المنتدى :
الادباء والكتاب العرب
خيري شلبي , لحس العتب , الهيئة المصرية للكتاب , 2005
هذه أول مشاركة لي في هذا المنتدى الجميل أتمنى أن تكون موفقة باذن الله
رابط التحميل
" لحس العتب " وسلطة العنوان ( الجزء الأول )
دراسة تحليلية لرواية " لحس العتب " للروائى خيرى شلبى
دراسة : عبدالجواد خفاجى
إن سلطة عنوان العمل الروائى عمومًا تنبع من مركزيته ، بمعنى ارتباطه دلاليًّا بكافة جوانب الأبنية السردية ومستوياتها ، وهذا من شأنه أن يعطى للعنوان قيمته الجوهرية ، ويجعل منه عمدة فى عملية التلقى ، كما يجعل منه بوابة لازمة للولوج إلى العالم السردى ، وهو فى الغالب بوابة ضوئية مركزية ، تنبثق منها خيوط كثيرة تمتد ؛ لتضىء كافة ما يمكن أن يطأه ذهن المتلقى ، ومن ثم ليس بمستغرب أن ترتكز مثل هذه الدراسة على العنوان بصفة رئيسة ، وقد لاحظت أثناء قراءتى الأولية للرواية أن عنوانها يتمتع بحضور دائم أينما اتجهت ، سواء بقدرته على إثارة الأسئلة ، أو بتجسُّده الحى كفعل يرقى إلى مستوى الحدث الجوهرى غنى الدلالة ، أو بتخفيه كمعنى تحتى لكل ما يتراكم على السطح .
والأمر على هذا النحو جعلنى أتوقف عند سلطة هذا العنوان وإمكانية استثمار سلطته لصالح هذه الدراسة التى تسعى إلى تحصيل الدلالة بصفة كلية .
" لحس العتب " مفردتان تحيلان اجتماعيًّا فى اجتماعهما إلى طقس عجائبى مفارق ؛ فأولاهما مصدر للفعل " لَحَسَ " بمعنى لعق ، واللعق يكون بالإصبع أو اللسان ، وهى مفردة شائعة فى القاموس الشعبى المصرى بنفس دلالتها المعجمية هذه ، وإن كانت تتسع عن ذلك لتشمل دلالات أخرى كثيرة .
" والعتب " جمع عتبة ، وهى ما يوطأ عليه فى مداخل البيوت والأبنية ، غير أن التركيب النحوى على هذه الشاكلة يعطى اللحس للعتب ، ويعطى للعتب إمكانية اللحس ، وهو استخدام مثير للتساؤل : لماذا يُلحَسُ العتبُ ، وأى عتب يمكن أن يُلحَس ، وكيف يكون اللحس مقبولاً للعتب .. وما دوافعه ؟ ! .
أسئلة محيِّرة .. فالعملية يمكن أن تتم لو كان العتب مدهونًا بما هو مقبول طعمًا ، وهذا مستبعد ، ومن ثم فهى عملية مفارقة لإمكانية أن يكون ما تطأه الأقدام مدهونُا بغير القاذورات ، والأوساخ والأتربة .
ومن هنا فكل ممكنات الإجابة تبدو مجافية للعقل ، ومولدة للحيرة والدهشة ، ومن هنا يمكننى التوقع أننى بصدد معاينة طقس روائى مجافٍ للعقل ، ومثير للدهشة ، بقدر إثارته للأسئلة . أيضًا يمكننى أن أتوقف مع هذا العنوان باعتباره مثيرًا لشهية القراءة ؛ ولعل هذه هى الخصيصة الفنية الأولى لهذا العنوان المثير والمحفز ، والذى يسلمنا لبراح سرد لا يقدم أية أجوبة عن أية أسئلة ، وحتى قرب منتصف الرواية ، وقد فاجأنا السارد بذلك الحدث العجيب البعيد فى طفولته ، وقد استبد به وبأخيه الأصغر مرض عضال ، فى وقت كان يستبد فيه الفقر بأسرته ، حتى لأنها عجزت عن حملهما من قريتهما إلى البندر ( مركز دسوق ) لعرضهما على ( ألبير فهمى ) الطبيب أو ـ كما كان يسمى قديمًا " الحكيم " الذى يذهب إليه المرضى القادرون على دفع أجر كشفه عليهم ، وشراء الدواء .
