بنظره سطحية فإن (( أماديوس )) يتحدث عن الأسطورة الموسيقية ( فولفانج أماديوس موزارت ) ..
بنظره عميقة فإن (( أماديوس )) يخبرنا عن مأساة إنسانية تدعى ( أنطونيو سالييري ) ..
وبنظرة فلسفية أكثر عمقاً فإن (( أماديوس )) يطرح لنا أسئلة عن القناعة والجحود والإعجاب والتحقير ، يخبرنا عن الدين والله ومدى عدله ، (( أماديوس )) يضعنا في علامة استفهام كبرى حول كيفية الحياة ومعناها الحقيقي !!
يبدأ الفيلم عام 1820 بداية لافته عن رجل يحاول الإنتحار ويصرخ قائلا(( موزارت سامح قاتلك )) ، بداية ساخنة تذيب حرارة الجليد الذي يملأ الشاشة وهي أيضاً بداية مباشرة فبعد نجاه الرجل " نعرف عن طريق مخاطبته لقس جاء لكي يستمع إليه ويخفف ألامه " أنه أنطونيو سالييري موسيقار كان ذائع الصيت في فيينا منذ ثلاثة عقود وعن طريق رواية سالييري نمر سريعاً على تفاصيل حياته حتى يصل موزارت ، ذلك الموسيقار الشاب الذي غدا إسمه كأسطورة بسبب نبوغة المبكر في الموسيقى ، سالييري لم يكن يتخيل تلك العبقرية الموسيقية التي أمامه وفي نفس الوقت لم يكن يتخيل أن موزارت بذئ وحقير كما بدا له !! ، ذلك التناقض الكبير في شخصية موزارت بين كونه إنسان فاحش وبذئ يفعل كل شئ سئ وفي نفس الوقت هو موسيقار عبقري ، لماذا كانت تلك العبقرية من نصيب موزارت ؟ ، ذلك ما دار في عقل سالييري ، لماذا لم تكن هذه الموهبه له وهو المحب عفيف اللسان ، عبقرية موزارت الموسيقية تشعل النار بداخله وعبر كرهه كشخص وولهه بموسيقاه تستمر الأحداث حتى يقرر سالييري الخلاص من موزارت بعد أن سرق منه كل شئ أراده ، المجد والعبقرية بل والمرأة التي أحبها وهو الآن عاجز عن فعل أي شئ عدا الإنتقام ..
لماذا سمي الفيلم أماديوس بالرغم من أن هذا الإسم لم ينطق سوى مره واحده منذ بداية الفيلم على لسان سالييري ، لماذا لم يسمى الفيلم فولفانج كما كانت تناديه زوجته ووالده أو موزارت كما هو معروف لنا حتى الآن ؟؟
أماديوس تعني ( محبوب الرب ) وهو ما كان يذكره سالييري عن موزارت وكونه شخصاً اختاره الله ، إذا فإسم الفيلم لم يكن اعتباطياً أو مجرد إسم البطل بل هو شديد الذكاء لأن منه تتصل كل خيوط الفيلم ، تتصل ألام سالييري الإنسان وعلاقة العبد والإله وعلاقة سالييري بموزارت وربما تتصل معهم من خارج الأحداث عبقرية بيتر شيفر !!
يعرض لك شيفر أسباب تميز موزارت على مدار الفيلم دون أن يكون مباشراً في أي مشهد من مشاهده ، تبدأ تلك المقارنة مع بداية رواية سالييري وعرض مشاهد سريعة لطفلين كلاهما مغمض العينين أحدهم أغمضها لكي يعزف موسيقاه والأخر أغماها لكي يلعب مع أصدقائه ! ، علاقة موزارت ووالده بكل الدفئ التي يكتنفها وعلى الجانب الأخر نجد سالييري قد بدأ معرفة البغض عن طريق والده ، تقديس موزارت لموسيقاه وبساطته في التعامل ومحاولته دائماً الخروج بأفضل ما يمكن وعدم رغبته في ألا يصبح مجرد موسيقار بالقصر الإمبراطوري ، كلها أسباب وخلفيات غير مباشرة يمكننا أن نعرف من خلالها لماذا كان موزارت أكثر موهبة من سالييري ومن خلال تلك الأسباب التي نستطيع من خلالها أن نرى بعداً أخر عن سبب عذاب سالييري من الأساس ، أرى أنه من العبثية تأطير عذاب سالييري في سبب واحد ( أقصد تأطيرها بتفوق موزارت ) ، الأمر أكبر من ذلك بكثير هو شعور سالييري بالاضطهاد ، بداياَ من أبيه وصولا لربه ، رغبته الانتقامية ليس سببها الأساسي كون موزارت أفضل منه بل لماذا موزارت أفضل منه ؟ وهنا سنخرج من النطاق الموسيقي إلى نطاق الحياة ، شاهد حياة موزارت وحياة سالييري ، علاقة هذا بوالده وعلاقة ذاك ، العلاقات النسائية لدى كلا منهما وبالأهم شاهد علاقة كل منهما بالله ، اجمع كل هذا من خلال نظرة سالييري للأمر الذي أوصله لإحساسه بالاضطهاد الذي أوصله للانتقام الذي أوصله للعذاب ، هناك مشهد من المؤسف القول بأنه كان محذوفا من نسخة عام ( 84 ) وهو ذلك المشهد الذي يطلب فيه سالييري من زوجة موزارت أن تأتيه ليلا بعد نظرته العبقرية لنوته موزارت الأصلية ، في المشهد الذي يلي ذلك نجد سالييري يصلي ويصلي ويصلي وحينما تأتي زوجة موزارت وتكون أمامه يرفضها بنظرة غريبة ، هذا المشهد هو نقطة التحول الأهم بالفيلم صحيح أن سالييري تلقى العديد من الصفعات قبل وبعد هذا المشهد إلا أن هذا المشهد هو نقطة التحول لأن سالييري قد أدرك أن نمطه الذي أختاره لنفسه لن يستطيع تغييره الأن بعد كل تلك السنوات ، لن يستطيع شرب الخمر أو مضاجعة النساء أو صفع موزارت بأي شكل وعلى الجانب الأخر فهو لن يستطيع إكمال تعبده أو تأليف موسيقاه ، كيف يخسر الرجل كل شئ ولا يستطع فعل أي شئ سوى محاولة انتقام بائسة وعاجزة ، هذه هي مأساة سالييري الحقيقية والتي بدأت منذ بداية إدراكه وبغضه لوالده والتي انتهت بعد أن أعاد تفاصيل حياته وطلب الرحمة من إلهه العادل ..
