4-أخذ العظة والعبرة والمداومة على الخوف والخشية والإكثار من سؤال الله تعالى الاستقامة والثبات عليها .
والله تعالى اعلم