وقد عبر والد السارد ( الحاج عبد الودود زعلوك ) عن عجزه صراحة عن دفع تكاليف علاج ولديه ، فى معرض حديثه مع نفر من أصحابه الذين يشاركونه السهر كل ليلة ، كانوا قد أشاروا عليه بضرورة أن يذهب بالولدين إلى الطبيب .. قال الوالد : " يا أسيادنا هو الحكيم ده مش هياخد فلوس ؟ ولا حيكشف عليهم لوجه الله ؟ " صـ 16 ، وعلى الرغم من أن أربعة من الصحب كان بإمكان أى منهم إغاثة صديقهم وإقراضه مبلغًا يعالج به ولديه ، إلا أن واحدًا منهم لم يفعلها ، بل نصحه أحدهم ( عبدالفتاح الزيات ) بضرورة بيع الترابيزة العتيقة (المنضدة) وهى ترابيزة قديمة من مقتنيات والد السارد التى ورثها بدوره عن أبيه ، وهى الوحيدة الباقية من ذلك الماضى البعيد الذى كانت فيه عائلة " الزعالكة " تعيش فى العز والثراء ، لذلك هو يرفض فكرة بيعها ، ومهما يكن الأمر .. فكل ما قدمه السارد منذ بداية الرواية عن هذه الترابيزة يبرر هذا الرفض ويؤكده ، فالتربيزة التى يريدونه أن يبيعها ـ ورغم كونها تكوينًا خشبيًّا باليًا مهملاً فى أحد أركان الخزنة ( الغرفة الخلفية للمندرة ) ـ بدت كما لو كانت شخصية محورية من شخوص الرواية ، ويمكن أن يثار حولها الحكى ، وبإمكانها أن تتحكم فى مصير الشخوص الآخرين ، ومن ثم تفرض أحداثًا ومواقف ، ويدور حولها النقاش ، وتتجه إليها الأنظار ، وتتفتح باتجاهها شهية التملك ، وهى رمز للعراقة والبغددة التى كانت .
لم يستجيب الأب لمقترح عبد الفتاح الزيات ببيع الترابيزة ذلك لأنه يعتقد أن عبدالفتاح الزيات وأمثاله طامعون فى تربيزتة هذه ؛ ليكملوا بها وجاهتهم ، ويسلبوه من ثم دلائل مجده التليد ، فالترابيزة تمثل للأب قيمة معنوية عظمى لا تتساوى مع قيمتها المادية مطلقًا ، فهى معلم تاريخى ، وأثر حى من آثار الجد "زعلوك"صاحب الأطيان وتاجر الغلال الذى كان يعيش كالبرنس . ومهما يقال إن هذا العز والثراء قد انمحى إلا أن الترابيزة هذه شاهدة عليه ، ولهذا يرفض والد السارد التفريط فيها بأى ثمن .
فى مثل هذه الظروف التى يمر بها السارد وأسرته مع الفقر والمرض والعجز عن الذهاب إلى حكيم البندر ، وبعد ما فشل "حلاق الصحة " الذى يطبب المرضى فى القرية ، وأمام سلبية أصحاب الوالد وجلسائة فى قعدة المساء ، الذين بدوا طامعين فى الترابيزة أكثر من كونهم معنيين بصاحبهم وولديه ، كان لابد أن يستمر الطفلان فى المرض .
وفيما بدا الأب مستسلمًا لفقره وسطوة وَهْمِه بأنه ابن عـزٍّ و مجد تليد ، كان لابد أن تتصرف الأم ، خاصة بعدما استفحل المرض ، وساءت حالة ولديها ، وانتفخت بطناهما ، وصارا جِلْدًا على عظم .