أف موراي إبراهام الممثل الإيطالي السوري الأصل يقدم شخصية ذكورية مركبة على مدى التاريخ السينمائي !!!! نعم أفضل شخصية ذكورية بل وأفضل أداء سينمائي حتى فرغم وجود دون فيتو كورليون ومايكل كورليون وجيك لاموتا وترافيس بيكل وهانيبال لاكتر وفورست غومب وجاك نيكلسون في (الطيران فوق عش الوقواق) بل وحتى هاورد هيوز وغيرها من الشخصيات السينمائية التي تعد كرموز للشخصيات المركبة إلا شخصية أنتونيو سيلاري تطغى عليها جميعاً ، فأنتونيو سيلاري كان مهووس بموزارت وكان أكبر معجب به وأكبر عدو له وأكبر حاسد له وأكبر متضرر منه ، وموراي إبراهام كان ناجحاً بتصوير كل مشاعر سيلاري الباطنية تلك بطريقة ولا أروع تجعله يسيطر على كل مجريات العمل ويجعل من سيلاري محور العمل ويجبر المشاهد يتعاطف معه حتى وهو بأسوء أحواله وبأشنعها عندما يقرر تخريب حياة موزارت بطريقة ولا أبشع .....
بدءاً من (( Are They )) التي أطلقها في وجه القس الشاب .. وانتهاءً باختلاط الابتسامة والكآبة في وجهه وهو يتذكر ضحكة موزرات المجلجلة .. مروراً بالتحول الطريف في صوته ووضعه ليده على مكان الجرح في عنقه عندما تكلم عن أول لقاء بينه وبين موزارت .. وبالتأثر العظيم على وجه سلييري الشاب وهو ينظر إلى النوتات المكتوبة على الورق قبل أن يقطع عليه موزرات ويأخذ الأوراق من أمامه .. أو النظرات المضطربة عندما بدأ موزارت يعزف مقطوعة سلييري ويجري عليها بعض التعديلات .. أو المشهد العظيم .. عندما بدأ سلييري في وصف خطته للانتقام من موزارت ..
المشهد عندما تأتي زوجة موزارت لتقدم مسودات عن عمل زوجها وتريها لسيلاري راقب النظرة التي ترتسم على وجه سيلاري نظرة الإعجاب والحسد والحقد ورثاء الذات والندم ولو للحظات على نية تدمير هذا الإنسان وازدياد الرغبة بتدميره بنفس الوقت كلها نجح سيلاري بقذفها مرة واحدة بوجه المشاهد صادماً إياه بروعة هذا الأداء
من أروع ما فعله صانعو هذا الفيلم .. تجسيد صوت الموسيقى الموجودة في الأوراق .. حيث تقع عين سلييري على صفحة النوتة .. فتبدأ موسيقاها في الانبعاث .. وكأنك داخل عقل سلييري .. وتسمع ما يسمعه الموسيقار .. مما تقوله تلك الرموز على الأوراق ..
ويتجسد هذا في أجمل حالاته .. عندما بدأ يقلب سلييري أصول النوتات حين أحضرتها زوجة موزارت .. فكان مع فتح كل صفحة جديدة .. تتغير الموسيقى ..
كما كان الإبداع عظيماً في مشهد السرير .. حين يختلط صوت الموسيقى والإيقاعات بصوت موزارت المنهك .. وهو يرشد سلييري إلى ما لا يمكنه استيعابه من إبداعات الموسيقى .. ثم يأخذ الورقة منه .. ويسمع صوت الموسيقى التي كتبها سلييري ..
هذا المشهد بالذات .. يريك الفرق بين الفنان المبدع العبقري .. والفنان الذي تعلم الفن ولم يستطع الوصول لمرحلة الإبداع .. يظهر هذا جلياً .. حين بدأ سالييري يظهر عدم فهمه لما يطلبه منه موزارت ..
للتحميل
الرابط