المنتدى :
المنتدى الاسلامي
رحلة مثيرة ... نصف ساعة تحت الأرض
نصف ساعة تحت الأرض وأنا ميت
أي شخص كان قد رآني متسلقاً سور المقبرة في هذه الساعة من الليل ، كان سيقول :
أكيد أنه مجنون ، أو أن لديه مصيبة ما
والحق أن لديَّ مصيبة ، كانت البداية عندما قرأت عن سفيان الثوري - رحمه الله :
أنه كان لديه قبراً في منـزله يرقد فيه وإذا ما رقد فيه نادى : ( رب أرجعون .. رب أرجعون ) .
ثم يقوم منتفضاً ويقول : ها أنت قد رجعت فماذا أنت فاعل ؟
حدث أن فاتتني صلاة الفجر ، وهي صلاة من كان يحافظ عليها ، ثم فاتـته فسيحس بضيقة شديدة طوال اليوم عند ذلك
تكرر معي نفس الأمر في اليوم الثاني
فقلت لابد وأن في الأمر شيء ، ثم تكررت للمرة الثالثة على التوالي
هنا كان لابد من الوقوف مع النفس وقفة حازمة لتأديبها
حتى لا تركن لمثل هذه الأمور فتروح بي إلى النار قررت أن أموت وأدخل القبر حتى أؤدبها !
ولابد أن ترتدع وأن تعلم أن هذا هو منـزلها ومسكنها إلى ما يشاء الله
وكل يوم أقول لنفسي دع هذا الأمر غداً وجلست أسوف في هذا الأمر حتى فاتـتني صلاة الفجر مرة أخرى.
حينها قلت : كفى .. وأقسمت أن يكون الأمر هذه الليلة.
ذهبت بعد منتصف الليل ، حتى لا يراني أحد ، وتفكرت :
هل أدخل من الباب ؟ حينها سأوقظ حارس المقبرة ! أو لعله غير موجود !
أم أتسور السور ؟
إن أوقظته لعله يقول لي عد في الغد ، أو حتى يمنعني ، وحينها يضيع قسمي ، فقررت أن أتسور السور ..
رفعت ثوبي وتلثمت بشماغي واستعنت بالله وصعدت
برغم أنني دخلت هذه المقبرة كثيراً كمشيع ، إلا أنني أحسست أنني أراها لأول مرة .
ورغم أنها كانت ليلة مقمرة
إلا أنني أكاد أقسم أنني ما رأيت أشد منها سواداً تلك الليلة ، كانت ظلمة حالكة ، سكون رهيب.
هذا هو صمت القبور بحق ، تأملتها كثيراً من أعلى السور ، واستـنشقت هوائها
نعم إنها رائحة القبور ، أميزها عن ألف رائحة ، رائحة الحنوط ، رائحة بها طعم الموت الصافي
وجلست أتفكر للحظات مرت كالسنين .. إيه أيتها القبور
ما أشد صمتك وما أشد ما تخفينه ، ضحك ونعيم ، وصراخ وعذاب أليم .
ماذا سيقول لي أهلك لو حدثتهم ؟
لعلهم سيقولون قولة الحبيب صلى الله عليه وسلم :
الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم
قررت أن أهبط حتى لا يراني أحد في هذه الحالة
فلو رآني أحد فإما سيقول أن لديه جريمة ما
وأي جريمة بعدضياع صلاة الفجر عدة مرات
هبطت داخل المقبرة ، وأحسست حينها برجفة في القلب ، والتصقت بالجدار ولا أدري لأحتمي من ماذا؟
عللت ذلك لنفسي بأنه خشية من المرور فوق القبور وانتهاكها ، أنا لست جباناً ، لكنني شعرت بالخوف حقا !
نظرت إلى الناحية الشرقية والتي بها القبور المفتوحة الفارغة والتي تنتظر ساكنيها
إنها أشد بقع المقبرة سواداً ، وكأنها تناديني ، مشتاقة إليَّ : متى ستكون فيَّ؟
أمشي محاذراً بين القبور
وكلما تجاوزت قبرا ًتساءلت
أشقي هو أم سعيد ؟
شقي بسبب ماذا ؟
أضيّع الصلاة ؟
أم كان ياكل الربا ويشجع عليه ؟
أم كان من أهل الغناء والطرب والرقص ؟
أم كان من أهل الزنى ومعاقري الخمر والمخدرات ؟
أم أنه من المنافقين ؟
أم أنه من أهل الغيبة والنميمة ؟
أم من ناشري الفضائح والصور العارية ؟
أم أم أم أم ......
لعل من تجاوزت قبره الآن كان يظن أنه أشد أهل الأرض قوة ، وأن شبابه لن يفنى؟
وأنه لن يموت كمن مات قبله ؟
أم أنه كان يقول :
ما زال في العمر بقية ، سبحان من قهر الخلق بالموت.
أبصرت الممر ، حتى إذا وصلت إليه ، ووضعت قدمي عليه
أسرعت نبضات قلبي فالقبور يميني ويساري ، وأنا ارفع نظري إلى الناحية الشرقية
ثم بدأت أولى خطواتي ، بدت وكأنها دهر
أين سرعة قدمي ؟
ما أثقلهما الآن ، تمنيت أن تطول المسافة ولا تنتهي ابداً ، لأنني أعلم ما ينتظرني هناك.
