المنتدى :
خواطر بقلم الاعضاء
عقدى أجمل
عقدي أجمل .................
مهداة إلى روح جدة زميلتنا " نهى " مع خالص تعازي
قال أحمد لجدته ، وهى تستعد لتحكى له حكاية قبل النوم :" سنتبادل الأدوار الليلة يا جدتي 00 أنا أحكى ، وأنت تنامين "0
اعترضت الجدة أول الأمر ، لكنها حين سمعت نبرة الحزن تملأ صوته ، وافقته ؛ ليفض ما عنده ، ويتخلص من أرقه ، وحزنه ، وكما تفعل معه ، فعل معها ، قعد إلى جوارها ، واستلقت هي فى فراشه ، ثم أخذ بيدها ، وراح يحكى لها عن الأميرة ، التي صحت ذات يوم من نومها فزعة ؛ فالعقد الذي كان يزين رقبتها ، لم يكن فى مكانه !
دارت في أرجاء القصر ، واستدعت وصيفاتها وجواريها ، ثم جمعت الحراس ، لكنها لم تصل لشيء ؛ فالجميع أنكروا معرفتهم بمكان العقد الضائع ، انهارت الأميرة باكية ، بكت نعم ، حتى احمرت عيناها ، وتبدلت أحوالها ، فانطفأت نضارة وجهها الجميل ، هكذا مرة واحدة ، وذبلت وردة خدها ، وفجأة أحست باختناق ، كان يزداد رويدا 00 رويدا ، حتى أصبحت على وشك الهلاك 0
أصاب الذعر والهلع كل من بالقصر ، حتى السلطان حار أيما حيرة ، ودار هنا وهناك باحثا عن سبب كل هذا ، واحتار أكثر فى البحث عن سر هذا العقد ، الذي يفعل في الأميرة كل هذا ، وأخيرا عرض على الأميرة أن يأمر كل الصائغين فورا بالوقوف بين يديها ، وأنها سوف تجد لديهم ما يعوضها عن عقدها ، ووافقته أخيرا ، لكنها ظلت على حالها ، فكلما أقبل صائغ ، واختار أجمل ما عنده ، كانت تقول بألم :" عقدي أجمل 00 وأين هذا من عقدي ؟ "0
إنها تريد عقدها هي ، عقدها الذي لم يفارقها لحظة منذ مولدها ، وعليه أرسل السلطان رجاله فى كل مكان ، يبحثون فى بلاد الله عن العقد الضائع ، وعاد كل الرجال يحملون عقودا في غاية الروعة والجمال ، وراحوا يقدمون ما جلبوا ، والأميرة تقول :" عقدي أجمل 00 وأين هذا من عقدي ؟ "0
بعث السلطان بالأعوان إلى كافة الممالك ، يعلنون بين العامة :" من يعثر على عقد الأميرة ، يكون زوجا لها "0
جاء الخطاب من كل الممالك ، يحملون من الهدايا ، ما تعجز العين عن رصده وحصره ، وكانت الأميرة تقول :" عقدي أجمل 00 وأين هذا من عقدي ؟"0
ويعود الخطاب من حيث أتوا منكسرى الخاطر ، والأميرة في فزع ، تختنق ، وتحيط بها الرطوبة صيفا وشتاء ، بل تجنبتها رفيقاتها من بنات الوزراء وعلية القوم ، لانقلاب مزاجها ، وتدهور صحتها 0
فجأة انتاب وجه الأميرة ما أفزع المملكة كلها ؛فقد ظهرت بثور وتقرحات كانت تنتشر ، وتزحف على وجهها كله ، وبسرعة عجيبة ، والسلطان حائر ، يستدعى الأطباء واحدا تلو الآخر 00 ولا جديد !!
الأميرة حبيسة مخدعها ، مع الألم والعذاب ، تبكى الجمال الذي غادرها ، حتى أنها كانت تخشى النظر فى مرآتها البلورية ، والجياع والفقراء الذين كانوا ينعمون من فيض عطاياها باتوا حزانى 00 متوجعين ، يبكون فى صمت ، ويتركون المملكة 00 يتركونها إلى بقعة أخرى ، سعيا وراء رزق جديد 00 أميرة أخرى ، وربما عثروا على عقد أميرتهم الضائع خلال سعيهم !