وتصرفُ الأمِّ كان بدايةً فى حدود تنفيذ النصيحة التى تلقتها من الشيخ " على بقُّوش " الشهير " كعْبِلْهَا " وهو شيخ ضرير من جلساء الأب فى قعدة المساء ، وكانت نصيحة الشيخ " كعبلها " هى لَحْسُ عتب أضرحة الأولياء ، وقد نصح الشيخ كعبلها بهذا الأمر الذى رأى فيه شفاء الصبيين بناء على ما سمعه من واحد من الأعيان فى أحد النجوع ، حيث مرض ابن له وفشل حكماء البندر فى تطبيبه ، بيد أنه شفى بتقربه للأولياء ، بعدما رأى الرجل فى منامه إلهامًا يوجه أنظاره إلى بيوت أولياء الله الصالحين . وعلى الرغم من أن رواية الشيخ " كعبلها "هذه ـ ولو صحت ـ لم تحدد الكيفية التى يتم بها استرضاء الأولياء ، وطلب وساطتهم بين الله وعباده ، إلا أن الشيخ كعبلها أفتى ـ من عندياته ـ بأن الأمر يمكن أن يتم بلحس عتب أضرحة الأولياء .
وبناء على ذلك قررت الأم أن تفعلها ؛ فركبت الطفلين على حمار ، وأردفتهما بأحد صبيان العائلة ، وأردفت هى نفسها خلف صبيين آخرين على ظهر حمار آخر ؛ ومضت ميممة وجهها صوب الأضرحة ، ضريحًا ضريحًا ، وعتبة عتبة فى مركز دسوق ، والمراكز الأخرى المجاورة .. يفتح لها خادم الضريح الباب ؛ تدلف إلى صندوق النذور ، تفك عقدة فى نهاية ضفيرة شعرها .. تُخرج منها مليمين أو أكثر .. تضعهما فى صندوق النذور ، ثم تطلب من الخادم حَلَّة ماء .. تغسل عتبة الضريح جيدًا بالماء ، ثم تأمر الصبيين بلحسها .. هى عملية شاقة ومرهقة ، ورغم تنفيذها بدقة وحرص ، إلا أنها لم تؤتِ ثمرة مرجوَّة ، ولم يُشفَ الصبيان ، وظلا على مرضهما إلى أن راجعت الأم الشيخ " كعبلها " فى الأمر ؛ فطلب منها أن تقص عليه تفاصيل ما كانت تفعله .. وبينما هى تحكى تفاصيل ما حدث اكتشف الشيخ كعبلها سر فشل المحاولة ، وبادرها بالقول : " بس .. هى دى الغلطة .. إزاى تغسلى عتبة مطهَّرة ؟! .. لازم تتلحس على وضعها ! .. علشان الولى ما ينجرحش شعوره !! " صـ 41 .
وهكذا كان على الأم أن تعيد الكرَّة مرة أخرى ، وكان على الصبيين هذه المرة أن يلحسوا أعتاب الأضرحة بقاذوراتها ، وترابها ؛ حتى لا تنجرح مشاعر الأولياء ! .. وهكذا وبعد أن أضحت أعتاب الأولياء نظيفة كالفل ، يموت أحد الولدين ، ويظل ( السارد ) الولد الآخر أكبرهما .. يظل حيًّا وإن لم يشف بعد .
وهكذا كان علينا فى معرض بحثنا عن الإجابات المرجأة للأسئلة التى تولدت حول غرابة العنوان ، وغرابة الحدث الذى ينطوى عليه .. أقول كان علينا أن نتابع القراءة ، وكان علينا أن نخوض غمار النص دونما كلل أو ملل ، مشمولين برغبة الوصول إلى لذة الكشف ، التى تقف دافعًا وراء كل فعل قرائى حرٍّ .
تم تجديد الرابط بوصلة دائمة وسريعة على مركز تحميل المنتدى ، كما تم توفير دراسة نقدية تحليلية للرواية
من قبل المشرف معرفتي
التعديل الأخير تم بواسطة بدر ; 30-05-09 الساعة 11:54 AM
|