اعلم ، فقد رأيت القبر كثيرا ، ولكن هذه المرة مختلفة تماماً وأفكار عجيبة
أكاد أسمع همهمة خلف أذني ، نعم ، أسمع همهمة جليّة ، وكأن شخصاً يتنفس خلف أذني
خفت أن أنظر خلفي
خفت أن أرى أشخاصاً يلوحون إليّ من بعيد
خيالات سوداء تعجب من القادم في هذا الوقت
بالتأكيد أنها وسوسة من الشيطان
لايهمني شيء طالما أنني قد صليت العشاء في جماعه
أخيراً ، أبصرت القبور المفتوحة
أقسم للمرة الثانية أنني ما رأيت أشد منها سواداً
كيف أتتني الجرأة حتى أصل بخطواتي إلى هنا ؟
بل كيف سأنزل في هذا القبر ؟
وأي شيء ينتظرني في الأسفل ؟
فكرت بالإكتفاء بالوقوف و أن أصوم ثلاثة أيام تكفيراً لقسمي
ولكن لا ....
لن أصل إلى هنا ثم أقف ، يجب أن أكمل ، ولكن لن أنزل إلى القبر مباشرة ، بل سأجلس خارجه قليلاً حتى تأنس نفسي
ماأشد ظلمته ، وما أشد ضيقه
كيف لهذه الحفرة الصغيرة أن تكون حفرة من حفرالنار أو روضة من رياض الجنة ؟
سبحان الله
يبدو أن الجو قد إزداد برودة ، أم هي قشعريرة في جسدي من هذا المنظر؟
هل هذا صوت الريح ؟
ليس ريحاً ، لا أرى ذرة غبار في الهواء
هل هي وسوسة أخرى؟
استعذت بالله من الشيطان الرجيم ، ثم أنزلت الشماغ ووضعته على الأرض ثم جلست وقد ضممت ركبتي أمام صدري
أتأمل هذا المشهد العجيب
إنه المكان الذي لا مفر منه أبداً
سبحان الله
نسعى لكي نحصل على كل شيء ، وهذه هي النهاية
لاشئ
كم تنازعنا في الدنيا ، اغتبنا ، تركنا الصلاة ، آثرنا الغناء على القرآن
والكارثة أننا نعلم أن هذا مصيرنا ، وقد حذّرنا الله منه ورغم ذلك نتجاهل
أشحت بوجهي ناحية القبور وناديتهم بصوت خافت ، وكأني خفت أن يرد عليّ أحدهم :
يا أهل القبور ، مالكم ؟
أين أصواتكم ؟
أين نسبكم ؟
أين مناصبكم ؟
أين جبروتكم ؟
أين أبناؤكم ونسائكم وعزوتكم وحاشيتكم عنكم اليوم ؟
أين أموالكم التي جمعتموها ؟
أين وأين وأين ؟
كيف هو الحساب ؟
أخبروني عن ضمة القبر
أتكسرت الأضلاع ؟
أخبروني عن منكر و نكير ، أخبروني عن حالكم مع الدود !
سبحان الله ، نستاء إذا قدم لنا أهلنا طعام بارد أو لا يوافق شهيتنا
واليوم .. نحن الطعام ، لابد من النزول إلى القبر .
قمت وتوكلت على الله ، ونزلت برجلي اليمين ، وافترشت شماغي ، ووضعت رأسي وأنا أفكر
ماذا لو انهال عليَّ التراب فجأة ؟
ماذا لو ضُم القبر عليَّ مرة واحدة ؟
نمت على ظهري وأغلقت عينيَّ حتى تهدأ ضربات قلبي ، حتى تخف هذه الرجفة التي في الجسد
ما أشده من موقف وأنا حي . فكيف سيكون عند الموت؟
فكرت أن أنظر إلى اللحد ، هو بجانبي ، والله لا أعلم شيئاً أشد منه ظلمة ، ياللعجب !
رغم أنه مسدود من الداخل إلا أنني أشعر بتيار من الهواء البارد يأتي منه !
فهل هو هواء بارد أم هي برودة الخوف ؟
خفت أن أنظر إليه فأرى عينان تلمعان في الظلام وتنظران إليَّ بقسوة
أو أن أرى وجهاً شاحباً لرجل تكسوه علامات الموت ناظراً إلى الأعلى متجاهلني تماماً
حينها قررت أن لا أنظر إلى اللحد
ليس بي من الشجاعة أن أخاطر وأرى أياً من هذه المناظر رغم علمي أن اللحد خالياً
ولكن تكفي هذه المخاوف حتى أمتنع تماماً عن النظر إليه
تذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحتضر
(لا إله إلا الله .. إن للموت سكرات(
تخيلت جسدي عند نزول الموت يرتجف بقوة وأنا أرفع يدي محاولاً إرجاع روحي
وتخيلت صراخ أهلي عالياً من حولي
أين الطبيب؟ أين الطبيب ؟ وماذا يفعل الطبيب أمام ملك الموت ؟
( فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين (
تخيلت الأصحاب يحملونني ويقولون :
لا إله إلا الله
تخيلتهم يمشون بي سريعاً إلى القبر
وتخيلت أحب أصدقائي إلي وهو يسارع لأن يكون أول من ينـزل إلى القبر
تخيلته يضع يديه تحت رأسي ويطالبهم بالرفق حتى لا أقع ، يصرخ فيهم : جهزوا الطوب.
وتخيلت أخي يجري ممسكاً إبريقاً من الماء يناولهم إياه بعدما حثوا عليَّ التراب
تخيلت الكل يرش الماء على قبري
تخيلت والدي يصيح فيهم :
أدعوا لأخيكم فإنه الآن يسأل ، فإنه الآن يسأل .
ثم رحلوا ، وتركوني فرداً وحيداً ، تذكرت قول الله تعالى :
( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ، وتركتم ماخوّلناكم وراء ظهوركم (
نعم صدق الله ،
تركت زوجتي
م ن ق ول
تحيتي
دمت بسلام
|