جذب انتباه القوم شيء عجيب ، الألم الذي كانت تعانى منه الأميرة كانت كل نساء المملكة يعانين منه ، وكانت نفس الاختناقات ، نفس البثور ، نفس التقرحات فى الوجوه ، حتى تحولت المدينة لمدينة بائسة 00 دميمة ، وما عادت تجتذب أحدا للعيش فيها ، والسلطان أرق أشد ما يكون الأرق ، معذب ، يحبس نفسه بعيدا ، حتى لا يرى ابنته الوحيدة بهذا الشكل ، ومر وقت طويل 00 طويل ، والشوق إليها يعذبه ، ولكنه لا يحب أن يراها وهو عاجز عن فعل شيء ، وأخيرا استدعى السحرة والمنجمين وأهل الفراسة ، فما استطاعوا فك أو حل هذه الألغار التي تحيط بالأميرة ، فقد قال السحرة :" إن نجمها السيار يضمحل 00 إنه في برج نحسه "0
وقال المنجمون :" أعداؤها يا مولاي يكيدون لها .. نرى عملا معلقا فى طرف النجم المذنب ". كما قال أهل الفراسة :" ليس العقد مايبكيها ويؤلمها ؛ إنه اللغز الذي فشلنا جميعا في حله ".
في ليلة أرق السلطان ، وقرر أن يزور ابنته فورا ؛ فقد اشتاق كثيرا لرؤيتها ، وبسرعة انطلق نحو جناحها ، تحف به الحاشية وكأنما انشقت عنهم الأرض ، فأومأ إليهم ، وطلب أن يتركوه وحده ، لكنهم لم يبتعدوا إلا بعد أن رأوا إلى أي مدى وصل إصراره ، ولم يبق معه سوى ياوره الخاص ، الذي أوفده إلى جناح الأميرة ليبلغها بزيارة السلطان لها ، وعندما دخل السلطان حجرتها كانت مشعثة الرأس ، حزينة ، ذابلة الجفنين ، ولم تعد تهتم بشيء ؛ اللهم إلا هذه النظرة التي مسحت بها المكان ، حين سمعت وقع أقدام السلطان ، وحفيف ثوبه .
توقف السلطان فجأة ، وباستغراب شديد كان ينظر إلى عنق الأميرة ، التي كانت جميلة رغم كل شيء ، فرأى شيئا ما ألجم لسانه ، وعقده عن الكلام ، ثم دنا منها متهللا :" ابنتي .. منذ متى لم تقفي أمام المرآة ؟ ماذا لو أنك قمت الآن ؛ فرأيت مايبهجك ؟ ".
تطلعت الأميرة في وجه أبيها الذي رأته مبتسما ، فشجعها على القيام ، قامت متهادية نحو مرآتها ، نظرت . كان العقد يتلألأ على رقبتها وتتوهج ألوانه ، فترسل مزيجا سحريا من قوس قزح .
حاطها السلطان بذراعيه وهو يهتف :" هذا عقدك الضائع .. هذا عقدك الضائع ".
استدارت تواجهه ، ثم تنهدت بألم عجيب ، وهى تهمس :" لا .. ليس ما أبحث عنه .. ضاع عقدي الجميل الذي كان يغمرني بصافي النسائم ، وطيب الرائحة ، ويجعل الكون من حولي جميلا ، فضفاضا ، ينشر الخير على كل الوادي ، فيجد الفقير وصاحب الحاجة مرامه ، ويتنعم بخيره ، كان يجعلني ملكة يا أبى ، فتأتى الخلائق لتتنسم في ظله الحياة ؛ يا أبى .. لعقدي خضرة الحقول ، ولون الدماء في الشرايين ، وصدحان الطير ".
احتار السلطان فيما تقول ، امتلأ غضبا وخوفا ، غضبا من الأميرة ، وخوفا عليها ، وظن أن ما قالته لم يكن سوى هذيان ، لف حول نفسه ، وهمهم وزمزم ، ثم قال بعد تردد وهو يتصنع الضحك :" احترت في أمرك والله يا بنيتي .. عقد هذا أم لغز ؟".
أخذت الأميرة نفسا عميقا ، ودموعها تجرى على وجهها ، ثم أسرعت تجاه الشرفة وهى تتمتم :" سمه ماشئت أيها السلطان .. لكنهم سرقوه ". ولم تكمل ، مما زاد من حيرة السلطان ، وقلقه ، فراح يجاريها فى الحوار :" من يا بنيتي ؟ من سرق العقد .. تكلمي .. دلى أباك على السارق ؟".
تحركت كأنها تجر قدميها من فرط التعب و الوهن ، وقالت :" سل وزراءك وشركاءك .. سلهم عن عقد كان يطوق جيد الأميرة ، له لون الفضة ، يموج فترى فى بحره كائنات ، وعلى جانبيه تقوم المدينة ببيوتها وغيطانها ، ويرتمي فى أحضانه الحران و الجوعان و الظمآن .. أرجعوا لي عقدي و إلا مت .. أرجعوا لي عقدي وإلا مت .. أرجعوا .........". وانهارت الأميرة ، على أرض المكان فاقدة الوعي !
عند عودة السلطان من زيارته لابنته المحبوبة ، بعد إسعافها ، والاطمئنان عليها ، استدعى كل الوزراء ، ورؤساء الشركات ، وحكى لهم ما دار بينه وبين الأميرة ، وأصدر أمرا بحل هذا اللغز فورا ، وإلا قتلوا جميعا ، ودون استثناء ، ثم نادى على مسرور السياف ، حتى يكون قريبا منهم ، وانتظر ما تسفر عنه مداولاتهم ومشاوراتهم !
هنا توقف أحمد عن قص حكايته ، بينما الجدة تحدق فى وجهه باهتمام ، وترى حجم أحزانه وتألمه لأجل الأميرة ، وإشفاقه على مصير الوزراء فى حال فشلهم فى حل اللغز العجيب لعقد الأميرة .
قالت الجدة هامسة :" وبعد يا أحمد ؟".
رد أحمد عابس الوجه :" ومازال الاجتماع منعقدا يا جدتي ومسرور ينتظر الفرصة ليعبر عن ولائه لعظمة السلطان ".
اعتدلت الجدة متألمة من شدة التعب ، ثم التقطت أنفاسها ، وبشت فى وجهه قائلة :" تريد أن تعرف سر عقد الأميرة يا أحمد ؟".
زقزق طائر قلبه بفرح ، وهتف :" نعم .. نعم يا جدتي ".
راوغته الجدة مبتسمة :" ولماذا تريد أن تعرف ؟ ".
على الفور أجاب أحمد دون تردد :" لأنقذ الأميرة ، وأبعد عنها الحزن ، وأرجع لوجهها جماله الذاهب ، وبالتالى أنقذ الوزراء من سيف مسرور .. هكذا قال المعلم : من يكتشف السر سوف ينقذ هذه المملكة ، ويقضى بقية حياته فى هذه المدينة المسحورة ".
قالت الجدة بتؤدة :" اعلم يا أحمد أن عقد الأميرة ليس عقدا مثل بقية العقود .. لا إنه شيء كبير له جانبان ، وبينهما شيء يجرى بلون الفضة ، وعلى جانبيه بيوت وغيطان ، وأشجار ، وناس كثيرون ، وقد اختفى هذا الشيء ، الذي تطلق عليه عقدا بفعل يد ؛ ربما كانت خبيثة وغير أمينة ، وربما كان لها أسبابها .. إنه النهر يا حفيدي العزيز .. نهرنا .. والأميرة هي مدينتنا التي أصابها الانكسار .. كان النهر يطوقها بمائه الصافى ، ويرطب هواءها ، ويزينها ، كما كان يطعم الخلائق بمافيه من خيرات !".
فجأة اندفع أحمد راقصا مدبدبا :" عرفت السر .. سوف أنقذ الأميرة .. سوف أنقذ الأميرة ".
انسحبت الجدة بهدوء فرحة ، راضية بما قامت به الليلة ، وجذبت باب غرفة أحمد ، الذى نام باسم الثغر ، مفعما بالسعادة !
التعديل الأخير تم بواسطة وردة دجلة ; 23-06-11 الساعة 03:18 PM
|